مجموع الفتاوى/المجلد التاسع والعشرون
كتاب البيع
[عدل]أقوال العلماء في صيغ العقود
[عدل]قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وأما العقود من المعاملات المالية، والنكاحية، وغيرها، فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة؛ فإن القول فيها كالقول في العبادات.
فمن ذلك: صفة العقود، فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة، وهي العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع، والإجارة، والهبة، والنكاح، والعتق، والوقف، وغير ذلك. وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل؛ كالبيع، والوقف، ويكون تارة رواية مخرجة؛ كالهبة، والإجارة.
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها، كما في إشارة الأخرس، ويقيمون أيضًا الكتابة في مقام العبارة عند الحاجة، وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها، كما في الهدي إذا عَطَب دون محله، فإنه ينحر، ثم يضمخ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس. ومن أخذه ملكه، وكذلك الهدية، ونحو ذلك.
لكن الأصل عندهم هو اللفظ؛ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } 1، { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا } 2، والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي قد جعلت لإبانة ما في القلب؛ إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوهًا كثيرة؛ ولأن العقود من جنس الأقوال، فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات.
القول الثاني: أنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال؛ كالمبيعات بالمعاطاة، وكالوقف في مثل من بني مسجدًا، وأذن للناس في الصلاة فيه، أو سَبَلَ أرضًا للدفن فيها أو بني مطهرة وسبلها للناس، وكبعض أنواع الإجارة؛ كمن دفع ثوبه إلى غسال، أو خياط يعمل بالأجرة، أو ركب سفينة ملاح، وكالهدية ونحو ذلك، فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس؛ ولأن الناس من لدن النبي ﷺ، وإلى يومنا، ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ، بل بالفعل الدال على المقصود، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وهو قول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه، ولم يجر به العرف.
القول الثالث: أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل. فكل ما عده الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة؛ وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم، من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر، لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، كما تتنوع لغاتهم.
فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب، ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس، أو الروم، أو الترك، أو البربر، أو الحبشة، بل قد تختلف أنواع اللغة الواحدة، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم، إذا كان ما تعاقدوا به دالًا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك. وظاهر مذهب أحمد.
ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقًا، وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما، والفعل من الآخر؛ بأن يقول: خذ هذا لله، فيأخذه. أو يقول: أعطني خبزًا بدرهم فيعطيه. أو لم يوجد لفظ من أحدهما؛ بأن يضع الثمن، ويقبض جرزة البقل، أو الحلواء، أو غير ذلك، كما يتعامل به غالب الناس. أو يضع المتاع ليوضع له بدله، فإذا وضع البدل الذي يرضي به أخذه، كما يجلبه التجار على عادة بعض أهل المشرق.
فكل ما عده الناس بيعًا فهو بيع. وكذلك في الهبة مثل الهدية. ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها، إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية. وكذلك الإجارات؛ مثل ركوب سفينة الملاح المكاري، وركوب دابة الجمّال، أو الحمّار، أو البغّال المكاري على الوجه المعتاد أنه إجارة، ومثل الدخول إلى حمام الحمّامي؛ يدخلها الناس بالأجرة، ومثل دفع الثوب إلى غسّال، أو خيّاط، يعمل بالأجر، أو دفع الطعام إلى طباخ، أو شوّاي للآخر، سواء شوي اللحم مشروحًا أو غير مشروح.
حتى اختلف أصحابه، هل يقع الخلع بالمعاطاة، مثل أن تقول: اخلعني بهذه الألف، أو بهذا الثوب، فيقبض العِوَض على الوجه المعتاد أنه رضي منه بالمعاوضة، فذهب العكبريون؛ كأبي حفص، وأبي على بن شهاب، إلى أن ذلك خلع صحيح، وذكروا من كلام أحمد، ومن كلام غيره من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم. ولعله هو الغالب على نصوصه، بل قد نص على أن الطلاق يقع بالفعل والقول. واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي ﷺ: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به). قال: وإذا كتب فقد عمل. وذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت، كأبي عبد الله بن حامد، ومن اتبعهم؛ كالقاضي أبي يعلي ومن سلك سبيله: أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام، وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك؛ بناء على أن الفرقة فسخ النكاح، والنكاح يفتقر إلى لفظ. فكذلك فسخه.
ألفاظ عقد النكاح
[عدل]وأما النكاح: فقال هؤلاء؛ كابن حامد والقاضي وأصحابه، مثل أبي الخطاب وعامة المتأخرين: إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، كما قاله الشافعي، بناء على أنه لا ينعقد بالكناية؛ لأن الكناية تفتقر إلى نية، والشهادة شرط في صحة النكاح، والشهادة على النية غير ممكنة. ومنعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك.
وقال أكثر هؤلاء؛ كابن حامد والقاضي والمتأخرين: إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها. فإن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان، وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان؛ بناء على أنه مختص بهذين اللفظين، وأن فيه شَوْب التعبد.
وهذا مع أنه ليس منصوصًا عن أحمد فهو مخالف لأصوله، ولم ينص أحمد على ذلك، ولا نقلوا عنه نصًا في ذلك، وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحارث: إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح؛ فإن الله تعالى قال: { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } 3، وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي ﷺ، وهو النكاح بغير مهر، بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته: أعتقتك وجعلتُ عتقك صداقك. وبقوله: جعلتُ عتقك صداقك، أو صداقك عتقك. ذكر ذلك في غير موضع من جواباته.
فاختلف أصحابه، فأما أبو عبد الله بن حامد: فطرد قياسه وقال: لابد مع ذلك من أن يقول: تزوجتها، أو نكحتها؛ لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين. وأما القاضي أبو يعلي وغيره: فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد، وأن ذلك من صور الاستحسان. وذكر ابن عقيل قولًا في المذهب: أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج؛ لنص أحمد بهذا. وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله. ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه؛ فإن أصحاب مالك اختلفوا: هل ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج؟ علي قولين. والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي ﷺ من هبة البضع بغير مهر. قال ابن القاسم: وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك. فهو عندي جائز.
وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما؛ فإن الحكم مبني على مقدمتين:
إحداهما: أن ما سوي ذلك كناية، وأن الكناية تفتقر إلى النية. ومذهبهما المشهور: أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة، وتقوم مقام إظهار النية؛ ولهذا جعلا الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح.
ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة: من اجتماع الناس لذلك، والتحدث بما اجتمعوا له. فإذا قال بعد ذلك: ملكتكها لك بألف درهم، علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الإنكاح. وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده: إملاكًا وملاكًا؛ ولهذا روي الناس قول النبي ﷺ لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتمًا من حديد رووه تارة: (أنكحتكها بما معك من القرآن)، وتارة: (ملكتكها)، وإن كان النبي ﷺ لم يثبت عنه أنه اقتصر على (ملكتكها)، بل إما أنه قالهما جميعًا، أو قال أحدهما، لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا، وتارة هكذا.
ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه، وعن أصول الأدلة الشرعية؛ إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم، وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة. ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ؛ لا عربي ولا عجمي. وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع، ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال، قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها.
نعم، لو قيل: تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة؛ لكان متوجهًا، كما قد روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة. وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع.
وقد ذكر أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أحمد؛ كالقاضي أبي يعلي، وابن عقيل، والمتأخرين: أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم. فما اعتقدوه نكاحًا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا وتحاكموا إلينا، إذا لم يكن حينئذ مشتملًا على مانع، وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه، حتى قالوا: لو قهر حربي حربية فوطئها، أو طاوعته واعتقداه نكاحًا أقرا عليه، وإلا فلا.
ومعلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر، وإنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح، كما قال تعالى: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } 4، وقال: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان } 5، فأمر بالولي والشهود ونحو ذلك، مبالغة في تمييزه عن السفاح، وصيانة للنساء عن التشبه بالبغايا، حتى شرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته؛ ولهذا جاء في الأثر: (المرأة لا تزوج نفسها)؛ فإن البغي هي التي تزوج نفسها. وأمر فيه بالإشهاد، أو بالإعلان، أو بهما جميعًا: ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات في مذهب أحمد. ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح، وبأنه يحفظ النسب عند التجاحد.
فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والسنة والآثار حكمتها بينة. فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر.
الأدلة على أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها
[عدل]وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدل عليها أصول الشريعة. وهي التي تعرفها القلوب؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } 6، وقال: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ } 7، وقال: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ } 8، وقال: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } 9، وقال: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } 10، وقال: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } 11، وقال: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلى قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } 12، وقال: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا } 13، وقال: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } 14، وقال: { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } 15، وقال: { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ } 16، وقال: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } 17، وقال: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } 18، وقال: { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } 19، إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود: إما أمرًا، وإما إباحة، والمنهي فيها عن بعضها؛ كالربا؛ فإن الدلالة فيها من وجوه:
أحدها: أنه اكتفي بالتراضي في البيع في قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } 20، وبطيب النفس في التبرع في قوله: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا }، فتلك الآية في جنس المعاوضات. وهذه الآية في جنس التبرعات، ولم يشترط لفظًا معينًا، ولا فعلا معينًا يدل على التراضي، وعلي طيب النفس، ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة.
والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود، وهو ظاهر في بعضها، وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن. وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس. فلا عبرة بجحد مثل هذا؛ فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة، وتلقين في الأخبار والمذاهب. فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها؛ ولهذا قلنا: إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب؛ لأن الفطر السليمة لا تتفق على الكذب. فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب.
الوجه الثاني: أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقًا بها أحكام شرعية، وكل اسم فلا بد له من حد. فمنه ما يعلم حده باللغة؛ كالشمس، والقمر، والبر، والبحر، والسماء، والأرض. ومنه ما يعلم بالشرع؛ كالمؤمن والكافر والمنافق، وكالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله ﷺ: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه).
ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدًا؛ لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم، وأنه من البدع. وليس لذلك حد في لغة العرب، بحيث يقال: إن أهل اللغة يسمون هذا بيعًا ولا يسمون هذا بيعًا، حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعًا دليل على أنها في لغتهم تسمي بيعًا. والأصل بقاء اللغة وتقريرها؛ لا نقلها وتغييرها. فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم. فما سموه بيعًا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة.
الوجه الثالث: أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأمورًا بها. فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟! وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه كيف يحكم على أنه محظور؟! ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معني قوله: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } 21
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معني قوله: { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا } 22 ؛ ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } 23، فذكر ما ابتدعوه من العبادات، ومن التحريمات. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِل به سلطانا).
وهذه قاعدة عظيمة نافعة. وإذا كان كذلك، فنقول:
البيع والهبة والإجارة وغيرها هي من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم؛ كالأكل والشرب واللباس؛ فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابد منه، وكرَّهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاؤوا، ما لم تحرم الشريعة. كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة. وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروهًا، وما لم تحد الشريعة في ذلك حدًا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلى.
وأما السنة والإجماع: فمن تتبع ما ورد عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات، علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين. والآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها؛ إذ الغرض التنبيه على القواعد، وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا.
فمن ذلك: أن رسول الله ﷺ بني مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يأمر أحدًا أن يقول: وقفت هذا المسجد، ولا ما يشبه هذا اللفظ، بل قال النبي ﷺ: (من بنى مسجدًا بني الله له بيتًا في الجنة)، فعلق الحكم بنفس بنائه. وفي الصحيحين: أنه لما اشتري الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: (هو لك يا عبد الله ابن عمر)، ولم يصدر من ابن عمر لفظ قبول. وكان يهدي ويهدي له. فيكون قبض الهدية قبولها. ولما نحر البدنات قال: (من شاء اقتطع) مع إمكان قسمتها. فكان هذا إيجابًا وكان الاقتطاع هو القبول. وكان يُسأل فيعطي، أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطي. ويكون الإعطاء هو الإيجاب، والأخذ هو القبول، في قضايا كثيرة جدًا؛ ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ، ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة، كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم، وللعباس، وغيرهم.
وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات.
وأيضًا، فإن التصرفات جنسان: عقود، وقبوض. كما جمعهما النبي ﷺ في قوله: (رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشتري، سمحًا إذا قضي، سمحًا إذا اقتضي) ويقول الناس: البيع والشراء، والأخذ والعطاء.
والمقصود من العقود: إنما هو القبض والاستيفاء؛ فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض أو جوازه؛ بمنزلة إيجاب الشارع. ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود، بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات.
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد، كالعقد. وتتعلق به أحكام شرعية، كما تتعلق بالقبض. فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات، فكذلك العقود. وإن حررت عبارته. قلت: أحد نوعي التصرفات. فكان المرجع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر.
ومما يلتحق بهذا: أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف بطريق الوكالة؛ كالإذن اللفظي. فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل، والعلم برضا المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا. وعلي هذا يخرج مبايعة النبي ﷺ عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان، وكان غائبًا، وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما؛ لعلمه أنهما راضيان بذلك. ولما دعاه ﷺ اللّحام سادس ستة، اتبعهم رجل، فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي. وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري: أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه، قال: ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا. وكذلك معني قول أبي جعفر: إن الإخوان مَنْ يُدخِل أحدهم يده في جيب صاحبه، فيأخذ منه ما شاء.
ومن ذلك قوله ﷺ لمن استوهبه كبة شعر: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب، فقد وهبته لك). وكذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول: إنه أعطاهم من أربعة الأخماس. وعلي هذا خرّج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزام وعروة بن الجعد، لما وكله النبي ﷺ في شراء شاة بدينار، فاشتري شاتين وباع إحداهما بدينار؛ فإن التصرف بغير استئذان خاص: تارة بالمعاوضة، وتارة بالتبرع، وتارة بالانتفاع، مأخذه: إما إذن عرفي عام، أو خاص.
فصل في العقود حلالها وحرامها
[عدل]القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها
والأصل في ذلك: أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل. وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم إليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل. وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق. وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما: الربا، والميسر. فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة وسورة آل عمران والروم والمدثر. وذم إليهود عليه في سورة النساء وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة.
ثم إن رسول الله ﷺ فصل ما جمعه الله في كتابه. (فنهى ﷺ عن بيع الغَرَر)، كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه. والغرر: هو المجهول العاقبة. فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار. وذلك: أن العبد إذا أبق، أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير. فإن حصل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر، التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم. ففي بيع الغرر ظلم، وعداوة، وبغضاء.
ومن نوع الغرر ما نهى عنه النبي ﷺ من بيع حَبَل الحَبَلَة، والملاقيح، والمضامين، ومن بيع السنين، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك: كله من نوع الغرر.
الربا
[عدل]وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد؛ ولهذا قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } 24، وذكره النبي ﷺ في الكبائر، كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه. وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم، وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل.
وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا، كما يربي الصدقات. وكلاهما أمر مجرب عند الناس.
وذلك: أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج، وإلا فالموسر لا يأخذ ألفًا حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف. وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه، فتقع تلك الزيادة ظلمًا للمحتاج، بخلاف الميسر، فإن المظلوم فيه غير مفتقر، ولا هو محتاج إلى العقد. وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها، والربا فيه ظلم محقق للمحتاج؛ ولهذا كان ضد الصدقة، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء؛ فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك. فإذا أربي معه، فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخري، والغريم محتاج إلى دينه. فهذا من أشد أنواع الظلم ولعظمته، لعن ﷺ آكله: وهو الآخذ، ومؤكله: وهو المحتاج المعطي للزيادة، وشاهديه وكاتبه؛ لإعانتهم عليه.
ثم إن النبي ﷺ حرم أشياء مما يخفي فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق، كما حرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيرها؛ مثل ربا الفضل؛ فإن الحكمة فيه قد تخفي؛ إذ العاقل لا يبيع درهمًا بدرهمين؛ إلا لاختلاف الصفات؛ مثل: كون الدرهم صحيحًا، والدرهمين مكسورين، أو كون الدرهم مصوغًا، أو من نقد نافِقٍ ونحو ذلك؛ ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما، فلم يروا به بأسًا، حتى أخبرهم الصحابة الأكابر؛ كعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، وغيرهما، بتحريم النبي ﷺ لربا الفضل.
بيع الغرر
[عدل]وأما الغرر، فإنه ثلاثة أنواع: إما المعدوم؛ كحبل الحبلة، وبيع السنين. وإما المعجوز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق. وإما المجهول المطلق، أو المعين المجهول جنسه أو قدره، كقوله: بِعْتُكَ عبدًا، أو بعتك ما في بيتي، أو بعتك عبيدي.
فأما المعين المعلوم جنسه وقدره، المجهول نوعه أو صفته، كقوله: بعتك الثوب الذي في كُمّي، أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك، ففيه خلاف مشهور، وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات، إحداهن: لا يصح بيعه بحال؛ كقول الشافعي في الجديد. والثانية: يصح وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه؛ كقول أبي حنيفة. وقد روي عن أحمد: لا خيار له. والثالثة وهي المشهورة: أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمة. وهو قول مالك.
ومفسدة الغرر أقل من الربا؛ فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه؛ فإن تحريمه أشد ضررًا من ضرر كونه غررًا مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس. ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن، وإن كان قد نهى عن بيع الحمل مفردًا. وكذلك اللبن عند الأكثرين. وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها؛ فإنه يصح، مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور؛ كمالك والشافعي وأحمد. وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.
وجوز النبي ﷺ إذا باع نخلًا قد أُبِّرَتْ: أن يشترط المبتاع ثمرتها. فيكون قد اشتري ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل.
فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنًا وتبعًا ما لا يجوز من غيره.
ولما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخَرْص، ولم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق، أو ما دون النصاب. على اختلاف القولين للشافعي، وأحمد، وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب.
إذا تبين ذلك، فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره؛ فإنه أخذ ذلك عن سعيد ابن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع. كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم لذلك كله؛ ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك من أجوبته. والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب، فانهما يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد؛ لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه، وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه، أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها.
الحيل على الربا وحكمها
[عدل]وجماع الحيل نوعان: إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضموا إلى العقد عقدًا ليس بمقصود.
فالأول: مسألة مد عجوة وضابطها: أن يبيع ربويًا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه، مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلًا ونحو ذلك، فيضم إلى الفضة القليلة عوضًا آخر، حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار. فمتي كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلًا حرمت مسألة مد عجوة، بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما، وإنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين، وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا.
وأما إن كان كلاهما مقصودًا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، أو مدين أو درهمين، ففيه روايتان عن أحمد. والمنع قول مالك والشافعي. والجواز: قول أبي حنيفة. وهي مسألة اجتهاد.
وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي، كبيع شاة ذات صوف أو لبن، بصوف أو لبن، فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز.
والنوع الثاني من الحيل: أن يضما إلى العقد المحرم عقدًا غير مقصود، مثل أن يتواطآ على أن يبيعه الذهب بخرزه، ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب، أو يواطئا ثالثًا على أن يبيع أحدهما عرضًا، ثم يبيعه المبتاع لمعاملة المرابي، ثم يبيعه المرابي لصاحبه. وهي الحيلة المثلثة، أو يقرن بالقرض محاباة: في بيع، أو إجارة، أو مساقاة، ونحو ذلك؛ مثل أن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين، أو يكريه دارًا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك.
فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا. وقد ثبت عن النبي ﷺ من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك) قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهو من جنس حيل إليهود؛ فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل، ويسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك.
وقد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا ترتكبوا ما ارتكبت إليهود، فتستحلوا محارم الله بأدني الحيل). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (لعن الله إليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها) وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: (من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس قمارًا، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار). وقال ﷺ فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله).
ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة، ذكرنا منها نحوًا من ثلاثين دليلًا فيما كتبناه في ذلك، وذكرنا ما يحتج به من يجوزها، كيمين أيوب، وحديث تمر خيبر، ومعاريض السلف. وذكرنا جواب ذلك.
ومن ذرائع ذلك: مسألة العينة وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك. فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين؛ لأنها حيلة. وقد روي أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله: أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم). وإن لم يتواطآ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدًا للذريعة. ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ، ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالًا، ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلًا. وأما مع التواطؤ فربًا محتال عليه.
ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها. فهذا يسمى التَوَرُّق. ففي كراهته عن أحمد روايتان. والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن، بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القِنْيَة، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.
ففي الجملة، أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعًا محكمًا؛ مراعين لمقصود الشريعة وأصولها. وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة. وأما الغرر، فأشد الناس فيه قولًا: أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما. أما الشافعي، فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من الفقهاء؛ مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بُصوَان؛ كالباقلاء، والجوز، واللوز في قشره الأخضر، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده: أن ذلك لا يجوز، مع أنه قد اشتري في مرض موته باقلاء أخضر، فخرج ذلك له قولا، واختاره طائفة من أصحابه، كأبي سعيد الإصطخري. وروي عنه أنه ذكر له: أن النبي ﷺ (نهى عن بيع الحب حتى يشتد) فدل على جواز بيعه بعد اشتداده، وإن كان في سنبله. فقال: إن صح هذا أخرجته من العام، أو كلامًا قريبًا من هذا. وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع.
قال ابن المنذر: جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة، وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وقال الشافعي مرة: لا يجوز، ثم بلغه حديث ابن عمر، فرجع عنه وقال به. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا يعدل عن القول به.
وذكر بعض أصحابه له قولين، وإن الجواز هو القديم، حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة، متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف، حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره؛ ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول. وقاس على بيع الغرر جميع العقود؛ من التبرعات والمعاوضات، فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة، وصلح أهل الهدنة، وجزية أهل الذمة، ما اشترطه في البيع عينًا ودينًا، ولم يجوز في ذلك جنسًا وقدرًا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع، وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها، أو يشترط لها شروط أخر.
وأما أبو حنيفة، فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين، ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته، ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة مهر المثل، ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة، مع الخيار؛ لأنه يري وقف العقود، لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقًا. والشافعي يجوز بيع بعض ذلك، ويحرم أيضًا كثيرًا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد.
وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك، ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي، حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق.
وقال الشافعي: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئًا باطلًا.
فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص، لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك.
وأما مالك، فمذهبه أحسن المذاهب في هذا. فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة، أو يقل غرره، بحيث يحتمل في العقود، حتى يجوز بيع المقاثي جملة، وبيع المغيبات في الأرض؛ كالجزر والفجل ونحو ذلك.
وأحمد قريب منه في ذلك، فإنه يجوز هذه الأشياء، ويجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدًا مطلقًا، أو عبدًا من عبيده، ونحو ذلك مما لا تزيد جهالته على مهر المثل. وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق؛ كأبي الخطاب. ومنهم من يوافق الشافعي، فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع؛ كأبي بكر عبد العزيز، ويجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك، حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر، كقول مالك، مع اختلاف في مذهبه، ليس هذا موضعه، لكن المنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض، كالجزر ونحوه إلا إذا قلع. وقال: هذا الغرر، شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ والمنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة، ولا يباع من المقاثي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن، ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة، كقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن ذلك غرر. وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب؛ كالجزر والفجل، والبصل وما أشبه ذلك، كقول الشافعي وأبي حنيفة.
وقال الشيخ أبو محمد: إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله؛ كالبصل المبيع أخضر، والكراث والفجل، أو كان المقصود فروعه فالأولي جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر. فأشبه الشجر والحيطان ويدخل ما لم يظهر في المبيع تبعًا. وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض؛ لأن الحكم للأغلب، وإن تساويا لم يجز أيضًا؛ لأن الأصل اعتبار الشرط، وإنما سقط في الأقل التابع.
وكلام أحمد يحتمل وجهين، فإن أبا داود قال: قلت لأحمد: بيع الجزر في الأرض؟ قال: لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه. هذا الغرر، شيء ليس يراه. كيف يشتريه؟ فعلل بعدم الرؤية. فقد يقال: إن لم يُرَ كلُّه لم يُبَع. وقد يقال: رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي، كرؤية وجه العبد.
بيع المقاثي والمغيبات في الأرض
[عدل]وكذلك اختلفوا في المقاثي إذا بيعت بأصولها، كما هو العادة غالبًا. فقال قوم من المتأخرين: يجوز ذلك؛ لأن بيع أصول الخضروات كبيع الشجر، وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز. فكذلك هذا. وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وقال المتقدمون: لا يجوز بحال، وهو معني كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس، وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار: أن يباع دون عروقه. والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده؛ فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه: أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز. وأما إن كان مقصوده الثمرة، فاشتري الأصل معها حيلة: لم يجز. وكذلك إذا اشتري أرضًا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه، فإن كانت الأرض هي المقصود، جاز دخول الثمر والزرع معها تبعًا. وإن كان المقصود هو الثمر والزرع، فاشتري الأرض لذلك، لم يجز. وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر، فمعلوم أن المقصود من المقاثي والمباطخ إنما هو الخضروات، دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر.
وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين:
أحدهما: كما في جواز بيع المغيبات، بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره. ولا شك أنه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا: لا يصح بيع ما لم يره، فإذا صححنا بيع الغائب، فهذا من الغائب.
والثاني: أنه يجوز بيعها مطلقًا، كمذهب مالك؛ إلحاقًا لها بلب الجوز. وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين:
أحدهما: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه. والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به، وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأولي.
الثاني: أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه؛ فإنه إذا لم يبع حتى يقلع، حصل على أصحابه ضرر عظيم؛ فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه، وإن قلعوه جملة فسد بالقلع. فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر.
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب، أو البائع إلى أكل التمر. فحاجة البائع هنا أوكد بكثير. وسنقرر ذلك إن شاء الله تعالى.
وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: جواز بيع المقاثي باطنها وظاهرها، وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم، إذا بدا صلاحها، كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة: أن يباع جميع ثمرها. وإن كان فيها ما لم يصلح بعد.
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا: إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها. وهذا بعينه موجود في المقثاة.
وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعًا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود؛ وإنما يكون ذلك للمشتري؛ لأنه موجود في ملكه.
والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر؛ لأنه يجب على البائع سقي الثمرة، ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد، ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به يوجد؛ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد، لا ما كان من موجبات الملك.
هل يجوز بيع جميع الحديقة إذا بدا صلاح بعضها
[عدل]وأيضًا، فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها، أم لا يباع إلا ما صلح منها؟ على روايتين:
أشهرهما عنه: أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه. وهي اختيار قدماء أصحابه؛ كأبي بكر وابن شاقلاء.
والرواية الثانية: يكون بدو الصلاح في البعض صلاحًا للجميع، وهي اختيار أكثر أصحابه؛ كابن حامد والقاضي ومن تبعهما.
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال: إذا كان في بستان بعضه بالغ، وبعضه غير بالغ، بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ. فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير، كالقاضي أخيرًا، وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح. ومنهم من سوي بين الصلاح القليل والكثير؛ كأبي الخطاب وجماعات. وهو قول مالك والشافعي والليث. وزاد مالك فقال: يكون صلاحًا لما جاوره من الأقرحة. وحكوا ذلك رواية عن أحمد.
واختلف هؤلاء: هل يكون صلاح النوع؛ كالبرني من الرطب، صلاحًا لسائر أنواع الرطب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد: أحدهما: المنع، وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد. والثاني: الجواز، وهو قول أبي الخطاب. وزاد الليث على هؤلاء فقال: صلاح الجنس؛ كالتفاح واللوز، يكون صلاحًا لسائر أجناس الثمار.
ومأخذ من جوز شيئًا من ذلك: أن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة، واختلاف الأيدي. وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين. ومن سوي بينهما، قال: المقصود الأمن من العاهة. وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح.
ومأخذ من منع ذلك: أن قول النبي ﷺ: (حتى يبدو صلاحها) يقتضي بدو صلاح الجميع.
والغرض من هذه المذاهب: أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه، فقياس قوله: جواز بيع المقثاة إذا بدا صلاح بعضها. والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة؛ فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر؛ إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات، وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق، فإنه أمر لا ينضبط؛ فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت.
والغرض من هذا: أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل، كما قد روي عنه في بعض الجوابات، أو قد خرجه أصحابه على أصوله.
وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرًا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان. فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت، ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر. وإذا كانت الأفراد مستوية وكان له فيها قولان، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب اليه مجتهد فقوله فيها واحد بلا خلاف، وإن كان مما قد يذهب اليه مجتهد، فقالت طائفة، منهم أبو الخطاب: لا يخرج. وقال الجمهور؛ كالقاضي أبي يعلى: يخرج الجواب، إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق، كما اقتضته أصوله. ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا. وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرًا لهما. فإن كان سبب الفرق مأخذًا شرعيا، كان الفرق قولًا له. وإن كان سبب الفرق مأخذًا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك، فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعًا، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال النبي ﷺ: (أنتم أعلم بأمر دنياكم. فأما ما كان من أمر دينكم فإلي).
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمي تناقضًا أيضًا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات. فإذا كان في وقت قد قال: إن هذا حرام. وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام، فقد تناقض قولاه، وهو مصيب في كليهما عند من يقول: إن كل مجتهد مصيب، وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده.
وأما الجمهور الذين يقولون: إن لله حكمًا في الباطن، علمه العالم في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه؛ ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله؛ باطنًا، وظاهرًا، بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين.
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله، مع علمه بتقواه، وسلوكه الطريق الراشد.
وأما أهل الأهواء والخصومات، فهم مذمومون في مناقضاتهم؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ولا حسن قصد لما يجب قصده.
وعلى هذا، فلازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق. فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه؛ فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف اليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق. فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض. وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين. ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف اليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف اليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا. وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع ملزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه. فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها. وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها.
فأما إذا نفي هو اللزوم لم يجز أن يضاف اليه اللازم بحال، وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي ﷺ قاله؛لكونه ملتزمًا لرسالته، فلما لم يضف اليه ما نفاه عن الرسول، وإن كان لازمًا له، ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه. ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه؛ لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين.
وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقًا، لكن اعتقادًا ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط، أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقًا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط.
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق، واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة. عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء؛ فإنهم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } 25، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوي جزمًا لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده؛ لا باطنًا ولا ظاهرًا. ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادًا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين، شبيهًا بالمغضوب عليهم، أو جاهلين، شبيهًا بالضالين.
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوي الحق، وقد سلك طريقه. وأما متبع الهوي المحض، فهو من يعلم الحق ويعاند عنه.
وثم قسم آخر وهو غالب الناس وهو أن يكون له هوي فيه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة؛ ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات).
فالمجتهد المحض مغفور له، ومأجور. وصاحب الهوي المحض مستوجب للعذاب. وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوي، فهو مسيء. وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية.
وأكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك.
وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك، وأصول أحمد، وبعض أصول غيرهما، هو أصح الأقوال. وعليه يدل غالب معاملات السلف. ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررًا، فإنه لابد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه الله. فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال. وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم، فما رأينا أحدًا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل، ولا يمكنه ذلك. ونحن نعلم قطعًا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها. فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرًا نحن محتاجون اليه، ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها. وإنما هي من جنس اللعب.
ما يوقع الناس في الحيل المبتدعة
[عدل]ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل، فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } 26، وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل. وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقي الله وأخذ ما أحل له، وأدي ما وجب عليه، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدًا. فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا ﷺ بالحنيفية السمحة. فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } 27
وأصل هذا: أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان؛ كالدم، والميتة، ولحم الخنزير، أو من التصرفات؛ كالميسر، والربا، وما يدخل فيهما من بيوع الغرر وغيره؛ لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 28، فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، سواء كان ميسرًا بالمال أو باللعب، فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك. وكذلك روي فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس على عهد رسول الله ﷺ يتبايعون الثمار. فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر دمان: أصابه مراض، أصابه قشام: عاهات يحتجون بها. فقال رسول الله ﷺ لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: (فأما لا، فلا تبايعوا حتي يبدو صلاح الثمر)، كالمشورة لهم يشير بها؛ لكثرة خصومتهم واختلافهم وذكر خارجة بن زيد: (أن زيدًا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتي تطلع الثريا، فيتبين الأحمر من الأصفر) رواه البخاري تعليقًا، وأبو داود إلى قوله: (خصومتهم). وروي أحمد في المسند عنه قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع رسول الله ﷺ خصومة. فقال: (ما هذا؟) فقيل له: إن هؤلاء ابتاعوا الثمار، يقولون: أصابنا الدمان، والقشام. فقال رسول الله ﷺ: (فلا تبايعوها حتي يبدو صلاحها).
فقد أخبر أن سبب نهى النبي ﷺ عن ذلك: ما أفضت اليه من الخصام. وهكذا بيوع الغرر. وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها في الصحيحين، من حديث ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس. وفي مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث أنس تعليله، ففي الصحيحين عن أنس: (أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمار حتي تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتي تحمر أو تصفر، فقال رسول الله ﷺ: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) وفي رواية: (أن النبي ﷺ نهى عن بيع الثمر حتي يزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك؟). قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: (أرأيت إن منع الله الثمرة) من حديث النبي ﷺ، أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط.
فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي ﷺ، أو كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكلًا للمال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون.
وإذا كانت مفسدة بيع الغَرَر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل. لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض. وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبي ﷺ بقوله: (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق) صار هذا اللهو حقًا.
ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة اليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر. والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟! ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، وقاله جمهور العلماء. كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى.
ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث: أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع، كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: (لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة. فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا. بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟). وفي رواية لمسلم عنه: (أمر رسول الله ﷺ بوضع الجوائح).
والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب أخذ في ذلك بقول الكوفيين: إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض. وهذا على أصل الكوفيين أمشي؛ لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر، وإنما موجب العقد عندهم: القبض الناجز بكل حال. وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه، مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك، مع أني لا أعلم عن النبي ﷺ سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع، وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا. ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه. وهو ما نبه عليه النبي ﷺ بقوله: (بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟) فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها، لا عند العقد، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئًا فشيئًا. فتلف الثمرة قبل التمكن من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة، وفي الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق. فكذلك في البيع.
وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة، وأن المشتري لم يملك الإبقاء. وهذا الفرق لا يقول به الشافعي، وسنذكر أصله.
فلما كان النبي ﷺ قد نهى عن بيعها حتي يبدو صلاحها. وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تبايعوا الثمر حتي يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة) وفي لفظ لمسلم عنه: (نهى عن بيع النخل حتي تزهو، وعن السنبل حتي يبيض ويأمن العاهة: نهى البائع والمشتري وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله ﷺ عن بيع النخل حتي يحرز من كل عارض).
فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدومًا، فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة، فإن هذا لا سبيل اليه؛ إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين { أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُون } 29، وما ذكره في سورة يونس في قوله: { حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } 30، وإنما المقصود ذهاب العاهة التي يتكرر وجودها، وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب، وقبل ظهور النضج في الثمر؛ إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله، ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح. وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة. وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر.
فتبين أن رسول الله ﷺ قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج اليه على مفسدة الغرر اليسير، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها ﷺ وعلمها أمته.
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح، أفسد كثيرًا من أمر الدين، وضاق عليه عقله ودينه.
وأيضًا، ففي صحيح مسلم عن أبي رافع: أن رسول الله ﷺ استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع اليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيا، فقال النبي ﷺ: (أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء). ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوي المكيل والموزون من الحيوان ونحوه، كما عليه فقهاء الحجاز والحديث، خلافًا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك؛لأن القرض موجبه رد المثل، والحيوان ليس بمثلي، وبناء على أن ما سوي المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضًا عن مال. وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبًا في الذمة، كما هو المشهور من مذاهبهم؛خلافًا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة.
وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب، وإلا فيعز وجود حيوان مثل ذلك الحيوان؛ لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي، وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة.
وأيضًا، فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ، وفيه روايتان عن أحمد. إحداهما: يجوز كقول مالك. وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه.
وأيضًا، فقد دل الكتاب في قوله تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } 31، والسنة في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء: على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق، وهو أحد قولي الشافعي. ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرًا في المهر ما جاز النكاح بدونه، وكما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي ﷺ نهى عن استئجار الأجير حتي يبين له أجره، وعن بيع اللمس، والنجش، وإلقاء الحجر)، فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر، فدل على الفرق بينهما.
وسببه: أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدودة، بل المرجع فيها إلى العرف، فكذلك عوضه الآخر؛ لأن المهر ليس هو المقصود، وإنما هو نحلة تابعة، فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه. وكذلك لما قدم وفد هوازن على النبي ﷺ، وخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي، وقال لهم: (إني قائم فخاطب الناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله ﷺ على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله). وقام فخطب الناس، فقال: (إني قد رددت على هؤلاء سبيهم، فمن شاء طيب ذلك، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا) فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بابل مطلقة في الذمة، إلى أجل متفاوت غير محدود.
وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر: أن النبي ﷺ قاتلهم حتي ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله ﷺ الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح، ويخرجون منها. واشترط عليهم ألا يكتموا، ولا يغيبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد. فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم.
وعن ابن عباس قال: صالح رسول الله ﷺ أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعًا، وثلاثين فرسًا، وثلاثين بعيرًا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتي يردوها عليهم، إن كان باليمن كيد أو غارة. رواه أبو داود. فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس، غير موصوفة بصفات السلم. وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون وقد لا يكون.
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال؛ كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب، ليس بواجب أن يعلم الثمن والأجرة. ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر؛ لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود، أو ليست هي المقصود الأعظم منها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعًا ما يزيد على ضرر ترك تحديده.
فصل في استئجار الأرض التي فيها شجر أو مساكن
[عدل]ومما تمس الحاجة اليه من فروع هذه القاعدة، ومن مسائل بيع الثمر قبل بَدْوِ صلاحه: ما قد عَمَّت به البلوي في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها، لاسيما دمشق؛ وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس، وأرض تصلح للزرع، وربما اشتملت مع ذلك على مساكن، فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزرعها، أو يسكنها مع ذلك. فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، وهو قول الكوفيين والشافعي، وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه.
والقول الثاني: يجوز إذا كان الشجر قليلًا وكان البياض الثلثين أو أكثر، وكذلك إذا استكري دارًا فيها نخلات قليلة، أو شجرات عنب، ونحو ذلك. وهذا قول مالك، وعن أحمد كالقولين. قال الكرماني: قيل لأحمد: الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات؟ قال: أخاف أن يكون استأجر شجرًا لم يثمر، وكأنه لم يعجبه، أظنه: إذا أراد الشجر، فلم أفهم عن أحمد أكثر من هذا.
وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس، كشاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن، روايتان. وأكثر أصوله على الجواز، كقول مالك، فإنه يقول: إذا ابتاع عبدًا وله مال، وكان مقصوده العبد: جاز، وإن كان المال مجهولًا، أو من جنس الثمن؛ ولأنه يقول: إذا ابتاع أرضًا أو شجرًا فيها ثمر، أو زرع لم يدرك: يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر.
وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة، فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها. واشتراء النخل، ودخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعًا للأصل، بمنزلة دخول ثمر النخلات والعنب في الإجارة تبعًا.
وحجة الفريقين في المنع: ما ثبت عن النبي ﷺ من نهيه عن بيع السنين. وبيع الثمر حتي يبدو صلاحه. كما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. وفيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي ﷺ أن تباع الثمرة حتي تَشْقَح. قيل: وما تشقح؟ قال: تحمارُّ أو تصفار، ويؤكل منها. وفي رواية لمسلم: أن هذا التفسير من كلام سعيد بن المثني المحدث عن جابر.
وفي الصحيحين عن جابر قال: نهى النبي ﷺ عن المحاقَلَة والمزابَنَة والمعاوَمَة والمخابرة. وفي رواية لهما: وعن بيع السنين بدل المعاومة. وفيهما أيضًا عن زيد ابن أبي أنيسة، عن عطاء، عن جابر: أن رسول الله ﷺ نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وأن يشتري النخل حتي يشقه، والإشقاه: أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء. والمحاقلة: أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم. والمزابنة: أن يباع النخل بأوساق من التمر. والمخابرة: الثلث أو الربع، وأشباه ذلك. قال زيد: قلت لعطاء: أسمعت جابرًا يذكر هذا عن النبي ﷺ؟ قال: نعم. وفيهما عن أبي البختري. قال: سألت ابن عباس عن بيع النخل. فقال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع النخل حتي يأكل منه، أو يؤكل، وحتى يوزن. فقلت: ما يوزن؟ فقال رجل عنده: حتي يحرز. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ولا تتبايعوا الثمار حتي يبدو صلاحها، ولا تبتاعوا التمر بالتمر).
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز. قالوا: فإذا أكراه الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق. وباعه سنة أو سنتين. وهذا هو الذي نهى عنه النبي ﷺ، ثم من منع منه مطلقًا طرد العموم والقياس. ومن جوزه إذا كان قليلًا قال: الغرر اليسير يحتمل في العقود، كما لو ابتاع النخل وعليها ثمر لم يؤْبَرْ، أو أبر ولم يبْدُ صلاحه، فإنه يجوز، وإن لم يجز إفراده بالعقد.
وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة؛ لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء، ويجوز ابتياعه قبل بَدْو صلاحه. وموجب العقد: القطع في الحال، فإذا ابتاعه مع الأصل، فإنما استحق إبقاءه؛ لأن الأصل ملكه. وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل.
وذكر أبو عبيد: أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير: إجماع.
والقول الثالث: أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر، ودخول الشجر في الإجارة مطلقًا. وهذا قول ابن عقيل، واليه مال حرب الكرماني. وهذا القول كالإجماع من السلف، وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه. فقد روي سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله قال: حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه، فقبلهم أرضه سنين، وفيها النخل والشجر.
وأيضًا، فإن عمر بن الخطاب ضرب الخَرَاج على أرض السواد وغيرها. فأقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض، وجعل على كل جَرِيب من أَجْرِبة الأرض السوداء والبيضاء خراجًا مقدرًا. والمشهور: أنه جعل على جريب العنب: عشرة دراهم، وعلى جريب النخل: ثمانية دراهم، وعلى جريب الرطبة: ستة دراهم، وعلى جريب الزرع: درهمًا وقَفِيزًا من طعام.
والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد: أن هذه المخارجة تجري مجري المؤاجرة. وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة. وأن الخراج أجرة الأرض. فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر، وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون في زمانه وبعده؛ ولهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا، فرأي أن هذه المعاملة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء.
وحجة ابن عقيل: أن إجارة الأرض جائزة. والحاجة اليها داعية، ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر، وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز؛ لأن المستأجر لا يتبرع بسَقْي الشجر، وقد لا يساقي عليها.
وهذا كما أن مالكًا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة. فإذا ساقي العامل على شجر فيها بياض جَوَّزا المزارعة في ذلك البياض، تبعًا للمساقاة، فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث، كما قال في بيع الشجر تبعًا للأرض، وكذلك الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلًا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه، وإن كان كثيرًا والنخل قليلًا ففيه لأصحابه وجهان.
هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد، وسوي بينهما في الجزء المشروط، كالثلث أو الربع، فأما إن فاضل بين الجزئين، ففيه وجهان لأصحابه. وكذلك إن فرق بينهما في عقدين وقَدَّم المساقاة، ففيه وجهان. فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجهًا واحدًا.
فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعًا للمساقاة. فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعًا لإجارة الأرض.
وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك؛ ولأن المانعين من هذا هم بين محتالٍ على جوازه، أو مرتكب لما يظن أنه حرام، أو ضار ومتضرر. فإن الكوفيين احتالوا على الجواز: تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر، كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، يبيعه إياها مطلقًا، أو بشرط القطع بجميع الأجرة ويبيحه إبقاءها. وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة، والثوري، وغيرهما. وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة، مثل: أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك.
جواز بعض الحيل في عقود البيع
[عدل]وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة، كأبي يوسف، ومحمد، والشافعي في القديم. فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال، وكذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل والعنب. فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمي الأجرة في مقابلة منفعة الأرض، ويتبرع له إما بإعراء الشجر، وإما بالمحاباة في مساقاتها.
ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعني حيلة المحاباة في المساقاة والمنصوص عن أحمد، وأكثر أصحابه: إبطال هذه الحيلة بعينها، كمذهب مالك، وغيره.
والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعًا؛ لما روي عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك). رواه الأئمة الخمسة: أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. فنهى ﷺ عن أن يجمع بين سلف وبيع. فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع، أو مثله. وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة، مثل: الهبة، والعارية، والعرية، والمحاباة في المساقاة، والمزارعة، وغير ذلك: هي مثل القرض.
فجماع معنى الحديث: ألا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرعًا مطلقًا. فيصير جزءًا من العوض، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين، فإن من أقرض رجلًا ألف درهم، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف، لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة، والمشتري لم يرْضَ ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها. فلا هذا باع بيعًا بألف، ولا هذا أقرض قرضًا محضًا، بل الحقيقة: أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين، فهي مسألة مد عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف، حرم بلا تردد، وإلا خرج على الخلاف المعروف. وهكذا من اكتري الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر، أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء. فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها، وأن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة، فالثمرة هي جل المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربًا من اللعب والإفساد، وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر.
والذين لا يحتالون، أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة، هم بين أمرين: إما أن يفعلوا ذلك للحاجة، ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم، كما رأينا عليه أكثر الناس. وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة، فيدخل عليهم من الضرر والاضطرار ما لا يعلمه إلا الله. وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان، فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال التي لا تأتي به شريعة قط، فضلًا عن شريعة قال الله فيها: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } 32، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } 33، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } 34، وفي الصحيحين (إنما بعثتم ميسرين)، (يسروا ولا تعسروا)، (ليعلم اليهود أن في ديننا سعة) فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج. وهو منتفٍ شرعًا.
والغرض من هذا: أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط؛ لما فيه من الفساد الذي لا يطاق. فعلم أنه ليس بحرام، بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد ﷺ. ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } 35، وقوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 36، فكل ما احتاج الناس اليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب، أو فعل محرم لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معني المضطر الذي ليس بباغٍ ولا عادٍ، وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة، والمنفق للمال في المعاصي حتي لزمته الديون فإنه يؤمر بالتوبة، ويباح له ما يزيل ضرورته. فتباح له الميتة ويقضي عنه دينه من الزكاة، وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال، وحاله كحال الذين قال الله فيهم: { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } 37، وقوله: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ } الآية 38. وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها.
من غير أن ينكر ذلك منكر، لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا. لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا على عهد رسول الله ﷺ وبعده إلى أن أجلي عمر اليهود إلى تيماء.
وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك بتأويلات مردودة. مثل أن قال: كان اليهود عبيدًا للنبي ﷺ والمسلمين. فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده.
ومعلوم بالنقل المتواتر: أن النبي ﷺ صالحهم ولم يسترِقَّهم حتي أجلاهم عمر، ولم يبعهم، ولا مَكَّن أحدًا من المسلمين من استرقاق أحد منهم.
ومثل أن قال: هذه معاملة مع الكفار. فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين. وهذا مردود؛ فإن خيبر قد صارت دار إسلام، وقد أجمع المسلمون على أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة. ثم إنا قد ذكرنا أن النبي ﷺ عامل بين المهاجرين والأنصار، وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك، وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك. والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة المبيحة، أو النافية للحرج، ومع الاستصحاب، وذلك من وجوه.
أحدها: أن هذه المعاملة مشاركة، ليست مثل المؤاجرة المطلقة؛ فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين: منفعة العين التي لهذا؛ كبدنه وبقره. ومنفعة العين التي لهذا؛ كأرضه وشجره، كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم، وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم، بخلاف الإجارة؛ فإن المقصود فيها هو العمل، أو المنفعة. فمن استؤجر لبناء، أو لخياطة، أو شق الأرض، أو بذرها، أو حصاد، فإذا وَفَّاه ذلك العمل فقد استوفي المستأجر مقصوده بالعقد، واستحق الأجير أجره؛ ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة: أن يكون العمل مضبوطًا، كما يشترط مثل ذلك في المبيع. وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده: هو مثل منفعة أرض المالك وشجره. ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر، وإنما مقصودهما جميعًا ما يتولد من اجتماع المنفعتين. فإن حصل نماء اشتركا فيه. وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته، فيشتركان في المغنم وفي المغرم، كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم. وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة، وما فيه من شَوْب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة.
فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان: معاوضات، ومشاركات. فالمعاوضات: كالبيع والإجارة. والمشاركات: شركة الأملاك وشركة العقد. ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال، واشتراك الناس في المباحات؛ كمنافع المساجد والأسواق المباحة، والطرقات، وما يحيي من الموات، أو يوجد من المباحات، واشتراك الورثة في الميراث، واشتراك الموصي لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف، واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان، ونحو ذلك. وهذان الجنسان هما منشأ الظلم. كما قال تعالى عن داود عليه السلام: { وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } 39.
والتصرفات الأخر هي الفضيلة؛ كالقرض، والعارية، والهبة، والوصية. وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة، أو مشاركة، فمعلوم قطعًا أن المساقاة والمزارعة، ونحوهما من جنس المشاركة، ليسا من جنس المعاوضة المحضة، والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة؛ لأنه أكل مال بالباطل. وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر؛ لأنه إن لم ينبت الزرع فإن رب الأرض لم يأخذ منفعة الآخر؛ إذ هو لم يستوفها، ولا ملكها بالعقد، ولا هي مقصودة، بل ذهبت منفعة بدنه، كما ذهبت منفعة أرض هذا، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتي يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئًا، بخلاف بيوع الغرر، وإجارة الغرر؛ فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئًا، والآخر يبقي تحت الخطر، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما. وهذا المعني منتفٍ في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة، لا في غرر، ولا في غير غرر.
ومن تأمل هذا تبين له مأخذ هذه الأصول، وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة، وأعرف في العقول، وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض، بل ومن جواز كثير من البيوع والإجارات المجمع عليها، حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد. وإنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار، من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول؛ لما فيها من عمل بعوض. وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرًا، كعمل الشريكين في المال المشترك، وعمل الشريكين في شركة الأبدان، وكاشتراك الغانمين في المغانم، ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصي، نعم، لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله، كان هذا إجارة.
الوجه الثاني: أن هذه من جنس المضاربة. فإنها عين تنمو بالعمل عليها، فجاز العمل عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، والمضاربة، جوزها الفقهاء كلهم، اتباعًا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي ﷺ. ولقد كان أحمد يري أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة، لثبوتها بالنص، فتجعل أصل يقاس عليه، وإن خالف فيهما من خالف. وقياس كل منهما على الآخر صحيح. فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما.
فإن قيل: الربح في المضاربة ليس من عين الأصل، بل الأصل يذهب ويجيء بدله. فالمال المقسم حصل بنفس العمل، بخلاف الثمر والزرع، فإنه من نفس الأصل.
قيل: هذا الفرق فرق في الصورة، وليس له تأثير شرعي. فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل، ومنفعة رأس المال؛ ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح، كما أن العامل يبقي بنفسه التي هي نظير الدراهم. وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولي من إضافته إلى منفعة مال هذا.
ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر، إنما حصلت بغير عقد لما أقرض أبو موسي الأشعري لابني عمر من مال بيت المال، فحملاه إلى أبيهما. فطلب عمر جميع الربح؛ لأنه رأي ذلك كالغَصّب؛ حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين، والمال مشترك. وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك، وقال له ابنه عبد اللّه: الضمان كان علينا، فيكون الربح لنا. فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة.
ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه
[عدل]وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل، أو لهما ؟ على ثلاثة أقوال. وأحسنها وأقيسها أن يكون مشتركا بينهما، كما قضي به عمر؛ لأن النماء متولد عن الأصلين.
وإذا كان أصل المضاربة الذي قد اعتمدوا عليه، راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة، فأخذ مثل الدراهم يجري مجري عينها؛ ولهذا سمي النبي ﷺ والمسلمون بعده القرض مَنِيحة، يقال: منيحة وَرِق. ويقول الناس: أَعِرّني دراهمك. يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية، والمقترض انتفع بها وردها. وسموا المضاربة قراضا؛ لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات.
ويقال أيضا: لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثر لكان اقتضاؤه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولي من العكس؛ لأن النماء إذا حصل مع بقاء الأصلين كان أولي بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما. وإن قيل: الزرع نماء الأرض دون البدن. فقد يقال: والربح نماء العامل، دون الدراهم أو بالعكس. وكل هذا باطل، بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد.
ثم لو سُلِّم أن بينها وبين المضاربة فرقا، فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة؛ لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل، ويشترط أن يكون معلوم، والأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة. وهنا ليس المقصود إلا النماء، ولا يشترط معرفة العمل، والأجرة ليست عين ولا شيئ في الذمة، وإنما هي بعض ما يحصل من النماء؛ ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد، كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا، أو أجرة معلومة في الذمة. وهذا بَيِّنٌ في الغاية. فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جد، والفرق الذي بينهما وبين المضاربة ضعيف، والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل، وكان لابد من إلحاقها بأحد الأصلين، فإلحاقها بما هي به أشبه أولي. وهذا أجلي من أن يحتاج فيه إلى إطناب.
الوجه الثالث: أن نقول: لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص. فإنها على ثلاث مراتب.
أحدها: أن يقال: لكل من بذل نفعا بعوض. فيدخل في ذلك المهر. كما في قوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } 40. وسواء كان العمل هنا معلوم أو مجهول، وكان الآخر معلوم أو مجهول، لازمًا أو غير لازم.
المرتبة الثانية: الإجارة التي هي جعالة، وهو أن يكون النفع غير معلوم، لكن العوض مضمون، فيكون عقد جائز غير لازم، مثل أن يقول: من رد على عبدي فله كذا. فقد يرده من بعيد أو قريب.
الثالثة: الإجارة الخاصة. وهي أن يستأجر عينا، أو يستأجره على عمل في الذمة، بحيث تكون المنفعة معلومة، فيكون الأجر معلوم والإجارة لازمة. وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه. والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة، أو قالوا: باب الإجارة أرادوا هذا المعني.
فيقال: المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل، من قال: هي إجارة بالمعني الأعم أو العام، فقد صدق. ومن قال: هي إجارة بالمعني الخاص فقد أخطأ. وإذا كانت إجارة بالمعني العام التي هي الجعالة. فهنالك إن كان العوض شيئا مضمون من عين أو دين، فلابد أن يكون معلوما، وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزء شائعا فيه. كما لو قال الأمير في الغزو: من دلنا على حصن كذا فله منه كذا، فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال، مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه. فالشركة أولي وأحري.
ويسلك في هذا طريقة أخري. فيقال: الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها ألا يكون العوض غرر، قياس على الثمن. فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة، فلا تشبه هذه الإجارة؛ لما تقدم، فلا يجوز إلحاقها بها، فتبقي على الأصل المبيح.
فتحرير المسألة: أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة. فإن أراد الخاصة، لم يصح. وإن أراد العامة، فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم؟ فإن ذكر قياس بين له الفرق الذي لا يخفي على غير فقيه، فضلا عن الفقيه، ولن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا. فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل.
ويسلك في هذا طريقة أخري. وهو قياس العكس. وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل؛ لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل. فيقال: المعني الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة: منتفٍ في باب المزارعة ونحوها؛ لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر. فيكون في معني بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل، أو ما يذكر من هذا الجنس. وهذه المعاني منتفية في الفرع. فإذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا وهو منتفٍ فلا تحريم.
وأما الأحاديث حديث رافع بن خديج وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي ﷺ أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في عهده وبعده، بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه. فعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمي لسيد الأرض. قال: مما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك؟ فنهينا. فأما الذهب والوَرِق فلم يكن يومئذ. رواه البخاري. وفي رواية له. قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلا. وكان أحدنا يكري أرضه. فيقول: هذه القطعة لي. وهذه لك، فربما أَخْرجتْ ذه، ولم تخرج ذه. فنهاهم النبي ﷺ. وفي رواية له: فربما أخرجت هذه كذا، ولم تخرج ذه، فنهينا عن ذلك. ولم نُنْهَ عن الوَرِق. وفي صحيح مسلم عن رافع قال: كنا أكثر أهل الأنصار حقلا. وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه. فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك. وأما الوَرِق فلم ينهنا. وفي مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؛ قال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله ﷺ بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويهلك هذا، ويسلم هذا. فلم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر الناس عنه. فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.
فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله ﷺ كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل. وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة، وحرموا نظيره في المضاربة. فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز. وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات.
وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين. فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم، فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرمًا على عباده. فإذا كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر، لم يجز؛ ولذلك حرم النبي ﷺ بيع الثمر قبل بدو صلاحه. فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانًا معينًا خرجا عن موجب الشركة؛ فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء. فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب، ودخله الخطر ومعني القمار، كما ذكره رافع في قوله: فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فيفوز أحدهما ويخيب الآخر. وهذا معني القمار. وأخبر رافع: أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي ﷺ إلا هذا. وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعني القمار، وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود، لا إلى ما تكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة. وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها، ورافع أعلم بنهى النبي ﷺ: عن أي شيء وقع؟ وهذا والله أعلم هو الذي انتهي عنه عبد الله بن عمر، فإنه قال لما حدثه رافع: قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وبشيء من التبن. فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين، وكان ابن عمر يفعله؛ لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي ﷺ حتي بلغه النهي.
يدل على ذلك: أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائم ويفتي به، ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء، وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع. فروي حرب الكرماني قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت كليب بن وائل قال: أتيت ابن عمر، فقلت: أتاني رجل له أرض وماء، وليس له بذر ولا بقر، فأخذتها بالنصف، فبذرت فيها بذري، وعملت فيها ببقري فناصفته؟ قال: حسن. وقال: حدثنا ابن أخي حزم، حدثنا يحيي بن سعيد، حدثنا سعيد بن عبيد، سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل فقال: الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول: أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك، فما أخرج الله منه فلك منه كذا، ولي منه كذا؟ قال: لا بأس به، ونحن نصنعه.
وهكذا أخبر أقارب رافع. ففي البخاري عن رافع قال: حدثني عمومتي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله ﷺ بما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض. فنهانا النبي ﷺ عن ذلك. فقيل لرافع: فكيف بالدينار والدرهم؟ فقال: ليس به بأس بالدينار والدرهم. وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه، لما فيه من المخاطرة. وعن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغني عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف. ويشترط ثلاث جداول والقُصَارَة وما سقي الربيع. وكان العيش إذ ذاك شديد، وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء اللّه، ويصيب منها منفعة. فأتانا رافع بن خديج فقال: إن رسول الله ﷺ ينهاكم عن الحقل، ويقول: (من استغني عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع) رواه أحمد وابن ماجه. وروي أبو داود قول النبي ﷺ، زاد أحمد (وينهاكم عن المزابنة. والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل، فيأتيه الرجل فيقول: أخذته بكذا وكذا وَسَق من تمر. والقُصَارَة: ما سقط من السنبل).
وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص، وجابر. فأخبر سعد: أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله ﷺ كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع، وما سعد بالماء مما حول البئر. فجاؤوا رسول الله ﷺ فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول الله ﷺ أن يكروا بذلك، وقال: (اكروا بالذهب والفضة) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة، وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين. وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نخابر على عهد رسول الله ﷺ بنصيب من القِصْرِي ومن كذا. فقال رسول الله ﷺ: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، أو فليدعها) رواه مسلم.
فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها، والعلة التي نهى من أجلها. وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث: أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا، فالتعريف للكراء المعهود بينهم. وإذا قال لهم النبي ﷺ: (لا تكروا المزارع) فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه، كما فهموه من كلامه، وهم أعلم بمقصوده. وكما جاء مفسر عنه: أنه رخص في غير ذلك الكراء. ومما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها. واللفظ وإن كان في نفسه مطلق فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال، أو عقب حكاية حال ونحو ذلك، فإنه كثير ما يكون مقيد بمثل حال المخاطب. كما لو قال المريض للطبيب: إن به حرارة. قال له: لا تأكل الدسم. فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال.
وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمي معهود، أو حال يقتضيه، انصرف اليه. وإن كان نكرة، كالمتبايعين إذا قال أحدهما: بعتك بعشرة دراهم، فإنها مطلقة في اللفظ، ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم. فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا لذلك الذي كانوا يفعلونه، ثم خوطبوا به، لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه. وكان ذلك من باب التخصيص العرفي، كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس، أو ذوات الحافر. فقال: لا تأتني بدابة، لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك. ونهى النبي ﷺ لهم كان مقيد بالعرف والسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج، وعن ظهير بن رافع؛ قال: دعاني رسول الله ﷺ فقال: (ما تصنعون بمحَاقِلِكم؟) قلت: نؤاجرها بما على الربيع، وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: (لا تفعلوا. ازْرَعوها أو أَزْرِعوها، أو أمسكوها).
فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه، وأما المزارعة المحضة، فلم يتناولها النهي، ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء؛ لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد؛ فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة، إما عَيْن، وإما دَيْن. فإن كان دينا في الذمة مضمون فهو جائز. وكذلك إن كان عينا من غير الزرع، وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز.
فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق، بل هو شركة محضة؛ إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولي من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر، وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا. فإنما هو كراء بالمعني العام الذي تقدم بيانه. فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا، ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز، وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه، ولم يتعرض للشركة؛ لأنها جنس آخر.
بقي أن يقال: فقول النبي ﷺ: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، وإلا فليمسكها) أمر إذا لم يفعل واحد من الزرع والمنيحة أن يمسكها. وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم.
فيقال: الأمر بهذا أمر ندب واستحباب، لا أمر إيجاب، أو كان أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد. وهذا كما أنه ﷺ لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية، قال في الآنية التي كانوا يطبخونها فيها: (أهريقوا ما فيها، واكسروها). وقال ﷺ في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني: (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فارْحَضُوها بالماء)؛ وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدًا إلا بترك ما يقاربها من المباح. كما قيل: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوي حتي يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال) كما أنها أحيان لا تترك المعصية إلا بتدريج، لا تتركها جملة.
فهذا يقع تارة، وهذا يقع تارة؛ ولهذا يوجد في سنة النبي ﷺ لمن خشي منه النفرة عن الطاعة، الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم، ولمن وثق بإيمانه وصبره، النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل؛ ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره من فعل المستحبات البدنية والمالية، كالخروج عن جميع ماله، مثل أبي بكر الصديق مالا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك، كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب، فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته. ثم قال: (يذهب أحدكم فيخرج ماله، ثم يجلس كَلاًّ على الناس).
يدل على ذلك: ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة، عن ثابت بن الضحاك: أن النبي ﷺ نهى عن المزارعة. وأمر بالمؤاجرة. وقال: (لا بأس بها)، وما ذكرناه من رواية سعد ابن أبي وقاص: أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين، وقال: (اكروا بالذهب والفضة) وكذلك فهمته الصحابة. فإن رافع بن خديج قد روي ذلك وأخبر أنه: لا بأس بكرائها بالذهب والفضة.
وكذلك فقهاء الصحابة؛ كزيد بن ثابت، وابن عباس. ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار. قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة؟ فإنهم يزعمون أن النبي ﷺ نهى عنها. قال: أي عمرو، إني أعطيهم وأعينهم، وإن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس أن النبي ﷺ لم يَنْهَ عنه؛ ولكن قال: (إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلوما). وعن ابن عباس أيضا: أن رسول الله ﷺ لم يحرم المزارعة، ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض. رواه مسلم مجمل والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وقد أخبر طاوس عن ابن عباس: أن النبي ﷺ إنما دعاهم إلى الأفضل، وهو التبرع، قال: وأنا أعينهم وأعطيهم. وأمر النبي ﷺ بالرفق الذي منه واجب، وهو ترك الربا والغرر. ومنه مستحب، كالعارية والقرض.
ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به، فقال: (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما) وقال: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، أو ليمسكها) فكان الأخ هو الممنوح. ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي ﷺ ولم يمنحهم، لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غني. فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة، كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر، وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم، حيث عاملوا عليها المهاجرين. وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة، كما نهاهم النبي ﷺ عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفَّت؛ ليطعموا الجياع؛ لأن إطعامهم واجب. فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع، ولم يأمرهم بالتبرع عينا، كما نهاهم عن الادخار. فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله؛ إذ لا يترك بطالا، وقد ينهى النبي ﷺ، بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال؛ لما في ذلك من منفعة المنهي، كما نهاهم في بعض المغازي... وأما ما رواه جابر من نهيه ﷺ عن المخابرة، فهذه هي المخابرة التي نهى عنها. واللام لتعريف العهد. ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك.
يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال: كنا لا نري بالخبر بأس حتي كان عام أول. فزعم رافع أن النبي ﷺ نهى عنه، فتركناه من أجله. فأخبر ابن عمر أن رافع روي النهي عن الخبر. وقد تقدم معني حديث رافع. قال أبو عبيد: الخِبر بكسر الخاء بمعني المخابرة. والمخابرة: المزارعة بالنصف والثلث والربع، وأقل وأكثر. وكان أبو عبيد يقول: لهذا سمي الأكَّارُ خبير؛ لأنه يخابر على الأرض، والمخابرة: هي المؤَاكَرة.
وقد قال بعضهم: أصل هذا من خيبر؛ لأن رسول الله ﷺ أقرها في أيديهم على النصف، فقيل: خابرهم، أي عاملهم في خيبر. وليس هذا بشيء؛ فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط، بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته. وإنما روي حديث المخابرة رافع بن خديج، وجابر. وقد فسرا ما كانوا يفعلونه. والخبير: هو الفلاح، سمي بذلك؛ لأنه يخبر الأرض.
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة. فقالوا المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل، والمزارعة على أن يكون البذر من المالك. قالوا: والنبي ﷺ نهى عن المخابرة، لا المزارعة.
وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي ﷺ ما في الصحيح من أنه: نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابر، وكما نهى عن كراء الأرض. وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه؛ وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظ وفعلا، ولأجل القرينة اللفظية، وهي لام العهد وسؤال السائل، وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة: هي المزارعة، والاشتقاق يدل على ذلك.
فصل في المزارعة واشتراط أن يكون البذر من المالك
[عدل]والذين جَوَّزوا المزارعة، منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك. وقالوا: هذه هي المزارعة. فأما إن كان البذر من العامل لم يجز. وهذا إحدي الروايتين عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي، حيث يجوزون المزارعة.
وحجة هؤلاء: قياسها على المضاربة، وبذلك احتج أحمد أيضا. قال الكرماني: قيل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: رجل دفع أرضه إلى الأكَّار على الثلث أو الربع ؟ قال: لا بأس بذلك، إذا كان البذر من رب الأرض والبقر والحديد والعمل من الأكار، يذهب فيه مذهب المضاربة.
ووجه ذلك: أن البذر هو أصل الزرع، كما أن المال هو أصل الربح. فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل، ليكون من أحدهما العمل، ومن الآخر الأصل.
والرواية الثانية عنه: لا يشترط ذلك، بل يجوز أن يكون البذر من العامل، وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نفسا أنه يجوز أن يكري أرضه بالثلث أو الربع، كما عامل النبي ﷺ أهل خيبر.
فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك، فإن كان على وجه الإجارة جاز، وإن كان على وجه المزارعة لم يجز، وجعلوا هذا التفريق تقرير لنصوصه؛ لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها، ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم، من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة. ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة، وباب الإجارة.
وقال آخرون منهم أبو الخطاب معني قوله في رواية الجماعة: يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها، أراد به: المزارعة والعمل من الأكَّار. قال أبو الخطاب ومتبعوه: فعلى هذه الرواية: إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها، وإن كان من صاحب الأرض، فهو مستأجر للعامل بما شرط له. قال: فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره، وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط.
وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة، على أن يبذر الأكار: هو الصحيح، ولا يحتمل الفقه إلا هذا، أو أن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولي. وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرًا ونظرًا. وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه، واختيار طائفة من أصحابه.
والقول الأول قول من اشترط أن يبذر رب الأرض، وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوي بين الإجارة الخاصة والمزارعة، أو أضعف.
أما بيان نص أحمد: فهو أنه إنما جَوَّز المؤاجرة ببعض الزرع، استدلالا بقصة معاملة النبي ﷺ لأهل خيبر، ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة، لم تكن بلفظ الإجارة. فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي ﷺ إلا بلفظ إجارة، ويمنع فعله باللفظ المشهور.
وأيضا، فقد ثبت في الصحيح، أن النبي ﷺ شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم، ولم يدفع اليهم النبي ﷺ بذرا، فإذا كانت المعالمة التي فعلها النبي ﷺ إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم، فكيف يحتجُّ بها أحمد على المزارعة، ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة، ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل ؟! والنبي ﷺ قد قال لليهود: (نُقِرٌّكم فيها ما أقركم اللّه) لم يشترط مدة معلومة، حتي يقال: كانت إجارة لازمة، لكن أحمد حيث قال في إحدي الروايتين: إنه يشترط كون البذر من المالك، فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياس على المضاربة، وإذا أفتي العالم بقول لحجة ولها معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح، ثم لما أفتي بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلال بمزارعة خيبر، فلابد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل، وإلا لم يصح الاستدلال. فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل، كما فرق بينهما طائفة من أصحابه، فمستند هذا الفرق ليس مأخذ شرعيا؛ فإن أحمد لا يري اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة، ويمنعونها بلفظ المزارعة، وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعًا حال بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم؛ لأنه يصير سلم حالا، ونصوص أحمد وأصوله تأبي هذا، كما قدمناه عنه في مسألة صِيغ العقود؛ فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ، كما تشهد به أجوبته في الأَيْمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما، كما فرق طائفة من أصحابه، فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة، كالرواية المانعة من الأمرين.
وأما الدليل على جواز ذلك: فالسنة، والإجماع، والقياس.
أما السنة: فما تقدم من معاملة النبي ﷺ لأهل خيبر على أن يَعْتملوها من أموالهم، ولم يدفع اليهم بذرا، وكما عامل الأنصار المهاجرين على أن البذر من عندهم. قال حرب الكرماني: حدثنا محمد بن نصر، حدثنا حسان بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن يحيي بن إسماعيل بن حكيم؛ أن عمر بن الخطاب أَجْلي أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر، واستعمل يعلى بن منية، فأعطي العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث، وأعطي البياض يعني بياض الأرض على أن كان البذر والبقر والحديد من عند عمر، فلعمر الثلثان ولهم الثلث، وإن كان منهم فلعمر الشطر، ولهم الشطر. فهذا عمر رضي الله عنه ويعلى بن منية عامله، صاحب رسول الله ﷺ، قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين: أن يكون البذر من رب الأرض، وأن يكون من العامل. وقال حرب: حدثنا أبو معن، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن الحارث بن حصيرة الأزدي، عن صخر بن الوليد، عن عمرو بن صليع بن محارب، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها، وفعل. فدعاه فقال: ما هذه الأرض التي أخذت؟ فقال: أرض أخذتها أكري أنهارها وأعمرها وأزرعها. فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف، فقال: لا بأس بهذا. فظاهره: أن البذر من عنده، ولم ينهه على عن ذلك، ويكفي إطلاق سؤاله، وإطلاق على الجواب.
وأما القياس: فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة، ليست من الإجارة الخاصة. وإن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة، والسبق والرمي. وعلى التقديرين: فيجوز أن يكون البذر منهما؛ وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها؛ كالثمن في المضاربة، بل البذر يتلف كما تتلف المنافع، وإنما ترجع الأرض، أو بدن البقرة والعامل. فلو كان البذر مثل رأس المال، لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه. ثم يقتسمان الفضل، وليس الأمر كذلك، بل يشتركان في جميع الزرع.
فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها، وبدن العامل والبقر وأكثر الحرث والبذر يذهب كما تذهب المنافع، وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب، فيستحيل زرع. والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين، بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب، والحب يستحيل فلا يبقي، بل يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء، وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان، والمعدن والنبات.
ولما وقع ما وقع من رأي كثير من الفهاء، اعتقدوا أن الحَبَّ والنوي في الزرع والشجر: هو الأصل، والباقي تبع، حتي قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوي والحب مع قلة قيمته، ولرب الأرض أجرة أرضه، والنبي ﷺ إنما قضي بضد هذا، حيث قال: (من زرع في أرضِ قومٍ بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث. وبعض من أخذ به يري أنه خلاف القياس، وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر، والشجر تبع للنوي. وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة؛ فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء؛ ولهذا سمي الله النساء حَرّثا في قوله تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } 41، كما سمي الأرض المزروعة حرثا، والمغلب في ملك الحيوان إنما هو جانب الأم. ولهذا تَبِع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه، ويكون جنين البهيمة لمالك الأم، دون مالك الفحل الذي نهى عن عَسْبِه؛ وذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب. وإنما للأب حق الابتداء فقط، ولا ريب أنه مخلوق منهما جميع. وكذلك الحب والنوي؛ فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء، وقد يؤثر ذلك في الأرض فتضعف بالزرع فيها. لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما، فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب؛ إما مستحيلا من غيره، وإما بالموجود، ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئ، إما للخلف بالاستحالة، وإما للكثرة؛ ولهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معني المنافع، بخلاف الحب والنوي الملقي فيها؛ فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها. لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط؛ فإن العامل هو وبقره لابد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيض، ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك؛ ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض، ولو جري عندهم مجري الأصول لرجع.
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء: أصول باقية، وهي الأرض وبدن العامل والبقر والحديد. ومنافع فانية. وأجزاء فانية أيضا، وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره. فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء، فتكون الخيرة اليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء، ويشتركان على أي وجه شاءا، ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي ﷺ من أنواع الغرر، أو الربا، وأكل المال بالباطل؛ ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته، أو سفينته، أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما.
فصل
وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع اليسر في هذه الأبواب. فإنك تجد كثير ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة، أو بضَرْب من القياس المعنوي أو الشبهي. فرضي الله عن أحمد حيث يقول: ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل، والقياس. وقال أيض: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. ثم هذا التمسك يفضي إلى ما لا يمكن اتباعه البتة.
ومن هذا الباب: بيع الديون، دين السلم وغيره، وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك. ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا.
فصل في العقود والشروط فيها
[عدل]القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد. ومسائل هذه القاعدة كثيرة جد.
والذي يمكن ضبطه فيها قولان.
القول الأول أن الأصل في العقود الحظر والمنع
[عدل]أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك: الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته. فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا. وكثير من أصول الشافعي وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد. فإن أحمد قد يعلل أحيان بطلان العقد بكونه لم يَرِدْ فيه أثر ولا قياس. كما قاله في إحدي الروايتين في وقف الإنسان على نفسه. وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضي العقد، ويقولون: ما خالف مقتضي العقد فهو باطل، أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقد ولا شرط إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه، واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طرد جاري، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.
وأما أبو حنيفة، فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه؛ ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة. وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته. وإنما جَوَّز الإجارة المؤخرة؛ لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع، أو الانتفاع به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر، وسائر الشروط التي يبطلها غيره. ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ؛ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب، أو إعْسَار، أو نحوهما. ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلق. وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر، وهو عنده موضع استحسان.
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضي العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص. فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع، ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتي منع الإجارة المؤخرة؛ لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد، ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق؛ لما فيه من السنة والمعني، لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء، ونحو ذلك. ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسري، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها. وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه. وهو ممن يري فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل، والطلاق، ونكاح الشِّغَار. بخلاف فساد المهر ونحوه.
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي؛ كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها ألا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح. فيقولون: كل شرط ينافي مقتضي العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي. فقد يوافقونه في الأصل، ويستثنون للمعارض أكثر مما استثني، كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل، ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر.
وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة. وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني. فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها. فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى اله عليه وسلم جالس. فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى اله عليه وسلم فقال: (خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق) ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى اله عليه وسلم في الناس. فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أما بعد، ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، وفي رواية للبخاري: (اشتريها فأعتقيها، وليشترطوا ما شاؤوا). فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط). وفي لفظ: (شرط الله أحق وأوثق). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر: أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها. فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى اله عليه وسلم. فقال: (لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق). وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها. فأبي أهلها إلا أن يكون لهم الولاء. فذكرت ذلك لرسول الله صلى اله عليه وسلم، فقال: (لا يمنعك ذلك. فإنما الولاء لمن أعتق).
ولهم من هذا الحديث حجتان:
إحداهما: قوله: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل). فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع. فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.
ومن قال بالقياس وهو الجمهور قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله.
والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفًا لمقتضي العقد؛ وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع. فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات. وهذا نكتة القاعدة. وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع؛ ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها. فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، متابعة لعبد الله ابن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج. ويقول: اليس حسبكم سنة نبيكم؟ وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } 42، وقوله: { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } 43.
قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله، وزيادة في الدين.
وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ. كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى اله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية، أو قالوا: هذا عام أو مطلق، فيخص بالشرط الذي في كتاب الله.
واحتجوا أيضا بحديث يروي في حكاية عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلي، وشريك: أن النبي صلى اله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء. وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وأجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه من غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح.
القول الثاني الأصل في العقود الجواز والصحة
[عدل]القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًا أو قياسًا عند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجري على هذا القول. ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضي العقد، أو لم يرد به نص. وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى اله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمة. فقال بذلك، وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه، أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس. وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة والتي سنذكرها في تصحيح الشروط؛ كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقًا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة. وأحمد في إحدي الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا، ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق. فإذا كان لها مقتضي عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط، مالم يتضمن مخالفة الشرع. كما سأذكره إن شاء الله.
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكني الدار، ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعًا لحديث جابر لما باع النبي صلى اله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة.
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى اله عليه وسلم ما عاش.
ويجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها؛ كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره، وإن لم ترض المرأة؛ كأنه أعتقها واستثني منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة.
ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعا لنفسه لمدة حياته؛ كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، وروي فيه حديث مرسل عن النبي صلى اله عليه وسلم. وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه؟ فيه عنه روايتان.
ويجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة، والصداق وفدية الخلع، والصلح على القصاص، ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك، سواء كان بإسقاط كالعتق، أو بتمليك بعوض كالبيع. أو بغير عوض كالهبة.
ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ومن قال بهذا الحديث قال: إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة. وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح. فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق، فتشترط ألا تسافر معه ولا تنتقل من دارها. وتزيد على ما يملكه بالإطلاق، فتشترط أن تكون مخلية به، فلا يتزوج عليها ولا يَتَسَرَّي.
ويجوز على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كاليسار والجمال، ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته. وهو من أشد الناس قول بفسخ النكاح وانفساخه، فيجوز فسخه بالعيب، كما لو تزوج عليها، وقد شرطت عليه ألا يتزوج عليها، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة، وبالخلف في الصفة على الصحيح، كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر. وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت، واشتراط الطلاق. وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة، ونحو ذلك؟ فيه عنه روايتان. إحداهما: نعم؛ كنكاح الشِّغار. وهو رواية عن مالك. والثانية: لا ينفسخ؛ لأنه تابع وهو عقد مفرد؛ كقول أبي حنيفة والشافعي.
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعل أو تركًا في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه. وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق. وقد يروي ذلك عنه، لكن الأول أكثر في كلامه. ففي جامع الخلال عن أبي طالب: سألت أحمد عن رجل اشتري جارية فشرط أن يتسري بها: تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسري بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به. وقال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل اشتري من رجل جارية، فقال له: إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني؟ قال: لا بأس به، ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط؛ لأن ابن مسعود قال لرجل: لا تقربنها ولأحد فيها شرط. وقال حنبل: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ أن ابن مسعود اشتري جارية من امرأته، وشرط لها: إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به. فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب. فقال: لا تنكحها وفيها شرط. وقال حنبل: قال عَمِّي: كل شرط في فرج فهو على هذا. والشرط الواحد في البيع جائز، إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها؛ لأنه شرط لامرأته الذي شرط. فكره عمر أن يطأها وفيها شرط. وقال الكرماني: سألت أحمد عن رجل اشتري جارية وشرط لأهلها ألا يبيعها ولا يهبها؟ فكأنه رخص فيه. ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فلا يقربها. يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب، حين قال لعبد الله بن مسعود.
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول، كالمقايلة. وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط، وربما تأولوا قوله: جائز أي العقد جائز، وبقية نصوصه تصرح بأن مراده الشرط أيضا. واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة. وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه، ولا يهبه، أو يتسراها ونحو ذلك، مما فيه تعيين لمصرف واحد؛ كما روي عمر بن شبة في أخبار عثمان: أنه اشتري من صهيب دارًا، وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده.
وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة. فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز أيضا استثناء بعض التصرفات.
وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضي العقد. قيل له: أينافي مقتضي العقد المطلق، أو مقتضي العقد مطلقا؟ فإن أراد الأول، فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني، لم يسلم له. وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد؛ كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد. فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافِ مقصوده. هذا القول هو الصحيح: بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار، مع الاستصحاب، وعدم الدليل المنافي.
أما الكتاب: فقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } 44، والعقود هي العهود. وقال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ } 45، وقال تعالى: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُول } 46، وقال تعالى: { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا } 47، فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد. وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ }، فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد؛ كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به؛ ولهذا قرنه بالصدق في قوله: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ } ؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما قال تعالى: { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } 48، وقال سبحانه: { وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } 49، قال المفسرون كالضحاك وغيره: تساءلون به: تتعاهدون وتتعاقدون. وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل، أو ترك، أو مال، أو نفع، ونحو ذلك، وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة؛ كالرحم. والمكسوبة؛ كالعقود التي يدخل فيها الصهر، وولاية مال اليتيم، ونحو ذلك. وقال سبحانه: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ } 50، والأيمان: جمع يمين، وكل عقد فإنه يمين. قيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين، يدل على ذلك قوله: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً } 51، والإلُّ: هو القرابة. والذمة: العهد وهما المذكوران في قوله: { تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } 52، إلى قوله: { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً } 53، فذمهم الله على قطيعة الرحم، ونقض الذمة. إلى قوله: { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } 54، وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى اله عليه وسلم عام الحديبية، ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة. وأما قوله سبحانه: { بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } 55، فتلك عهود جائزة؛ لا لازمة فإنها كانت مطلقة، وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها؛ كالوكالة، ونحوها.
ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة، فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن. وترده سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم في أكثر المعاهدين، فإنه لم يوقت معهم وقتا.
فأما من كان عهده مؤقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } 56، وقال: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } 57، وقال: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } 58، فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة؛ لأن المحذور من جهتهم، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } الآية 59. وجاء أيضا في صحيح مسلم عن أبي موسي الأشعري: (إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة)، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }، في سورتي المؤمنون 60 والمعارج 61. وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } 62، وهذا يقتضي وجوب ذلك؛ لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك؛ ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب، وكذلك في سورة المؤمنين، قال في أولها: { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 63، فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين؛ لأن ظاهر الآية الحَصْر؛ فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يُشْعر بالحصر، ومن لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة، إلا أن يعفو الله عنه، وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به. ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي صلى اله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر) وعنه: (على كل خُلِق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب) ومازالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة. وهذا عام. وقال تعالى: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } 64، فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته؛ لأن الواجب إما بالشرع، وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره. وقال أيضا: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ باب سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } 65، وقال: { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } 66، وقال: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } 67، وقال تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } 68، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 69، وقال تعالى: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } 70 والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتي يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر. وإذا خاصم فجر). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة). وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد، عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء عند اسْتِه يوم القيامة). وفي رواية: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة). وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال: كان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا أَمَّرَ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله، وفيمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال. فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم) الحديث. فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.
وفي الصحيحين عن ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى اله عليه وسلم: هل يغدر؟ فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها: قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة. وقال هرقل في جوابه: سألتك هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر. فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين.
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي، ثم غدر. ورجل باع حرًا، ثم أكل ثمنه. ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يُعْطه أجره) فذم الغادر. وكل من شرط شرطًا ثم نقضه فقد غدر.
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك.
ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع، لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبًا؛ كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا. وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس، ونحو ذلك. وكذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض، ويجب السكوت أو التعريض.
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معني للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به. فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود، والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم) وكثير بن زيد قال يحيي بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخري.
وقد روى الترمذي، والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي ابن ماجه منه اللفظ الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة. وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه. وقد روي أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن ابن السلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: (الناس على شروطهم ما وافقت الحق). وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب؛ فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله. وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجبًا بدونه. فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبًا ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًا للإيجاب، حتي يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجبًا؛ فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض مالم يكن واجبا؛ ويباح أيضا لكل منهما مالم يكن مباحًا، ويحرم على كل منهما مالم يكن حرامًا. وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رَهْنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك.
وهذا المعنى هو الذي أَوْهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حرامًا، أو تحرم حلالًا، أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع. وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتي توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حرامًا بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه؛ كالربا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين. فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة، فإنه جائز. وكذلك الولاء، فقد نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد. وقال صلى اله عليه وسلم: (من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، أو انتساب المعتق إلى غير مولاه. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما.
وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه؛ كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء؛ فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبًا، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالًا وحرامًا مطلقًا فالشرط لا يغيره.
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحْهُ مطلقًا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله. وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقًا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب. وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع. وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه: مقاطع الحقوق عند الشروط.
وأما الاعتبار فمن وجوه:
الأصل في الأحكام العادية والأعيان
[عدل]أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتي يدل دليل على التحريم. كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم. وقوله تعالى: { وَقَدْ فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } 71، عامٌّ في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة.
وأيضا، فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معني حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم. فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالًا، وإما عفوًا؛ كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل أيضا به على عدم تحريم العقود والشروط فيها؛ سواء سمي ذلك حلالا، أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم؛ فإن ما ذكره الله تعالى في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع؛ منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال. كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أَحْمَسِيّا، ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مَجْبِيَّة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع. فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم.
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حِلُّها بشرع خاص، كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمروا بالوفاء بها. وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم، وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله، ولا يحرم إلا ما حرمه الله؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين مالم يأذن به الله، وحرموا مالم يحرمه الله، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين مالم يحرمه الله، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله؛ فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مالم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر. فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع؛ كالعتق والصدقة.
فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعا؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال، فعقد عقدًا أزاله عن تلك الحال، فقد غير ما كان مشروعا، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا تغير في إباحتها.
فيقال: لا فرق بينهما؛ وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكًا لشخص، أو لا تكون. فإن كانت ملكًا فانتقالها بالبيع أو غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود. وإن لم تكن ملكًا فملكها بالاستيلاء ونحوه، هو فعل من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود.
وأيضا، فإنها قبل الذكاة محرمة. فالذكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والذكاة، الأصل فيها الحل، وإن غير حكم العين. فكذلك أفعالنا في الأملاك بالعقود ونحوها، الأصل فيها الحل. وإن غيرت حكم الملك له.
وسبب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء. كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة. فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه، لم يحرم علينا رفعه. فمن اشتري عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره؛ لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع. ومالم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، مالم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطي رجلا مالًا، فالأصل ألا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلًا للملك الذي أثبته المعطي مالم يمنع منه مانع.
وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًا، وإنما شرعها شرعًا كليًا، مثل قوله: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } 72، وقوله: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } 73، وقوله: { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } 74. وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد. فإذا وجد بيع معين أثبت ملكًا معينا. فهذا المعين سببه فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله، لاما أثبته الله من الحكم الكلي؛ إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط، لا أن الشارع أثبته ابتداء.
وإنما تَوَهَّم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك؛ فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته، وهو الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق اليه، فكذلك إخراجه؛ إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدًا، مثل أن يقول: هذا الثوب بِعْهُ أو لا تبعه، أو هِبْه أو لا تهبْه، وإنما حكم على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين.
فتدبر هذا، وفَرِّق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم. وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذًا، ولإيجاب العقل أيضا.
الأصل في العقود رضى المتعاقدين
[عدل]وأيضا، فإن الأصل في العقود رضى المتعاقدين. وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله قال في كتابه العزيز: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } 75، وقال: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } 76، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه. فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب. فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم. وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق، فكذلك سائر التبرعات، قياسًا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن. وكذلك قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } 77، لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة. وإذا كان كذلك فإذا تراضي المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن؛ إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله؛ كالتجارة في الخمر، ونحو ذلك.
العقد له حالان حال إطلاق وحال تقييد
[عدل]وأيضا، فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعني المطلق من العقود. فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضي العقد فإن أريد به، ينافي العقد المطلق. فكذلك كل شرط زائد. وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضي العقد المطلق والمقيد، احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافي مقصود العقد.
فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود. فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا.
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق؛ فإن هذا لا ينافي مقتضي العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودًا للعقد. فإن اشْتِراء العبد لعتقه يقصد كثيرًا. فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه؛ كما بينه النبي صلى اله عليه وسلم بقوله: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوًا. وإذا كان منافيًا لمقصود الشارع كان مخالفًا لله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوًا، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عَمَلٌ مقصود للناس يحتاجون اليه؛ إذ لولا حاجتهم اليه لما فعلوه؛ فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة اليه. ولم يثبت تحريمه، فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
وأيضا، فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال: لا تحل ولا تصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص؛ من نص، أو إجماع، أو قياس عند الجمهور. كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال: لا تحل وتصح حتي يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عامًا، أو يقال: تصح ولا تحرم، إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام.
والقول الأول باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم. فقال سبحانه في آية الربا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } 78، فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه يوجب أنه غير منهي عنه، وكذلك النبي صلى اله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض. وقال صلى اله عليه وسلم: (أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام) وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل أحدًا: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدًا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودًا حين الإسلام، كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة، أن يمسك أربعًا ويفارق سائرهن. وكما أمر فَيْرُوز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى. وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس، أن يفارقوا ذوات المحارم. ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع. ولو كانت العقود عندهم كالعبادات، لا تصح إلا بشرع، لحكموا بفسادها. أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.
فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث أهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله، مضت، ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.
قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أَرَ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سَوَّوْا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها. كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما، وإن كان بغير نكاح. فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودًا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك، بخلاف الأموال؛ فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع؛ لعدم حصول المقصود.
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل.
إذا تعاقد المسلمون بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها
[عدل]وأيضا، فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودًا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد: لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله. فلو كان إذن الشارع الخاص شرطًا في صحة العقود، لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.
وأما إن قيل: لابد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عامًا أو خاصًا، فعنه جوابان:
أحدهما: المنع، كما تقدم.
والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع. وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله. فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.
وأما قوله صلى اله عليه وسلم: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخري. وكذلك الوعد والخلف. ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا والله أعلم المشروط، لا نفس المتكلم؛ ولهذا قال: (وإن كان مائة شرط) أي: وإن كان مائة مشروط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد المشروط. والدليل على ذلك قوله: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه. وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه؛ بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتي يقال: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) فيكون المعني: من اشترط أمرًا ليس في حكم الله أو في كتابه، بواسطة أو بغير واسطة، فهو باطل؛ لأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتي يصح اشتراطه، ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدًا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله.
فانظر إلى المشروط إن كان فعل أو حكمًا. فإن كان الله قد أباحه، جاز اشتراطه ووجب. وإن كان الله تعالى لم يبحه، لم يجز اشتراطه. فإذا شَرَط الرجل ألا يسافر بزوجته، فهذا المشروط في كتاب اللّه؛ لأن كتاب الله يبيح ألا يسافر بها. فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروط مباح في كتاب اللّه.
فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال: ليس في كتاب اللّه، أي: ليس في كتاب الله نَفيْه، كما قال: (سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم) أي: بما تعرفون خلافه. وإلا فما لا يعرف كثير.
ثم نقول: لم يرد النبي ﷺ العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعني: أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام؛ فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه { مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } 79، ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة، ومن لم يعد، جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد. وكذا النذر؛ فإن النبي ﷺ نهي عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة، وابن عمر وقال: (إنه لا يأتي بخير) ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يَعْصِه).
فالعقد المحرم قد يكون سبب لإيجاب أو تحريم. نعم لايكون سبب لإباحة، كما أنه لما نهي عن بيع الغرر، وعن عقد الربا، وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله لما نهي عنه الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية. والأصل في المعاصي: أنها لا تكون سبب لنعمة الله ورحمته. والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببًا للإملاء، ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذلك قدر ليس بشرع، بل قد يكون سبب لعقوبة الله تعالى. والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عليهمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } 80، وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية.
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة، كما تقدم.
وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبي ﷺ أراد أن الشروط التي لم يبحها اللّه، وإن كان لا يحرمها باطلة فنقول:
قد ذكرنا مافي الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموم، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها. وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة؛ فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة. وذلك لأن قوله: (ليس في كتاب اللّه) إنما يشمل ماليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه، فإن ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب اللّه؛ لأن قولنا: هذا في كتاب اللّه، يعم ماهو فيه بالخصوص وبالعموم. وعلى هذا معني قوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عليكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } 81، وقوله: { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } 82، وقوله: { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى } 83، على قول من جعل الكتاب هو القرآن. وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ، فلا يجيء ههنا.
يدل على ذلك: أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب اللّه، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.
يبقي أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم.
فيقال: العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص؛ فإن الخاص يفسر العام. وهذا المشروط قد نفاه النبي ﷺ بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله: (من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَاليكُمْ } 84. فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه، وحرم التبني. ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخًا في الدين ومولي، كما قال النبي ﷺ لزيد بن حارثة: (أنت أخونا ومولانا)0، وقال ﷺ: (إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس).
فجعل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه } 85، فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد. فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.
وإلى هذا المعني أشار النبي ﷺ في قوله: (إنما الولاء لمن أعتق).
وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه، لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها؛ لأنه - سبحانه - لا يأمر بما حرمه فهذا هذا، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي ﷺ لم يرد إلا المعني الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب اللّه، والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه اللّه. فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب الله قد أباح عمومًا لم يحرمه، أو من اشتراط ما ينافي كتاب اللّه، بدليل قوله: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم، أم لا ؟
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي، فقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك؛ فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغير لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك. وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة، فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضًا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج، أو من المستبقي؟ وهذا - أيضًا - لا خلاف فيه.
وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة منه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له ؟ فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم. وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره؛ فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه. فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه. وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم أو جعل المعارض المانع من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرجع إلى أمر علمي أو فقهي.
فإذا كان كذلك، فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه، التي هي الأحكام العامة.
نعم، من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة. فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.
فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة، كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها فإن كان مما لا يصلح فيه الغرر كالبيع فلابد أن يكون المستثني معلوما؛ لما روي البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال: بعته يعني بعيره من النبي ﷺ، واشترطت حملانه إلى أهلي، فإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده، أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف.
ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لحديث بَرِيرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.
ثم هل يصير العتق واجبًا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر، بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع ؟ على وجهين في مذهبهما. ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضي العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقًا.
قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره؛ ولذلك أوجب فيه السراية، مع مافيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره.
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره. قال ابن القاسم، قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه. فقيل له: فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط. قال: لم لا يجوز؟ قد اشتري النبي ﷺ بعير جابر، واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بَرِيرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال. وإنما هذا شرط واحد. والنهي إنما هو عن شرطين. قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز ؟ قال: لا يجوز.
فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي ﷺ ظهر البعير لجابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي ﷺ إنما نهي عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع. وهو نقص لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشتري مملوكا واشترط: هو حر بعد موتي ؟ قال: هذا مُدَبِّر، فجوز اشتراط التدبير بالعتق. ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف. صحح الرافعي أنه لا يصح.
وكذلك جوز اشتراط التسري، فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشتري جارية بشرط أن يتسري بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسري بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به. فلما كان التسري لبائع الجارية فيه مقصود صحيح جوزه.
وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول، كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب.
وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه، كما قال النبي ﷺ: (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع). فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء، كما نهي النبي ﷺ عن الثنيا إلا أن تعلم. فدل على جوازها إذا علمت. وكما استثني جابر ظهر بعيره إلى المدينة.
وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع، مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر؛ مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب أو العبيد، أو الماشية التي قد رأياها، إلا شيئا منها قد عيناه.
واختلفوا في استثناء بعض المنفعة، كسكني الدار شهرًا، أو استخدام العبد شهرًا، أو ركوب الدابة مدة معينة، أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد ينفع، كما إذا اشتري أمة مزوجة. فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بَرِيرة وكانت مزوجة. لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها. فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما - وهو ممن روي حديث بريرة - يري أن بيع الأمة طلاقها، مع طائفة من الصحابة، تأويلًا لقوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } 86 قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه. فتباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج. واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة، فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه. وذلك - والله أعلم - لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا.
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، وكان مالكها معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه، إلا منفعة البضع.
ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوي منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافًا ليس هذا موضعه؛ لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع.
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرًا قد بدا ثمره كالنخل المؤبر فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثني منفعة الشجر إلى كمال الصلاح. وكذلك بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.
وكذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق. كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوز استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها: سواقطها من الرأس، والجلد، والأكارع. وكذلك الإجارة؛ فإن العقد المطلق يقتضي نوعًا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضًا للزرع، أو حانوتا للتجارة فيه، أو صناعة، أو أجير لخياطة، أو بناء ونحو ذلك؛ فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق، أو نقص منه، فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتي شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثني من الاستمتاع المحرم أو كان فيه ضرر، فإن العرف لا يقتضيه ويقتضي مُلكًا للمهر الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير، ولو إلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء، وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، فإن الصحيح من وجوه كثيرة: أنه يجب عليه الوطء، كما دل عليه الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والاعتبار. وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر، اعتبارًا بالإيلاء.
ويجب أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف؟ فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره. والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عليهنَّ بِالْمَعْرُوفِ } 87، والسنة في مثل قوله ﷺ لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم ذلك باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة؛ إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد. وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار. والشافعي إنما قدره طردًا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياسا على المنع من بيع الغَرَر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة، طردًا لذلك. وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل.
وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجَبّ والعِنَّة عند عامة الفقهاء. وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق، وسلامتها من الجنون، والجذام، والبرص. وكذلك سلامتهما من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها، ونحو ذلك، في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك. وموجبه؛ كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك.
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك، صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته، في أصح الروايتين عن أحمد وأصح وجهي الشافعي وظاهر مذهب مالك. والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين. وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له.
وكذلك لو اشترط نقص الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة، صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد، واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك. فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح. وأما المهر: فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص عنه جاز بالاتفاق.
وكذلك يجوز أكثر السلف أو كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك في إحدى الروايتين أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه ألا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق فيؤخذ عليه نفسه ألا يتزوج عليها ولا يتسري، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.
والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز، ما لم يمنع منه الشرع. فإذا كانت الزيادة في العين، أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت، فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك. فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينًا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه أو نحو ذلك، فهو اشتراط تصرف مقصود. ومثله التبرع المفروض والتطوع.
وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع، فضعيف. فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه. فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق، كما نص عليه أحمد؛ فإن ميمونة زوج النبي ﷺ أعتقت جارية لها، فقال النبي ﷺ: (لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك)؛ ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولي من الوصية بالعتق. وما أعلم في هذا خلافًا، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم. فإن فيه عن أحمد روايتين: إحداهما: تجب؛ كقول طائفة من السلف والخلف، والثانية: لا تجب؛ كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم. ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل ترد تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له، أو يعطي ثلثها للموصي له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصي له؟ على روايتين عن أحمد. وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية. فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة.
وأيضًا، فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين للّه من زكاة، أو كفارة، أو نذر، أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن، ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق.
وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة. فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع، لما في الشركة من الضرر. ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك. فتكميل العتق نوع من ذلك؛ إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى.
وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة، بمنزلة القدرة الحسية، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا؛ ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا كما أن القدرة تتنوع أنواعا فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية، أو المحرمات عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها، ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
ويملك المرهون ويجب عليه مؤونته، ولا يملك فيه من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة. وفي العتق خلاف مشهور.
والعبد المنذور عتقه، والهدي، والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزول ملكه عنه بذلك أم لا ؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق. فمن قال: لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله أكثر أصحابنا فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق، أو النسك، أو الصدقة. وهو نظير العبد المشتري بشرط العتق، أو الصدقة، أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم. ومن قال: زال ملكه عنه؛ فإنه يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به. وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.
وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكًا للّه، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيًا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى كل تقدير، فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع والهبة. وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.
ونظيره: سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري، كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز. وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين. فههنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعهما. وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معني الكتاب وصريح السنة.
وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفًا مطلقًا.
فإذا كان الملك يتنوع أنواعا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأي فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة لم يحظره أبدًا
فصل في العقود التي فيها نوع معاوضة
[عدل]وقال شيخ الإسلام رَحمهُ اللّه:
العقود التي فيها نوع معاوضة وهي غالب معاملات بني آدم التي لا يقومون إلا بها سواء كانت مالا بمال؛ كالبيع، أو كانت منفعة بمال؛ كالإجارة والجُعَالة، وقد يدخل في المسألة الإمارة والتجنيد، ونحو ذلك من الولايات. أو كانت منفعة بمنفعة كالتعاون، والتناصر، ونحو ذلك. تنقسم أربعة أقسام:
فإنها إما أن تكون مباحة من الجانبين. كالبيع، والإجارة، والتعاون على البر والتقوي. وإما أن تكون حرامًا من الجهتين؛ كبيع الخمر بالخنزير، والاستئجار على الزنا بالخمر، وعلى شهادة الزور بشهادة الزور، كما كان بعض الحكام يقول عن طائفة من الرؤساء: يتقارضون شهادة الزور، وشبهه بمبادلة القروض. وإما أن يكون مباحًا من إحدى الجهتين، حرامًا من الأخرى. وهذا القسم ينبغي لأهل الإسلام أن يعلموه ؛ فإن الدين والدنيا لا تقوم إلا به.
وأما القسم الأول وحده فلا يقوم به إلا دين ضعيف.
وأما الثاني فتقوم به الدنيا الفاجرة، والدين المبتدع، وأما الدين المشروع والدنيا السالمة فلا تقوم إلا بالثالث؛ مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم لجلب منفعتهم، أو دفع مضرتهم، ورشوة الولاة لدفع الظلم، أو تخليص الحق، لا لمنع الحق، وإعطاء من يتقي شر لسانه، أو يده من شاعر، أو ظالم، أو قاطع طريق، أو غير ذلك. وإعطاء من يستعان به على البر والتقوي من أعوان، وأنصار، وولاة، وغير ذلك.
وأصله في الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء الراشدين: أن الله جعل للمؤلفة قلوبهم حقا في الصدقات التي حصر مصارفها في كتابه، وتولي قسمها بنفسه، وكان هذا تنبيها على أنهم يعطون من المصالح ومن الفيء على القول الصحيح التي هي أوسع مصرفا من الزكاة؛ فإن كل من جاز أن يعطي من الصدقة أعطي من المصالح، ولا ينعكس؛ لأن آخذ الصدقة إما أن يأخذ لحاجته، أو لمنفعته، وكلا الأمرين يؤخذ منهما للمصالح، بل ليست المصالح إلا ذلك، والمؤلفة قلوبهم هم من أهل المنفعة الذين هم أحق بمال المصالح والفيء.
ولهذا أعطاهم النبي ﷺ من الفيء والمغانم، كما فعله بالذهيبة التي بعث بها على من اليمن. وكما فعل في مغانم حنين، حيث قسمها بين رؤساء قريش، وأهل نجد، وقال: (إني لأعطي رجالا، وأدع من هو أحب إلى منهم. أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع، والجزع، وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغني والخير) وقال: (إني لأعطي أحدهم العطية، فيخرج بها يتأبطها نارًا). قالوا: يارسول الله ؛ فلم تعطيهم؟! قال: (يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البُخْل). وقال: (والذي نفسي بيده، ما من رجل يسألني المسألة، فتخرج له المسألة مالم نكن نريد أن نعطيه إياه فيبارك له فيه) أو كلامًا هذا معناه.
وهذا القسم يشتمل على الأقسام الثلاثة: أما المال بالأعيان، فمنه افتكاك الأسري، والأحرار من أيدي الكفار، والغاصبين؛ فإن المسلم الحر قد يستولي عليه الكفار، وقد يستولي عليه الفجار؛ إما باستعباده ظلمًا، أو بعتقه، وجحود عتقه. وإما باستعماله بغير اختياره، ولا إذن الشارع؛ مثل من يسخر الصناع كالخياطين، والفلاحين، بغير حق، وإما بحبسه ظلما وعدوانا، فكل آدمي قهر آدميًا بغير حق، ومنعه عن التصرف. فالقاهر يشبه الآسر، والمقهور يشبه الأسير، وكذلك القهر بحق أسير. قال النبي ﷺ للغريم الذي لزم غريمه: (مافعل أسيرك؟).
وإذا كان الاستيلاء على الأموال إذا لم يكن بحق فهو غصب، وإن دخل في ذلك الخيانة والسرقة، فكذلك الاستيلاء على النفوس بغير حق أسر، وإن دخل فيه استيلاء الظلمة من أهل القبلة.
وكذلك افتكاك الأنفس الرقيقة من يد من يتعدي عليها ويظلمها، فإن الرق المشروع له حد، فالزيادة عليه عدوان.
ويدخل في ذلك افتكاك الزوجة من يد الزوج الظالم؛ فإن النكاح رق، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْباب } 88، وقال النبي ﷺ في النساء: (إنهن عندكم عَوَان). وقال عمر: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وكذلك افتكاك الغلام والجارية من يد الظالم، كالذي يمنعه الواجب، ويفعل معه المحرم.
ومنه افتكاك الأموال من أيدي الغاصبين لها ظلمًا أو تأويلًا؛ كالمال المغصوب والمسروق وغيرهما، إذا دفع للظالم شيء حتي يرده على صاحبه. وسواء كان الدفع في كلا القسمين دفعًا للقاهر حتي لا يقهر ولا يستولي، كما يهادن أهل الحرب عند الضرورة بمال يدفع إليهم، أو استنقاذًا من القاهر بعد القهر والاستيلاء.
قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك
[عدل]وَقَالَ رحَمهُ اللّه: قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك
بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض، أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب.
وواجبها ينقسم إلى فرض على العين، وفرض على الكفاية. فأما ما يجب من التبرعات مالًا ومنفعة فله موضع غير هذا. وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام، مذكورة في الحديث المأثور: (أربع من فعلهن فقد برئ من البخل: من آتي الزكاة، وقَرَي الضيف، ووصل الرحم، وأعطي في النائبة).
ولهذا كان حد البخيل: من ترك أحد هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا، اختاره أبو بكر وغيره.
فالزكاة هي الواجب الراتب التي تجب بسبب المال، بمنزلة الصلاة المفروضة، وأما الثلاثة فوجوبها عارض، فقري الضيف واجب عندنا، ونص عليه الشافعي، وصلة الأرحام واجبة بالإجماع؛ كنفقة الأقارب، وحمل العاقلة، وعتق ذي الرحم المحرم. وإنما الاختلاف فيمن تجب صلته، وما مقدار الصلة الواجبة، وكذلك الإعطاء في النائبة، مثل الجهاد في سبيل اللّه، وإشباع الجائع، وكسوة العاري. وقد نص أحمد على أنه لو صدق السائل، لما أفلح من رده.
وأما الواجبات المنفعية بلا عوض؛ فمثل تعليم العلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر المظلوم وهي كثيرة جدًا. وعامة الواجب في منافع البدن، ويدخل فيها الأحاديث الصحيحة من حديث أبي ذر، وأبي موسي، وغيرهما: (على كل سلامي من ابن آدم صدقة). وتدخل أيضا في مطلق الزكاة، والنفقة في مثل قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } 89، كما نقل مثل ذلك عن السلف الحسن البصري وغيره. وقال النبي ﷺ: (كل معروف صدقة)، ويروي: (ما تصدق عبد بصدقة أعظم من موعظة يعظ بها أصحابًا له، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها) ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعه.
وأما المنافع المالية، وهو كمن اضطر إلى منفعة مال الغير، كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه، وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك - فيجب بذله، لكن هل يجب بذله مجانًا، أو بطريق التعوض، كالأعيان؟ فيه وجهان.
وحجة التبرع متعددة، كقوله تعالى: { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } 90، ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود قال: كنا نعده عارية القدر والدلو، والفأس. وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار، إذا احتاج إليه، على أصلنا المتبع؛ لسنة رسول الله ﷺ، وغير ذلك من المواضع.
ففي الجملة، ما يجب إيتاؤه من المال، أو منفعته، أو منفعة البدن بلا عوض، له تفصيل في موضع آخر. ولو كان كثير من المتفقهة، مقصرين في علمه، بحيث قد ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه. ويعتقد الغالط منهم (أن لا حق في المال سوى الزكاة) أن هذا عام؛ ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة: (إن في المال لحقٍا سوى الزكاة).
ومن قال بالأول: أراد الحق المالي، الذي يجب بسبب المال، فيكون راتبًا، وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع؛ مثل الجهاد بالمال عند الحاجة، والحج بالمال، ونفقة الزوجة، والأقارب، والمماليك من الآدميين، والبهائم. ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة، وهدي كفارات الحج، وكفارات الأيمان، والقتل، وغيرها. وما يجب من وفاء النذور المالية إلى أمثال ذلك، بل المال مستوعب بالحقوق الشرعية الراتبة، أو العارضة، بسبب من العبد، أو بغير سبب منه. وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة.
وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات؛ مثل المبايعة والمؤاجرة، وما يشبه ذلك. ومثل المشاركات؛ كالمساقاة، والمزارعة، ونحو ذلك. فإن هذا كثيرًا ما يغلط فيه الغالطون لما استقر في الشريعة أن الظلم حرام، وأن الأصل أن هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي، إلا في مواضع استثناها الشارع، وهو الإكراه عليها بحق، صار يغلط فريقان:
قوم يجعلون الإكراه على بعضها إكراهًا بحق، وهو إكراه بباطل.
وقوم يجعلونه إكراها بباطل، وهو بحق. وفيها ما يكون إكراها بتأويل حق، فيدخل في قسم المجتهدات، إما الاجتهادات المحضة، أو المشوبة بهوي، وكذلك المعاوضات.
ونحن نعلم قطعا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدًا؛ لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي، وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولي وأحري، بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات، وأكبر. فهو أوسع منه قدرًا وصفة.
ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت، فأما عند عدم الحاجة، ومع حاجة رب المال المكافية لحاجة المعتاض، فرب المال أولي؛ فإن الضرر لا يزال بالضرر، والرجل أحق بماله من ولده ووالده، والناس أجميعن. (وابدأ بنفسك ثم بمن تَعُول).
وهذه قاعدة حسنة مناسبة، ولها شواهد كثيرة في الشريعة، وأنا أذكر منها بتيسير الله تعالى. وجماع المعاوضات أربعة أنواع:
معاوضة مال بمال؛ كالبيع. وبذل مال بنفع كالجُعَالة. وبذل منفعة بمال كالإجارة، وبذل نفع بنفع كالمشاركات، من المضاربة ونحوها فإن هذا بذل نفع بدنه، وهذا بذل نفع ماله. وكالتعاون، والتناصر ونحو ذلك.
وبالجملة، فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين؛ إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه، بل لابد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه، وهذا لهذا ما يحتاج إليه، لفسد الناس، وفسد أمر دنياهم، ودينهم، فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة، وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب، وبعث به الرسل، فقال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } 91.
ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها، فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه لم يشرع الإكراه، ورد الأمر إلى التراضي في أصل المعاوضة، وفي مقدار العوض. وأما إذا لم يبذل فقد يوجب المعاوضة تارة، وقد يوجب عوضا مقدرا تارة. وقد يوجبهما جميعا، وقد يوجب التعويض لمعين أخرى.
مثال الأول: من عليه دين فطولب به، وليس له إلا عرض، فعليه أن يبيعه ليوفيه الدين؛ فإن وفاء الدين واجب، ولا يتم إلا بالبيع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللحاكم أن يكرهه على بيع العَرَض في وفاء دينه، وله أن يبيع عليه إذا امتنع؛ لأنه حق وجب عليه، فقبل النيابة، فقام ذو السلطان فيهم مقامه، كما يقوم في توفية الدين، وتزويج الأيم من كفئها إذا طلبته، وغير ذلك، وكما يقبض الزكاة من ماله، وسواء كان الدين الذي عليه برضي الغريم؛ كثمن مبيع، وبدل قرض، أو بغير رضاه؛ كقيم المتلفات، وأروش الجنايات.
ومن ذلك ضمان المغصوب إذا تعذر رد عنيه، ومن المغصوب الأمانات، إذا خان فيها، ومن الأمانات ما اؤتمن عليه من مال المسلمين كالعمال على الفيء والزكاة، والصدقات الموقوفة، ومال اليتيم، ومال الموكل كالشريك، والمضارب، ونحوهما. ومال الفيء إذا خانوا فيها. وتعذر رد عين المال، وكذلك بيع ماله لأداء ما يجب عليه من النفقات الواجبة لزوجته أو ولده أو نفسه.
وبالجملة، فكل من وجب عليه أداء مال، إذا لم يمكن أداؤه إلا بالبيع، صار البيع واجبا يجبر عليه، ويفعل بغير اختياره.
ومثال الثاني: المضطر إلى طعام الغير إذا بذله له بما يزيد على القيمة؛ فإن له أن يأخذه بقيمة المثل، فإنه يجب عليه أن يبيعه وأن يكون بيعه بقيمة المثل، فإذا امتنع منهما أجبر عليهما، وإن بذل أحدهما أجبر الآخر. والمسألة مذكورة في كتاب الأطعمة حتي إنه لو امتنع عن بذل الطعام فله أن يقاتله عليه؛ لأنه بمنزلة المقاتل عن نفسه.
ولهذا نضمنهم ديته لو مات، كما روي أن رجلًا استسقي قوما فلم يسقوه حتي مات، فضمنهم عمر ديته، وأخذ به أحمد، فإنه إذا وجب إطعام المضطر بلا عوض عند عجزه عنه، فلأن يجب بالمعاوضة أولي وأحري، وهكذا إذا اضطر الناس ضرورة عامة، وعند أقوام فضول أطعمة مخزونة، فإنه يجب عليهم بيعها، وعلى السلطان أن يجبرهم على ذلك، أو يبيعها عليهم؛ لأنه فعل واجب عليهم، يقبل النيابة، فيجب إلزامهم بما وجب عليهم شرعا، وهو حق للمسلمين عندهم، فيجب استنقاذه منهم. وهكذا كل ما اضطر الناس إليه، من لباس وسلاح وغير ذلك، مما يستغني عنه صاحبه، فإنه يجب بذله بثمن المثل.
وقد كتبت قبل هذا حديث سمرة بن جندب في صاحب النخلة، لما أمره النبي ﷺ ببيعها فلم يفعل، وذكرت ما فيه من وجوب المعاوضة، التي يحتاج إليها المبتاع من غير ضرر البائع.
ولهذا نهي الشارع عن الاحتكار الذي يضر الناس في قوله ﷺ: (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم، وغير ذلك. والمحتكر مشتر متجر، لكن لما كان يشتري ما يضر الناس. ولا يحتاج اليه حرم عليه، والبيع والشراء في الأصل جائزان غير واجبين، لكن لحاجة الناس يجب البيع تارة، ويحرم الشراء أخري. هذا في نفس العقد.
وأما في مقدار الثمن فنهيه ﷺ عن أن يبيع حاضر لباد، لما فيه من إضرار المشتري، إذا توكل الحاضر للقادم بسلعته في البيع، مع حاجة الناس اليها، وقد يستدل بذلك على وجوب بيعها بثمن المثل؛ ولهذا قال ﷺ: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).
وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر في مالا ينقسم؛ فإن الشريك محتاج إلى البيع؛ ليأخذ نصيبه، ولا ضرر على الآخر فيه. وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه؛ فإن العتق يحتاج إلى تكميل لما في تبعيض العتق من الضرر، من غير ضرر على البائع في بيع نصيبه، أو فيه ضرر دون الحاجة إلى تكميل العتق.
وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله؛ كمن له في ملك الغير عرق محترم من غراس أو بناء، أو بئر، كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة، والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب وكان الثمن عقارًا، وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة، فإن لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه، أو يبقيه بأجرة المثل، وكلاهما معاوضة؛إما على العين، أو على منفعة أرضه.
وكذلك إجبارنا لأحد الشريكين على الكري مع الآخر، أو العمارة معه، هو إجبار على المعاوضة؛ فإن العمارة تتضمن ابتياع أعيان، واستئجار عمال، فهي إجبار على شراء وإجارة؛ لأن الشريك محتاج إلى ذلك ولا ضرر على الباذل في ذلك، فتجب عليه المعاوضة معه؛ تارة لأجل القسمة، وتارة لبقاء الشركة. وعلى هذا، فإذا احتاج المسلمون إلى الصناعات؛ كالفلاحة، والنساجة، والبناية، فعلى أهلها بذلها لهم بقيمتها، كما عليهم بذل الأموال التي يحتاج اليها بقيمتها؛ إذ لا فرق بين بذل الأموال، وبذل المنافع، بل بذل المنافع التي لا يضر بذلها أولي بالوجوب معاوضة، ويكون بذل هذه فرضًا على الكفاية.
وقد ذكر طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم: أن أصول الصناعات كالفلاحة، والحياكة، والبناية فرض على الكفاية. والتحقيق: أنها فرض عند الحاجة اليها، وأما مع إمكان الاستغناء عنها فلا تجب، وهذه حكينا بيعها؛ فإن من يوجبها إنما يوجبها بالمعاوضة، لا تبرعا. فهو إيجاب صناعة بعوض؛ لأجل الحاجة اليها، وقولي عند الحاجة. فإن المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو يجلب اليهم من طعام ولباس.
والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكني، أمر واجب. وللإمام أن يلزم بذلك، ويجبر عليه، ولا يكون ذلك ظلما، بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس في دينهم أبلغ من هذا كله. فإذا كانت الشجاعة التي يحتاج المسلمون اليها، والكرم الذي يحتاج المسلمون اليه واجبا، فكيف بالمعاوضة التي يحتاج المسلمون اليها.
ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات، والطباع، وطاعة السلطان، غير مستشعرين ما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر، فيما أمر الله بطاعتهم فيه.
ولهذا يعدون ذلك ظلما وعناء، ولو علموا أنه طاعة لله احتسبوا أجره، وزالت الكراهة، ولو علموا الوجوب الشرعي لم يعدوه ظلمًا.
وكذلك إذا احتاجوا إلى القتال والجهاد بالنفس، وبذلوا أموالًا من بيت المال، أو من غيره، فإن الجهاد وإن كان فيه مخاطرة بالنفس ويخاف فيه الضرر، لكنه واجب بالشرع، إذا بذل للإنسان المال؛ فإن مصلحة الدين لا تتم إلا بوجوبه، وعلى الإنسان أن يجاهد بمال نفسه، فإذا بذل له المال كان أولي بالوجوب. فمن كان من أهل صناعات القتال: رميا، وضربا، وطعنا، وركوبا، وجب عليه ذلك، وأجبر عليه؛ كما قال النبي ﷺ: (وإذا استنفرتم فانفروا).
ولهذا قال الفقهاء: إنه يجب عينا إذا أمر به الإمام، وكذلك إذا احتاج المجاهدون إلى أهل الصناعات، والتجارات؛ كصناع الطعام، واللباس، والسلاح، ومصالح الخيل، وغير ذلك، وطلبت منهم تلك الصناعة بعوضها، وجب بذلها، وأجبروا عليها.
وكذلك التجار فيما يحتاج اليه في الجهاد، عليهم بيع ذلك، وإذا احتاج العسكر إلى خروج قوم تجار فيه لبيع ما لا يمكن العسكر حمله من طعام ولباس وسلاح، ونحو ذلك، فالتجارة كالصناعة. والعسكر بمنزلة قوم في بلد، فكما يجب على بعض إعانة بعض على حاجاتهم بالمعاوضة التي لا ضرر فيها، فإن ذلك واجب في العسكر.
وكما للإمام أن يوجب الجهاد على طائفة، ويأمرهم بالسفر إلى مكان لأجله، فله أن يأمر بما يعين على ذلك، ويأمر قومًا بتعلم العلم، ويأمر قوما بالولايات.
والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد.
فصل في أقوال المكره بغير حق
[عدل]وقال قدس الله روحه:
أقوال المكره بغير حق لغو عندنا؛ مثل كفره، وطلاقه، وبيعه، وشرائه. فإذا أكره البيعان على العقد فهو باطل، وإذا أكرها على التقابض، فهذا إكراه على الأفعال لا على الأقوال، فيكون كل منهما قد قبض، وأقبض مكرها، فعلى كل منهما أن يرد ما قبضه إلى الآخر، إذا أمكنه؛ لأنه مقبوض بغير حق، وإن كان القابض مكرها.
فإن تلف المال المقبوض بالإكراه تحت يد القابض، فإن كان قد أتلفه بفعله، أو بتفريطه، أو بعدوانه فهو ضامن؛ لأن غايته أن تكون يده يد أمانة، ويد الأمانة إذا أتلفت شيئا أو تلف بتفريطها، أو عدوانها، ضمنته؛ كيد المستأجر، والمودع، والمضارب، والوكيل.
وإن تلف بغير تفريط منه، فهل تكون يده يد ضمان؛ لأنه قبض مال الغير بغير إذنه، لدفع الضرر عنه؟ أو يد أمانة؛ لأنه قبضه قبضا غير محرم؟ فنقول: تلفه تحت يد المكره، بمنزلة إتلافه كرها، وفيه خلاف. وهو يشبه العارية من بعض الوجوه؛ فإن المستعير قبض المال لنفعه، كما أن المكره قبضه لدفع الضرر عن نفسه، وهذا قبضه بإذن المالك، وهذا قبضه بإذن الشارع، فإن كان المكره القابض قد أخذ منه وفاء عن دين، فهنا يكون ضامنا له؛ لأنه مصروف في منفعته، كمن اضطر إلى طعام الغير فأخذه ليأكله.
سئل عن جماعة أجبروا على بيع أعيان ليست لهم
[عدل]وسئل رحمه الله عن جماعة صودروا، وأخذت أموالهم، ثم أكرهوا وأجبروا على بيع أعيان من عقار ومواش وبساتين، فباعوها، والأعيان المذكورة بعضها ملك أولاد البائعين، وبعضها وقف، وبعضها ملك الغير، ووضع المشتري يده عليها، وحازها، وخاف البائعون على إتلاف صورة الأعيان، وليس لهم قدرة على انتزاعها من يده، فاشتروها صورة ليعرفوا بقاءها، ويحرزوها بثمن معين إلى أجل معلوم، فلما آن الأجل طالبهم بالثمن، فهل يكون البيع منهم باطلا بحكم الإكراه؟ وبيع مال الغير أم لا؟ وهل مشتراهم منه وإقرارهم بالملك مثبت له بصحة الملك؟
فأجاب:
إذا بذل البائع والحال هذه للمشتري، فما أداه من الثمن، وامتنع المشتري من الإيفاء بذلك، وطلب ما كتب على البائع من الثمن المؤجل، فإن المشتري ظالم عاص، يستحق العقوبة؛ فإن هذه المعاملة لو كانت بطيب نفس البائع، وقد اتفقا على ألا تباع منه الأعيان، بتقديم بيعه إياها إلى أجل، بأكثر من ذلك الثمن، كانت معاملة باطلة ربوية عند سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأكثر أئمة المسلمين، فكيف والبائع مكره، وبيع المكره بغير حق بيع غير لازم، باتفاق المسلمين، فلو قدر مع ذلك أن المشتري أكره على الشراء منه، وأداه الثمن عنه، فأعطاه البائع الثمن الذي أداه عنه، لوجب تسليم المبيع اليه باتفاق المسلمين.
فكيف والمشتري لم يكره على الشراء، والبائع قد بذل له الثمن الذي أداه عنه، فليس للمشتري والحالة هذه مطالبته بزيادة على ذلك، باتفاق الأئمة، ولا مطالبته برد الأعيان التي كانت ملكه. وهي الآن بيده على ما ذكر.
سئل عن رجل ورث من أمه دارا وأكره والده على بيعها
[عدل]وسئل عن رجل ماتت أمه، وورث منها دارًا، ولم يكن لها فيها شريك وأن إنسانا ظلم والده، وأجبره حتى كاتبه على الدار، أو باعها، فهل يجوز ذلك ؟ أم ترجع الدار إلى مالكها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا أكره بغير حق على بيع الدار، لم يصح البيع، وترد الدار إلى مالكها، ويرد على المشتري الثمن الذي أخذ منه، والله أعلم.
سئل عن وقف على جماعة أكرهوا على بيعه
[عدل]وسئل عن حبس على جماعة، وهو مثبوت بالعدول، وفي الدار ساكن له يد قوية على الورثة، وألزموه إلى أن باعوه غصبا باليد القوية، فإذا شهدت الشهود بصحة الوقف، ينزع من الغاصب، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، بيع المكره بغير حق لا يصح، وبيع الوقف الصحيح اللازم لا يصح، ومن علم شيئا شهد به، والله أعلم.
فصل إذا أكره رجل على أداء مال بغير حق
[عدل]وقال رحمه الله:
فصل
فإذا أكره السلطان أو اللصوص أو غيرهم رجلًا على أداء مال بغير حق، وأكره رجلا آخر على إقراضه، أو الابتياع منه، وأدي الثمن عنه، أو اليه، ليأخذوهم من المقترض، والبائع، سواء كان الإكراه على إقباض المكره، ثم الأخذ منه، أو على الأداء عنه فقط فهذه المسألة ونحوها تقع كثيرًا، وفيها وجهان: كما لو أخذ السلطان من أحد المختلطين في الماشية زيادة على الواجب عنهما بلا تأويل.
أحدهما: أن تلك الزيادة تذهب من مالكها، وليس على الآخر شيء منها، وإن كان السلطان أخذها عنها؛ لأن الظالم ظلم هذا بأخذ ماله، ونواه عن الآخر، وهو ليس وليا للآخر ولا وكيلا عنه حتى تصح نيته، ومجرد النية المحرمة لا يوجب ثبوت المال في ذمة المأخوذ عنه.
ولازم هذا القول: أن أحد الشريكين في العقار والمنقول، إذا أخذ السلطان ونوابه الوظائف الظلمية على المال، أو أخذ قطاع الطريق من التجار عن المال الذي معهم شيئا من أحد الشريكين؛ لأن المقبوض إذا كان من عين المال فإن أحد الشريكين لم يرجع على الآخر بنصيبه. وعلى هذا فلو كان المعطي وكيلا، أو وليا؛ كناظر الوقف، ووصي اليتيم، فيلزم إذا لم يكن ما أخذ منه من عين المال، أن يكون من ضمانه، لكن هذا إنما يلزم إذا لم يكن الدفع لحفظ المال، بل كان الدفع لأنه أكره على الأداء. فأما إذا لم يمكن حفظ المال إلا بما دفعه عنه، فهذا التصرف لحفظ المال، وهو بمنزلة إعطاء الخفارة لحفظه، وإعطاء النواطير لدفع اللصوص، والسباع.
وأيضا، فالولي والوكيل مأذون لهما عرفا، في مثل هذا الدفع؛ فإنه لم يتوكل على أنه يضرب ويحبس على مال يؤدي عن المال، فيتضرر ولا يؤديه، بخلاف ما يوجد من الأجنبي؛ لكن هذا الدليل بعينه وارد في أحد الشريكين، فإن كلاهما وكيل الآخر في شركة العقود.
وأيضا، فيفرق بين الكلف النوابية السلطانية، وبين المظالم العارضة.
سئل عن رجل سير على يد رجل قماشا ليسلمه فباعه وتصرف فيه
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل سير على يد رجل قماشا ليسلمه لولده بالقاهرة، فلم يسلمه، وباعه المسير على يده، وتصرف فيه، وباعه على غير بزاز بغير النقد، وبغير إذن صاحب القماش له في ذلك، فهل يكون ذلك تفريطًا؟ وهل إذا فرط تلزمه قيمته؟ وهل يكون القول في تلفه قول صاحب القماش؟ أو قول المسير على يده؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
إذا تصرف فيه بغير إذن صاحبه كان ظالما، وكان ضامنا له، فإن فات فعليه قيمته، وإن قال المودع أمرتني ببيعه، وقال المودع: لم آمرك ببيعه، بل بتسليمه إلى ولدي. فهذا فيه نزاع، لكن إن باعه بيعًا خارجًا عن البيع المعروف، مثل أن يبيعه إلى أجل، أو بغير النقد نقد البلد أو يبيعه لمن هو جاهل، أو مفلس، ونحو ذلك فهو ضامن لما يتلف من الثمن بكل حال.
وكذلك إذا باعه بدون قيمة المثل، وسلم المبيع، فهو ضامن للنقص. والله أعلم.
سئل عن امرأة ملكت لولدها ملكا وباعه
[عدل]وسئل عن امرأة ملكت لولدها ملكا، وباعه، ثم بعد البيع ملكت الثاني، وكتبت على الأول حجة أن ماله في الملك شيء بعد أن باعه، فهل يلزم الأول رد الملك للثاني، أو الأول صحيح؟
فأجاب:
إذا كان قد باعه بيعا صحيحا لازما، فقد خرج عن ملكه، ولم يصح بعد ذلك تمليكها، والملك باق على ملك المشتري. والله أعلم.
سئل عن رجل له زوجة لها ملك فسرق الزوج كتب الملك
[عدل]وسئل عن رجل له زوجة لها ملك، فسرق الزوج كتب الملك، وباعه، ثم توفيت؟
فأجاب:
بيع الملك بغير إذن مالكه، ولا ولاية عليه، بيع باطل. والواجب أن يرد إلى المشتري ما أعطاه من الثمن، ويرد إلى المالك ملكه.
فصل في كراهة شراء الأرض الخراجية
[عدل]وقال:
الذي يكره من شراء الأرض الخراجية، إنما كان لأن المشتري يشتريها فيرفع الخراج عنها، وذلك إسقاط لحق المسلمين، كما كانوا أحيانًا يقطعون بعضها لبعض المحاربين، إقطاع تمليك، لا إقطاع استغلال؛ كإقطاع الموات. فهذا الانتفاع والإقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة، والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعته دائمة للمسلمين، فإذا قطعت منفعته عن المسلمين صار ظلما لهم، بمنزلة من غصب طريق المسلمين، أو بني في مني ونحوها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد.
فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاه إياها بلا حق، وكما لو ورثها؛ فإن الإرث مجمع عليه: أن الوارث أحق بها بالخراج؛ وذلك لأن إعطاءها لمن أعطيته بالخراج، قد قيل: إنه بيع بالثمن المقسط الدائم، كما يقوله بعض الكوفيين. وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة، كما يقوله أصحابنا، والمالكية والشافعية، وكلا القائلين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات.
والتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شبه من البيع ومن الإجارة، تشبه في خروجها عنهما المصالحة على منافع مكانه للاستطراق، أو إلقاء الزبالة، أو وضع الجذع، ونحو ذلك بعوض ناجز، فإنه لم يملك العين مطلقا ولم يستأجرها، وإنما ملك هذه المنفعة مؤبدة.
وكذلك وضع الخراج لو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين، وأكروها، لكان ينبغي إكراء المساكن أيضا؛ لأنها للمسلمين إذا فتحت عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين؛ فإن كراء الأرض يساوي أضعاف الخراج. ولكان على المشهور عندهم، لا يستحق الآخذ إلا ما في الأرض من الشجر القائمة من النخيل، والأعناب، وغير ذلك، كمن استأجر أرضا فيها غراس. ولكان دفعها مساقاة ومزارعة كما فعل المنصور والمهدي في أرض السواد أنفع للمسلمين، اقتداء بالنبي ﷺ في أرض خيبر؛ فإنه لا فرق إلا أن ملاك خيبر معينون، وملاك أرض العنوة العمري مطلقون، وإلا فيجوز كذلك أن يؤاجر، ويجوز له في الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة.
وأما بيعها، فلو كان كذلك لباع المساكن أيضا، ولا بيع يكون الثمن مؤبدًا إلى يوم القيامة، فالمستخرج أصل دلت عليه السنة والإجماع، فلا يقاس بغيره فإن النبي ﷺ قال: (منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها). واتفق الصحابة مع عمر على فعله.
يوضح ذلك، أن أصل الخراج في قوله: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } 92، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ومع هذا فقد أضاف القري اليهم، فعلم اختصاصهم بها.
وإذا كان كذلك، فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج، وعاوضه على ذلك عوضا لم يكن في ذلك ضرر أصلا، فلا وجه لمنعه؛ لأنه إن قيل: إنه وقف، فهذا لا يخرجه بهذه المعاوضة عن أن يكون وقفا، بل مستحق أهل الوقف باق، كما كان، وبيع الوقف إنما منع منه لإزالة حق أهل الوقف. وهذا لا يزول؛ بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتك هذه الأرض بما على من الخراج، وبالزيادة التي تعجلها إلى؛ ولهذا ينتقل إلى ورثة من هي في يده؛ والوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان والهبة مثله فكذلك المعاوضة، سواء سميت بيعا، أو إجارة؛ ولهذا جوز أحمد إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقا جاز أن يكون ثمنًا، وأجرة. وما كان ثمنا كان مثمنا. فهذا باب ينبغي تأمله.
يبقي إذا أخذه المسلم: هل يكره لما فيه من الصغار، أو لما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة. فهذه مواضع أخر غير كونه وقفا تختلف باختلاف المصالح والأوقات كما أن النبي ﷺ عامل اليهود على خيبر لقلة المسلمين، فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبي ﷺ، وصار المسلمون يعمرونها، فكذلك الأرض الخراجية إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج، والكفار يستغلون الأرض بالخراج اليسير؛ فإنهم كانوا زمن عمر قليلًا، وأهل الذمة كثيرا. وقد يعكس الأمر، مع أن النبي ﷺ عاملهم على خيبر، ثم عمرها المسلمون لما كثر المسلمون، وتضرروا ببقاء أهل الذمة، في أرض العرب، فكان المعني ضرر المسلمين بأهل الذمة، واكتفاء المسلمين بالمسلمين.
فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية؛ وتضرروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأي من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي عنها، ويقوم مقامه فيها. فإن كان المؤدي أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين، وعمارتها، وإن كان ثمنا فهو أحق باشترائها، وإن كان عسوضا ثالثا فهو به أحق أيضا. ومتي كثر المسلمون لم يبق صغار، ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم، كما لو أسلم الذمي الذي هو مستول عليها، فإنها تبقى بيده مؤديا لخراجها، وسقط عنه جزية جمجمته، فكيف يقاس هذا بهذا.
وإذا جاز أن تبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع من أن يدفعها إلى مسلم غيره بعوض أو غيره، والمسلم لا صغار عليه بحال، فلو كان المانع كونها صغارًا، لم يجامع الإسلام، كجزية الرأس.
ولا يقال: هي كالرق تمنعه الإسلام ابتداء، ولا تمنع دوامه؛ لأن الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم، لم نعاوضهم عليه، فكذلك جزية الرأس، لا نمكنهم من المقام بالأرض الإسلامية إلا بها، فهي نوع من الرق، لثبوتها بغير اختيار المسترق. وأما الخراج فإنما يثبت برضي المخارج، واختياره، ولو لم يقبل الأرض منا لم ندفعها اليه، بمنزلة المساقاة والمزارعة التي عامل النبي ﷺ بها أهل خيبر، سواء هناك كان العوض جزءا من الزرع، وهنا العوض مسمي معلوم. وهناك لا يستحق شيئا إلا إذا زرعوا، وهنا يستحق إذا أمكنهم الزرع. فنظيره أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استحقه؛ إذ أن المضارب يدفع المال مضاربة لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق.
وبالجملة، فالموانع من كونها وقفا ينظر فيها. أما جهة الوقف، فلا يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا. وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد، فهذا عام في جميع الأراضين؛ عشريها وخراجيها، وذاك شيء آخر.
فصل في مكة وهل فتحت عنوة أو صلحا
[عدل]ونظير ذلك مكة. فإنه لا ريب أنها فتحت عَنْوَة، ومن قال: إنها فتحت صلحا، فاستقر ملك أصحابها عليها؛ ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره كما يقوله الشافعي، فقوله ضعيف؛ لوجوه كثيرة من المنقولات.
وأيضا، فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمام قوما من المشركين بغير جزية، ولا خراج، لم يجز إلا للحاجة، كما فعل النبي ﷺ عام الحديبية.
أما إذا فتحنا الأرض فتح صلح، وأهلها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارهم بغير جزية، بإجماع المسلمين.
وأيضا، فإن النبي ﷺ جعل في العام القابل لما حج أبو بكر لمن لم يسلم منهم أجل أربعة أشهر، وإلا جعله محاربا، يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحا لم يجز نقض ذلك.
وأيضا، فإنه استباح قتل جماعة سماهم... 93 ولكن فتحها عنوة وأمن من ترك القتال منهم فقد أمنه على نفسه وماله، إلا نفرًا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قبله، فانعقد له، ومنهم من لم يقبل فحارب أو هرب. والأمان لا يثبت إلا بقبول المؤمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتال فلم يؤمنه بحال، لكن خص وعم في ألفاظ الأمان. والمقصود واحد، فإن قوله: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقي السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) كلها ألفاظ معناها: من استسلم فلم يقاتل فهو آمن؛ ولهذا سماهم الطلقاء، كأنه أسرهم ثم أطلقهم كلهم... 94.
وقالت الحنفية: لما فتحها عنوة ولم يقسمها، بل أقرها في يد أهلها، صار هذا أصلا في أرض العنوة، أنه يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز بيعها وإجارتها، لكونها فتحت عنوة، ولم تقسم كسائر أرض العنوة، وربما يقولون: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم، وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج يضرب على مزارعها، فقد علم بالنقل المتواتر فساد قوله، مع إجرائه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوه:
أحدها: أن أرض العنوة تجوز إجارتها بالإجماع، وبيوت مكة أحسن ما فيها أنه لا تجوز إجارتها، بل يجب بذلها للمحتاج بغير عوض، فهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والآثار والقياس.
وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوة لما منع إجارتها.
الثاني: أن أرض العَنْوَة إنما يمنع من بيع مزارعها. فأما المساكن فلا يمنع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا منع منها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق.
الثالث: أن مزارع مكة ما علمت أحدا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعها، أو إجارتها، وإنما الكلام في الرِّباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟
الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، وقد طلبوا من النبي ﷺ إعادتها اليهم، فلم يفعل، فلو كانت كسائر العَنْوَة لكان قد أعادها إلى أصحابها؛ لأن الأرض إذا كانت للمسلمين واستولي عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعرف صاحبها قبل القسمة أعيدت اليه.
والخامس: أن النبي ﷺ لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها، ولا عقارها، ولا إلى أحد من ذراريهم، ولو أجري عليها أحكام غيرها من العنوة لغنم المنقولات، والذرية، بل الصواب أن المانع من إجارتها كونها أرض المشاعر، التي يشترك في استحقاق الانتفاع بها جميع المسلمين. كما قال الله تعالى: { سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } 95، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا اليه؛ لأنهم سبقوا إلى المباح. كمن سبق إلى مباح من مسجد أو طريق أو سوق، وأما الفاضل فعليهم بذله؛ لأنه إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العَرْصة مشتركة في الأصل.
وصار هذا بمنزلة من بني بيتًا من رباط، أو مدرسة، أو نحو ذلك، له اختصاص بسكنه، وليس له المعاوضة عليه. أو من بني بيتًا في جنابات السبيل، أو في دار الرباط، التي تكون بالثغور، ونحو ذلك، مما تكون الأرض فيه مشتركة المنفعة. للحج أو للجهاد، أو للمرور في الطرقات، أو التعلم، أو التعبد، ونحو ذلك، فإذا قال: البناء لي، قيل له: والعرصة ليست لك، وأعيان الحجر ليس لك، بل لك التاليف، أو التاليف والأنقاض. فما ليس لك لا يجوز أن تعاوض عنه، وما هو لك قد اعتضت عنه ببقائك في الانتفاع بالعرصة.
أو لأن المكي لما صار الناس يهدون اليهم الهدايا، وتجب عليهم قسمتها فيهم، صار يجب على المكيين إنزال الناس في منازلهم، مقابلة للإحسان بالإحسان، فصاحب الهدي له أن يأكل منه مثلا حيث يجوز، ويعطي من شاء، ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يسكنه، ويسكنه، ولا يعتاض عنه.
وهذا المعنى الذي ذكرناه قد يكون هو السبب الموجب لإبقائها بيد أربابها، من غير خراج مضروب عليهم أصلا؛ لأن للمقيمين بمكة حقًا، وعليهم حق، ليست كغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوة مناسبا لمنع إجارتها كما ذكرناه لا إلحاقًا لها بسائر أرض العنوة.
فإن قيل: فالأرض إذا فتحت عنوة يجوز أمان أهلها على أنفسهم وأموالهم كذلك. قيل: نعم، يجوز قبل الاستيلاء أن يؤمن من ترك القتال على نفسه وماله؛ لما فيه من الانتفاع بترك قتاله وهو أمان بشرط، بل إذا جوزنا السبي على الأسير بعد الأسر للمصلحة، كيف لا نجوز ذلك قبل الأسر.
وهنا زيادة الأمان على ماله؛ لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكم، فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عصم دمه وماله؛ لأنه لم يتم القهر. فإن دخوله مكة كان قبل الظهر ودخلها قهرًا. وبهذا التحرير تظهر الشبهة التي أوجبت كلا من القولين.
وأما بعد القهر، فيجوز أن يمن على المقهورين، وتدفع اليهم الأرض مخارجة، فالذين حاربوا بمكة، أو هربوا، ثم أمنهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمن؛ ولهذا سماهم الطلقاء، وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت سبب ذلك فيها.
وأما المنقول والذرية... (بياض بالأصل).
سئل عن مقطع له ماء داخل إقطاعه ويقصد بيعه
[عدل]وسئل عن مقطع له ماء داخل إقطاعه. ويقصد بيعه لمقطع آخر، وإجراءه في بلده، فهل يجوز للمشتري أن يشتري الماء؟ وهل يجوز للبائع أن يبيع الماء الداخل في إقطاعه، ويجريه في بلد المشتري؟
فأجاب:
إذا كان الماء محبوسًا عليه في الإقطاع، مثل أن تكون الأرض بمائها محبوسة عليه بألف درهم، وبدون تحبيس عليه بخمسمائة درهم، وهو يريد تعطيل ما يستحقه من الزرع، وبيعه لغيره، يسقي به في أرضه، فإن هذا يجوز بيعه، بخلاف الماء الذي يجري في ملكه بلا عوض، مثل أن يحيي أرضا وفيها عين جارية. فإن في جواز بيع مثل هذا الماء قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: يجوز بيعه، وهو مذهب الشافعي، ومالك.
والثانية: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو المشهور عن أحمد.
وأما الماء الذي يكون بالأرض المباحة، والكلأ الذي يكون بها، فهذا لا يجوز بيعه باتفاق العلماء.
سئل عن رجل له عين ماء جارية
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل له عين ماء جارية، إذا باع منها أصبع ماء أو نحوه، هل يجوز، مع أنه غير مرئي، بل ينبع شيئا فشيئا؟
فأجاب:
أما من يملك ماء نابعًا مثل أن يملك بئرًا محفورة في ملكه ويدخل في لفظ البئر: ما ينصب عليه الدولاب، ومالا ينصب، أو يملك عين ماء في أرض مملوكة له فهذا يجوز له أن يبيع البئر والعين جميعا، ويجوز أن يبيع بعضها مشاعًا على أصبع وأصبعين من أربعة وعشرين كما يباع مع البستان والدار ما له من الماء؛ مثل أصبع، وأصابع، من قناة كذا، وإن كان أصل تلك القناة في الأرض المباحة، فكيف إذا كان أصل الماء في ملكه، فهذا مما لا أعلم فيه نزاعًا.
وإن كانت العين تنبع شيئًا فشيئًا، فإنه ليس من شرط المبيع أن يري جميع المبيع، بل يرى ما جرت العادة برؤيته. وأما ما يتجدد؛ مثل المنافع، ونقع البئر، فهذا لا يشترط أحد رؤيته، لا في بيع ولا إجارة.
وإنما تنازع العلماء لو باع الماء بدون القرار: هل يصح بيعه لكونه يملك، أو لا يصح لكونه لا يملك؟ على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء على جواز بيعه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وهو منصوص للشافعي، بل نص على أن الماء مملوك.
وتنازعوا فيما إذا باع الأرض، ولم يذكر الماء: هل يدخل أم لا ؟
وأما بيع البئر والعين بكمالها، أو بيع جزء منها، فما علمت فيه تنازعًا، إذا كانت الأرض مملوكة. وقد ندب النبي ﷺ إلى شراء بئر رومة من مالكها اليهودي، فاشترى عثمان بن عفان نصفها، وحبسه على المسلمين، وكان دلوه منها كدلو واحد من المسلمين، ثم لما رأي اليهودي ذلك باعه النصف الآخر فاشتراه عثمان وجعل البئر كلها حبسًا على المسلمين.
وهذا الحديث مما احتج به الفقهاء على عدة مسائل؛ مثل وقف المشاع، وتكلم الفقهاء في مثل ذلك. هل فيه شفعة؟ فأكثر الفقهاء على أن فيه الشفعة؛ كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب مالك، واختاره ابن سُرَيج من أصحاب الشافعي، ولكن المشهور عن الشافعي أنه لا شفعة فيه، وهو الرواية الأخري عن أحمد، اختارها كثير من أصحابه، والأظهر وجوب الشفعة في ذلك.
والمقصود هنا أنهم اتفقوا على جواز بيع ذلك، وجواز هبة ذلك أظهر من جواز بيعه.
سئل عن رجلين لهما إقطاع في بلدفاختصما في بيع النبات
[عدل]وسئل عن رجلين لهما إقطاع في بلد، فاختصما في بيع النبات الذي يطلع من عند اللّه. فزعم أحدهما: أنه مثل النبات البري، لا يجوز بيعه؛ لأنه ماهو ملكه. فقال له الآخر: بل يجوز؛ لأن السلطان أقطعه لي فهو ملكي، ويجوز لي أن أبيع كل مافي حصتي، وفي قرعتي، هل هما مصيبان؟ أم مخطئان؟ وما مذاهب الأئمة في ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، أما النبات الذي ينبت بغير فعل الآدمي، كالكلأ الذي أنبته الله في ملك الإنسان، أو فيما استأجره، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز بيعه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه وهو قول بعض أصحاب مالك، والشافعي؛ لأن النبي ﷺ قال: (الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار).
ومعلوم أن النبي ﷺ لم يرد ما ينبت في الأرض المباحة فقط؛ لأن الناس يشتركون في كل ما ينبت في الأرض المباحة من جميع الأنواع، من المعادن الجارية؛ كالقير، والنفط. والجامدة؛ كالذهب والفضة، والملح، وغير ذلك، فعلم أنه أراد ما ينبت في أرض الإنسان.
وأيضا، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال (ثلاثة لا يكلمهم اللّه، ولا ينظر اليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل، فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل مالم تعمله يداك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا إن أعطاه رضي، وإن منعه سخط، ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبًا لقد أعطي بها أكثر مما أعطي). فهذا توعده الله بالعذاب؛ لكونه منع فضل مالم تعمل يداه، والكلأ الذي ينبت بغير فعله لم تعمله يداه.
والمشهور من مذهب الشافعي جواز بيع ذلك، وهو المشهور من مذهب مالك في الأرض التي جرت عادة صاحبها بالانتفاع بها، فأما الأرض البور التي لا يحرثها فلأصحابه فيها نزاع، جوز ذلك ابن القاسم، ومنعه غيره. وأما إذا كان صاحبها قصد ترك زرعها لينبت فيها الكلأ، فبيع هذا أسهل من بيع غيره؛ لأن هذا بمنزلة استنباته.
وَقَالَ في جَوَابٍ لَه أيضًا:
وأما قوله: (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار). فهو حديث معروف، رواه أهل السنن، وقد اتفق المسلمون على أن الكلأ النابت في الأرض المباحة مشترك بين الناس، فمن سبق اليه فهو أحق به، وأما النابت في الأرض المملوكة، فإنه إن كان صاحب الأرض محتاجًا اليه فهو أحق به، وإن كان مستغنيًا عنه ففيه قولان مشهوران لأهل العلم. وأكثرهم يجوزون أخذه بغير عوض؛ لهذا الحديث، ويجوزون رعيه بغير عوض.
وكذلك الماء إن كان نابعًا في أرض مباحة، فهو مشترك بين الناس، وإن كان نابعًا في ملك رجل فعليه بذل فضله لمن يحتاج اليه للشرب للآدميين والدواب بلا عوض؛ لهذا الحديث، ولقوله ﷺ في الحديث الصحيح: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر اليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل. يقول الله له: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن منعه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها كذا وكذا). الحديث. والله أعلم.
سئل عن قوم ينقلون النحل من بلد إلى بلد
[عدل]وسئل عن قوم ينقلون النحل من بلد إلى بلد، فهل يحل لأهل البلد أن يأخذوا منهم أجرة ما جنته النحل عندهم؟
فأجاب:
الحمد لله، لا حق على أهل النحل لأهل الأرض التي يجني منها، فإن ذلك لا ينقص من ملكهم شيئًا، ولكن العسل من الطلول التي هي من المباحات، وعلى صاحب النحل العشر يصرفه إلى مستحقه عند كثير من العلماء، كأبي حنيفة وغيرهم، لما روي في ذلك عن النبي ﷺ وأصحابه.
وهذه الطلول هي أحق بالبذل من الكلأ؛ فإن هذه الطلول لا يمكن أن يجمعها إلا النحل، لكن إذا كانت لصاحب الأرض فنحله أحق بالجناء في أرضه، فإذا كان جني تلك النحل تضر به، فله المنع من ذلك، والله أعلم.
سئل عن امرأة لها ملك غائب عنها
[عدل]وسئل عن امرأة لها ملك غائب عنها، ولم تره، وعلمته بالصفة، ثم باعته لمن رآه، فهل يصح هذا البيع؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا علمته بالصفة صح بيعها، وكذلك لو رآه وكيلها في البيع صح البيع أيضًا، وإن لم تره ولا وصف لها.
سئل عن رجل اشترى فولا لم يره
[عدل]وسئل عن رجل يحتاج لقرض، وكان عند شخص فول، فتبايعا عليه، ولم يره المشتري، وكتب الحجة، ثم وجده مسوسًا؟
فأجاب:
إذا لم ير المبيع، ولم يوصف له فالبيع باطل، وعليه رده بمثله أو قيمته.
سئل عن رجل يريد أن يبيع روحه
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل يريد أن يبيع روحه؟ وله عائلة، هل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، أما البيع الشرعي، فالحر المسلم لا يمكن بيعه، ولكن إذا انضم إلى بعض الملوك أو الأمراء متسميا باسم مملوكه، وذلك الملك أو الأمير يجعله من مماليكه الذين يعتقهم، لا يتملكه تملك الأرقاء، فهذا شبه ملك السيد الأول.
وهذا الذي يفعله هؤلاء إنما هو بيع عادي، وإطلاق عادي؛ إذ أكثر المماليك ملك لبيت المال، وولاؤهم للمسلمين؛ ولكن من غلب أضيفوا اليه، كما تضاف اليه الأموال، ونحو ذلك، ولا بأس على الإنسان أن ينضاف إلى من يعطيه حقه من بيت مال المسلمين، كما أضيف إلى غيره، وعليهم أن يطيعوا من ولاه الله أمرهم في طاعة الله، ولا يطيعوا أحدًا في معصية الله، فالملك يشبه الملك. والله أعلم.
سئل عن مملوك لشخص مسلم هرب من عند أستاذه
[عدل]وسئل رحمه الله عن مملوك لشخص مسلم، مقيم في بلاد التتر، ثم إن المملوك هرب من عند أستاذه من تلك البلاد، وجاء إلى بلاد الشام، وهو في الرق، والآن المملوك يختار البيع، فهل يجوز لأحد أن يبيعه ليحفظ ثمنه لأستاذه، ويوصل ذلك اليه، أم لا؟
فأجاب:
نعم، يجوز إذا كان في رجوعه إلى تلك البلاد ضرر عليه في دينه أو دنياه؛ فإنه يباع في هذه البلاد بدون إذن أستاذه. والله اعلم.
سئل عن كافر كان عليه دين فباع نفسه لشخص مسلم
[عدل]وسئل عن شخص من الكفار في بلاد الكفار كان عليه دين، باع نفسه لشخص مسلم، وقبض الثمن، وأوفي به دينه، وباع ابنته أيضًا، ورضوا بالرق، وخسر عليهم التاجر المسلم كلفة الطريق، والنفقة، والكسوة، حتى وصلوا إلى بلاد الإسلام، فهل يجوز بيعهم وشراؤهم؟
فأجاب:
إذا دخل المسلم إلى دار الحرب بغير أمان، فاشتري منهم أولادهم، وخرج بهم إلى دار الإسلام، كانوا ملكًا له باتفاق الأئمة، وله أن يبيعهم للمسلمين، ويجوز أن يشتروا منه، ويستحق على المشتري جميع الثمن.
وكذلك إذا باع الحربي نفسه للمسلم وخرج به، فإنه يكون ملكه بطريق الأولي والأحري، بل لو أعطوه أولادهم بغير ثمن، وخرج بهم ملكهم، فكيف إذا باعوه ذلك.
وكذلك لو سرق أنفسهم، أو أولادهم، أو قهرهم بوجه من الوجوه، فإن نفوس الكفار المحاربين، وأموالهم مباحة للمسلمين، فإذا استولوا عليها بطريق مشروع ملكوها.
وإنما تنازع العلماء فيما إذا كان مستأمنًا: فهل له أن يشتري منهم أولادهم؟ على قولين في مذهب أبي حنيفة، ومالك. وأحمد في رواية: أنه يجوز الشراء منهم، حتى قال أبوحنيفة وأحمد في رواية منصوصة عنه: أنه إذا هادن المسلمون أهل بلد، وسباهم من باعهم للمسلمين، جاز الشراء منه، وخالفه في ذلك مالك والشافعي في الرواية الأخري.
وكذلك لو قهر أهل الحرب بعضهم بعضًا أو وهب بعضهم بعضًا، أو اشترى بعضهم بعضا، أو سرقهم وباعهم، أو وهبهم للمسلمين، تملكوهم، كما يملكهم المسلمون إذا ملكوهم بالقهر.
سئل عن رجل اشترى عبدا فادعى أنه حر
[عدل]وسئل عن رجل اشترى عبدًا، فأقام في خدمته مدة سنين، ثم قصد المولي بيعه، فادعى أنه حر، وكان حال البيع اعترف بالرق، فهل يجب أخذ ثمنه من الذي باعه؟ وهل يعتق على مولاه؟
فأجاب:
إذا ثبت أنه كان حرا، فإنه يجب تغريمه للذي باعه، وتغريره؛ لكونه أقر له بالرق. وللمشتري أن يطالب بالثمن من الذي قبضه منه، وله أن يطلبه من هذا الآخذ الذي غره.
سئل عن بيع الجوز واللوز والمغيبات في الأرض
[عدل]وسئل رَحمه الله عن بيع الجوز واللوز، والبندق والفستق، والفول والحمص، ذوات القشور، هل يصح بيعه على مذهب الشافعي؟ وهل يصح على مذهبه البيع والشراء من غير تلفظ بالمعاقدة ؟ واللفت والجزر والقلقاس، هل يصح بيعه وهو في الأرض مغيب، أم لا ؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما مذهب الشافعي المنصوص عنه، فإنه لا يجوز هذه البيوع، لكن جمهور العلماء على خلاف ذلك، وهو الصحيح.
أما الأولى فمذهب الثلاثة أنه يصح مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وقد حكي ذلك قولًا للشافعي؛ فإنه في مرض موته اشترى الباقلا الأخضر، وهو الذي عليه العمل من عهد النبي ﷺ وأصحابه والتابعين في جميع الأعصار والأمصار. وقد نهى النبي ﷺ عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود. فدل ذلك على جواز بيع الحب بعد اشتداده، وإن كان في سنبله، وعلى قول من يمنع بيع الباقلا في قشره لا يجوز ذلك؛ ولهذا عد الطرسوسي وغيره المنع من بيع الباقلا من البدع المحدثة، فإنه لا يعرف عن أحد من السلف أنه منع ذلك.
وحجة المانع: نهى النبي ﷺ عن بيع الغرر، فظنوا أن هذا مجهول، وليس الأمر كذلك، فإن هذه الأعيان تعرف كما يعرف غيرها من المبيعات التي يستدل برؤية بعضها على جميعها.
وكذلك المشهور من مذهب الشافعي، أنه لابد في العقود من الصيغ، فلا يصح بيع المعاطاة، لكن الجمهور يخالفون هذا. فمذهب مالك أن كل ما عده الناس بيعًا فهو بيع، فيجوز بيع المعاطاة في القليل والكثير، وكذلك ظاهر مذهب أحمد. ومذهب أبي حنيفة تجويز ذلك في المحقرات، وهو قول آخر في مذهب أحمد، وقول طائفة من أصحاب الشافعي.
وأيضا، أن العقود يرجع فيها الى عرف الناس. فما عده الناس بيعًا أو إجارة، أو هبة، كان بيعًا، وإجارة، وهبة؛ فإن هذه الأسماء ليس لها حد في اللغة والشرع. وكل اسم ليس له حد في اللغة والشرع فإنه يرجع في حده الى العرف.
وأما بيع المغيبات في الأرض؛ كالجزر واللفت والقلقاس، فمذهب مالك أنه يجوز، وهو قول في مذهب أحمد. ومذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المعروف عنه أنه لا يجوز، والأول أصح وهو أنه يجوز بيعها، فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره دلهم ذلك على سائرها.
وأيضا، فإن الناس محتاجون الى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس اليه من البيع، لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج اليه في ذلك، كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة الى الجذاذ، وإن كان بعض المبيع لم يخلق، وكما أباح أن يشترط المشتري ثمرة النخل المؤبر، وذلك اشتراء قبل بدو صلاحها، لكنه تابع للشجرة، وأباح بيع العرايا بخرصها، فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل عند الحاجة، مع أن ذلك يدخل في الربا الذي هو أعظم من بيع الغرر وهذه قاعدة الشريعة وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما وبيع ما يكون قشره صونا له، كالعنب والرمان والموز والجوز واللوز في قشره الواحد، جائز باتفاق الأئمة.
سئل عن رجل اشترى من رجل ستة وعشرين فدان قلقاس فجاء من زاد عليه فباعه
[عدل]وسئل عن رجل اشترى من رجل ستة وعشرين فدان قلقاس، بتسعة آلاف درهم، وأمضي له البيع في ذلك، فقلع المشتري من القلقاس المذكور، ثم بعد ذلك جاء رجل آخر زاد عليه ألف درهم، فقبل الزيادة وطرد المشتري الأول، ثم زاد المشتري الأول على الثاني خمسمائة وتسلم القلقاس، وقلع منه مركبًا وباعها، وأورد له ثمنها ثم بعد ذلك زاد عليه فطرده، وكتب القلقاس على الذي زاد عليه، فهل يصح شراء الأول ؟ أو الثاني ؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا الذي فعله البائع غير جائز، بإجماع المسلمين، بل يستحق العقوبة البليغة، فإن بيع القلقاس ونحوه من المغيبات في الأرض، كالجزر؛ واللفت، ونحو ذلك، إما أن يكون جائزًا على أحد قولي العلماء؛ كمالك، وقول في مذهب أحمد وغيرهما. وإما ألا يكون جائزًا على قول أبي حنيفة، والشافعي، والمشهور عن أحمد. فإن كان جائزًا كان البيع الثاني حرامًا مع الأول، وهذا البائع لم يترك البيع الأول لكونه معتقدًا تحريمه، لكن لأجل بيعه للثاني، ومثل هذا حرام بإجماع المسلمين.
والصحيح أن بيع القلقاس جائز، ولا يحل قبول الزيادة، فيكون للمشتري الأول. ومن قال: إنه باطل، قال: ليس للبائع إلا ثمن المثل، فيما أخذ منه، أو الأقل من قيمة المثل.
سئل عمن هاجر من بلد التتر ولم يجد مركوبا فاشترى من التتر ما يركب
[عدل]وسئل عمن هاجر من بلد التتر، ولم يجد مركوبًا فاشترى من التتر ما يركب به، فهل عليه الثمن بعد هجرته الى دار الإسلام ؟
فأجاب:
نعم، إذا اشتري منهم، فعليه أن يعطي الثمن لمن باعه، وإن كان تتريًا. والله أعلم.
سئل عن تاجر له مرسوم بألا يؤخذ منه شئ على تجارته
[عدل]وسئل عن تاجر رسم له بتوقيع سلطاني بالمسامحة بألا يؤخذ منه شيء على متجرة، فتاجر سفرة، فباع التوقيع الذي بيده لتاجر آخر؛ لأجل الإطلاق الذي فيه، فهل يصح بيع ما في التوقيع؟ ثم إن المشتري للتوقيع بطل سفره ولم ينتفع، فهل يلزمه أداء الثمن ؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، هذا البيع ليس مقصوده بيع الورقة؛ فإن قيمتها يسيرة، بل لا تقصد بالبيع أصلا، وإنما مقصوده أن الوظيفة التي كان يأخذها نواب السلطان تسقط عنه الحقوق، ويأخذ هذا البائع بعضها، أو عوضها منه؛ لأن البائع كانت تسقط عنه.
وهذا يشبه ما يطلق من بيت المال، بشرط أن يكون إطلاقا لمن وفد على السلطان أو خرج بريدًا أو غير ذلك. وهذا إنما يعطاه إذا عمل ذلك العمل، فإذا لم يخرج ولا عوضه لم يعطه. وإذا كان كذلك، فإذا كان هذا للعارض، لا هو ولا صاحب التوقيع لم يطلق له شيء، وحينئذ فلا يستحق على المشتري شيئًا، وليس ما ذكر لازمًا حتى يجب بمجرد العقد، بل غايته أن قيل بالجواز كان جائزًا، والحالة هذه.
سئل عن رجل باع سلعة ثم تلفت
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل باع سلعة مثل ما يبيع الناس، ثم بعد طلب منه أكثر من ذلك، والسلعة تالفة، وهي من ذوات الأمثال، فهل له الرجوع بمثلها مع وجود المثل؟
فأجاب:
ليس له مطالبته بزيادة على السعر الواقع وقت القبض، وهو ثمن المثل، لكن يطلب سعر الوقت، وهو قيمة المثل، وذلك أن في صحة هذا العقد روايتان:
إحداهما: يصح، كما يصح مثل ذلك في الإجارة إذا دفع الطعام الى من يطبخ بالأجرة، وإذا دخل الحمام، أو ركب السفينة، فعلى هذا العقد صحيح، والواجب المسمي.
والثانية: أن العقد فاسد، فيكون مقبوضًا بعقد فاسد، وقد يقال: إنه يضمن بالمثل، إن كان مثليًا وإلا بالقيمة، كما يضمن المغصوب، وهذا قول طائفة من أصحابنا وغيرهم، كالشافعية، لكن هنا قد تراضوا بالبدل الذي هو القيمة، كما تراضوا في مهر المثل على أقل منه أو أكثر. ونظيره أن يصطلحا حيث يجب المثل أو القيمة على شيء مسمي، فيجب ذلك المسمي؛ لأن الحق لهما، لا يعدوهما.
ونظير هذا: قول أصحاب أحمد في المشاركة الفاسدة. يظهر أثره في الحل، وعدمه، لا في تعيين ما تراضيا عليه، كما لا يظهر أثره في الضمان، بل ما ضمن بالصحيح ضمن بالفاسد، وما لا يضمن بالصحيح لا يضمن بالفاسد، فإذا استويا في أصل الضمان. فكذلك في قدره. وهذه نكتة حسنة لمن تدبرها. والله أعلم.
سئل عن رجل أخذ سنة الغلاء غلة
[عدل]وسئل رَحمه الله عن رجل أخذ سنة الغلاء غلة، وقال له: قاطعني فيها، قال له: حتى يستقر السعر، وصبر أشهرًا، وحضر فأخذ حظه بمائة وخمسين إردبًا، فهل له ثمن أو غلة ؟.
فأجاب:
الحمد للّه، الصحيح في هذه المسألة أن له ما تراضيا، وهو المائة والخمسون، سواء قيل: إن الواجب كان أولا هو السعر على أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، أن البيع بالسعر صحيح. أو قيل: إن البيع كان باطلًا، وأن الواجب رد البدل، فإنهما إذا اصطلحا عن البدل بقيمته وقت الاصطلاح جاز الصلح، ولزم. كما أن الزوجين إذا اصطلحا على قدر مهر المثل، أو أقل، أو أكثر، جاز ذلك، سواء كان هناك مسمي صحيح، أو لم يكن. ولا يقال: القابض كان يظن أن الواجب عليه القيمة، فالواجب إنما هو رد المثل. لا يقال: هذا فيه نزاع.
وأكثر العلماء يقولون: إذا قبضت العين، وتصرف فيها لم يكن الواجب رد الثمن، إما بناء على صحة العقد، وإما بناء على أن المقبوض بالعقد الفاسد يملك بقول أبي حنيفة، ويملك إذا مات بقول مالك، وإذا كان فيه نزاع، فإذا اصطلحا على ذلك كان الصلح في موارد نزاع العلماء، وهو صلح لازم.
وسئل هل يجوز بيع المشاع
[عدل]وسئل رَحمه اللّه: هل يجوز بيع المشاع ؟
فأجاب:
يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله ﷺ؛مثل قوله الذي في صحيح مسلم: (أيما رجل كان له شرك في أرض، أو ربعة، أو حائط، فلا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع قبل أن يؤذنه فهو أحق به بالثمن).
وكذلك يضمن بالإتلاف، وما هو في معني الإتلاف، كالسراية في العتق، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (من أعتق شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، لاوَكْس، ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد).
وإذا باع الشقص المشاع، وقبضه أو لم يقبضه، فقد اتفق المسلمون على أن حق الشريك باق في النصف الآخر، وإن لم يتصرف بأنواع التصرفات الجائزة في المال المشترك، فللمشتركين أن يتهايآ فيه بالمكان أو بالزمان. فيسكن هذا بعضه، وهذا بعضه، وبالزمان يبدأ هذا شهرًا، ويبدأ هذا شهرًا، ولهما أن يؤجراه، ولأحدهما أن يؤجره من الآخر، ومن امتنع منهما من المؤاجرة أجبر عليها، عند جمهور العلماء إلا الشافعي، وفي الإجبار على المهايأة أقول ثلاثة معروفة.
وسئل هل يجوز بيع المشاع
[عدل]وسئل عن رجل له شريك في خيل، وباع الشريك الخيل لمن لا يقدر رفيقه على تخليصها بغير إذن الشريك، فهل يلزمه القبض ؟
فأجاب:
إذا باع نصيبه، وسلم الجميع الى المشتري، وتعذر على الشريك الانتفاع بنصيبه، كان ضامنا لنصيب الشريك، فإما أن يمكنه من نصيبه، وإما أن يضمنه له بقيمته.
سئل عن شركة في ملك ثم إن بعض الشركة باع الملك جميعه
[عدل]وسئل عن شركة في ملك بشهادة شهود بينهم، ثم إن بعض الشركة باع الملك جميعه بشهادة أحد الشهود بالشركة، فهل يصح البيع في ملكه ويبطل في الباقي ؟ أو يبطل الجميع؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما بيع نصيب الغير فلا يصح إلا بولاية أو وكالة، وإذا لم يجزه المستحق بطل باتفاق الأئمة، لكن يصح البيع في نصيبه خاصة في أحد قولي العلماء بقسطه من الثمن، وللمشتري الخيار في فسخ البيع، أو إجازته. وإن كان المكان مما يقسم بلا ضرر فله إلزام الشريك بالقسمة. وإن كان مما لا يقسم إلا بضرر فله المطالبة ببيع الجميع ليقتسما الثمن.
وإذا كان الشاهد يعلم أن البائع ظالم، وشهد على بيعه معونة على ذلك، فقد أعان على الإثم والعدوان، والمعاونة بالشهادة على العقود المحرمة لا تجوز، بل قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه)، وقال: (إني لا أشهد على جور)، فمن فعل ذلك مصرًا عليه قُدِحَ فِي عدالته. والله أعلم.
سئل هل يجوز بيع الكرم لمن يعصره خمرا
[عدل]وسئل رَحمه اللّه: هل يجوز بيع الكرم لمن يعصره خمرًا، إذا اضطر صاحبه الى ذلك ؟
فأجاب:
لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمرًا، بل قد لعن رسول الله ﷺ من يعصر العنب لمن يتخذه خمرًا، فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة. ولا ضرورة الى ذلك، فإنه إذا لم يمكن بيعه رطبًا، ولا تزبيبه، فإنه يتخذه خلًا، أو دبسًا، ونحو ذلك.
سئل عن شراء الجفان لعصير الزيت أو للوقيد أو لهما
[عدل]وسئل رَحمه الله عن شراء الجِفان، لعصير الزيت، أو للوقيد، أو لهما ؟
فأجاب:
بيع جفان الزيت جائز. وإن لم يعلم مقدار زيته كما يجوز بيع حب القطن والزيتون ونحوهما من المنعصرات، والمبيعات مجازفة. وسواء اشتراه للعصير، أو للوقيد، لكن لا يجوز للعاصر أن يغش صاحبه. وإذا كان قد اشترط أن تكون الجفنة أجرة لرب المعصرة، بحيث قد واطأ عليه العاصر على أن يبقي فيها زيتًا له، كان هذا غشا حرامًا، وحرم شراؤه للزيت.
سئل عن رجل له دكان مستأجرة
[عدل]وسئل عن رجل له دكان مستأجرة بخمسة وعشرين كل شهر، وله فيها عدة وقماش، فجاء إنسان فقال: أنا أستأجر هذه الدكان بخمسة وأربعين، وأقعد بالعدة والقماش أبيع فيه وأشتري، فهل يجوز ذلك أم لا ؟
فأجاب:
هذا قد جمع بين بيع وإجارة معًا، وذلك جائز في أظهر قولي العلماء. والله أعلم.
سئل عمن ضمن من ولاة الأمور ألا يباع صنف من الأصناف إلا من عنده
[عدل]وسئل رحمه الله عمن ضمن من ولاة الأمور ألا يباع صنف من الأصناف إلا من عنده، وذلك الصنف لا يوجد إلا عنده في تلك البقعة، ويوجد في الأماكن القريبة من نواحي تلك البقعة، بحيث تكون المسافة ما بين مصر والقاهرة، فهل يجوز الابتياع من هذا المحتكر، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما هو نفسه فلا يحل له أن يفعل من وجهين:
من جهة أنه يمنع غيره من البيع الحلال. ومن جهة أنه يضطر الناس الى الشراء منه، حتى يشتروا ما يريد، فيظلمهم بزيادة الثمن.
وأما ما يشتري منه، فإن كان قد اشتراه بمال له حلال، لم يحرم شراؤه منه؛ لأن المشتري هو المظلوم، ومن اشترى لم يأثم، ولا يحرم ما أخذه لظلم البائع له؛ فإن مثل هذا إنما يحرم على الظالم، لا على المظلوم.
وأما إن كان اشترى ما اشتراه بما ظلمه من الأموال، كان ذلك مغصوبًا محضًا، كالشراء من الغاصب، فحكم هذا ظاهر.
وأما إن كان أصل ماله حلالًا، ولكن ربح فيه بهذه المعيشة، حتى زاد، فهذا قد صار شبهة بقدر ما خالطه من أموال الناس، فلا يقال: هو حرام. ولا يقال: حلال محض، لكن إن كان الغالب عليه الحلال جاز الشراء منه، وتركه ورع.
وأما إن كان الغالب الحرام، فهل الشراء منه حلال أو حرام؟ على وجهين. ولا ريب أن الربح الذي يحصل له بعضه يستحقه، وهو ما يستحقه مثله، فإن ماله الذي قبض منه لو قبض بعقد فاسد لوجب له مثله، أو قيمة مثله، والمشترون يأخذون سلعته، فله عليهم مثلها، أو قيمة مثلها.
ثم إن أهل الضمان يأخذون منه بعض ما ظلمه، فإن الحانوت يكون شراؤه عشرين، فيلزمونه بخمسين؛ لأجل الضمان، فتلك الثلاثون حرام عليهم، وهي قد أخذت منه. وأما ما يبقي له من الزيادة المحرمة، فهاتيك التي ماله، ومع الحاجة، وتعدل غيره بكون الرخصة أقوي. والله أعلم.
سئل عن الأعيان المضمنة من الحوانيت
[عدل]وسئل عن الأعيان المضمنة من الحوانيت كالشيرج وغيره، من الأطعمة وغيرها، وهي أن إنسانًا يضمن بيع شيء من الأشياء وحده، بشرط ألا يبيع غيره شيئًا من ذلك. فيقول: عندي كذا وكذا كل شهر لمالك حانوت، أو خان، أو موضع آخر، على أن أشتري وأبيع فيه شيئًا لا يبيعه غيري، أو أعمل كذا وكذا يعني شيئا يذكره على أن غيري لا يعمل مثله، فهل يجوز الشراء من هذا الإنسان من هذه الأعيان التي يبيعها، مع التمكن من مشتري غيرها من جنسها، أم لا ؟ وهل يجوز استعمال شيء منها بالأعيان باعتبار مشقة عند تحصيل غير ذلك الشيء أم لا ؟ سواء كانت الضرورة داعية الى ذلك الاستعمال، أم لا ؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما مع الغني عن الاشتراء منه، فينبغي ألا يشتري منه؛ فإنه ظالم بمنع غيره، ولو لم يكن في ماله شبهة فمجانبته وهجره أولي، بحسب الإمكان.
وأما الشراء منه لا سيما مع الحاجة فلا يحكم بتحريمه. ولا يحكم بتحريمه إذا اشتري مع إمكان الشراء من غيره، ولكن مع الحاجة لا يكره الشراء منه، فإن هذا له مال يشتري به ويبيع، لكن إذا منع غيره واحتاج الناس الى الشراء منه باعهم بأغلي من السعر، فظلمهم. وغايته أن يكون بمنزلة ما يضعه الظلمة على الناس من البضائع بأكثر من قيمته، فيشترونه مكرهين، فإن هذا لا يحرم على المشتري ما اشتراه، ولكن يحرم على البائع ما أخذه بغير حق، لكن قد يقال: إن هذا قد اختلط بماله من تلك الزيادات المحرمة، فصار في ماله شبهة.
فيقال أولا: من غلب على ماله الحلال جازت معاملته، كما ذكره أصحاب الشافعي، وأحمد. وإن غلب الحرام: فهل معاملته محرمة أو مكروهة؟ على وجهين.
ثم يقال: تلك الزيادات ليس لها مستحق معين يعرف، والواجب عند جمهور العلماء فيما لا يعرف مالكه أن يصرف في مصالح المسلمين، وهذا إنما منعناه من الزيادة؛ لئلا يظلم الناس، فلو جعلنا ما يشتريه الناس منه حرامًا لكنا قد زدنا الضرر على الناس إذا احتاجوا أن يشتروا منه بأكثر من القيمة، والذي اشتروه حرام، وهم لا يطيقون الشراء من غيره، وهذا لا يجوز أن يقال، بل يجوز الشراء من مثل هذا، والمشتري منه لم يظلم أحدًا، فإن ما اشتراه قد أعطاه عوضه وزيادة، والمستحق للعوض هو المستحق لما معه من المال، فإذا كان المستحق لذلك جماعة من المسلمين أو معين منهم، فهو نفسه قد ظلم أولئك جميعهم بما أخذه منهم بغير حق. وأما المشتري منه الذي أعطاه العوض وزيادة فلم يظلم أحدًا.
وهذا بين إذا كان ماله مختلطا بعضه ببعض لا يتميز منه ما أخذه حرامًا، فإن حق المظلومين ثبت في ذمته، وهذه الأعيان التي في يده لا يستحقها بعينها المظلومون، فمعاوضته عليها جائزة، وعليه أن يعطي المظلوم ما أخذه بغير حق. وبهذا أفتي في مثل هذا من شاء الله من العلماء، وهذا كسائر من عليه دين للناس وهو ظالم بمطله للغرماء؛ فإن النبي ﷺ قال: (مَطْل الغِنَي ظُلْم).
ثم مع هذا إذا عاوض على مافي يده بمعاوضة المثل وزيادة جاز باتفاق العلماء، ولم يكره الشراء منه، ولكنه لو تبرع تبرعًا يتعذر معه أداء الدين الواجب، ففي نفوذ تبرعه قبل الحجر عليه قولان للعلماء، لكن يقال: هذا الظالم لما أخذ الزيادة، واشتري بها، فقد تعلق حق المظلوم بما اشتراه بماله؛ بخلاف الدين الذي حصل برضا الغريم، فإن صاحبه لا حق له في غير مال المدين. فيقال: هذا ينبني على أصول:
أحدها: أن الدراهم التي أخذها زيادة بغير حق، هل يتعين حق صاحبها فيها، أو للغاصب أن يعطيه من حيث شاء؟
وللعلماء قولان في الدراهم، هل تتعين بالتعيين في العقود والقبوض حتى في الغصب والوديعة ؟ فقيل: تتعين مطلقا، كقول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. وقيل: لا تتعين مطلقا، كقول ابن قاسم. وقيل: تتعين في الغصب والوديعة دون العقد، كقول أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الأخري، فإذا خلط المغصوب بمثله على وجه لا يتميز، كما تخلط الأدهان والألبان والحبوب وغيرها، فهل يكون الخليط كالإتلاف، حيث يبقي حق المظلوم في الذمة، فيعطيه الظالم من حيث شاء؟ أو حقه باق في العين، فله أن يأخذ من عين الخلط بالقسمة؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي، وأحمد.
ومعلوم أن تلك الدراهم الزائدة ليست متعينة، سواء اشتري منه دراهم في الذمة أو منفعة؛ فإن المظلوم أخذ منه القدر الزائد على عوض المثل، وليس هو متعينًا، ولو كان متعينا ثم خلطه بما لا يتميز منه سقط حقه من التعيين، في أحد القولين، فكيف إذا لم يكن متعينًا في الأصل؟ فعلى قول كثير من العلماء ليس حقه إلا في ذمة الظالم.
وهذا نظير قول من يقول: إن المضارب والمودع إذا مات ولم يعين الوديعة والمضاربة صارت دينًا في ذمته، ولم يجعلوا لصاحب المال حقًا في عين التركة؛ فإن تفريط المودع حين لم يميز الوديعة من غيرها موجب لضمانه، لكن هؤلاء أسقطوا حق المالك من عين مال الميت، فلم يقدموه بعين ماله على الغرماء، بل جعلوه غريمًا من الغرماء، وإن كان عين ماله مختلطا، والظلم يكون بترك الواجب، وفعل المحرم. فترك المودع ما يجب عليه من التمييز ظلم منه.
وهذا القول وهو سقوط حق المالك من العين وإن كنا لا ننصره، لكن المقصود بيان مأخذ هذه المسألة على أصول العلماء؛ ولهذا لما فرع هذه المسألة من فرعها من المالكية، بنوا الأمر على أن حق المظلوم تعلق بالذمة دون العين.
والأصل الثاني: أن الظالم في العادة إنما يشتري في الذمة، ثم ينفذ عين المال، وفي صحة مثل هذا قولان معروفان للعلماء.
الأصل الثالث: أن نسلم أن حق المظلوم يتعلق بعين مال الظالم، وإن فاتت العين، لكون هذا بدل ماله. وهذا القول الذي فرعه، وهو أن يخير المظلوم بين المطالبة بشطر حقه، وبين أن يكون حقه متعلقًا بعين المال، ويكون ما يزيد من المال من نماء وربح وغيره له المطالبة به، لكن يقال على هذا: المظلوم ليس له إلا قدر حقه، وأما الزيادة الثانية التي حصلت بتصرف الظالم فهي مبنية على وقف العقود. فمن قال: إن العقود لا توقف، يقول: ما قبضه البائع الظالم من المشتري لم يملكه؛ لأنه قبضه بعقد فاسد، والثمن الذي أداه وقد غصبه هو في ذمته، فيكون عليه دون الناس الذين ظلمهم، وما في يده لا يملكه، بل هو لأناس مجهولين لا يعرفهم. ولا يتصرف في مالهم إلا بإذنهم. وعلى هذا ففيه قولان:
قيل: إن ولي الأمر كالحاكم وغيره ممن له ولاية التصرف على الغائبين، يقضي الديون التي وجبت عليهم للبائع بالأموال التي في يده لهم.
وقيل: إن البائع له أن يستوفي دينه الذي عليهم مما لهم في يده من المال، ولا يحتاج الى استئذان حاكم، وهذا أصح؛ فإن المعلوم لصاحبه أن يستوفيه من مال من هو عليه، ولا يحتاج الى إذن الحاكم، كما أذن النبي ﷺ للضيف المظلوم أن يأخذ حقه من زرع المضيف بغير إذنه، وكما أمر المرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف بلا إذن الزوج، لكن إذا كان الحق مجحودًا. فقد قال: (أدِّ الأمانة الى من ائتمنك ولا تَخُنْ من خانك) فكيف إذا كان الإنسان قد باع غيره سلعة بيعًا فاسدًا، وقبض منه الثمن، فله أن يستوفي منه من هذه السلعة بطريق الأولى، والأحرى ؟!
وأما على قول جمهور العلماء القائلين بوقف العقود حتى توفي التبرعات عند الحاجة، فيقولون من بيده مال غصب، أو وديعة، أو عارية، وهو لا يعلم عين مالكه، يتصدق به عنه، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ولكن لصاحبه إذا ظهر ألا ينفذ ذلك.
وأما المعاوضة على ذلك فليس لصاحبه إذا عرف أن يردها، بل تثبت الولاية على المعاوضة شرعًا للحاجة، كما لو مات رجل في موضع ليس فيه وصى ولا وارث ولا حاكم، فإن رفقته في السفر تثبت لهم الولاية على ماله، فيحفظونه، ويبيعون ما يرون بيعه مصلحة، وينفذ هذا البيع، ولهم أن يقبضوا ما باعوه، ولا يقف ذلك على إجازة الورثة، وليس هذا من التصرف الفضولي، بل هو يعرف بولاية شرعية للحاجة، كما ثبت لهم ولاية غسله، وتكفينه من ماله، ودفنه، وغير ذلك، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
وإذا عرف هذا، فالبائع الذي باع ما اشتراه بتلك الزيادة، وقبض الثمن من المشتري، إذا قيل: البيع فاسد لا يقف على الإجازة، ولا على المشتري رد ما قبض منه، وعليه رد ما قبض من الثمن، فإذا تعذر رد المشتري ما قبض، كان له أن يأخذ نظير ذلك. وقد يكون أكثر من الثمن وأقل، والغالب أنه مثله.
وكذلك ما اشتراه، تلك الزيادة عليه ردها الى صاحبه، وعلى صاحبه رد الزيادة الى صاحبها، فقابض الزيادة الظلمية إذا لم يردها كان للمظلوم الأول أن يأخذ من ماله الذي صار بيد البائع نظير ذلك، وقابضها الذي باع بها ماله، إذا لم يرد ماله كان له أن يأخذ بقدره من تلك الزيادة. وهذا احتمال كل من تبايعا بيعًا فاسدًا وتقابضاه، إذا قيل: إن المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك، فكل منهما له عند الآخر ما قبضه الآخر منه، وللآخر عنده ما قبضه منه. فإذا تعذر الرد كان له أن يأخذ قدر حقه، سواء كان من جنس الحق، أو من غير جنسه.
وعلى هذا فما صار بيد هذا الضامن الظالم من الزيادات الظلمية من أموال المشترين المختلطة التي لا تتميز، إذا اشترى بها شيئًا، وأقبض المشترين، ملك الزيادة، وقبض ما اشتراه، كان ما حصل بيده من أموالهم بإزاء ما قبضوه من الزيادة الى مستحقها، فلا يكون الشراء منه بثمن المثل حرامًا، فكيف من اشتري منه بزيادة، بخلاف ما يؤخذ منه تبرعًا، فهذا فيه كلام آخر ليس هذا موضعه. فإن ابن مسعود سئل عن رجل يعامل بالربا، إذا أضاف غيره. فقال ابن مسعود: كل، فإن مهناه لك، وحسابه عليه. وهذا للعلماء فيه كلام، وليس هذا موضعه. وينبني على هذا أصول متعددة.
منها: المقبوض بالعقد الفاسد، هل يملك أو لا يملك ؟
ومنها: إذا تصرف في العين تصرفًا يمنع ردها بعينها، فهل ينتقل الحق الى ذمته ؟ أو هو باق في ماله الذي اختلط به العين والذي عاوض به عن العين ؟ وغير ذلك من المسائل.
وأما إذا قلنا بوقف العقود لا سيما مع تعذر الاستئذان، كما هو مذهب الثلاثة فالأمر في ذلك أظهر. فإن العادة الغالبة أن الناس يرضون ببيع مثل هذه الأموال التي أعدوها للبيع بالزيادة، بخلاف ما أعدوه للقنية.
وأيضا، فالمظلوم وإن كان له في هذا المال حق قليل بسبب الزيادة التي ظلمها، فبعضه لصاحب الحانوت الظالم، ولا يتميز هذا عن هذا، ومثل هذا إذا طلب أحد الشريكين بيعه أجبر الممتنع على البيع لأجل شريكه، فمن كان بينهما مال لا يقبل القسمة كحيوان إذا طلب أحد الشريكين بيعها وقسمة الثمن أجبر الآخر على ذلك عند جمهور العلماء، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد، وذكر بعض المالكية أن هذا إجماع؛ لأن حق الشريك في نصف قيمة الجميع لا في قيمة النصف. بدليل قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (من أعتق شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، لا وَكْس، ولا شَطَط. فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)، فجعل حق الشريك في نصف قيمة الجميع، وأمر بتقويم جميع العبد، لا بتقويم حصة الشريك فقط.
فإذا كان كذلك فمعلوم أن الزيادة الظلمية لا تتميز عن المزيد، ولا يمكن القسمة بينهما إلا بقسمة العين، أو قسمة بدلها، والعين قد تعذر ردها فتعين قيمة بدلها. فدل على أنه يجوز أن يعاوض صاحب الحانوت على مافي يده من الأموال، وعليه أن يعطي الشركاء المظلومين حقوقهم. وأنه إما أن يقال: إن حق المظلومين في ذمته فقط، أو أنها متعلقة بالأعيان مع جواز المعاوضة لتوفية حقوقهم؛ إذ لا سبيل الى توفية حقوقهم بالعدل إلا مع ذلك، وعلى هذا فالمشترون تسلموا ما اشتروه شراء حلالًا جائزًا.
وعلى هذا أدلة أخرى تبين أن الناس المشترين لم يظلموا أحدًا إذا اشتروا، وأن شراءهم جائز، وأن منع الناس من الشراء من هؤلاء ظلم مضاعف لم يأمر الله به، ولا رسوله. وعلى هذا فمع الحاجة الى الشراء منه لا يكره الشراء منه، فضلا عن أن يحرم.
وأما إذا قدر أن الذي باعه عين المعقود، فهذا ينبني على وقف العقود، وعلى التصرف في مال المالك المجهول بغير إذنه للمصلحة، وأكثر العلماء على القول بوقفها، لا سيما عند الحاجة، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وكذلك أحمد عند الحاجة، مثل أن يتعذر استئذان المالك لعدم العلم به، وفي ذلك بدون الحاجة روايتان. واختار الخرقي القول بوقفها، كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وهو قول الشافعي، فيكون تصرفه في مال الغير موقوفًا على إجازته إذا أمكن استئذانه. وأما المجهول الى لا يعرف، فلا يفتقر ذلك الى استئذانه، بل ينفذ التصرف له بالمصلحة. ولو عرف بعد ذلك لم يكن له رد المعاوضات، وإنما له رد التبرعات، كصاحب اللقطة.
وقد عرف من حيث العادة أن أرباب مثل هذه الأموال المسؤول عنها ليس لهم غرض في شيء بعينه. ولا يكره أحدهم أن تباع سلعته بزيادة، فإنهم يختارون بيع المشتري، ولكن البائع هو الذي ظلمهم، وهو هنا لما لم يعرف المالك جاز التصرف بالعقد والقبض، بخلاف ما إذا عرف المالك.، فإنه لابد من استئذانه في القبض باتفاق العلماء.
وهذا كاللقطة التي لا يعرف مالكها. قال النبي ﷺ: (فهو مال الله يؤتيه من يشاء)، فإذا تصدق بها الملتقط كان ذلك موقوفًا على إجازة المالك إذا عرف عند جمهور العلماء، وقبل أن يعرف يكون التصدق نافذًا غير موقوف، ولكن الملتقط البائع ليس بظالم، وهنا البائع ظالم، لكن المشتري ليس بظالم، والمال لا يمكن إتلافه، وهو بيد البائع الظالم، فأخذ الشراء له بالزيادة حرام للمالك المجهول، فالشارع ينفذ الملك لمصلحة المشتري، والمالك المجهول المظلوم، إن كان البائع ظالمًا.
كما لو قدر أن ناظر الوقف، ووصي اليتيم، والمضارب والشريك خانوا، ثم تصرفوا مع ذلك، فلابد من تصحيح تصرفهم في حق المشتري منهم، وحق رب المال، وإلا فلو أبطل ذلك فسد عامة أموال الناس التي يتصرف فيها بحكم الولاية والوكالة؛ لغلبة الخيانة على الأولياء والوكلاء، لاسيما ويدخل في ذلك من تصرفات ولاة الأمور ما لا يمكن إبطاله والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها فلا يجوز لأحد رعاية حق مجهول في عين حصل عنها بدل خير له.
منها: أن يحرم عليه وعلى المشترين أموالهم، فإن هذا بمنزلة من يهدم مصرًا ويبني قصرًا. وبسط هذه المسألة وتوابعها له مكان آخر، قد ذكر في ذلك من الشواهد، وكلام العلماء والصحابة والتابعين ما لا يتسع له هذا الموضع.
سئل عن المطعومات التي يؤخذ عليها المكس
[عدل]وسئل رَحمه الله تعالى:
هل هذه الأشياء المطعومات التي يؤخذ عليها المكس، وهي مضمنة، أو محتكرة، هل يحرم على من يشتري منها شيئًا، ويأكل منها؟ وإن عامل رجل لإنسان كل ماله حرام مثل ضامن المكس، أو من ليس له مال سوي المكس، فهل يفسق بذلك؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما إذا كان الرجل يبيع سلعته من طعام أو غيره وعليهما وظيفة تؤخذ من البائع أو المشتري. فهذا لا يحرم السلعة، ولا الشراء، لا عن بائعها ولا على مشتريها، ولا شبهة في ذلك أصلا.
وكذلك إذا كان المأخوذ بعض السلعة، مثل أن يأخذوا من الشاة المذبوحة سواقطها، أو من الحبوب والثمار بعضها، ومن ظن في ذلك شبهة فهو مخطئ، فإن هذا المال المأخوذ ظلما، سواء أخذ من البائع أو من المشتري، لا يوجب وقوع الشبهة فيما بقي من المال، وكما لو ظلم الرجل وأخذ بعض ماله، فإن ذلك لا يوجب وقوع الشبهة فيما بقي من ماله.
وهذه الوظائف الموضوعة بغير أصل شرعي، منها ما يكون موضوعًا على البائع مثل سوق الدواب ونحوه. فإذا باع سلعته بمال فأخذ منه بعض ذلك الثمن كان ذلك ظلمًا له، وباقي ماله حلال له، والمشتري اشتري بماله، وربما يزاد عليه في الثمن لأجل الوظيفة، فيكون منه زيادة. فبأي وجه يكون فيما اشتراه شبهة؟ وإن كانت الوظيفة تؤخذ من المشتري فيكون قد أدي الثمن للبائع، والزيادة لأجل تلك الكلفة السلطانية، ولا شبهة في ذلك لا على البائع، ولا على المشتري؛ لأن المنافع لم تؤخذ إلا بما يستحقه، والمشتري قد أدي الواجب وزيادة.
وإذا قيل: هذا في الحقيقة ظلم للبائع؛ لأنه هو المستحق لجميع الثمن. قيل: هب أن الأمر كذلك، ولكن المشتري لم يظلمه، وإنما ظلمه من أخذ ماله، كما لو قبض البائع جميع الثمن، ثم أخذت منه الكلفة السلطانية.
وفي الحقيقة فالكلفة تقع عليهما؛ لأن البائع إذا علم أن عليه كلفة زاد في الثمن، والمشتري إذا علم أنه عليه كلفة نقص من الثمن، فكلاهما مظلوم بأخذ الكلفة، وكل منهما لم يظلم أحدًا، فلا يكون في مالهما شبهة من هذا الوجه، فما يبيعه المسلمون إذا كان ملكا لهم لم يكن في ذلك شبهة بما يؤخذ منهم في الوظائف.
وأما إذا ضمن الرجل نوعًا من السلع على ألا يبيعها إلا هو، فهذا ظالم من وجهين: من جهة أنه منع غيره من بيعها، وهذا لا يجوز، ومن جهة أنه يبيعها للناس بما يختار من الثمن، فيغليها، وهؤلاء نوعان:
منهم: من يستأجر حانوتًا بأكثر من قيمتها، إما لمقطع، وإما لغيره، على ألا يبيع في المكان إلا هو، أو يجعل عليه مالًا يعطيه لمقطع أو غيره بلا استئجار حانوت، ولا غير ذلك، وكلاهما ظالم، فإن الزيادة التي يزيدها في الحانوت لأجل منع الثاني من البيع، هو بمنزلة الضامن المنفرد.
والنوع الثاني: ألا يكون عليهم ضمان، لكن يلتزمون بالبيع للناس؛ كالطحانين والخبازين ونحوهم ممن ليس لهم وظيفة، لكن عليه أن يبيع كل يوم شيئًا مقدرًا، ويمنعون من سواهم من البيع؛ ولهذا جاز التسعير على هؤلاء، وإن لم يجز التسعير في الإطلاق. فإن هؤلاء قد أوجبت عليهم المبايعة لهذا الصنف، ومنع من ذلك غيرهم، فلو مكنوا أن يبيعوا بما أرادوا كان ظلما للمساكين، بخلاف ما إذا كان الناس كلهم متمكنين من ذلك، فإنه يكون كما في السنن عن أنس قال: غلا السعر على عهد النبي ﷺ فقالوا: يارسول الله سعر لنا، فقال: (إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقي اللّه، وليس أحد يطلبني بمظلمة في مال).
وأما في الصورة، فإذا كانوا قد ألزموا بالمبايعة لم يجز أن يلزموا بأن يبيعوا بدون ثمن المثل؛ لأن ذلك ظلم لهم، وإذا كان غيرهم قد منع من المبايعة لم يجز أن يمكنوا أن يبيعوا بما اختاروا؛ فإن ذلك ظلم للناس.
يبقي أن يقال: فهل يجوز التزامهم بمثل ذلك على هذا الوجه، على أن يكونوا هم البائعين لهذا الصنف دون غيرهم، وألا يبيعوه إلا بقيمة المثل من غير مكس يوضع عليهم؟ فهل يجوز للإمام أن يفعل بهم ذلك، أم يجب عليه ألا يترك أحدًا يفعل ذلك ؟
قيل: أما إذا اختاروا أن يقوموا بما يحتاج الناس اليه من تلك المبيعات، وألا يبيعوها إلا بقيمة المثل، على أن يمنع غيرهم من البيع، ومن اختار أن يدخل معهم في ذلك مكن، فهذا لا يتبين تحريمه، بل قد يكون في هذا مصلحة عامة للناس، وهذا يشبه ما نقل عن عمر في التسعير، وأنه قال: إن كنت تبيع بسعر أهل الأسواق، وإلا فلا تبع. فإن مصلحة الناس العامة في ذلك أن يباعوا بما يحتاجون اليه، وألا يباعوا إلا بقيمة المثل، وهذان مصلحتان جليلتان.
والباعة إذا اختاروا ذلك لم يكونوا قد أكرهوا عليه، فلا ظلم عليهم، وغيرهم من الناس لم يمنع من البيع، إلا إذا دخل في هذه المصلحة العامة، بأن يشاركهم فيما يقومون به بقيمة المثل، فيكون الغير قد منع أن يبيع سلعة بأكثر من ثمن المثل، وألا يبيعها، إلا إذا التزم أن يبيع لواحد منهم. وقد يكون عاجزًا عن ذلك. وقد يقال: هذان نوعان من الظلم: إلزام الشخص أن يبيع، وأن يكون بيعه بثمن المثل، وفي هذا فساد. وحينئذ فإن كان أمر الناس صالحًا بدون هذا لم يجز احتمال هذا الفساد بلا مصلحة راجحة، وأما إن كان بدون هذا لا يحصل للناس ما يكفيهم من الطعام ونحوه، أو لا يلقون ذلك إلا بأثمان مرتفعة، وبذلك يحصل ما يكفيهم بثمن المثل. فهذه المصلحة العامة يغتفر في جانبها ما ذكر من المنع.
وأما إذا ألزم الناس بذلك فهذا فيه تفصيل؛ فإن الناس إذا اضطروا الى ما عند الإنسان من السلعة والمنفعة وجب عليه أن يبذل لهم بقيمة المثل، ومنعه ألا يبيع سلعة حتى يبيع مقدارًا معينًا. وتفصيل هذه المسائل ليس هذا موضعه.
إذا تبين ذلك، فالذي يضمن كلفة من المكلف على ألا يبيع السلعة إلا هو، ويبيعها بما يختار، لا ريب أنه من جنس ظلم الكلف السلطانية من الوجهين اللذين تقدما؛ ولهذا كره من كره معاملة هذا لأجل الشبهة التي في ماله. فإنه إذا كان لا يبيع إلا هو بما يختار صار كأنه يكره الناس على الشراء منه بما يختاره، فيأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم، وتلك الشبهة قد اختلطت بماله، فيصير في ماله شبهة من هذا الوجه؛ فلهذا كره من كره معاملتهم.
وهذا سبيل أهل الورع الذين لا يأكلون من الشواء المضمن، ونحو ذلك، فإنهم إنما تورعوا عما كان بهذه المثابة، وهو أن يكون بحيث لا يشوي إلا هو، ولا يبيع الشواء إلا هو بما يختاره، ولا يبيع الملح إلا هو بما يختاره، والملح ليست كغيرها، فإن الملح في الأصل هو من المباحات التي يشترك فيها المسلمون، كالسمك وغيره من المباحات، إذا لم يمكن من أخذها إلا واحد بضمان عليه، والذي يشتريها منه بماله لا يحرم؛ لأن هذا المشتري لم يظلم فيه أحدًا، بل لو أخذها من الأصل كان له ذلك، ولو استأجر هذا أو غيره ليأخذها له من موضعها المشترك كان ذلك جائزًا، ولو كانت مشتركة بين المسلمين لكانت تكون أرخص، وكان المشتري يأخذها بدون ما أعطاه الضامن، فهذا الضامن يظلم المشتري وغيره.
وأما المشترون منه فهم لا يظلمون أحدًا، ولم يشتروا منه شيئا ملكه بماله، فإنما حرم عليه من الظلم من ترك ملكه لا يفوته، ولم يظلم فيه أحدًا؛ لأنها في الأصل مباحة، والمسلمون الذين يشترونها هم المظلومون، فإنه لولا الظلم لتمكنوا من أخذها بدون الثمن، فإذا ظلموا وأخذ منهم أكثر مما عليهم لم يكن ذلك محرمًا عليهم لما كان مباحا لهم؛ إذ الظلم إنما يوجب التحريم على الظالم لا على المظلوم.
ألا ترى أن المدلس والغاش ونحوهما إذا باعوا غيرهم شيئًا مدلسًا لم يكن ما يشتريه حرامًا عليه؛ لأنه أخذ منه أكثر مما يجب عليه، وإن كانت الزيادة التي أخذها الغاش حرامًا عليه. وأمثال هذا كثير في الشريعة؛ فإن التحريم في حق الآدميين إذا كان من أحد الجانبين لم يثبت في الجانب الآخر، كما لو اشتري الرجل ملكه المغصوب من الغاصب، فإن البائع يحرم عليه أخذ الثمن، والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه، ولا بذل ما بذله من الثمن؛ ولهذا قال العلماء: يجوز رشوة العامل لدفع الظلم، لا لمنع الحق، وإرشاؤه حرام فيهما. وكذلك الأسير والعبد المعتق، إذا أنكر سيده عتقه، له أن يفتدي نفسه بمال يبذله، يجوز له بذله، وإن لم يجز للمستولي عليه بغير حق أخذه.
وكذلك المرأة المطلقة ثلاثًا إذا جحد الزوج طلاقها، فافتدت منه بطريق الخلع في الظاهر كان حرامًا عليه ما بذلته ويخلصها من رق استيلائه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (إني لأعطي أحدهم العطيَّة فيخرج بها يتلظَّاها نارًا)، قالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: (يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البُخل).
ومن ذلك قوله: (ما وقي به المرء عرضه فهو صدقة). فلو أعطي الرجل شاعرًا، أو غير شاعر؛ لئلا يكذب عليه بهجو أو غيره، أو لئلا يقول في عرضه ما يحرم عليه قوله، كان بذله لذلك جائزًا، وكان ما أخذه ذلك لئلا يظلمه حرامًا عليه؛ لأنه يجب عليه ترك ظلمه. والكذب عليه بالهجو من جنس تسمية العامة: قطع مصانعه، وهو الذي يتعرض للناس، وإن لم يعطوه اعتدي عليهم، بأن يكون عونًا عليهم في الإثم والعدوان، أو بأن يكذب عليهم، وأمثال ذلك. فكل من أخذ المال لئلا يكذب على الناس، أو لئلا يظلمهم كان ذلك خبيثًا سحتًا؛ لأن الظلم والكذب حرام عليه، فعليه أن يتركه بلا عوض يأخذه من المظلوم، فإذا لم يتركه إلا بالعوض كان سحتًا.
فالمباحات التي يشترك فيها المسلمون في الأصل؛ كالصيود البرية والبحرية، المباحات النابتة في الأرض، والمباحة من الجبال والبراري ونحو ذلك، كالمعادن وكالملح، وكالأطرون وغيرها إذا حجرها السلطان وأمر ألا يأخذها إلا نوابه، وأن تباع للناس، لم يحرم عليهم شراؤها؛ لأنهم لا يظلمون فيها أحدًا، ولأنهم هم المظلومون بحجرها عليهم، فكيف يحرم عليهم أن يشتروا مالهم أن يأخذوه بلا عوض؛ فإن نواب السلطان لا يستخرجونها إلا بأثمانها التي أخذوها ظلمًا، أو نحو ذلك من الظلم.
قيل: تلك الأموال أخذت من المسلمين ظلمًا، والمسلمون هم المظلومون، فقد منعوا حقوقهم من المباحات، إلا بما يؤخذ منهم يستخرج ببعضه تلك المباحات، والباقي يؤخذ، وذلك لا يحرم عليهم ما كان حلالًا لهم، وهذا ظاهر فيما كان الظلم فيه مناسبًا، مثل أن يباع كل مقدار بثمن معين، ويؤخذ من تلك الأثمان ما يستخرج به تلك المباحات، وهنا لا شبهة على المشتري أصلا؛ فإن ما استخرجت به المباحات هو حقهم أيضا. فهو كما لو غصب رجل بيت رجل، وأمر غلمان المالك أن يطبخوا مما في بيته طعامًا فإن ذلك لا يحرم على المغصوب؛ لأنه يملك الأعيان والمنافع، وليس في ذلك إلا أن يكون التصرف وقع بغير وكالة منه، ولا ولاية عليه، وهذا لا يحرم ماله، بل ولا بذل ماله باتفاق المسلمين. وإن كان ما يستخرج به تلك المباحات بدون المعاملة بالأموال السلطانية المشتركة.
وأما إذا استخرج نواب السلطان بغير حق من يستخرج تلك المباحات، فهذا بمنزلة أن يغصب من يطبخ له طعاما أو ينسج له ثوبا، وبمنزلة أن يطبخ الطعام بحطب مغصوب، وأمثال ذلك مما تكون العين فيه مباحة، لكن وقع الظلم في تحويلها من حال إلى حال. فهذا فيه شبهة، وطريق التخلص منها أن ينظر النفع الحاصل في تلك العين بعمل المظلوم، فيعطي المظلوم أجره، وإن تعذر معرفة المظلوم تصدق به عنه؛ فإن هذا غايته أن يكون قد اختلط حلال وحرام، ولو اختلطت الأعيان التي يملكها بالأثمان التي غصبها وأخذها حرامًا، مثل أن تختلط دراهمه ودنانيره بما غصبه من الدراهم والدنانير، واختلط حبه أو ثمره أو دقيقه أو خله أو ذهبه بما غصبه من هذه الأنواع، فإن هذا الاختلاط لا يوجب تحريم ماله عليه؛ لأن المحرمات نوعان:
محرم لوصفه وعينه: كالدم والميتة ولحم الخنزير. فهذا إذا اختلط بالمائع وظهر فيه طعم الخبث أو لونه أو ريحه حرم.
ومحرم لكسبه: كالنقدين، والحبوب، والثمار، وأمثال ذلك. فهذه لا تحرم أعيانها تحريما مطلقا بحال، ولكن تحرم على من أخذها ظلمًا أو بوجه محرم، فإذا أخذ الرجل منها شيئا، وخلطه بماله، فالواجب أن يخرج من ذلك القدر المحرم، وقدر ماله حلال له. ولو أخرج مثله من غيره؟ ففيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
أحدهما: أن الاختلاط كالتلف، فإذا أخرج مثله أجزأ.
والثاني: أن حق المظلوم يتعلق بالعين مع الخلط، فلابد أن يخرج قدر حق المظلوم من ذلك المال المختلط.
إذا تبين هذا، فإذا كان أثر عمل المظلوم قائمًا بالعين؛ مثل طبخه أو نسجه ونحو ذلك، فإنما يستحق قيمة ذلك النفع، فإذا أعطي المظلوم قيمة ذلك النفع أخذ حقه، فلا يبقي لصاحب العين شريك، فلا يحرم عليه. وأما إذا لم يعرف المظلوم فإنه يتصدق به عنه عند جمهور العلماء، كما لو حصل بيده أثمان من غصوب وعوارٍ وودائع لا يعرف أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم؛ لأن المجهول كالمعدوم في الشريعة، والمعجوز عنه كالمعدوم؛ ولهذا قال النبي ﷺ في اللقطة: (فإن جاء صاحبها فأدها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء).
فإذا كان في اللقطة التي تحرم، بأنها سقطت من مالك، لما تعذر معرفة صاحبها جعلها النبي ﷺ للملتقط ولا نزاع بين المسلمين في جواز صدقته بها، وإنما تنازعوا في جواز تملكه لها مع الغني، والجمهور على جواز ذلك فكيف ما يجهل فيه ذلك.
وفي هذه المسألة آثار معروفة، مثل حديث عبد الله بن مسعود لما اشتري جارية، ثم خرج ليوفي البائع الثمن فلم يجده، فجعل يطوف على المساكين، ويقول: اللهم هذه عن صاحب الجارية، فإن رضي فقد برئت ذمتي، وإن لم يرض فهو عني، وله على مثلها يوم القيامة. وحديث الرجل الذي غل من الغنيمة، في غزوة قبرص، وجاء إلى معاوية يرد إليه المغلول، فلم يأخذه، فاستفتي بعض التابعين فأفتاه بأن يتصدق بذلك عن الجيش، ورجع إلى معاوية فأخبره، فاستحسن ذلك؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 96، والمال الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده إليه، فيصرف في مصالح المسلمين، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين. وهذا أصل عام في كل مال جهل مالكه، بحيث يتعذر رده إليه؛ كالمغصوب، والعواري والودائع، تصرف في مصالح المسلمين على مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم.
وإذا صرفت على هذا الوجه جاز للفقير أخذها؛ لأن المعطي هنا إنما يعطيها نيابة عن صاحبها، بخلاف من تصدق من غلول، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول).
فهذا الذي يحوز المال ويتصدق به. مع إمكان رده إلى صاحبه، أو يتصدق صدقة متقرب، كما يتصدق بماله، فالله لا يقبل ذلك منه، وأما ذاك فإنما يتصدق به صدقة متحرج متأثم، فكانت صدقته بمنزلة أداء الدين الذي عليه، وأداء الأمانات إلى أصحابها، وبمنزلة إعطاء المال للوكيل المستحق، ليس هو من الصدقة الداخلة في قوله: (ولا صدقة من غلول).
سئل عن مدينة لا يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها ويبيعه
[عدل]وسئل قدس الله روحه عن مدينة لا يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وكوارعها مكسا، ثم يضع ذلك، ويبيعه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمتنع من شراء ذلك وأكله من أهل المدينة، وغيرهم، وليس يباع في المدينة رؤوس وكوارع وأسقاط إلا على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك، فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا؟
فأجاب:
هذه حكمها حكم ما يأخذه الملوك من الكلف التي يضربونها على الناس؛ فإن هذه في الحقيقة تؤخذ من أموال أصحاب الغنم الذين يبيعونها للقصابين وغيرهم؛ فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخذ من المشتري، فهي في الحقيقة من مال البائع، وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة. ومنها ما هو ظلم محض، ولكن تعذر معرفة أصحابه ورده إليهم، فوجب صرفه في مصالح المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم.
فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة اشتراء المغصوب المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقال: إنه فعل محرمًا يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع من شرائها إضرار بالناس، وإفساد للأموال من غير منفعة تعود على المظلوم.
والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه إن شاء، وبنظير ماله، والتورع عن هذا من التورع عن الشبهات، ولا نحكم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يقال: إنه فعل محرمًا لا تأويل فيه.
فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه الوظائف. كما فعل ذلك أبو المعالى الجويني في كتابه غياث الأمم، وكما ذكر ذلك بعض الحنفية. وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان المشتري يعتقد أن ذلك العقد محرم، كالذمي إذا باع خمرًا، وأخذ ثمنه، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن، وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر، كما قال عمر بن الخطاب: ولوُّهم بيعها، وخذوا أثمانها. وهذا كان سببه أن بعض عماله أخذ خمرًا في الجزية، وباع الخمر لأهل الذمة، فبلغ ذلك عمر، فأنكر ذلك. وقال: ولوهم بيعها، وخذوا أثمانها. وهذا ثابت عن عمر، وهو مذهب الأئمة.
وهكذا من عامل معاملة يعتقد جوازها في مذهبه، وقبض المال، جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يري جواز تلك المعاملة.
فإذا قدر أن الوظائف قد فعلها من يعتقد جوازها؛ لإفتاء بعض الناس له بذلك، أو اعتقد أن اعتقاد أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز، جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يعتقد جواز أصل القبض.
وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمر فيما فعلوه تأويلا سائغا، جاز أن يشتري ما قبضوه، وإن كان هو لا يجوز ما فعلوه، مثل أن يقبض ولي الأمر من الزكاة قيمتها فيشتري منها، ومثل أن يصادر بعض العمال مصادرة يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى الجهاد وجب على الناس بأموالهم، وأن ما أخذوه من الوظائف هو من المال الذي يجوز أخذه، وصرفه في الجهاد، وغير ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها مما قد ساغ فيه الاجتهاد. فإذا كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه، جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمره أن يقبضه، وإن كان المشتري لا يسوغ قبضه، والمشتري لم يظلم صاحبه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يعتقد جوازه.
وإن كان على هذا الوجه فشراؤه حلال في أصح القولين، وليس من الشبهات؛ فإنه إذا جاز أن يشتري من الكفار ما قبضوا بعقود يعتقدون جوازها وإن كانت محرمة في دين المسلمين فلأن يجوز أن يشتري من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد جوازه وإن كنا نراه محرمًا بطريق الأولى، والأحرى، فإن الكافر تأويله المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم.
ولهذا إذا أسلموا وتحاكموا إلينا، وقد قبضوا أموالًا بعقود يعتقدون جوازها؛كالربا، وثمن الخمر، والخنزير، لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام؛لقوله تعالى: { اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } 97. ولم يحرم ما قبضوه.
وهكذا من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح.
الوجه الثاني: أن ما قبضه الملوك ظلمًا محضًا، إذا اختلط بمال بيت المال، وتعذر رده إلى صاحبه، فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فإن المجهول كالمعدوم، فما عرف أنه قبض ظلمًا، ولم يعرف صاحبه، صرف في المصالح، وما قبض من بيت المال المختلط حلاله بحرامه لم يحكم بأنه حرام؛ فإن الاختلاط إذا لم يتميز المال يجري مجري الإتلاف، وصاحبه يستحق عوضه من بيت المال. فمن قبض ثمن مبيع من مال بيت المال المختلط جاز له ذلك في أصح الأقوال. والله أعلم.
سئل عن الأغنام التي تباع فيؤخذ مكسها من القصابين
[عدل]وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الأغنام التي تباع فيؤخذ مكسها من القصابين، فيحتجر عليهم في الذبيحة في موضع واحد، ويؤخذ منهم أجرة الذبح، ثم بعد ذلك يؤخذ سواقطها مكسا ثانيا مضمنا، ثم تطبخ وتباع، فهل هي حرام على من اشتراها للأكل أم لا؟ وهل هذا التكسب فيها حرام أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع:
فمن الناس من يقول: هذا مال أخذ من صاحبه بغير حق، وبيع بلا ولاية، ولا وكالة، فلم يصح بيعه، بل هو باق على ملك صاحبه، وقد طبخ هذا وبيع بغير إذنه، فلا يجوز شراؤه.
ومنهم من يقول: هذا مال ولاة الأمور؛ إما متأولين، أو متعمدين للظلم، وإذا لم يردوه إلى أصحابه كانت المصلحة بيعه ؛ لأن حبسه حتى يفسد ضرر لا يأمر به الشارع، ولو بيع المال بغير إذن صاحبه كان بيعه موقوفا على إجازة المالك عند أكثر العلماء. وما باعه ولاة الأمر فلهم من الولاية على الأموال المجهولة التي قبضها نوابهم ما ليس لغيرهم، وقد تعذر بعد القبض معرفة مالك كل رأس، والمصلحة بيعها، وقسمة الأثمان بين المستحقين، فإن باعوها ولم يقسموا أثمانها لم يكن على المشتري إثم، وإنما الإثم على من يمنع أصحابها أثمانها. كما لو باع ولي اليتيم، وناظر الوقف، وولي بيت المال، ولم يصرف الثمن إلى المستحقين، فالإثم عليه، لا على الذي اشتري منه.
ثم الذين اشتروها وإن كان الشراء فاسدًا أخذت منهم أثمانها، فهم يستحقون أثمانها التي أدوها، وقد نص غير واحد من العلماء كأحمد وغيره على أن من اشتري شيئا، فظهر له أنه مغصوب، ولم يعرف مالكه، فإن له أن يبيعه ويأخذ ثمنه، ولكن يتصدق بالربح.
والطباخون الذين اشتروا الرؤوس، وقد تعذر ردها، لهم أن يبيعوها، ويأخذوا نظير أثمانها، إن لم يكن البيع الأول صحيحًا، وحينئذ فيكون الشراء صحيحًا، وقد أجازوا البيع فيجوز على قول أكثر العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
فهذه عدة مآخذ يحتج بها من يجوز الشراء. فمن اشتراها واتبع هؤلاء لم ينكر عليه، ومن قامت عنده شبهة، أو اعتقد التحريم فامتنع من شرائها لم ينكر عليه. ولا يمكن القطع بتحريم مثل هذا؛ فإن كثيرًا لابد للمسلمين منه، هو من هذا الباب، يحتجر عليه ولاة الأمور، يبيعونه للناس. ولا يمكن الناس أخذه إلا من أولئك. ومن هذا ما يكون من المباحات؛ كالملح، والأطرون، وغير ذلك. ومنه ما يكون من المملوكات. كالصوف، والجلود، والشعر، كما يبيعونه من أموال من يصادرونه، والناس يحتاجون إليه. ومن ذلك ما يقبض بحق. ومنه ما يقبض بتأويل. ومنه ما يقبض ظلما محضًا، لكن جميع ذلك لا يرد إلى أصحابه، بل قد يتعذر رده إلى أصحابه؛ إما لجهلهم، وإما لعجزه عن رده إليهم. والمجهول والمعجوز عنه سقط التكليف به، وإما لإجبار المسلمين على الظلم. وعلى كل التقديرين فبيعه خير لصاحبه وللمسلمين من أن يترك فيفسد، ولا ينتفع به أحد.
وحينئذ، فإذا كان الأصلح على هذا التقدير بيعه، كان للمشتري أن يشتريه، ويكون حلالًا له، والمشتري لم يظلم أحدا؛ فإنه أدي الثمن. والمظلوم في نفس الأمر يستحق الثمن إذا كانت المصلحة له بيعه، كما يباع مال الغائب، حتى لو أن رجلا مات بمكان ليس فيه ولي أمر، فقال جمهور العلماء لرفقته ولاية قبض ذلك، وبيعه. وكذلك من عنده أموال مغصوبة، وعوار، وودائع لا يعرف أصحابها، فمذهب الجمهور مالك، وأبي حنيفة وأحمد أنها يجوز بيعها إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، ويجوز شراؤها.
وأصل هذا أن الله جل وعز بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها بحسب الإمكان، وتقديم خير الأمرين بتفويت أدناهما. والله سبحانه حرم الظلم على عباده، وأوجب العدل، فإذا قدر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه، وتحري العدل والمصلحة بحسب الإمكان. والله حرم الظلم فيما يشترك فيه الناس من المباحات، وفي الأموال المملوكة لما في ذلك من الضرر على المستحقين.
فلو قيل: إن هذه الأموال لا تشتري، وأنه لا يحل لأحد أن ينتفع بملح ولا جلود ولا رؤوس ولا شعور ولا أصواف وغير ذلك مما يباع على هذا الوجه؛ كان المنع من ذلك من أعظم ضرر على المسلمين، وفساد في الدين والدنيا، من أن يقال: بل حق المظلوم عند الظالم الذي قبض ثمنها، والمشتري اشتراها بحق، فتحل له، فإنه إذا قيل هذا كان فيه جبر حق المظلوم بإحالته على الظالم، وجبر حق عموم الخلق بتمكينهم من الانتفاع بها بالأثمان، لا سيما وقد عرف أن أصحاب تلك الرؤوس ونحوها في نفس الأمر لا يكرهون بيعها، إذ لا مصلحة لهم في إفسادها، فإذا بيعت فقد فعل ما يختارون فعله، وما يرضونه، لكنهم لايرضون أن تؤخذ أثمانها منهم، بل يرضون أن تدفع إليهم الأثمان. وحينئذ فهم راضون بقبض المشتري لها، وانتفاعهم بها، ولكن لا يرضون عمن باعها إلا بأن يعطيهم الثمن، فيكون هو وحده ظلمهم، لم يظلمهم المشتري، فتكون له حلالًا. والكلام في هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع.
ونكتة المنع أن المحرم لها يقول: بيعت بغير إذن، ولا وكالة، ولا ولاية. وهذا ممنوع، بل يقال: هم يرضون بيعها، وقد أذنوا في ذلك ؛ولكن لم يرضوا أن تؤخذ الأثمان، كما لو قدر أن شخصًا أذن لشخص فباع، وأخذ الثمن لنفسه، فالمالك راض بالبيع، دون قبضه الثمن له. ولو قدر أن المالك لم يأذن في البيع فمصلحته في الشرع تقتضي أن يباع، فهذا خير له من أن يفسد، ولا يمكن أن يباع إلا على هذا الوجه، وأن يباع ويقبض الثمن كائنا من كان خير من أن يفسد؛ فإنه حينئذ يمكن مطالبة البائع بالثمن مع انتفاع الناس بها، وهو خير من مطالبة الغاصب بالقيمة مع فسادها. والكلام في مثل هذا يطول. والله أعلم بالصواب.
سئل عن معاملة الذين غالب أموالهم حرام
[عدل]وسئل رحمه الله عن الذين غالب أموالهم حرام، مثل المكاسين، وأكلة الربا، وأشباههم. ومثل أصحاب الحرف المحرمة كمصوري الصور، والمنجمين، ومثل عوان الولاة، فهل يحل أخذ طعامهم بالمعاملة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كان في أموالهم حلال وحرام، ففي معاملتهم شبهة، لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم إعطاؤه. ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال، فإن كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب. قيل بحل المعاملة. وقيل: بل هي محرمة. فأما المعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال؛ إلا أن يعرف الكره من وجه آخر. وذلك أنه إذا باع ألفا بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط، وإذا كان في ماله حلال وحرام واختلط لم يحرم الحلال، بل له أن يأخذ قدر الحلال، كما لو كان المال لشريكين فاختلط مال أحدهما بمال الآخر، فإنه يقسم بين الشريكين.
وكذلك من اختلط بماله الحلال والحرام، أخرج قدر الحرام، والباقي حلال له. والله أعلم.
سئل عما يأكله رؤساء القري وشيوخ الحارات
[عدل]وسئل عما يأكله رؤساء القري، وشيوخ الحارات، هل هو حلال أم لا؟
فأجاب:
إذا كان الرئيس يظلم الناس، فما يأخذه ظلمًا من الناس فهو حرام. وما كان ملكًا له أو مكتسبًا بطريق شرعي، فهو مباح. وشيخ الحارة إذا أخذ أجرته على الحراسة بالمعروف، ولم يتعد على الناس، فأجرته حلال.
سئل عن رجل يأخذ منه رؤساء القري شيئا يضيفون به المنقطعين
[عدل]وسئل عن رجل فامي يأخذ منه رؤساء القري شيئا يضيفون به المنقطعين، وغيرهم ويجبون من المساكين والأرامل فيعطوه، هل يكون حلالا أم حراما؟
فأجاب:
إذا اشتروا منهم شيئا، وأعطوهم ثمنه من مال يعلمون أنه مغصوب أخذ من أصحابه ظلمًا لم يكن لهم أن ينتفعوا به، لكن هذا المال إذا اشتري لهم به ما يطلبونه منهم لم يكن عليهم شيء، إذا كانوا المكرهين على ذلك. فينبغي لمن يتقي أن يظلم وأن يظلم أن يشتري للظلمة بأموالهم ما يطلبونه منه، لا ليظلم غيره، ولا يكون هو مظلومًا، وهو مكره على هذا العمل.
ومع هذا، فالمال الذي جمعوه من الناس، وقد تعذر رده على صاحبه، إذا أعطوه الفامي عوضا عما أخذوه منه بغير اختياره، فهو أحق به، ممن يعطاه بغير معاوضة، والظالم في الحقيقة هو الذي أخذ الأموال بغير حق، لا من أخذ عوض ماله من مال لا يعلم له مستحقًا معينًا. والله تعالى أعلم.
سئل عن معاملة التتار هل هي مباحة لمن يعاملونه
[عدل]فأجاب:
أما معاملة التتار، فيجوز فيها ما يجوز في أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم، وخيلهم، ونحو ذلك، كما يبتاع من مواشي التركمان، والأعراب، والأكراد، وخيلهم، ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك، ما يبيعه لأمثالهم.
فأما إن باعهم، وباع غيرهم، ما يعينهم به على المحرمات؛ كالخيل، والسلاح، لمن يقاتل به قتالا محرمًا، فهذا لا يجوز. قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } 98. وفي السنن عن النبي ﷺ: أنه لعن في الخمر عشرة: (لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها). فقد لعن العاصر، وهو إنما يعصر عنبًا يصير عصيرًا، والعصير حلال، يمكن أن يتخذ خلا، ودبسًا، وغير ذلك.
وإن كان الذي معهم أو مع غيرهم أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم، فتلك لا يجوز اشتراؤها لمن يتملكها، لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ لتصرف في مصارفها الشرعية، فتعاد إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين، جاز هذا.
وإذا علم أن في أموالهم شيئا محرما لا تعلم عينه، فهذا لا يحرم معاملتهم، كما إذا علم أن في السوق ما هو مغصوب، أو مسروق، ولم يعلم عينه، والحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون محرمًا لعينه؛ كالميتة، والأخت من الرضاعة. فهذا إذا اشتبه بما لا يحصر لم يحرم، مثل أن يعلم أن في البلدة الفلانية أختًا له من الرضاعة، ولا يعلم عينها، أو فيها من يبيع ميتة لا يعلم عينها، فهذا لا يحرم عليه النساء، ولا اللحم. وأما إذا اشتبهت أخته بأجنبية، أو المذكي بالميت، حرما جميعًا.
والثاني: ما حرم لكونه أخذ غصبًا، والمقبوض بعقود محرمة كالربا، والميسر، فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه، وهذا إلى مستحقه؛ مثل اللص الذي أخذ أموال الناس فخلطها، أو أخذ حنطة الناس، أو دقيقهم، فخلطه، فإنه يقسم بينهم على قدر الحقوق.
وإذا علم أن في البلد شيئا من هذا لا يعلم عينه، لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد، لكن إذا كان أكثر مال الرجل حرامًا هل تحرم معاملته؟ أو تكره؟ على وجهين، وإن كان الغالب على ماله الحلال لم تحرم معاملته، لكن قد قيل: إنه من المشتبه الذي يستحب تركه. والله أعلم.
فصل المحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم
[عدل]وقال:
قد ذكرت في غير موضع: أن المحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم، إما في حق الله تعالى، وإما في حق العبد، وإما في حقوق العباد. وكل ما كان ظلمًا في حق العباد، فهو ظلم العبد لنفسه، ولا ينعكس، فجميع الذنوب تدخل في ظلم العبد نفسه.
وأول من اعترف بهذا أبو البشر، لما تلقي من ربه الكلمات، فقال: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } 99، فكان في هذه الكلمات اعترافه بذنبه، وطلبه ربه على وجه الافتقار والمغفرة والرحمة. فالمغفرة إزالة السيئات، والرحمة إنزال الخيرات. فهذا ظلم لنفسه، ليس فيه ظلم لغيره. وقال موسي عليه السلام لما ذكر الذي هو من عدوه: { فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } 100، فاعترف بظلمه نفسه فيما كان من جناية على غيره لم يؤمر بها. وقال يونس عليه السلام: { أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } 101، وفي الصحيح الدعاء الذي علمه النبي ﷺ أبا بكر أن يدعو به في صلاته: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، فهذا الدعاء مطابق لدعاء آدم في الاعتراف بظلم النفس، ومسألة المغفرة والرحمة. وكان النبي ﷺ إذا استوي على الدابة: فحمد وسبح وكبر، قال: (لا إله إلا أنت، سبحانك ظلمت نفسي، فاغفر لي) ثم يضحك. وهو محفوظ من حديث على بن أبي طالب.
وإذا كان كذلك، فالظلم نوعان: تفريط في الحق، وتعدي للحد، كما قد قررت ذلك في غير موضع؛ فإن ترك الواجب ظلم، كما أن فعل المحرم ظلم. قال النبي ﷺ: (مَطْل الغني ظلم) متفق عليه. فأخبر أن المطل وهو تأخير الوفاء ظلم، فكيف بتركه؟!
وقد قررت في غير هذا الموضع أن أداء الواجب أعظم من ترك المحرم، وأن الطاعات الوجودية أعظم من الطاعات العدمية، فيكون جنس الظلم بترك الحقوق الواجبة أعظم من جنس الظلم بتعدي الحدود.
وقررت أيضا أن الورع المشروع هو أداء الواجب، وترك المحرم، ليس هو ترك المحرم فقط، وكذلك التقوي اسم لأداء الواجبات، وترك المحرمات. كما بين الله حدها في قوله: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } 102.
ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل، أو المال من كراهة توجب تركه، ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله. مثال ذلك ما سئل عنه أحمد: عن رجل ترك مالًا فيه شبهة، وعليه دين، فسأله الوارث هل يتورع عن ذلك المال المشتبه؟ فقال له أحمد: أتترك ذمة أبيك مرتهنة؟! ذكرها أبو طالب وابن حامد. وهذا عين الفقه؛ فإن قضاء الدين واجب، والغريم حقه متعلق بالتركة، فإن لم يوف الوارث الدين، وإلا فله استيفاؤه من التركة، فلا يجوز إضاعة التركة المشتبهة إلى تعلق بها حق الغريم، ولا يجوز أيضا إضرار الميت بترك ذمته مرتهنة. ففي الإعراض عن التركة إضرار الميت، وإضرار المستحق، وهذان ظلمان محققان بترك واجبين. وأخذ المال المشتبه يجوز أن يكون فيه ضرر المظلوم. فقال أحمد للوارث: أبرئ ذمة أبيك. فهذا المال المشتبه خير من تركها مرتهنة بالإعراض. وهذا الفعل واجب على الوارث وجوب عين، إن لم يقم غيره فيه مقامه، أو وجوب كفاية، أو مستحب استح
بابا مؤكدًا، أكثر من الاستحباب في ترك الشبهة؛ لما في ذلك من المصلحة الراجحة.
وهكذا جميع الخلق عليهم واجبات؛ من نفقات أنفسهم، وأقاربهم، وقضاء ديونهم، وغير ذلك. فإذا تركوها كانوا ظالمين ظلمًا محققًا. وإذا فعلوها بشبهة لم يتحقق ظلمهم. فكيف يتورع المسلم عن ظلم محتمل بارتكاب ظلم محقق؟! ولهذا قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يحب المال: يعبد به ربه، ويؤدي به أمانته، ويصون به نفسه، ويستغني به عن الخلق. وفي السنن عن النبي ﷺ قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغارم يريد الوفاء) فذكر في هذا الحديث ما يحتاج إليه المؤمن: عفة فرجه، وتخليص رقبته، وبراءة ذمته. فأخبر أن هذه الواجبات من عبادة الله، وقضاء الديون، وصيانة النفس، والاستغناء عن الناس، لا تتمم إلا بالمال. ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن لا يحب أداء مثل هذا الواجب العظيم الذي لا يقوم الدين إلا به فلا خير فيه. فهذه جملة، ولها تفاصيل كثيرة. والله أعلم.
النهي يدل على أن المنهي عنه فساده راجح على صلاحه
[عدل]وقال رحمه الله بعد كلام سبق:
وأصل المسألة: أن النهي يدل على أن المنهي عنه فساده راجح على صلاحه، ولا يشرع التزام الفساد ممن يشرع له دفعه. وأصل هذا أن كل ما نهي الله عنه وحرمه في بعض الأحوال، وأباحه في حال أخري، فإن الحرام لا يكون صحيحًا نافذًا كالحلال، يترتب عليه الحكم، كما يترتب على الحلال، ويحصل به المقصود كما يحصل به. وهذا معني قولهم: النهي يقتضي الفساد، وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وجمهورهم.
وكثير من المتكلمين من المعتزلة، والأشعرية يخالف في هذا، لما ظن أن بعض ما نهي عنه ليس بفاسد، كالطلاق المحرم، والصلاة في الدار المغصوبة، ونحو ذلك. قال: لو كان النهي موجبًا للفساد لزم انتقاض هذه العلة، فدل على أن الفساد حصل بسبب آخر غير مطلق النهي. وهؤلاء لم يكونوا من أئمة الفقه العارفين بتفصيل أدلة الشرع. فقيل لهم: بأي شي يعرف أن العبادة فاسدة، والعقد فاسد؟ قالوا: بأن يقول الشارع: هذا صحيح، وهذا فاسد. وهؤلاء لم يعرفوا أدلة الشرع الواقعة، بل قدروا أشياء قد لا تقع، وأشياء ظنوا أنها من جنس كلام الشارع، وهذا ليس من هذا الباب. فإن الشارع لم يدل الناس قط بهذه الألفاظ التي ذكروها، ولا يوجد في كلامه شروط البيع والنكاح؛ كذا، وكذا. ولا هذه العبادة، والعقد صحيح، أو ليس بصحيح، ونحو ذلك مما جعلوه دليلا على الصحة والفساد، بل هذه كلها عبارات أحدثها من أحدثها من أهل الرأي والكلام.
وإنما الشارع دل الناس بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وبقوله في عقود: هذا لا يصلح علم أنه فساد، كما قال في بيع مدين بمد تمرًا: لا يصلح، والصحابة والتابعون وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي، كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور في القرآن، وكذلك فساد عقد الجمع بين الأختين.
ومنهم من توهم أن التحريم فيها تعارض فيه نصان، فتوقف. وقيل: إن بعضهم أباح الجمع.
وكذلك نكاح المطلقة ثلاثا استدلوا على فساده بقوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } 103.
وكذلك الصحابة استدلوا على فساد نكاح الشغار بالنهي عنه، فهو من الفساد ليس من الصلاح. فإن الله لا يحب الفساد، ويحب الصلاح. ولا ينهي عما يحبه. وإنما ينهي عما لا يحبه. فعلموا أن المنهي عنه فاسد، ليس بصالح. وإن كانت فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته، وقد علموا أن مقصود الشرع رفع الفساد، ومنعه، لا إيقاعه، والإلزام به. فلو ألزموا موجب العقود المحرمة، لكانوا مفسدين غير مصلحين، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } 104 أي: لا تعملوا بمعصية الله تعالى، فكل من عمل بمعصية الله فهو مفسد، والمحرمات معصية للّه، فالشارع ينهي عنه ليمنع الفساد، ويدفعه، ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتت فيها الصحة بنص، ولا إجماع. فالطلاق المحرم، والصلاة في الدار المغصوبة، فيهما نزاع، وليس على الصحة نص يجب اتباعه، فلم يبق مع المحتج بهما حجة.
لكن من البيوع ما نهي عنه لما فيها من ظلم أحدهما للآخر، كبيع المصراة، والمعيب وتلقي السلع، والنجش، ونحو ذلك، ولكن هذه البيوع لم يجعلها الشارع لازمة؛ كالبيوع الحلال، بل جعلها غير لازمة، والخيرة فيها إلى المظلوم، إن شاء أبطلها وإن شاء أجازها، فإن الحق في ذلك له، والشارع لم ينه عنها لحق مختص باللّه، كما نهي عن الفواحش، بل هذه إذا علم المظلوم بالحال في ابتداء العقد، مثل أن يعلم بالعيب، والتدليس والتصرية، ويعلم السعر إذا كان قادمًا بالسلعة، ويرضى بأن يغبنه المتلقي، جاز ذلك، فكذلك إذا علم بعد العقد إن رضي جاز، وإن لم يرض كان له الفسخ.
وهذا يدل على أن العقد يقع غير لازم، بل موقوفا على الإجازة، إن شاء أجازه صاحب الحق، وإن شاء رده. وهذا متفق عليه في مثل بيع المعيب، مما فيه الرضا بشرط السلامة من العيب، فإذا فقد الشرط بقي موقوفًا على الإجازة، فهو لازم إن كان على صفة وغير لازم إن كان على صفة.
وأما إذا كان غير لازم مطلقا، بل هو موقوف على رضا المجيز، فهذا فيه نزاع. وأكثر العلماء يقولون بوقف العقود، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وغيرهما، وعليه أكثر نصوص أحمد، وهو اختيار القدماء من أصحابه. كالخرقي، وغيره، كما هو مبسوط في موضعه.
إذًا المقصود هنا أن هذا النوع يحسب طائفة من الناس أنه من جملة ما نهى عنه. ثم تقول طائفة أخرى: وليس بفاسد. فالنهي يجب أن يقتضي الفساد. ويقول طائفة أخرى: بل هذا فساد. فمنهم من أفسد بيع النجش إذا نجش البائع أو واطأ. ومنهم من أفسد نكاح الخاطب إذا خطب على خطبة أخيه، وبيعه على بيعه. ومنهم من أفسد بيع المعيب المدلس. فلما عورض بالمصراة توقف. ومنهم من صحح نكاح الخاطب على خطبة أخيه مطلقًا، وبيع النجش بلا خيار.
والتحقيق: أن هذا النوع لم يكن النهي فيه لحق اللّه؛ كنكاح المحرمات، والمطلقة ثلاثًا، وبيع الربا، بل لحق الإنسان، بحيث لو علم المشتري أن صاحب السلعة ينجش. ورضي بذلك جاز. وكذلك إذا علم أن غيره ينجش. وكذلك المخطوبة متى أذن الخاطب الأول فيها جاز. ولما كان النهي هنا لحق الآدمي، لم يجعله الشارع صحيحًا لازما كالحلال، بل أثبت حق المظلوم وسلطه على الخيار. فإن شاء أمضي، وإن شاء فسخ.
فالمشتري مع النجش إن شاء رد المبيع فحصل بهذا مقصوده. وإن شاء رضي به إذا علم بالنجش. فأما كونه فاسدًا مردودًا، وإن رضي به، فهذا لا وجه له. وكذلك في الرد بالعيب، والمدلس، والمصراة. وغير ذلك.
وكذلك المخطوبة إن شاء هذا الخاطب أن يفسخ نكاح هذا المعتدي عليه ويتزوجها برضاه، فله ذلك. وإن شاء أن يمضي نكاحها فله ذلك. وهو إذا اختار فسخ نكاحها عاد الأمر إلى ما كان. إن شاءت نكحته، وإن شاءت لم تنكحه؛ إذ مقصوده حصل بفسخ نكاح الخاطب. وإذا قيل: هو غَيَّر قلب المرأة على. قيل: إن شئت عاقبناه على هذا، بأن نمنعه من نكاح تلك المرأة. فيكون هذا قصاصًا لظلمه إياك. وإن شئت عفوت عنه فأنفذنا نكاحه.
وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بآلة مغصوبة. وطبخ الطعام بحطب مغصوب. وتسخين الماء بوقود مغصوب، كل هذا إنما حرم لما فيه من ظلم الإنسان. وذلك يزول بإعطاء المظلوم حقه. فإذا أعطاه ما أخذه من منفعة ماله، أو من أعيان ماله، فأعطاه كرى الدار وثمن الحطب، وتاب هو إلى الله تعالى من فعل ما نهاه عنه، فقد برئ من حق الله وحق العبد، وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح. والطعام كالطعام بوقود مباح، والذبح بسكين مباحة. وإن لم يفعل ذلك كان لصاحب السكين أجرة ذبحه. ولا تحرم الشاة كلها لأجل هذه الشبهة.
وهذا إذا كان أكل الطعام، ولم يوفه ثمنه، كان بمنزلة من أخذ طعامًا لغيره فيه شركة، ليس فعله حرامًا ولا هو حلالًا محضًا، فإن نضج الطعام لصاحب الوقود فيه شركة.
وكذلك الصلاة يبقى عليه إثم الظلم ينقص من صلاته بقدره، ولا تبرأ ذمته، كبراءة من صلى صلاة تامة، ولا يعاقب كعقوبة من لم يصل، بل يعاقب على قدر ذنبه، وكذلك آكل الطعام يعاقب على قدر ذنبه. والله تعالى يقول: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } 105.
وإنما قيل في الصلاة في الثوب النجس وبالمكان: يعيد، بخلاف هذا؛ لأنه هناك لا سبيل له إلى براءة ذمته إلا بالإعادة، وهنا يمكنه ذاك، بأن يرد أرض المظلوم، لكن الصلاة في الثوب الحرير هي من ذلك القسم، الحق فيها للّه، لكن نهي عن ذلك في الصلاة، وفي غير الصلاة، لم ينه عنه في الصلاة فقط. وقد تنازع الفقهاء في مثل هذا.
فمنهم من يقول: النهي هنا لمعني في غير المنهي عنه، وكذلك يقولون في الصلاة في الدار المغصوبة، والثوب المغصوب، والطلاق في الحيض، والبيع وقت النداء، ونحو ذلك. وهذا الذي قالوه لا حقيقة له، فإنه إن عني بذلك أن نفس البيع اشتمل على تعطيل الصلاة، ونفس الصلاة اشتملت على الظلم، والفخر، والخيلاء، ونحو ذلك مما نهى عنه، كما اشتملت الصلاة في الثوب النجس على ملابسة الرجس الخبيث، فهذا غير صحيح. وإن أرادوا بذلك أن ذلك المعنى لا يختص بالصلاة، بل هو مشترك بين الصلاة وغيرها، فهذا صحيح؛ فإن البيع وقت النداء لم ينه عنه إلا لكونه شاغلًا عن الصلاة، وهذا موجود في غير البيع، لا يختص بالبيع.
لكن هذا الفرق لا يجيء في طلاق الحائض؛ فإنه ليس هناك معنى مشترك، وهم يقولون: إنما نهى عنه لإطالة العدة، وذلك خارج عن الطلاق. فيقال: وغير ذلك من المحرمات كذلك، إنما نهى عنها لإفضائها إلى فساد خارج عنها. فالجمع بين الأختين نهى عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم، والقطيعة أمر خارج عن النكاح. والخمر والميسر حرما، وجعلا رجسًا من عمل الشيطان؛ لأن ذلك يفضى إلى الصد عن الصلاة، وإيقاع العداوة والبغضاء، وهو أمر خارج عن الخمر والميسر. والربا حرام؛ لأن ذلك يفضى إلى أكل المال بالباطل، وذلك أمر خارج عن عقد الميسر والربا. فكل ما نهى الله عنه لابد أن يشتمل على معني فيه يوجب النهي، ولا يجوز أن ينهى عن شيء لا لمعنى فيه أصلا، بل لمعنى أجنبي عنه؛ فإن هذا من جنس عقوبة الإنسان بذنب غيره، والشرع منزه عنه، لكن في الأشياء ما ينهي عنه لسد الذريعة، فهو مجرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة؛ كالنهي عن الصلاة في أوقات النهي قبل طلوع الشمس وغروبها ونحو ذلك، وذلك لأن هذا الفعل اشتمل على مفسدة؛ لإفضائه إلى التشبه بالمشركين. وهذا معنى فيه.
ثم من هؤلاء الذين قالوا: إن النهي قد يكون لمعنى في المنهي عنه، وقد يكون لمعنى في غيره من قال: إنه قد يكون لوصف في الفعل، لا في أصله. فيدل على صحته، كالنهي عن صوم يومي العيدين، قالوا: هو منهي عنه لوصف العيدين؛ لا لجنس الصوم؛ فإذا صام صح؛ لأنه سماه صومًا.
فيقال لهم: وكذلك الصوم في أيام الحيض، وكذلك الصلاة بلا طهارة، وإلى غير القبلة جنس مشروع؛ وإنما النهي لوصف خاص وهو الحيض، والحدث، واستقبال غير القبلة. ولا يعرف بين هذا وهذا فرق معقول له تأثير في الشرع؛ فإنه إذا قيل: الحيض والحدث صفة في الحائض والمحدث، وذلك صفة في الزمان. قيل: والصفة في محل الفعل زمانه ومكانه كالصفة في فاعله؛ فإنه لو وقف بعرفة في غير وقتها، أو غير عرفة لم يصح، وهو صفة في الزمان، والمكان. وكذلك لو رمي الجمار في غير أيام منى، أو المرمي، وهو صفة في الزمان والمكان. واستقبال غير القبلة هو لصفة في الجهة لا فيه، ولا يجوز، ولو صام بالليل لم يصح، وإن كان هذا زمانًا.
فإذا قيل: الليل ليس بمحل للصوم شرعا. قيل: ويوم العيد ليس بمحل للصوم شرعا، كما أن زمان الحيض ليس بمحل للصوم شرعا، فالفرق لابد أن يكون فرقا شرعيا، فيكون معقولا، ويكون الشارع قد جعله مؤثرًا في الحكم، بحيث علق به الحل أو الحرمة، الذي يختص بأحد الفعلين.
وكثير من الناس يتكلم بفروق لا حقيقة لها، ولا تأثير له في الشرع، أو يمنع تأثيره في الأصل. وذلك أنه قد يذكر وصفًا يجمع به بين الأصل والفرع، ولا يكون ذلك الوصف مشتركا بينهما، بل قد يكون منفيًا عنهما، أو عن أحدهما.
وكذلك المفرق قد يفرق بوصف يدعي انتقاضه بإحدي الصورتين، وليس هو مختصًا بها، بل هو مشترك بينها، وبين الأخري، كقولهم: النهي لمعنى في المنهي عنه، وذلك لمعنى في غيره، أو ذاك لمعنى في وصفه دون أصله. ولكن قد يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة والعقد، وقد يكون لمعنى مشترك بينها وبين غيرها، كما ينهي المحرم عما يختص بالإحرام؛ مثل حلق الرأس، ولبس العمامة، وغير ذلك من الثياب المنهي عنها، وينهي عن نكاح امرأته، وينهي عن صيد البر، وينهي مع ذلك عن الزنا، والظلم للناس فيما ملكوه من الصيد.
وحينئذ، فالنهي لمعنى مشترك أعظم؛ ولهذا لو قتل المحرم صيدًا مملوكًا، وجب عليه الجزاء لحق اللّه، ووجب عليه البدل لحق المالك. ولو زنا لأفسد إحرامه، كما يفسد بنكاح امرأته، ويستحق حد الزنا مع ذلك. وعلى هذا، فمن لبس في الصلاة ما يحرم فيها، وفي غيرها، كالثياب التي فيها خيلاء وفخر؛ كالمسبلة، والحرير، كان أحق ببطلان الصلاة من الثوب النجس، وفي الحديث الذي في السنن: (إن الله لا يقبل صلاة مُسْبِل). والثوب النجس فيه نزاع، وفي قدر النجاسة نزاع، والصلاة في الحرير للرجال من غير حاجة حرام بالنص والإجماع.
وكذلك البيع بعد النداء، إذا كان قد نهي عنه وغيره يشغل عن الجمعة، كان ذلك أوكد في النهي، وكل ما شغل عنها فهو شر وفساد لا خير فيه.
والملك الحاصل بذلك كالملك الذي لم يحصل إلا بمعصية اللّه، وغضبه، ومخالفته، كالذي لا يحصل إلا بغير ذلك من المعاصي؛ مثل الكفر والسحر والكهانة والفاحشة، وقد قال النبي ﷺ: (حُلْوان الكاهن خبيث، ومَهْر البغِي خبيث)، فإذا كانت السلعة لا تملك إن لم تترك الصلاة المفروضة، كان حصول الملك بسبب ترك الصلاة، كما أن حصول الحلوان والمهر بالكهانة والبغاء؛ وكما لو قيل له: إن تركت الصلاة اليوم أعطيناك عشرة دراهم. فإن ما يأخذه على ترك الصلاة خبيث، كذلك ما يملك بالمعاوضة على ترك الصلاة خبيث. ولو استأجر أجيرًا بشرط ألا يصلي، كان هذا الشرط باطلا، وكان ما يأخذه عن العمل الذي يعمله بمقدار الصلاة خبيثًا، مع أن جنس العمل بالأجرة جائز، كذلك جنس المعاوضة جائز، لكن بشرط ألا يتعدي عن فرائض اللّه.
وإذا حصل البيع في هذا الوقت وتعذر الرد، فله نظير ثمنه الذي أداه، ويتصدق بالربح، والبائع له نظير سلعته، ويتصدق بالربح، إن كان قد ربح، ولو تراضيا بذلك بعد الصلاة لم ينفع؛ فإن النهي هنا لحق الله تعالى، فهو كما لو تراضيا بمهر البغي، وهناك يتصدق به على أصح القولين، لا يعطي للزاني. وكذلك في الخمر، ونحو ذلك مما أخد صاحبه منفعة محرمة، فلا يجمع له العوض والمعوض؛ فإن ذلك أعظم إثمًا من بيعه.
وإذا كان لا يحل أن يباع الخمر بالثمن، فكيف إذا أعطي الخمر وأعطي الثمن؟! وإذا كان لا يحل للزاني أن يزني وإن أعطي، فكيف إذا أعطي المال والزنا جميعا؟! بل يجب إخراج هذا المال كسائر أموال المصالح المشتركة، فكذلك هنا إذا كان قد باع السلعة وقت النداء بربح، وأخذ سلعته، فإن فاتت تصدق بالربح، ولم يعطه للمشتري، فيكون أعانه على الشراء. والمشتري يأخذ ثمنه، ويعيد السلعة، فإن باعها بربح تصدق به، ولم يعطه للبائع فيكون قد جمع له بين ربحين.
وقد تنازع الفقهاء في المقبوض بالعقد الفاسد، هل يملك؟ أو لا يملك؟ أو يفرق بين أن يفوت أو لا يفوت، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. والله أعلم.
سئل عن الرجل يشتري سلعة بمال حلال ولم يعلم أصل السلعة
[عدل]وسئل عن الرجل يشتري سلعة بمال حلال، ولم يعلم أصل السلعة، هل هو حرام أو حلال؟ ثم كانت حرامًا في الباطن، هل يأثم أم لا ؟
فأجاب:
متى اعتقد المشتري أن الذي مع البائع ملكه، فاشتراه منه على الظاهر، لم يكن عليه إثم في ذلك. وإن كان في الباطن قد سرقه البائع، لم يكن على المشتري إثم، ولا عقوبة، لا في الدنيا، ولا في الاخرة. والضمان والدرك على الذي غره وباعه. وإذا ظهر صاحب السلعة فيما بعد ردت إليه سلعته، ورد على المشتري ثمنه، وعوقب البائع الظالم، فمن فرق بين من يعلم ومن لا يعلم فقد أصاب، ومن لا، أخطأ. والله أعلم.
فصل في شق ظروف الخمر وكسر دنانها
[عدل]وقال رحمه اللّه:
حديث النبي ﷺ: لما (أمرهم بشق ظروف الخمر، وكسر دِنَانها) دليل على إحدى الروايتين في جواز إتلاف ذلك عند الإنكار، وأن الظرف يتبع المظروف. ومثله ما ثبت عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب: أنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وقد نص أحمد على ذلك. ومثله إتلاف الآلة التي يقوم بها صورة التاليف المحرم، وهي آلات اللهو؛ فإن هذه العقوبات المالية ثابتة بالسنة وسيرة الخلفاء. ومن قال: إنها منسوخة فما معه دليل على ذلك.
وقد احتج بعضهم: بأنه ﷺ لما بلغه أنهم قد طبخوا لحوم الحمر. قال لهم: (أريقوها، واكسروا القدور). قالوا: أفلا نريقها، ونغسل القدور؟ قال: (افعلوا) قالوا: فلعلهم لو استأذنوه في أوعية الخمر، لقال ذلك. فأجيب بجوابين:
أحدهما: أن دفع الشريعة بمثل هذه التقديرات لا تجوز، فإنا إذا سوغنا فيما أمر به أو نهي عنه أنه لو روجع لنسخ ذلك: لجاز رفع كثير من الشريعة بمثل هذه الخيالات. مثل أن يقال: لو روجع الرب في نقص الصلاة عن خمس لنقصها، ولو، ولو.. ويقال: هذا باطل من وجهين:
أحدهما: أنا لا نعلم أنه لو روجع لفعل، وثبوت ذلك في صورة لا يوجب ثباته في سائر الصور، إلا بتقدير المساواة من كل وجه، وانتفاء الموانع، وهذا غير معلوم.
الثاني: أنه لو فرض أنه لو كان لكان، لكن لم يكن، وإذا كان النسخ معلقًا بسؤالهم، ولم يسألوا لم يقع النسخ. كما أن ابتداء الإيجاب والتحريم قد يكون معلقًا بسؤالهم، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } 106.
وقال ﷺ: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم)، وقال: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته). وقال في الحج لما سألوه: أفي كل عام؟ فقال: (لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما قمتم به)، وقال في قيام رمضان: (إنما منعني أن أخرج إليكم خشية أن يفترض عليكم، فلا تقوموا). فقد بين النبي ﷺ أن السؤال والعمل قد يكون سببًا لابتداء الحكم من وجوب أو تحريم. ثم إذا لم يكن السبب فلم يكن الوجوب والتحريم، لم يثبت بعد موته ﷺ، وكذلك قد يكون سببًا لرفع حكم من وجوب أو تحريم، ثم إذا لم يوجد السبب لم يرتفع الحكم بعد موته.
وليس من هذا قول عائشة: لو رأي رسول الله ﷺ ما صنع النساء بعده لمنعهن المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل. فإن عائشة كانت أتقي للّه من أن تسوغ رفع الشريعة بعد موته، وإنما أرادت أن النبي ﷺ لو رأي مافي خروج بعض النساء من الفساد لمنعهن الخروج، تريد بذلك أن قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد اللّه) وإن كان مخرجه على العموم، فهو مخصوص بالخروج الذي فيه فساد، كما قال أكثر الفقهاء: إن الشواب التي في خروجهن فساد يمنعهن. فقصد بذلك تخصيص اللفظ الذي ظاهره أنها علمت من حال النبي ﷺ، أنه لا يأذن في مثل هذا الخروج، لا أنها قصدت منع النساء مطلقًا، فإنه ليس كل النساء أحدثن، وإنما قصدت منع المحدثات.
الجواب الثاني: أن هذا الحديث الوارد في أوعية لحوم الحمر، حجة أيضًا في المسألة، فإنه أمر أولًا بتكسير الأوعية، ثم لما استأذنوه في الغسل أذن فيه، فعلم بذلك أن الكسر لا يجب، وليس فيه أنه لا يجوز، بل يقال: يجوز الأمران، الكسر والغسل.
وكذلك يقال في أوعية الخمر: إنه يجوز إتلافها، ويجوز تطهيرها، فإذا كان الأصلح الإتلاف أتلفت، ولو أن صاحب أوعية الخمرة والملاهي طهر الأوعية، وغسل الآلات لجاز بالاتفاق، لكن إذا أظهر المنكر حتى أنكر عليه فإنه يستحق العقوبة بالإتلاف.
والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا علموا التحريم فأسقط عنهم الإتلاف لذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل يتجر في الأقباع
[عدل]وسئل عن رجل يتجر في الأقباع: هل يجوز له بيع القبع المرعزي، وشراؤه، والاكتساب منه، وما يجري مجراه من الحرير الصامت؟ أو يحرم عليه لكون القبع لبس الرجال دون النساء؟ وهل يجوز للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ، أو إليهود والنصاري، ومن يجري مجراهم؟ أو يحرم جميع ذلك؟ وهل يجوز لمن يتجر في هذا الصنف وغيره أن يبيع لأهل البادية، والنساء والصبيان، ممن يجهل القيمة ما ثمنه درهم بدرهمين، أو قريب منها، مع علمه أن الذي يشتريه لو احتاج إلى ثمنه في بقية يومه لم يصل إلى الدرهم الذي هو أصل ثمنه، بل أقل منه، أو يحرم عليه ذلك؟ وما القدر الذي يجوز من الكسب فيما يباع مساومة، وهل هو الثلث، أو أقل منه، أو أكثر ؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما أقباع الحرير، فيحرم لبسها على الرجال والنساء، أما على الرجال فلأنها حرير، ولبس الحرير حرام على الرجال بسنة رسول الله ﷺ، وإجماع العلماء، وإن كان مبطنا بقطن أو كتان.
وأما على النساء؛ فلأن الأقباع من لباس الرجال، وقد لعن النبي ﷺ المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء.
وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا، ففيه قولان مشهوران للعلماء، لكن أظهرهما أنه لا يجوز؛ فإن ما حرم على الرجال فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، بل عليه أن يأمره بالصلاة، إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشرًا، فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات. وقد رأي عمر بن الخطاب على صبي للزبير ثوبًا من حرير فمزقه، وقال: لا تلبسوهم الحرير. وكذلك ابن عمر مزق ثوب حرير كان على ابنه، وما حرم لبسه لم تحل صناعته، ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم. ولا فرق في ذلك بين الجند وغيرهم.
فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه، فإن ذلك إعانة على الإثم والعدوان، وهذه مثل الإعانة على الفواحش، ونحوها. وكذلك لا يباع الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم. وأما إذا بيع الحرير للنساء فيجوز. وكذلك إذا بيع لكافر؛ فإن عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبي ﷺ إلى رجل مشرك.
وأما البيع فلا يجوز أن يباع لمسترسل إلا بالسعر الذي يباع به غيره، لا يجوز لأحد استرساله أن يغبن من الربح غبنًا يخرج عن العادة. وقدر ذلك بعض العلماء بالثلث، وآخرون بالسدس، وبعضهم قالوا: يرجع في ذلك إلى عادة الناس مما جرت به عادتهم من الربح على المماكسين ما يربحونه على المسترسل. والمسترسل قد فسر بأنه الذي لا يماكس، بل يقول: خذ وأعطني. وبأنه الجاهل بقيمة المبيع، فلا يغبن غبنًا فاحشًا، لا هذا، ولا هذا. وفي الحديث (غبن المسترسل رِبًا). ومن علم أنه يغبنهم استحق العقوبة؛ بل يمنع من الجلوس في سوق المسلمين، حتى يلزم طاعة الله ورسوله، وللمغبون أن يفسخ البيع، فيرد عليه السلعة، ويأخذ منه الثمن. وإذا تاب هذا الغابن الظالم، ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم، فليتصدق بمقدار ما ظلمهم عنهم؛ لتبرأ ذمته من ذلك.
وبيع المساومة إذا كان مع أهل الخبرة بالأسعار التي يشترون بها السلع في غالب الأوقات، فإنهم يباع غيرهم كما يباعون، فلا يربح على المسترسل أكثر من غيره.
وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص، ينبغي له أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر؛ فإن في السنن: أن النبي ﷺ نهي عن بيع المضطر. ولو كانت الضرورة إلى مالا بد منه؛ مثل أن يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس؛ فإنه يجب عليه ألا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة بغير اختياره، ولا يعطوه زيادة على ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل باع قمحا بثمن مؤجل
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل باع قمحًا بثمن مؤجل، فلما حل الأجل لم يكن عند المدين إلا قمحًا، فهل له أن يأخذ منه قمحًا ؟
فأجاب:
نعم، يجوز له أن يأخذ منه قمحًا، وليس ذلك ربًا عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد. وإذا كان أخذ القمح أرفق بالمدين من أن يكلفه بيعه وإعطاء الدراهم، فالأفضل للغريم أخذ القمح. والله أعلم.
سئل عن رجل اشترى غلة بدرهم معين إلى أجل
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل اشترى غلة بدرهم معين إلى أجل، وعند نهاية الأجل قصد صاحب الدين أخذ ماله، فلم يجد شيئًا إلا غلة قيمتها بالسعر في ذلك الوقت، وتعينت بالدراهم عن براءة الذمة، فهل يجوز لصاحب الدين أن يأخذ الغلة بالسعر الواقع؟
فأجاب:
هذه المسألة فيها قولان، مثل أن يبيع حنطة إلى أجل، ثم يأخذ عن الثمن حنطة، فعند مالك وأحمد لا يصح هذا؛ وعند أبي حنيفة والشافعي لا بأس به، وهو قول بعض أصحاب أحمد.
سئل عن رجل له في ذمة رجل دين
[عدل]وسئل عن رجل له في ذمة رجل دين، وللمديون ولد، فقال ولد المديون لرب الدين: بعني سلعة إلى أجل، وأنا أبيعها بالدراهم الحاضرة، ويوفي ما على والده؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا كان مقصود المشتري الدراهم، وغرضه أن يشتري السلعة إلى أجل ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذه تسمي مسألة التورق لأن غرضه الورق لا السلعة. وقد اختلف العلماء في كراهته، فكرهه عمر بن عبد العزيز، وطائفة من أهل المدينة، من المالكية، وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه آخرون، والأقوي كراهته.
سئل عن الرجل عليه دين
[عدل]وسئل رحمه الله عن الرجل عليه دين، ويحتاج إلى بضاعة أو حيوان؛ لينتفع به، أو يتجر فيه، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب منه أن يشتريه، ثم يدينه منه إلى أجل ؟ وهل له أن يوكله في شرائه ثم يبيعه بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء ؟
فأجاب:
من كان عليه دين، فإن كان موسرًا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عيه بمعاملة ولا غيرها.
وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان قصد المشتري الانتفاع بالسلعة، والتجارة فيها جاز، إذا كان على الوجه المباح. وأما إن كان مقصوده الدراهم فيشتري بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء. وهذا يسمي التورق قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: التورق أخية الربا.
سئل عمن طلب من إنسان سلعة تساوي خمسة عشر
[عدل]وسئل عمن طلب من إنسان سلعة تساوي خمسة عشر، قال: إنه ما يعطي إلا بثمانية وعشرين، فهل يجوز للآخذ أن يأخذ مع علمه بالزيادة ؟
فأجاب:
إن كان المشتري محتاجًا إلى الدراهم، فاشتراها ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذا يسمي التورق وإن كان المشتري غرضه أخذ الورق، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء، كما قال عمر بن عبد العزيز: التورق أخية الربا. وقال ابن عباس: إذا قومت بنقد، ثم بعت بنسيئة: فتلك دراهم بدراهم، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد.
سئل عن تاجرين عرضت عليهما سلعة للبيع فرغب في شرائها كل واحد منهما
[عدل]وسئل عن تاجرين عرضت عليهما سلعة للبيع، فرغب في شرائها كل واحد منهما، فقال أحدهما للآخر: أشتريها شركة بيني وبينك، وكانت نيته ألا يزيد عليه في ثمنها، وينفرد فيها، فرغب في الشركة لأجل ذلك، فاشتراها أحدهما، ودفع ثمنها من مالهما على السوية، فهل يصح هذا البيع والحالة هذه؟ أو يكون في ذلك دلسة على بائعها، والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما إذا كان في السوق من يزايدهما، ولكن أحدهما ترك مزايدة صاحبه خاصة لأجل مشاركته له، فهذا لا يحرم؛ فإن باب المزايدة مفتوح، وإنما ترك أحدهما مزايدة الآخر، بخلاف ما إذا اتفق أهل السوق على ألا يزايدوا في سلع هم محتاجون لها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها ويتقاسمونها بينهم، فإن هذا قد يضر صاحبها أكثر مما يضر تلقي السلع إذا باعها مساومة؛ فإن ذلك فيه من بخس الناس، ما لا يخفى. والله أعلم.
سئل عن سماسرة في فندق
[عدل]وسئل رحمه الله عن سماسرة في فندق، من جملتهم ثلاثة يشترون من يد بعضهم لبعض، ثم إنهم يزيدون في الشراء، ويقسمون الفائدة، فهل يجوز ذلك ؟
فأجاب:
الحمد للّه، لا يجوز للدلال الذي هو وكيل البائع في المناداة أن يكون شريكًا لمن يزيد بغير علم البائع؛ فإن هذا يكون هو الذي يزيد، ويشتري في المعنى. وهذا خيانة للبائع، ومن عمل مثل هذا لم يحب أن يزيد أحد عليه، ولم ينصح البائع في طلب الزيادة، وإنهاء المناداة.
وإذا تواطأ جماعة على ذلك، فإنهم يستحقون التعزير البليغ الذي يردعهم، وأمثالهم عن مثل هذه الخيانة، ومن تعزيرهم أن يمنعوا من المناداة. حتى تظهر توبتهم. والله أعلم.
سئل عن معسر تداين من رجل قمحا بأضعاف قيمته
[عدل]وسئل رحمه الله عن معسر تداين من رجل قمحًا بأضعاف قيمته، ولم يتغير سعره من مدة ما استدانه، وإلى أجل استحقاقه عليه أدانه إياه، ووصفه له بصفة. وذكر له أنه يساوي ستة عشر كل إردب، وكتب حجة، ووقع الاتفاق بينهما على أن كل إردب باثنين وثلاثين. باعه المديون ببينة وإشهاد باثني عشر درهم الإردب، بخلاف ما وصفه المستدين، وقد استحق الأجل. وعسر المديون في طلب ما عليه، فهل يطالب المديون بقيمة المثل؟ أو بما كتب عليه ؟ أو بقمح مثل قمحه ؟
فأجاب:
أما المعسر فلا يجوز مطالبته بما أعسر عنه، وإن كان حقًا واجبًا وجب إنظاره به. وإن كان معاملة ربوية لم يجز أن يطالب إلا برأس ماله. وبيع العين الغائبة بغير صفة بيع باطل، يجب فيه رد المبيع، أو رد بدله. ولا يستحق فيه الثمن المسمي. فكيف إذا قال: هذا يساوي الساعة كذا وكذا، وأنا أبيعكه بكذا. أكثر منه إلى أجل؟ فهذا ربا. كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا قومت نقدًا وبعت نقدًا فلا بأس، وإذا قومت نقدًا وبعت إلى أجل، فتلك دراهم بدراهم. وهذا قوم نقدًا وباع إلى أجل. وإذا كان المشتري قد فسخ البيع لفوات الصفة، ولم يمكنه رد المبيع إلى البائع بعينه، ولا حفظه بعينه عند أحد، فباعه وحفظ له ثمنه، لم يجب عليه غير ذلك الثمن. إذا كان قد باعه بثمن مثله. والله أعلم.
سئل عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله
[عدل]وسئل عن رجل مراب خلَّف مالًا وولدًا، وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالًا للولد بالميراث أم لا ؟
فأجاب:
أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه؛ إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به. والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه. إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال. وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء، جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما، جعل ذلك نصفين.
سئل عن رجل يختلط ماله الحلال بالحرام
[عدل]وسئل عن رجل يختلط ماله الحلال بالحرام ؟
فأجاب:
يخرج قدر الحرام بالميزان، فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له. وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته، تصدق به عنه.
سئل عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا
[عدل]وسئل رحمه الله عن امرأة كانت مغنية، واكتسبت في جهلها مالًا كثيرًا، وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة اللّه، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره؛ إذا أكلت، وتصدقت منه، تؤجر عليه ؟
فأجاب:
المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد. مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرًا، أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها. فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله.
وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة؛ كمهر البغي، وثمن الخمر، فهنا لا يقضى له به قبل القبض. ولو أعطاه إياه لم يحكم برده؛ فإن هذا معونة لهم على المعاصي، إذا جمع لهم بين العوض والمعوض. ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين.
فإن تابت هذه البغي، وهذا الخمار، وكانوا فقراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر، أو يعمل صنعة؛ كالنسج والغزل، أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئًا ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.
وأما إذا تصدق به لاعتقاده أن يحل، عليه أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله إن الله لا يقبل إلا الطيب فهذا خبيث، كما قال النبي ﷺ: (مَهر البغي خبيث).
سئل عن الجهات بالزكاة والضمان بالأسواق
[عدل]وسئل عن الجهات بالزكاة، والضمان بالأسواق، وغيرها، إذا أجراهم السلطان في أقطاع الجند: حلال أم حرام ؟
فأجاب:
أما إذا كان الرجل محتاجًا والجهة فيها حلال وحرام، أو فيها شبهة، فينبغي لصاحبها إذا أخذها ولابد أن يصرفها في الأمور البرانية، مثل علف دابته، والكلف السلطانية، ونحو ذلك.
وإذا تصدق بها على الفقراء، أو نوي الصدقة بها عمن يستحقها، كان ذلك حسنًا. والله أعلم.
سئل عن رجل له إقطاع بالأُطرون
[عدل]وسئل عن رجل له إقطاع بالأُطرون، وكان عادة المسلمين أن يشتري الأطرون الصعاليك، ويبيعوه كل رطل بثلاثة فلوس، ولما كان زمان بيبرس جاء شخص ضمن الأطرون ألا يبيع أحد ولا يشتري إلا من تحت يد الضامن بثلاثة وعشرين درهما القنطار، فهل هو حلال أم حرام ؟
فأجاب:
من كان الأطرون قد أخذه بحق لم يجز لأحد أن يكره أحدًا على الشراء منه، ولا يمنعه أن يشتري من غيره، بل إذا أخذه بحق وباعه كما تباع سلع المسلمين بذلك جاز.
سئل عن رجل نقل عن بعض السلف أنه قال أكل الحلال متعذر
[عدل]وسئل الشيخ الإمام العَالم العَامِل شيخ الإسلام، وقطب الأئمة الأعلام، ومن عمت بركاته أهل العراقين والشام، تقي الدين أبوالعباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، متع الله المسلمين ببركاته، وكان بالديار المصرية عن رجل نقل عن بعض السلف من الفقهاء أنه قال: أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان. فقيل له: لم ذلك ؟ فذكر أن وقعة المنصورة لم تقسم الغنائم فيها، واختلطت الأموال بالمعاملات بها. فقيل له: إن الرجل يؤجر نفسه لعمل من الأعمال المباحة، ويأخذ أجرته حلال. فذكر أن الدرهم في نفسه حرام. فقيل له: كيف قبل الدرهم التغير أولًا. فصار حرامًا بالسبب الممنوع، ولم يقبل التغير فيكون حلالًا بالسبب المشروع، فما الحكم في ذلك؟
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد للّه، هذا القائل الذي قال: أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان، غالط، مخطئ في قوله، باتفاق أئمة الإسلام؛ فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل البدع، وبعض أهل الفقه الفاسد، وبعض أهل النسك الفاسد، فأنكر الأئمة ذلك، حتى الإمام أحمد، في ورعه المشهور، كان ينكر مثل هذه المقالة. وجاء رجل من النساك فذكر له شيئا من هذا، فقال: انظر إلى هذا الخبيث، يحرم أموال المسلمين.
وقال: بلغني أن بعض هؤلاء يقول: من سرق لم تقطع يده؛ لأن المال ليس بمعصوم، ومثل هذا كان يقوله بعض المنتسبين إلى العلم من أهل العصر، بناء على هذه الشبهة الفاسدة، وهو أن الحرام قد غلب على الأموال، لكثرة الغصوب، والعقود الفاسدة، ولم يتميز الحلال من الحرام.
ووقعت هذه الشبهة عند طائفة من مصنفي الفقهاء، فأفتوا بأن الإنسان لا يتناول إلا مقدار الضرورة، وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع. فصاروا نوعين:
المباحية لا يميزون بين الحلال والحرام، بل الحلال ما حل بأيديهم والحرام ما حرموه؛ لأنهم ظنوا مثل هذا الظن الفاسد، وهو أن الحرام قد طبق الأرض، ورأوا أنه لابد للإنسان من الطعام والكسوة، فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكن. فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد، كيف أورث الانحلال عن دين الإسلام ؟!
وهؤلاء يحكون في الورع الفاسد حكايات، بعضها كذب ممن نقل عنه، وبعضها غلط. كما يحكون عن الإمام أحمد: أن ابنه صالحًا لما تولي القضاء لم يكن يخبز في داره، وأن أهله خبزوا في تنوره فلم يأكل الخبز، فألقوه في دجلة، فلم يكن يأكل من صيد دجلة. وهذا من أعظم الكذب والفرية على مثل هذا الإمام، ولا يفعل مثل هذا إلا من هو من أجهل الناس، أو أعظمهم مكرًا بالناس، واحتيالا على أموالهم، وقد نزهه الله عن هذا، وهذا. وكل عالم يعلم أن ابنه لم يتول القضاء في حياته، وإنما تولاه بعد موته، ولكن كان الخليفة المتوكل قد أجاز أولاده، وأهل بيته جوائز من بيت المال، فأمرهم أبو عبد الله ألا يقبلوا جوائز السلطان، فاعتذروا إليه بالحاجة، فقبلها من قبلها منهم، فترك الأكل من أموالهم، والانتفاع بنيرانهم في خبز أو ماء؛ لكونهم قبلوا جوائز السلطان. وسألوه عن هذا المال: أحرام هو ؟ فقال: لا. فقالوا: أنحج منه؟ فقال: نعم، وبين لهم أنه إنما امتنع منه؛ لئلا يصير ذلك سببًا إلى أن يداخل الخليفة فيما يريد، كما قال النبي ﷺ: (خذ العطاء ما كان عطاء، فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا يأخذه)، ولو ألقي في دجلة الدم والميتة ولحم الخنزير، وكل حرام في الوجود، لم يحرم صيدها، ولم تحرم.
ومن الناس من آل به الإفراط في الورع إلى أمر اجتهد فيه، فيثاب على حسن قصده، وإن كان المشروع خلاف ما فعله، مثل من امتنع من أكل مافي الأسواق، ولم يأكل إلا ما ينبت في البراري، ولم يأكل من أموال المسلمين، وإنما يأكل من أموال أهل الحرث، وأمثال ذلك مما يكون فاعله حسن القصد، وله فيما فعل تأويل، لكن الصواب المشروع خلاف ذلك؛ فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بذلك، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } 107، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } 108، ثم ذكر الرجل يُطِيل السَّفَر أشْعَث أغْبَر، يمد يده إلى السماء: يارب، يارب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّي يستجاب لذلك)، فقد بين ﷺ أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، من أكل الطيبات، كما أمرهم بالعمل الصالح، والعمل الصالح لا يمكن إلا بأكل وشرب ولباس وما يحتاج إليه العبد من مسكن ومركب وسلاح يقاتل به، وكراع يقاتل عليه، وكتب يتعلم منها، وأمثال ذلك مما لا يقوم ما أمر الله به إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
فإذا كان القيام بالواجبات فرضًا على جميع العباد، وهي لا تتم إلا بهذه الأموال، فكيف يقال: إنه قليل، بل هو كثير غالب، بل هو الغالب على أموال الناس. ولو كان الحرام هو الأغلب، والدين لا يقوم في الجمهور إلا به، للزم أحد أمرين: إما ترك الواجبات من أكثر الخلق، وإما إباحة الحرام لأكثر الخلق، وكلاهما باطل.
فائدة في الورع وأصوله
[عدل]والورع من قواعد الدين، ففي الصحيح عن عثمان بن بشير، عن النبي ﷺ أنه قال: (الحلال بَيِّن، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لعِرّضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعي حول الحِمَي يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمي، ألا وإن حمي الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب).
وفي الحديث الآخر: (دع ما يَرِيبُك إلا ما لا يريبك) ورأي تمرة ساقطة فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها). وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وهذا يتبين بذكر أصول:
أحدها: أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك. وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول. ومن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين، أو استفتي فقهيًا معينًا، أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك، وهذا غلط، ولهذا نظائر.
منها: مسألة المغانم، فإن السنة أن تجمع وتخمس، وتقسم بين الغانمين بالعدل. وهل يجوز للإمام أن ينفل من أربعة أخماسها؟ فيه قولان. فمذهب فقهاء الثغور، وأبي حنيفة وأحمد، وأهل الحديث، أن ذلك يجوز، لما في السنن: أن النبي ﷺ نفل في بدأته الربع بعد الخمس، ونفل في رجعته الثلث بعد الخمس. وقال سعيد بن المسيب، ومالك، والشافعي: لا يجوز ذلك، بل يجوز عند مالك التنفيل من الخمس، ولا يجوز عند الشافعي إلا من خمس الخمس. وكان أحمد يعجب من سعيد بن المسيب، ومالك، كيف لم تبلغهما هذه السنة مع وفور علمهما ؟!.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية قبل نجد، فبلغت سهامنا اثنا عشر بعيرًا، ونفلنا بعيًرا بعيًرا. ومعلوم أن السهم إذا كان اثني عشر بعيرًا لم يحتمل خمس الخمس أن يخرج منه لكل واحد بعير؛ فإن ذلك لا يكون إلا إذا كان السهم أربعة وعشرين بعيرًا. وكذلك إذا فضل الإمام بعض الغانمين على بعض لمصلحة راجحة، كما أعطي النبي ﷺ سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم راجل وفارس، فإن ذلك يجوز في أصح قولي العلماء، ومنهم من لا يجيزه، كما تقدم.
وكذلك إذا قال الإمام: من أخذ شيئا فهو له، ولم تقسم الغنائم. فهذا جائز في أحد قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد، ولا يجوز في القول الآخر، وهو المشهور من مذهب الشافعي، وفي كل من المذهبين خلاف.
وعلى مثل هذا الأصل تنبني الغنائم في الأزمان المتأخرة؛ مثل الغنائم التي كان يغنمها السلاجقة الأتراك، والغنائم التي غنمها المسلمون من النصارى من ثغور الشام ومصر، فإن هذه أفتي بعض الفقهاء كأبي محمد الجويني والنواوي أنه لا يحل لمسلم أن يشتري منها شيئا، ولا يطأ منها فرجًا، ولا يملك منها مالًا، ولزم من هذا القول من الفساد ما الله به عليم. فعارضهم أبو محمد بن سباع الشافعي، فأفتي: أن الإمام لا يجب عليه قسمة المغانم بحال، ولا تخميسها، وأن له أن يفضل الراجل، وأن يحرم بعض الغانمين، ويخص بعضهم، وزعم أن سيرة النبي ﷺ تقتضي ذلك. وهذا القول خلاف الإجماع، والذي قبله باطل ومنكر أيضا، فكلاهما انحراف.
والصواب في مثل هذه أن الإمام إذا قال: من أخذ شيئا فهو له، فإن قيل بجواز ذلك، فمن أخذ شيئا ملكه، وعليه تخميسه، وإن كان الإمام لم يقل ذلك، ولم يهبهم المغانم، بل أراد منها ما لا يسوغ بالاتفاق. أو قيل: أنه يجب عليه أن يقسم بالعدل، ولا يجوز له الإذن بالانتهاب. فهنا المغانم مال مشترك بين الغانمين، ليس لغيرهم فيها حق. فمن أخذ منها مقدار حقه جاز له ذلك وإذا شك في ذلك: فإما أن يحتاط ويأخذ بالورع المستحب، أو يبني على غالب ظنه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وكذلك المزارعة على أن يكون البذر من العامل التي يسميها بعض الناس المخابرة. وقد تنازع فيها الفقهاء، لكن ثبت بسنة رسول الله ﷺ الصحيحة جوازها؛ فإنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم. وأما نهيه عن المخابرة فقد جاء مفسرًا في الصحيح؛ فإن المراد به أن يشترط للمالك زرع بقعة بعينها. وكذلك كراء الأرض بجزء من الخارج منها. فجوزه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه. ونهي عنه مالك وأحمد في رواية. ونظائر ذلك كثيرة. فهذا بين.
الأصل الثاني: أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال، جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال. وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة. فإنه قد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه أن بعض عماله يأخذ خمرًا من أهل الذمة عن الجزية. فقال: قاتل الله فلانا، أما علم أن رسول الله ﷺ قال: (قاتل الله إليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها). ثم قال عمر: ولُّوهم بيعها، وخذوا منهم أثمانها. فأمر عمر أن يأخذوا من أهل الذمة الدراهم التي باعوا بها الخمر؛ لأنهم يعتقدون جواز ذلك في دينهم.
ولهذا قال العلماء: إن الكفار إذا تعاملوا بينهم بمعاملات يعتقدون جوازها، وتقابضوا الأموال ثم أسلموا كانت تلك الأموال لهم حلالًا، وإن تحاكموا إلينا أقررناها في أيديهم، سواء تحاكموا قبل الإسلام، أو بعده. وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } 109، فأمرهم بترك ما بقي في الذمم من الربا، ولم يأمرهم برد ما قبضوه؛ لأنهم كانوا يستحلون ذلك.
والمسلم إذا عامل معاملات يعتقد جوازها كالحيل الربوية التي يفتي بها من يفتي من أصحاب أبي حنيفة، وأخذ ثمنه، أو زارع على أن البذر من العامل، أو أكري الأرض بجزء من الخارج منها، ونحو ذلك، وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في ذلك المال، وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة بطريق الأولي والأحري، ولو أنه تبين له فيما بعد رجحان التحريم لم يكن عليه إخراج المال الذي كسبه بتأويل سائغ؛ فإن هذا أولي بالعفو والعذر من الكافر المتأول، ولما ضيق بعض الفقهاء هذا على بعض أهل الورع ألجأه إلى أن يعامل الكفار، ويترك معاملة المسلمين. ومعلوم أن الله ورسوله لا يأمر المسلم أن يأكل من أموال الكفار، ويدع أموال المسلمين، بل المسلمون أولي بكل خير، والكفار أولي بكل شر.
الأصل الثالث: أن الحرام نوعان:
حرام لوصفه؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير. فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه أو لونه أو ريحه حرمه. وإن لم يغيره ففيه نزاع، ليس هذا موضعه.
والثاني: الحرام لكسبه؛ كالمأخوذ غصبًا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه، فلو غصب الرجل دراهم أو دنانير، أو دقيقًا، أو حنطة، أو خبزًا، وخلط ذلك بماله لم يحرم الجميع، لا على هذا، ولا على هذا، بل إن كانا متماثلين أمكن أن يقسموه، ويأخذ هذا قدر حقه، وهذا قدر حقه، وإن كان قد وصل إلى كل منهما عين مال الآخر، الذي أخذ الآخر نظيره. وهل يكون الخلط كالإتلاف؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي، وأحمد، وغيرهما.
أحدهما: أنه كالإتلاف، فيعطيه مثل حقه من أين أحب.
والثاني: أن حقه باق فيه. فللمالك أن يطلب حقه من المختلط، فهذا أصل نافع؛ فإن كثيرًا من الناس يتوهم أن الدراهم المحرمة إذا اختلطت بالدراهم الحلال حرم الجميع فهذا خطأ؛ وإنما تورع بعض العلماء فيما إذا كانت قليلة، وأما مع الكثرة فما أعلم فيه نزاعًا.
الأصل الرابع: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء؛ كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عوارٍ أو ودائع أو رهون، قد يئس من معرفة أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها الى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين، المصالح الشرعية.
ومن الفقهاء من يقول: توقف أبدًا، حتى يتبين أصحابها، والصواب الأول. فإن حبس المال دائمًا لمن لا يرجي لا فائدة فيه، بل هو تعرض لهلاك المال، واستيلاء الظلمة عليه. وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية فدخل بيته ليأتي بالثمن، فخرج فلم يجد البائع، فجعل يطوف على المساكين، ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول: اللهم عن رب الجارية، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعلى له مثله يوم القيامة. وكذلك أفتي بعض التابعين من غل من الغنيمة، وتاب بعد تفرقهم، أن يتصدق بذلك عنهم، ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم؛ كمعاوية وغيره من أهل الشام، وهذا يبين:
الأصل الخامس: وهو الذي يكشف سر المسألة، وهو أن المجهول في الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } 110، وقال: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 111، وقال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطًا بالقدرة عليه، والتمكن من العمل به. فما عجزنا عن معرفته، أو عن العمل به، سقط عنا؛ ولهذا قال ﷺ في اللقطة: (فإن جاء صاحبها فأدِّها اليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء)، فهذه اللقطة كانت ملكًا لمالك، ووقعت منه، فلما تعذر معرفة مالكها، قال النبي ﷺ: (هي مال الله يؤتيه من يشاء)، فدل ذلك على أن الله شاء أن يزيل عنها ملك ذلك المالك، ويعطيها لهذا الملتقط الذي عرفها سنة. ولا نزاع بين الأئمة أنه بعد تعريف السنة يجوز للملتقط أن يتصدق بها. وكذلك له أن يتملكها إن كان فقيرًا. وهل له التملك مع الغني؟ فيه قولان مشهوران. ومذهب الشافعي وأحمد أنه يجوز ذلك. وأبو حنيفة لا يجوزه.
ولو مات رجل ولم يعرف له وارث صرف ماله في مصالح المسلمين، وإن كان في نفس الأمر له وارث غير معروف، حتى لو تبين الوارث يسلم اليه ماله، وإن كان قبل تبينه يكون صرفه إلى من يصرفه جائزًا، وأخذه له غير حرام، مع كثرة من يموت وله عصبة بعد لم تعرف.
وإذا تبين هذا فيقال: ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض، إن عرفه المسلم اجتنبه. فمن علمت أنه سرق مالًا أو خانه في أمانته، أو غصبه، فأخذه من المغصوب قهرًا بغير حق لم يجز لي أن آخذه منه، لا بطريق الهبة، ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاء عن أجرة، ولا ثمن مبيع، ولا وفاء عن قرض، فإن هذا عين مال ذلك المظلوم.
وأما إن كان ذلك المال قبضه بتأويل سائغ في مذهب بعض الأئمة جاز لي أن أستوفيه من ثمن المبيع، والأجرة، والقرض، وغير ذلك من الديون. وإن كان مجهول الحال، فالمجهول كالمعدوم، والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكا له إن ادعي أنه ملكه، أو يكون وليًا عليه؛ كناظر الوقف، وولي اليتيم، وولي بيت المال، أو يكون وكيلا فيه. وما تصرف فيه المسلم أو الذمي بطريق الملك أو الولاية جاز تصرفه.
فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده بنيت الأمر على الأصل، ثم إن كان ذلك الدرهم في نفس الأمر قد غصبه هو ولم أعلم أنا كنت جاهلا بذلك، والمجهول كالمعدوم، فليس أخذي لثمن المبيع، وأجرة العمل، وبدل القرض بدون أخذي اللقطة؛ فإن اللقطة أخذتها بغير عوض، ثم لم أعلم مالكها، وهذا المال لا أعلم له مالكا غير هذا، وقد أخذته عوضًا عن حقي، فكيف يحرم هذا على؟! لكن إن كان ذلك الرجل معروفا بأن في ماله حرامًا ترك معاملته ورعا. وإن كان أكثر ماله حرامًا ففيه نزاع بين العلماء.
وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلا، ومن ترك معاملته ورعا كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.
وبهذا يتبين الحكم في سائر الأموال؛ فإن هذا الغالط يقول: إن هذه الألحام والألبان التي تؤكل قد تكون في الأصل قد نهبت، أو غصبت. فيقال: المجهول كالمعدوم، فإذا لم نعلم كان ذلك في حقنا كأنه لم يكن، وهذا لأن الله إنما حرم المعاملات الفاسدة لما فيها من الظلم؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } 112، والغصب وأنواعه، والسرقة والخيانة داخل في الظلم.
وإذا كان كذلك فهذا المظلوم الذي أخذ ماله بغير حق، ببيع أو أجرة، وأخذ منه، والمشتري لا يعلم بذلك، ثم ينقل من المشتري إلى غيره، ثم إلى غيره، ويعلم أن أولئك لم يظلموه، وإنما ظالمه من اعتدي عليه، ولكن لو علم بهم فهل له مطالبتهم، بما لم يتلزموا ضمانه؟ على قولين للعلماء. أصحهما أنه ليس له ذلك.
مثال ذلك: أن الظالم إذا أودع ماله عند من لا يعلم أنه غاصب، فتلفت الوديعة، فهل للمالك أن يطالب المودع؟ على قولين: أصحهما أنه ليس له ذلك، ولو أطعم المال لضيف لم يعلم بالظلم، ثم علم المالك فهل له مطالبة الضيف؟ على قولين: أحدهما: ليس له مطالبته. ومن قال: إن له مطالبته، لا يقول: إن أكله حرام، بل يقول: لا إثم عليه في أكله، وإنما عليه أداء ثمنه، بمنزلة ما اشتراه. وصاحب القول الصحيح يقول: لا إثم عليه في أكله، ولا غرم عليه لصاحبه بحال، وإنما الغرم على الغاصب الظالم الذي أخذه منه بغير حق. فإذا نظرنا إلى مال معين بيد إنسان لا نعلم أنه مغصوب، ولا مقبوض قبضا لا يفيد المالك، واستوفيناه منه، أو اتهبناه منه، أو استوفيناه عن أجرة، أو بدل قرض، لا إثم علينا في ذلك بالاتفاق.
وإن كان في نفس الأمر قد سرقه أو غصبه، ثم إذا علمنا فيما بعد أنه مسروق، فعلى أصح القولين لا يجب علينا إلا ما التزمناه بالعقد، أي لا يستقر علينا إلا ضمان ما التزمناه بالعقد، فلا يستقر علينا ضمان ما أهدي أو وهب، ولا ضمان أكثر من الثمن، وكذلك الأجرة، وبدل القرض إذا كنا قد تصرفنا فيها لم يستقر علينا ضمان بدله.
لكن تنازع الفقهاء هنا في مسألة وهي أنه: هل للمالك تضمين هذا المغرور الذي تلف المال تحت يده، ثم يرجع إلى الغار بما غرمه بغروره؟ أم ليس له مطالبة المغرور إلا بما يستقر عليه ضمانه؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد. ومثل هذا لو غصب رجل جارية فاشتراها منه إنسان، واستولدها أو وهبه إياها، فقد اتفق الصحابة والأئمة على أن أولادها من المغرور، يكونون أحرارًا؛ لأن الواطئ لا يعلم أنها مملوكة لغيره، بل اعتقد أنها مملوكته، مع اتفاقهم أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق، ويتبع أباه في النسب والولاء، ومع هذا فجعلوا ابنه حرًا لكون الوالد لم يعلم، والمجهول كالمعدوم. وأوجبوا لسيد الجارية بدل الولد؛ لأنه كان يستحقه لولا الغرور، فإذا خرجوا عن ملكه بغير حق كان له بدلهم، وأوجبوا له مهر أمة.
وقالوا في أصح القولين: إن هذا يلزم الغار الظالم الذي غصب الجارية وباعها، لا يلزم المغرور المشتري إلا ما التزمه بالعقد، وهو الثمن فقط. ثم هل لصاحبها أن يطالب المغرور بفداء الولد، والمهر، ثم يرجع به المغرور على الغار الظالم؟ أم ليس له إلا مطالبة الغار الظالم؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد. ولا نزاع بين الأمة أن وطأه ليس بحرام، وأن ولده ولد رشدة لا ولد عنه. فهو ولد حلال لا ولد زنا، وكذلك في سائر هذه الصور لم يتنازعوا أنه لا إثم على الآكل ولا على اللابس، ولا على الواطئ الذي لم يعلم.
وإنما تنازعوا في الضمان؛ لأن الضمان من باب العدل الواجب في حقوق الآدميين، وهو يجب في العمد والخطأ: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } 113، فقاتل النفس خطأ لا يأثم، ولا يفسق بذلك؛ ولكن عليه الدية، وكذلك من أتلف مالًا مغصوبا خطأ فعليه بدله، ولا إثم عليه، فقد تبين أن الإثم منتف مع عدم العلم.
وحينئذ، فجميع الأموال التي بأيدي المسلمين واليهود والنصاري التي لا يعلم بدلالة ولا أمارة أنها مغصوبة أو مقبوضة قبضًا لا يجوز معه معاملة القابض، فإنه يجوز معاملتهم فيها بلا ريب، ولا تنازع في ذلك بين الأئمة أعلمه.
ومعلوم أن غالب أموال الناس كذلك، والقبض الذي لا يفيد الملك هو الظلم المحض، فأما المقبوض بعقد فاسد كالربا والميسر؛ونحوهما، فهل يفيد الملك؟على ثلاثة أقوال للفقهاء:
أحدها: أنه يفيد الملك، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: لا يفيده، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في المعروف من مذهبه.
والثالث: أنه إن فات أفاد الملك، وإن أمكن رده إلى مالكه ولم يتغير في وصف ولا سعر لم يفد الملك، وهو المحكي عن مذهب مالك.
وهذه الأمور والقواعد قد بسطناها في غير هذا الجواب، ولكن نبهنا على قواعد شريفة تفتح
باب الاشتباه في هذا الأصل، الذي هو أحد أصول الإسلام، كما قال الإمام أحمد وغيره: إن أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: قوله: (الحلال بين والحرام بين)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). فإن الأعمال إما مأمورات، وإما محظورات، والأول فيه ذكر المحظورات والمأمورات، إما قصد القلب، وهو النية، وإما العمل الظاهر، وهو المشروع الموافق للسنة، كما قال الفضيل ابن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 114، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا على، ما أخلصه، وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإن كان صوابًا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة.
فتبين أن ما ذكره هذا القائل الذي قال: أكل الحلال متعذر، ولا يمكن وجدوه في هذا الزمان، قوله خطأ مخالف للإجماع، بل الحلال هو الغالب على أموال الناس، وهو أكثر من الحرام، وهذا القول قد يقوله طائفة من المتفقهة المتصوفة، وأعرف من قاله من كبار المشايخ بالعراق، ولعله من أولئك انتقل إلى بعض شيوخ مصر. ثم الذي قال ذلك لم يرد أن يسد باب الأكل، بل قال: الورع حينئذ لا سبيل اليه. ثم ذكر ما يأتي فيما يفعل ويترك. لم يحضرني الآن.
فليتدبر العاقل، وليعلم أنه من خرج عن القانون النبوي الشرعي المحمدي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، احتاج إلى أن يضع قانونًا آخر متناقضا يرده العقل والدين، لكن من كان مجتهدًا امتحن بطاعة الله ورسوله، فإن الله يثيبه على اجتهاده، ويغفر له خطأه: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } 115.
وما ذكره من أن وقعة المنصورة لما لم تقسم فيها المغانم، واختلطت فيها المغانم، دخلت الشبهة.
الجواب عنه من كلامين:
أحدهما: أن يقال: الذي اختلط بأموال الناس من الحرام المحض كالغصب الذي يغصبه القادرون من الولاة والقطاع، أو أهل الفتن، وما يدخل في ذلك من الخيانة في المعاملات أكثر من ذلك بكثير، لا سيما في هذه البلاد المصرية؛ فإنها أكثر من الشام والمغرب ظلمًا، كظلم بعضهم بعضا في المعاملات بالخيانة، والغش، وجحد الحق، ولكثرة ما فيها من ظلم قطاع الطريق والفلاحين والأعراب، ولكثرة ما فيها من الظلم الموضوع من المتولين بغير حق. فإحالة التحريم على هذا الأمر أولي من إحالته على المغانم.
الثاني: أن تلك المغانم قد ذكرنا مذهب الفقهاء فيها، وبينا أن الصحيح أن الإمام إذا أذن في الأخذ من غير قسم جاز، وأنه إذا لم يجز فمن أخذ مقدار حقه جاز، وأن من أخذ أكثر من حقه، وتعذر رده على أصحابه لعدم العلم بهم، فإنه يتصدق به عنهم، وأنه لو لم يتصدق به عنهم وتصرف فيه، فمتي وصل اليه منه شيء لم يعلم بحاله لم يكن محرمًا عليه، ولا عليه فيه إثم. وهذا الحكم جار في سائر الغصوب المذكورة.
وتبين بما ذكرناه أن من آجر نفسه أو دوابه أو عقاره أو ما يتعلقه، وأخذ الثمن والأجرة لم يحرم عليه. سواء علم ذلك الثمن والأجرة حلالا للمالك، أو لم يعلم حاله بأن كان مستورًا، وإن علم أنه غصب تلك الدراهم، أو سرقها، أو قبضها بوجه لا يبيح أخذها به لم يجز أخذها عن ثمنه وأجرته، مع أن هذا فيه نزاع بين الفقهاء تضيق هذه الورقة عن بسطه.
وأما قول القائل: الدرهم كيف قبل التغير، وصار حرامًا بالسبب الممنوع، ولم يقبل التغير فيصير حلالا بالسبب المشروع.
فيقال له: بل قبل التغير فيما حرم لوصفه، لا بما حرم لكسبه. فالأول مثل الخمر، فإنها لما كانت عصيرًا لم تصر حلالًا طاهرًا، فلما تخمرت كانت حراما نجسًا، فإذا تخللت بفعل الله من غير قصد لتخليلها كانت خل خمر حلالا طاهرا باتفاق العلماء؛ وإنما تنازعوا فيما إذا قصد تخليلها.
وتنازعوا في سائر النجاسات كالخنزير إذا صار ملحًا، والنجاسة إذا صارت رمادًا. فقيل: لا يطهر كقول الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك، وأحمد. والثاني: مثل المال المغصوب هو حرام؛ لأنه قبض بالظلم، فإذا قبض بحق أبيح، مثل أن يأذن فيه المالك للغاصب، أو يهبه إياه، أو يبيعه منه، أو يقبضه المالك، أو وليه، أو وكيله. ثم الغاصب إذا أعطاه لمن لا يعلم أنه مغصوب، كان قبضه بحق؛ لأن الله لم يكلفه مالا يعلم، وكذلك بين قبضه من القابض بحق. وقد تقدم الكلام في الضمان. والله أعلم.
باب الشروط في البيع
[عدل]وسئل عن رجل مسلم اشتري جارية كتابية وشرط عليها أن تصنع الخمر
[عدل]وسئل رَحمه الله عن رجل مسلم اشتري جارية كتابية وشرط له البائع أنها طباخة جيدة، وأنها تصنع الخمر والنبيذ، فهل يصح ؟
فأجاب:
اشتراط كونها تصنع الخمر والنبيذ، شرط باطل، باتفاق المسلمين، والعقد مع ذلك فاسد.
أما على قول من يقول: إن الشرط الفاسد يفسد العقد، كما هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين فظاهر.
وأما على القول الآخر، فإنه لو باعها بدون شرط لم يجز أن يشتري الجارية؛ لأجل كونها تصنع الخمر، كما لا يجوز أن يشتري عينا ليعصي الله بها، مثل أن يشتري عصيرًا ليعمله خمرًا، ويشتري سلاحا ليقاتل المسلمين في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما، كما قال تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } 116.
سئل عن رجل اشترى من رجل دارا بألف وهي تساوي ألفين
[عدل]وسئل عن رجل اشترى من رجل دارا بألف درهم، وهي تساوي ألفي درهم، ثم إن المشتري أجر البائع الدار مدة من الشهور بدراهم معلومة في تاريخه على الفور، وهو بينهما بيع أمانة في الباطن: هل يصح هذا العقد على هذا الحكم؟ وهل يلزم البائع الأصلي مبلغ مدة الإجارة؟ أم لا ؟. وقد ورد في الحديث أنه روي عن أبي بن كعب، وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي ﷺ: (أنه نهي عن قرض جر منفعة). وهل ذلك من نوع ذلك أم لا ؟ وهل جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه استسلف من رجل بكرًا، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكرا، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا خيارا رباعيا، فقال النبي ﷺ: (أعطه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)، وهل ذلك من الأحاديث الصحاح أم لا؟.
فأجاب:
إذا كان المقصود أن يأخذ أحدهما من الآخر دراهم، وينتفع المعطي بعقار الآخر مدة مقام الدراهم في ذمته، فإذا أعاد الدراهم اليه أعاد اليه العقار، فهذا حرام بلا ريب، وهذا دراهم بدراهم مثلها، ومنفعة الدار، وهو الربا البين. وقد اتفق العلماء على أن المقرض متي اشترط زيادة على قرضه، كان ذلك حراما، وكذلك إذا تواطآ على ذلك في أصح قولي العلماء، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن. ولا بيع ما ليس عندك). حرم النبي ﷺ الجمع بين السلف والبيع؛ لأنه إذا أقرضه، وباعه حاباه في البيع لأجل القرض، وكذلك إذا آجره وباعه. وما يظهرونه من بيع الأمانة الذي يتفقون فيه على أنه إذا جاءه بالثمن أعاد اليه المبيع، هو باطل باتفاق الأئمة، سواء شرطه في العقد، أو تواطآ عليه قبل العقد، على أصح قولي العلماء. والواجب في مثل هذا أن يعاد العقار إلى ربه، والمال إلى ربه، ويعزر كل من الشخصين إن كانا علما بالتحريم. والقرض الذي يجر منفعة قد ثبت النهي عنه عن غير واحد من الصحابة الذين ذكرهم السائل وغيرهم، كعبد الله بن سلام، وأنس بن مالك، وروي ذلك مرفوعًا إلى النبي ﷺ، رواه ابن ماجه وغيره.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن سلام: إنك بأرض، الربا فيها فاش، فإذا أقرضت رجلا قرضا فأهدي لك حمل تبن، أو حمل قت، فاحسبه له من قرضه. وقال رجل لابن عباس: إني أقرضت سماكًا عشرين درهما، فأهدي لي سمكة، فقومتها ثلاثة عشر درهما، فقال: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم. وحديث البكر حديث صحيح.
فإذا وفاه المقرض خيرًا من قرضه بلا مواطأة جاز ذلك، وإن وفاه أكثر من قرضه ففيه قولان للعلماء؛ وذلك لأن هذا زيادة بعد وفاء القرض، بخلاف ما إذا أهدي اليه قبل الوفاء، فإنه إذا لم يحسبه من القرض كان القرض باقيا في ذمته، على أن يأخذه مع الهدية، والهدية إنما كانت بسبب القرض. وقد قال النبي ﷺ: (ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا اللّه، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلى، أفلا قعد في بيت أبيه، أو أمه، فينظر أيهدي اليه؟ أم لا؟).
فبين أن الهدية إذا كانت بسبب ألحقت به؛ فلهذا كان المأثور عن الصحابة وجمهور الأئمة: أن الهدية قبل الوفاء تحسب لصاحبها، بخلاف زيادة الصفة في الوفاء.
وأما صورة: وهو أن يتواطآ على أن يبتاع منه العقار بثمن، ثم يؤجره إياه إلى مدة، وإذا جاءه بالثمن أعاد اليه العقار، فهنا المقصود أن المعطي شيئا، أدي الأجرة مدة بقاء المال في ذمته، ولا فرق بين أخذ المنفعة، وبين عوض المنفعة، الجميع حرام.
وهذا وإن كان قد رخص فيه طائفة من الفقهاء، بناء على أن ذلك لم يشترط في العقد، وأن المواطأة والنية لا تؤثر في العقود. فالصواب الذي عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الصحابة، وهو قول أكثر الأئمة: تحريم مثل ذلك. وأن النيات معتبرة في العقود، كما قال النبي ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي)، والشرط المتقدم كالمقارن له.
وقد عاتب الله من أسقط الواجبات، واستحل المحرمات بالحيل، والمخادعات، كما ذكر ذلك في سورة ن وفي قصة أهل السبت، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدني الحيل). وقال أيوب السختياني: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون على. ودلائل هذا مبسوطة في كتاب كبير.
فصل في قول النبي لعائشة ابتاعيها واشترطي لهم الولاء
[عدل]وقال شيخ الإِسلام تقي الدّين رَحمِهُ اللَّه تعالى:
في قول النبي ﷺ لعائشة: (ابتاعيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق).
فإن هذا أشكل على كثير من الناس، حتى إن منهم من قال: انفرد به هشام دون الزهري، وظن ذلك علة فيه. والحديث في الصحيحين لا علة فيه.
ومنهم من قال: (اشترطي لهم): بمعني عليهم. قالوا: ومثله قوله تعالى: { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } 117 أي: عليهم اللعنة. ونقل هذا حرملة عن الشافعي. ونقل عن المزني وهو ضعيف.
أما أولا: فإن قوله: (اشترطي لهم) صريح في معناه، واللام للاختصاص، وأما قوله: { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } فمثل قوله: { لَهُمُ الْعَذَابُ } 118، و { لَهُمْ خِزْيٌ } 119، وهو معني صحيح؛ ليس المراد أنهم يملكون اللعنة، بل هنا إذا قيل: { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } فالمراد أنهم يجزون بها، وإذا قيل: عليهم، فالمراد الدعاء عليهم باللعنة، فالمعنيان مفترقان. وقد يراد بقوله: عليهم الخبر أي: وقعت عليهم، فحرف الاستعلاء غير ما أفاده حرف الاختصاص، وإن كانا يشتركان في أن أولئك ملعونون. وقوله: (اشترطي لهم) مباين لمعني اشترطي عليهم، فكيف يفسر معني اللفظ بمعني ضده ؟!
وأيضا، فعائشة قد كانت اشترطت ذلك عليهم، وقالت: إن شاؤوا عددتها لهم عدة واحدة، ويكون ولاؤك لي فامتنعوا.
وأيضا، فإن ثبوت الولاء للمعتق، لا يحتاج إلى اشتراطه، بل هو إذا أعتق كان الولاء له، سواء شرط ذلك على البائع، أو لم يشرط.
يبقي حمل الحديث على أن هذا يشعر بأن الولاء إنما يصير لهم إذا شرطته، وهذا باطل. ومن تدبر الحديث تبين له قطعا أن الرسول لم يرد هذا.
وأما ما دل عليه الحديث، فأشكل عليهم من جهتين: من جهة أن الرسول كيف يأمر بالشرط الباطل. والثاني من جهة أن الشرط الباطل، كيف لا يفسد العقد.
وقد أجاب طائفة بجواب ثالث، ذكره أحمد وغيره؛ وهو أن القوم كانوا قد علموا أن هذا الشرط منهي عنه، فأقدموا على ذلك بعد نهي النبي ﷺ، فكان وجود اشتراطهم كعدمه، وبين لعائشة أن اشتراطك لهم الولاء لا يضرك، فليس هو أمرًا بالشرط، لكن إذنًا للمشتري في اشتراطه، إذا أبي البائع أن يبيع إلا به، وإخبارًا للمشتري أن هذا لا يضره، ويجوز للإنسان أن يدخل في مثل ذلك. فهو إذن في الشراء مع اشتراط البائع ذلك، وإذن في الدخول معهم في اشتراطه لعدم الضرر في ذلك، ونفس الحديث صريح في أن مثل هذا الشرط الفاسد، لا يفسد العقد. وهذا هو الصواب. وهو قول ابن أبي ليلي وغيره، وهو مذهب أحمد في أظهر الروايتين عنه.
وإنما استشكل الحديث من ظن أن الشرط الفاسد يفسد العقد، وليس كذلك، لكن إن كان المشترط يعلم أنه شرط محرم لا يحل اشتراطه فوجود اشتراطه كعدمه؛ مثل هؤلاء القوم. فيصح اشتراء المشتري، ويملك المشتري، ويلغو هذا الشرط الذي قد علم البائع أنه محرم لا يجوز الوفاء به.
وأما أولئك القوم، فإن كانوا قد علموا بالنهي قبل استفتاء عائشة فلا شبهة. لكن ليس في الحديث ما يدل عليه، بل فيه أن النبي ﷺ قام عشية فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط)، وهذا كان عقب استفتاء عائشة، وقد علم أولئك بهذا بلا ريب، وكان عقد عائشة معهم بعد هذا الإعلام من الرسول ﷺ؛ فإما أن يكونوا تابوا عن هذا الشرط، أو أقدموا عليه مع العلم بالتحريم. وحنيئذ فلا يضر اشتراطه. هذا هو الذي يدل عليه الحديث وسياقه. ولا إشكال فيه وللّه الحمد والمنة.
وأما إن كان المشترط لمثل هذا الشرط الباطل جاهلا بالتحريم، ظانا أنه شرط لازم، فهذا لا يكون البيع في حقه لازما، ولا يكون أيضا باطلا. وهذا ظاهر مذهب أحمد، بل له الفسخ إذا لم يعلم أن هذا الشرط لا يجب الوفاء به؛ فإنه إنما رضي بزوال ملكه بهذا الشرط، فإذا لم يحصل له فملكه له إن شاء، وإن شاء أن ينفذ البيع أنفذه، كما لو ظهر بالمبيع عيب، وكالشروط الصحيحة إذا لم يوف له بها، إذا باع بشرط رهن أو ضمين فلم يأت به، فله الفسخ وله الإمضاء.
والقول بأن البيع باطل في مثل هذا ضعيف، مخالف للأصول، بل هو غير لازم يتسلط فيه المشتري على الفسخ، كالمشتري للمعيب وللمصراة، ونحوهما؛ فإن حقه مخير بتمكينه من الفسخ. وقد قيل في مذهب أحمد: إن له أرش ما نقص من الثمن بإلغاء هذا الشرط، كما قيل مثل ذلك في المعيب، وهو أشهر الروايتين عنه. والرواية الأخري لا يستحق إلا الفسخ؛ وإنما له الأرش بالتراضي، أو عند تعذر الرد، كقول جمهور الفقهاء. وهذا أصح؛ فإنه كما أن المشترط لم يرض إلا بالشرط، فلا يلزم البيع بدونه، بل له الخيار، فكذلك الآخر لم يرض إلا بالثمن المسمي، وإن كان رضي به مع الشرط، فإذا ألغي الشرط وصار الولاء له، فهو لم يرض بأكثر من الثمن في هذه الصورة، بل إن شاء فسخ البيع، فلا يلزم بالزيادة، بل إذا أعطي الثمن فإن شاء الآخر قبل وأمضي، وإن شاء فسخ البيع، وإن تراضيا بالأرش جاز، لكن لا يلزم به واحد منهما إلا برضاه، فإنه معاوضة عن الجزء الفائت.
وهكذا يقال في نظائر هذا؛ مثل الصفقة إذا تفرقت. وقيل: يصح البيع في الحلال بقسطه من الثمن، كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ فإن الذي تفرقت عليه له الفسخ إذا كان لم يرض ببيع هذا بقسطه إلا مع ذلك.
وأصل العقود: أن العبد لا يلزمه شيء إلا بالتزامه، أو بإلزام الشارع له. فما التزمه فهو ما عاهد عليه، فلا ينقض العهد، ولا يغدر. وما أمره الشارع به فهو مما أوجب الله عليه أن يلتزمه وإن لم يلتزمه، كما أوجب عليه أن يصل ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان بالكتب والرسل، ومن صلة الأرحام؛ ولهذا يذكر الله في كتابه هذا وهذا، كقوله: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } 120.
فما أمر الله به أن يوصل فهو إلزام من الله به، وما عاهد عليه الإنسان فقد التزمه، فعليه أن يوفي بعهد اللّه، ولا ينقض الميثاق إذا لم يكن ذلك مخالفًا لكتاب اللّه. فمن اشترط شرطا مخالفًا لكتاب اللّه؛ مثل أن يريد به أن يستحل ما حرم اللّه، كالذي يبيع الأمة أو يعتقها ويشرط وطأها بعد خروجها من ملكه، أو يبيع غيره مملوكا ويشرط أن يكون ولاؤه له لا للمعتق، أو يزوج أمته أو قرابته ويشرط أن يكون النسب لغير الأب، أو يكون النسب له، فالله قد أمر أن يدعي الولد لأبيه، والولاء لحمة كلحمة النسب. فمن ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه نهي عن بيع الولاء وعن هبته. ولهذا كان عند جمهور العلماء لا يورث أيضا، ولكن يورث به كالنسب، ويكون الولاء للكبر، فقد تبين أن الحديث حق كما جاء، والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، وهذا يبين أن الوفاء بالشروط في النكاح أولي منها في البيع؛ ولهذا قال كثير من السلف والخلف: إنه إذا اشترط شرطًا مخالفًا لكتاب اللّه، مثل أن يشترط أن يتزوجها بلا مهر، أو بمهر محرم، فهذا نكاح باطل، كنكاح الشِّغار وغيره. وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين.
وقد نهى النبي ﷺ عن نكاح الشغار، وأبطله الصحابة؛ فإنهم أشغروا النكاح عن مهر. هذا هو العلة في نصوص أحمد المشهورة عنه، وهو قول مالك وغيره. وعند طائفة من أصحابه: العلة ما قاله الشافعي، وهو التشريك في البضع. والأول أصح. وهذا لا معني له؛ فإن البضع لم يحصل فيه اشتراك، بل كل من الزوجين ملك بضع امرأة بلا شركة، وإن كان قد جعل صداقها بضع الأخري، فالمرأة الحرة لم تملك بضع المرأة، ولا يمكن هذا؛ فإن امرأة لا تتزوج امرأة، ولكن جعلت لوليها ما تستحقه من المهر، فوليها هو الذي ملك البضع، وجعل صداقها ملك وليها البضع، وهي لم تملك شيئا؛ فلهذا كان شغارًا. والمكان الشاغر الخالي. وشغرت هذه الجهة، أي خلت. ومن أصدقت شيئا ولم يحصل لها ما أصدقته لم يكن النكاح لازما، وأعطيت بدله، كما في البيع وأولي: (فإن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج).
ومن التزمت بالنكاح من غير أن تحصل ما رضيته، فقد التزمت بالنكاح الذي لم ترض به، وهذا خلاف الكتاب والسنة. وإذا كان مثل هذا لا يجوز في البيع، فإنه لا يجوز في النكاح أولي. والشارع لم يلزمها النكاح على هذا الوجه، ولا هي التزمته، وإنما يجب على الإنسان ما يجب بإلزام الشارع، أو بالتزامه، وكلاهما منتف، فلا معني لالتزامها بنكاح لم ترض به.
وقول من قال: المهر ليس بمقصود، كلام لا حقيقة له؛ فإنه ركن في النكاح، وإذا شرط فيه كان أوكد من شرط الثمن؛ لقوله: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج). والأموال تباح بالبدل، والفروج لا تستباح إلا بالمهور؛ وإنما ينعقد النكاح بدون فرضه وتقريره، لا مع نفيه. والنكاح المطلق ينصرف إلى مهر المثل، وكذلك البيع على الصحيح وهو إحدى الروايتين عن أحمد ينعقد بالسعر فلا فرق، كما قد بسط في مواضع.
والذي يثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن النكاح ينعقد بدون فرض المهر. أي بدون تقديره، لا أنه ينعقد مع نفيه، بل قد قال تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عليهمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } 121، لما جوز للنبي ﷺ أن يتزوج بلا مهر فرض عليهم ألا يتزوجوا بلا مهر. وكذلك دل عليه القرآن في غير موضع، فلا بد من مهر مسمي مفروض، أو مسكوت عن فرضه، ثم إن فرض ما تراضيا به، وإلا فلها مهر نسائها، كما قضي به النبي ﷺ في بَرْوَع بنت واشق. وأين هذا من هذا ؟! والناس دائمًا يتناكحون مطلقا، وقد تراضوا بالمهر المعتاد في مثل ذلك، وهو مهر المثل، كما يتبايعون دائمًا، وقد تراضوا بالسعر الذي يبيع به البائع في مثل تلك الأوقات، كما يشترون الخبز والأدم والفاكهة واللحم وغير ذلك من الخباز واللحام والفومي وغير ذلك، وقد رضوا أن يعطيهم ثمن المثل، وهو السعر الذي يبيع به للناس، وهو ما ساغ به مثل تلك السلعة في ذلك المكان والزمان، وهذا البيع صحيح، نص عليه أحمد، وإن كان في مذهبه نزاع فيه.
فصل في أصل الدين أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله
[عدل]وأصل الدين: أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا مستحب إلا ما أحبه الله ورسوله. فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا أنكر الله على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير إذن من اللّه.
والذي يوجبه الله على العبد قد يوجبه ابتداء؛ كإيجابه الإيمان والتوحيد على كل أحد. وقد يوجبه؛ لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه، ولولا ذلك لم يوجبه؛ كالوفاء بالنذر للمستحبات. وبما التزمه في العقود المباحة؛ كالبيع والنكاح والطلاق، ونحو ذلك، إذا لم يكن واجبًا. وقد يوجبه للأمرين؛ كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له، وكذلك مبايعة أئمة المسلمين، وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله.
ونفس التزام شرائع الإسلام من هذا الباب. فإن المؤمن التزمها بالإيمان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول اللّه؛ فإن هذه الشهادة توجب عليه الوفاء بموجبها، وهو تصديق الرسول فيما أتي به عن اللّه، وطاعته فيما أوجبه وأمر به؛ لأنه قد بلغ عن الله أن طاعته طاعته، ومعصيته معصيته. وهذه الأصول مبسوطة في مواضع.
والمقصود هنا أنه إذا كان أصل الشرع أنه لا يلزمه إلا بإلزام الشارع له، أو بالتزامه إياه. فإذا تنازع الفقهاء في فرع من فروع هذا الأصل رد اليه. ومن الفقهاء من يوفي به. ومنهم من لا يوفي به، بل ينقضه في كثير من المسائل، وإن كان الغالب عليه الوفاء به في أكثر المسائل، ومن ذلك مسائل النكاح والشروط فيه.
فإن القاعدة أيضًا: أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم، إلا ما دل الدليل على خلافه. وقد قيل: بل الأصل فيها عدم الصحة، إلا ما دل الدليل على صحته؛ لحديث عائشة. والأول هو الصحيح؛ فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر والنكث؛ ولكن إذا لم يكن المشروط مخالفًا لكتاب الله وشرطه، فإذا كان المشروط مخالفا لكتاب الله وشرطه كان الشرط باطلا. وهذا معني قوله ﷺ: (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
فإن قوله: (من اشترط شرطا) أي: مشروطا، وقوله: (ليس في كتاب اللّه) أي: ليس المشروط في كتاب اللّه، فليس هو مما أباحه اللّه، كاشتراط الولاء لغير المعتق، والنسب لغير الوالد، وكالوطء بغير ملك يمين، ولا نكاح، ونحو ذلك مما لم يبحه الله بحال. ومن ذلك تزوج المرأة بلا مهر؛ ولهذا قال: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وهذا إنما يقال: إذا كان المشروط يناقض كتاب الله وشرطه، فيجب تقديم كتاب الله وشرطه، ويقال: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق).
وأما إذا كان نفس الشرط والمشروط لم ينص الله على حله، بل سكت عنه، فليس هو مناقضا لكتاب الله وشرطه، حتى يقال: (كتاب الله أحق، وشرطه أوثق)، فقوله: (من اشترط شرطا ليس في كتاب اللّه) أي: مخالفًا لكتاب اللّه. وسواء قيل: المراد من الشرط المصدر، أو المفعول؛ فإنه متي خالف أحدهما كتاب الله خالفه الآخر، بخلاف ما سكت عنه. فهذا أصل.
والأصل الثاني: أن الشرط المخالف لكتاب الله إذا لم يرضيا إلا به، فقد التزما ما حرمه اللّه. فلا يلزم، كما لو نذر المعصية. وسواء كانا عالمين أو جاهلين، وإن اشترطه أحدهما على الآخر يعتقد جوازه فلم يرض إلا به، فلا يلزمه العقد إلا أن يكون التزمه للّه، فيلزمه ما كان للّه؛ دون مالم يكن؛ كالنذر، والوقف، والوصية، وغير ذلك مما تتفرق فيه الصفقة. وإن عرف أنه حرام وشرطه فهو كشرط أهل بريرة، شرطه باطل، ولا يبطل العقد.
ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع، وغير ذلك من العقود. فمن الفقهاء من أبطل شروطا كثيرة في النكاح بلا حجة. ثم الشرط الباطل في النكاح قالوا: يبطل، ويصح النكاح بدونه، والمشترط للنكاح لم يرض إلا به، والشروط في النكاح أوكد منها في البيع؛ لقوله ﷺ: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج). فلزمهم من مخالفة النصوص في مواضع كثيرة، وإلزام الخلق بشيء لم يلتزموه، ولا ألزمهم الله به. فأوجبوا على الناس مالم يوجبه الله ورسوله. ثم قد يتوسعون في الطلاق الذي يبغضه اللّه، فيحرمون على الناس ما لم يحرمه الله ورسوله، ثم يبيحون ذلك بالعقود المشروطة فيها الشروط الفاسدة. فيحللون مالم يحلله الله ورسوله.
مثال ذلك: أن شرط التحليل في العقد شرط حرام باطل بالاتفاق. إذا شرط أنه يطلقها إذا أحلها، وكذلك شرط الطلاق بعد أجل مسمي. فشرط الطلاق في النكاح إذا مضي الأجل أو بعد التحليل شرط باطل بالاتفاق، مع القول بتحريم المتعة، فإن الله لم يبح النكاح إلى أجل، ولم يبح نكاح المحلل. فقال طائفة من الفقهاء: يصح العقد، ويبطل الشرط، كما يقوله أبو حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. ويكون العقد لازما. ثم كثير من هؤلاء فرق بين التوقيت، وبين الاشتراط. فقالوا: إذا قال: تزوجتها إلى شهر، فهو نكاح متعة، وهو باطل. وطرد بعضهم القياس. وهو قول زُفَر، وخرج وجها في مذهب أحمد: أنه يصح العقد، ويلغو التوقيت، كما قالوا: يلغو الشرط.
ولو قال في نكاح التحليل: على أنك إذا أحللتها طلقها، فهو شرط، كما لو قال في المتعة: على أنه إذا انقضي الأجل طلقها. وإن قال: فلا نكاح بينكما. فقيل: فيه قولان للشافعي، وغيره. قيل: يلحق بالشرط الفاسد، فيصح النكاح. وقيل: بالتوقيت، فيبطل النكاح.
ولو شرط الخيار في النكاح، ففيه ثلاثة أقوال: هي ثلاث روايات عن أحمد. قيل: يصح العقد والشرط. وقيل: يبطلان. وقيل: يصح العقد دون الشرط. فالأظهر في هذا الشرط أنه يصح. وإذا قيل ببطلانه، لم يكن العقد لازما بدونه؛فإن الأصل في الشرط الوفاء، وشرط الخيار مقصود صحيح، لاسيما في النكاح. وهذا يبني على أصل. وهو: أن شرط الخيار في البيع: هل الأصل صحته، أو الأصل بطلانه، لكن جوز ثلاثا على خلاف الأصل؟فالأول قول أئمة الفقهاء؛مالك، وأحمد، وابن أبي ليلي، وأبي يوسف، ومحمد. والثاني قول أبي حنيفة والشافعي؛ولهذا أبطلا الخيار في أكثر العقود: النكاح وغيره.
وكذلك تعليق النكاح على شرط، فيه ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد. وأصحاب الشافعي وأحمد يفرقون في النكاح بين شرط يرفع العقد كالطلاق، وبين غيره، مثل اشتراط عدم المهر، أو عدم الوطء أو عدم القسم، وفي مذهب أحمد خلاف في شرط عدم المهر، ونحوه.
والصواب أن كل شرط: فإما أن يكون مباحًا فيكون لازمًا يجب الوفاء به، وإذا لم يوف به ثبت الفسخ، كاشتراط نوع أو نقد في المهر. ولا يجوز أن يجعل النكاح لازمًا مع عدم الوفاء، بل يخير المشترط بين إمضائه وبين الفسخ، كالشروط في البيع، وكالمعيب؛ فإنه يرد بالعيب في البيع بالاتفاق، وكذلك في النكاح عند الجمهور. قال طائفة من المدنيين، وغيرهم، لا ترد الحرة بعيب، وقالوا: النكاح لا يقبل الفسخ، فلم يجوزوا فسخه بعيب ولا شرط. ثم هم وسائر المسلمين يوجبون في الإيلاء على المولي إما الفيأة، وإما الطلاق. وهم يقولون: يقع الطلاق عقب انقضاء المدة إذا لم يفئ وإذا كان الزوج عِنِّينًا أو مجبوبا، فعامتهم على أن لها الفسخ، لكن قالوا: المرأة لا يمكنها الطلاق. والجمهور على ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص، كما قاله عمر بن الخطاب، ثم خص الفسخ كثير منهم بما يمنع النكاح، كما أبطلوا النكاح بالشرط الذي يرفع العقد. وتفصيل هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن مقتضي الأصول والنصوص: أن الشرط يلزم، إلا إذا خالف كتاب اللّه. وإذا كان لازما لم يلزم العقد بدونه. فالمسلمون كلهم يجوزون أن يشترط في المهر شيئًا معينا، مثل هذا العبد، وهذه الفرس، وهذه الدار، لكن يقولون: إذا تعذر تسليم المهر لزم بدله، فلم يملك الفسخ، وإن كان المنع من جهته. وهذا ضعيف، مخالف للأصول، فإن لم يقل بامتناع العقد فقد يتعذر تسليم العقد، فلا أقل من أن تمكن المرأة من الفسخ؛ فإنها لم ترض وتبح فرجها إلا بهذا، فإذا تعذر فلها الفسخ. وهم يقولون: المهر ليس هو المقصود الأصلي. فيقال: كل شرط فهو مقصود، والمهر أوكد من الثمن، لكن هنا الزوجان معقود عليهما، وهما عاقدان، بخلاف البيع فإنهما عاقدان، غير معقود عليهما، وهذا يقتضي أنه إذا فات فالمرأة مخيرة بين الفسخ وبين المطالبة بالبدل، كالعيوب في البيع، لكون المعقود عليه وهما الزوجان باقيين، فالفائت جزء من المعقود عليه فهو كالعيب الحادث في السلعة قبل التمكن من القبض يوجب الفسخ، ولا يبطل العقد. هذا مقتضي الأصول والنصوص والقياس.
وإن كان الشرط باطلا، ولم يعلم المشترط ببطلانه، لم يكن العقد لازما؛ بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ. هذا هو الأصل، وأما إلزامه بعقد لم يرض به، ولا ألزمه الشارع أن يعقده، فهذا مخالف لأصول الشرع، ومخالف للعدل الذي أنزل الله به الكتاب، وأرسل به الرسل. وهم جعلوا الأصل أن الحرة لا ترد بعيب قالوا: فلا يفسخ النكاح بفوات الشرط؛ لأنهما من جنس واحد، وقالوا: يصح النكاح بلا تقدير مهر، فيصح مع نفي المهر، فيصح مع كل الشروط الفاسدة.
وأما صحته بدون فرض المهر، فهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، لكن إذا اعتقد عدم وجوب المهر، فإن المهر المطلق مهر المثل، وأما مع نفيه ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره. والقول بالبطلان قول أكثر السلف، كما في مذهب مالك وغيره. وهو الصواب لدلالة الكتاب والسنة عليه، وحديث الشغار.
قالوا: فثبت الفرق بين النكاح والبيع من هاتين الجهتين: عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح، والصحة مع الشرط الفاسد. فيقال: أما عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح، وقول من قال: لا ترد الحرة بعيب. فهذا ليس له أصل في كلام الشارع البتة، بل متي كان الشرط صحيحًا وفات، فلمشترطه الفسخ. ثم الشرط المتقدم على العقد هل هو كالمقارن له؟ فيه قولان. والصحيح أنه كالمقارن، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك، ووجه في مذهب الشافعي، يخرج من السر والعلانية، وأحمد يوجب ما سمي في العلانية، وإن كان دون ما اتفق عليه في السر، لكن يوجب ذلك ظاهرًا، ويأمرهم أن يوفوا بما شرطوا له، فعلى هذا لم يحكم بالسر لعدم ثبوته، وإن ثبت حكم به.
وإن قيل: لا يحكم به مطلقًا، فلأنهم أظهروا خلاف ما أبطنوه، والنكاح مبناه على الإعلان لا على الإسرار، وهذا بخلاف شرط لم يظهروا ما يناقضه في النكاح والبيع وغيرهما، فهذا يجب الوفاء به عنده، وهو يؤثر في العقد. والشافعي إذا قال في النكاح: إنه يؤخذ بالسر، ففي غيره أولى.
وأما صحته مع الشرط الفاسد، فالأصل فيه عدم تقدير المهر، وليس هذا شرطًا فاسدًا؛ بدليل أن الشرط الفاسد لا يحل اشتراطه، وهذا النكاح حلال، فلو تزوجها ولم يفرض مهرًا، لكن على عادة الناس أنه لابد لها من مهر؛ إما أن يتراضيا، وإما أن يكون لها مهر نسائها، فهذا النكاح حلال ليس فيه شرط فاسد. فمن ذينك القياسين الفاسدين فرقوا بين النكاح والبيع، وألزموا الناس بنكاح لم يرضوا به وإن شرطوا فيه شرطًا صحيحًا، كما ألزموا الرجل بنكاح المرأة المعيبة، وهو لم يرض بنكاح معيبة.
فإن قيل: فلم فرق بين عيوب الفرج وغيرها؟ قيل: قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء لا يرضي بها في العادة؛فإن المقصود بالنكاح الوطء، بخلاف اللون والطول والقصر ونحو ذلك مما ترد به الأمة؛فإن الحرة لا تقلب، كما تقلب الأمة، والزوج قد رضي رضا مطلقًا، وهو لم يشرط صفة فبانت بدونها. فإن شرط ففيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد. والصواب أنه له الفسخ، وكذا بالعكس، وهو مذهب مالك، والشرط إنما يثبت لفظًا أو عرفًا، وفي البيع دل العرف على أنه لم يرض إلا بسليم من العيوب، وكذلك في النكاح لم يرض بمن لا يمكن وطؤها، والعيب الذي يمنع كمال الوطء لا أصله فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره. وأما ما يمكن معه الوطء وكمال الوطء فلا تنضبط فيه أغراض الناس.
والشارع قد أباح، بل أحب له النظر إلى المخطوبة، وقال: (إذا ألقي الله في قلب أحدكم خطبة امرأة، فلينظر إليها، فإنه أحري أن يؤدم بينهما)، وقال لمن خطب امرأة من الأنصار: انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا)، وقوله: (أحري أن يؤدم بينهما) يدل على أنه إذا عرفها قبل النكاح دام الود، وأن النكاح يصح وإن لم يرها، فإنه لم يعلل الرؤية بأنه يصح معه النكاح. فدل على أن الرؤية لا تجب. وأن النكاح يصح بدونها، وليس من عادة المسلمين ولا غيرهم أن يصفوا المرأة المنكوحة بذلك، بخلاف البيع؛ فإنه إما ألا يصح، وإما أن يملك خيار الرؤية، وإن كان قد ذكر في مذهب أحمد رواية ضعيفة أنه يصح بلا رؤية ولا صفة، ولا يثبت خيار.
وهذا الفرق إنما هو للفرق بين النساء والأموال: أن النساء يرضي بهن في العادة على الصفات المختلفة، والأموال لا يرضي بها على الصفات المختلفة؛ إذ المقصود بها التمول، وهو يختلف باختلاف الصفات، والمقصود بالنكاح المصاهرة، والاستمتاع، وذلك يحصل مع اختلاف الصفات. فهذا فرق شرعي معقول في عرف الناس. أما إذا عرف أنه لم يرض لاشتراطه صفة فبانت بخلافها، وبالعكس، فإلزامه بما لم يرض به مخالف للأصول. ولو قال: ظننتها أحسن مما هي أو ما ظننت فيها هذا، ونحو ذلك. كان هو المفرط، حيث لم يسأل عن ذلك، ولم يرها، ولا أرسل من رآها. وليس من الشرع ولا العادة أن توصف له في العقد، كما توصف الإماء في السلم؛ فإن الله صان الحرائر عن ذلك، وأحب سترهن؛ ولهذا نهيت المرأة أن تعقد نكاحًا، فإذا كن لا يباشرن العقد، فكيف يوصفن؟ وأما الرجل فأمره ظاهر، يراه من يشاء فليس فيه عيب يوجب الرد، والمرأة إذا فرط الزوج فالطلاق بيده.
سئل عن رجل ابتاع عبدا بشرط الإبراء من سائر العيوب
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل ابتاع عبدًا بشرط الإبراء من سائر العيوب، خلا الإباق، فلما ابتاعه هرب عنه، فما يلزم البائع؟
فأجاب:
إن كان مقرًا بالإباق قبل البيع، فهذا عيب يستحق الرد. وإذا كان البائع قد كتم هذا العيب حتي أبق عند المشتري، فإن المشتري في أحد القولين يطالبه، بجميع الثمن، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، بل هو المنصوص.
باب الخيار
[عدل]سئل عن رجلين تبايعا عينا
[عدل]سئل رحمه الله عن رجلين تبايعا عينًا، وشرطا لكل واحد منهما فسخ البيع وإمضاءه في مدة معتبرة شرعًا: فهل يعتبر الخيار في الإمضاء والفسخ؟ أو في الفسخ دون الإمضاء؟ ويكون ذكر الإمضاء لغوًا أو لا يعتبران معًا؟ فإن قيل: إن ذكر الإمضاء لغو فلا كلام. وإن قيل: إنهما يعتبران، ولكل من اللفظين أثر في الحكم، فإذا اختار أحدهما الإمضاء والآخر الفسخ، فهل القول قول من اختار الفسخ، أو السابق منهما؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كان الأمر كما ذكر، واختار أحدهما فسخ البيع فله فسخه بدون رضي الآخر، ولو سبق الآخر بالإمضاء. والإمضاء المقرون بالفسخ يقصد به ترك الفسخ: أي لكل منهما أن يفسخه، وألا يفسخه؛ فإنه إذا لم يفسخاه إلى انقضاء المدة، لا يقصد به التزام الآخر بالعقد؛ لأن تفسيره بذلك ينافي أن يكون للآخر الفسخ، وهو قد جعل لكل منهما الفسخ.
وإن أراد بإمضائه: إمضاءه هو العقد، بمعني إسقاط حقه من الخيار، كان ذلك صحيحًا، ولكن إذا سقط خياره لم يسقط خيار الآخر، ولكن المعني المعروف في مثل هذه العبارة: أن لكل منهما أن يفسخه، وألا يفسخه. وإذا لم يفسخه فقد أمضاه. ونظير هذا قوله تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } 122، فإن التسريح هو ترك الإمساك، بحيث لا يحبسها. ولا يحتاج التسريح إلى إحداث طلاق، كذلك إمضاء العقد لا يحتاج إلى إحداث إمضاء. والله أعلم.
سئل عن رجل أعطى نطعا لدلال يبيعه
[عدل]وسئل عن رجل أعطى نطعًا لدلال يبيعه، فنادي عليه الدلال، فزاد نصف درهم، فراح الدلال إلى نائب الحسبة، فقال له: هذا صاحب النطع زاد فيه نصف درهم، فطلبه، وقيل له ذلك، فأنكر وحلف بالطلاق خوفًا على نفسه وإزالة ما في صدور من سمعه وأنه حلف أنه ما فعله، فهل يقع به الطلاق؟
فأجاب:
المالك إذا زاد في السلعة كان ظالما ناجشًا، وهو شر من التاجر الذي ليس بمالك، وهو الذي يزيد في السلعة ولا يقصد شراءها؛ ولهذا لو نجش أجنبي لم يبطل البيع، وأما البائع إذا ناجش، أو واطأ من ينجش، ففي بطلان البيع قولان في مذهب أحمد وغيره. ومثل هذا ينبغي تعزيره على أمرين: على نجشه، وعلى حلفه بالطلاق يمينًا فاجرة، وليس فعله المحرم عذرًا له في اليمين الفاجرة.
سئل عمن يسوم السلعة بثمن كثير
[عدل]وسئل رحمه الله تعالى عمن يسوم السلعة بثمن كثير، ويبيعها بأزيد من القيمة المعتادة، وقد يكون المشتري جاهلًا بالقيمة، هل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
أما إذا كان المشتري مسترسلا وهو الجاهل بقيمة المبيع لم يجز للبائع أن يغبنه غبنًا يخرج عن العادة، بل عليه أن يبيعه بالقيمة المعتادة، أو قريب منها. فإن غبنه غبنًا فاحشًا فللمشتري الخيار في فسخ البيع وإمضائه. فقد روي في الحديث: (غبن المسترسل ربا). وثبت في الصحاح: أن النبي ﷺ نهى عن تلقي الجلب حتي يهبط به السوق. وأثبت الخيار للبائع إذا هبط. وذلك لأن البائع قبل أن يهبط السوق يكون جاهلًا بقيمة السلع، فنهى النبي ﷺ عن أن يخرج المشتري إليه، ويبتاع منه؛ لما في ذلك من تغريره والتدليس. وأثبت له الخيار إذا علم بحقيقة الحال.
فهكذا كل من كان جاهلًا بالقيمة، لا يجوز تغريره والتدليس عليه؛ مثل أن يسام سومًا كثيرًا خارجًا عن العادة ليبذل ما يقارب ذلك، بل يباع البيع المعروف غير المنكر. والله أعلم.
سئل عن بيع المسترسل
[عدل]وسئل عن بيع المسترسل؟
فأجاب:
أما البيع فلا يجوز أن يباع المسترسل إلا بالسعر الذي يباع به غيره، لا يجوز لأحد استرسل إليه أن يغبن في الربح غبنا يخرج عن العادة. وقد قدر ذلك بعض العلماء بالثلث. وبعضهم بالسدس. وآخرون قالوا: يرجع في ذلك إلى عادة الناس، فما جرت به عادتهم من الربح على المماكسين يربحونه على المسترسل.
والمسترسل قد فسر بأنه الذي لا يماكس، بل يقول: خذ أعطني، وبأنه الجاهل بقيمة المبيع، فلا يغبن غبنًا فاحشًا، لا هذا ولا هذا، وفي الحديث (غبن المسترسل ربًا).
ومن علم منه أنه يغبنهم فإنه يستحق العقوبة، بل يمنع من الجلوس في سوق المسلمين، حتي يلتزم طاعة الله ورسوله، وللمغبون أن يفسخ البيع فيرد السلعة ويأخذ الثمن، وإذا تاب هذا الغابن الظالم ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم فليتصدق بمقدار ما ظلمهم به وغبنهم؛ لتبرأ ذمته بذلك من ذلك.
وبيع المساومة إذا كان مع أهل الخبرة بالأسعار التي يشترون بها السلع في غالب الأوقات، فإنه يباع غيرهم كما يباعون، فلا يربح على المسترسل أكثر من غيره، وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص، ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر؛ فإن في السنن: أن النبي ﷺ (نهى عن بيع المضطر). ولو كانت الضرورة إلى مالا بد منه؛ مثل لو يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس، فإنه يجب عليه ألا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة، ولهم أن يأخذوا ذلك منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره، ولا يعطوه زيادة على ذلك. والله أعلم.
فصل في بيع المغشوش الذي يعرف قدر غشه
[عدل]وقال:
وبيع المغشوش الذي يعرف قدر غشه، إذا عرف المشتري بذلك، ولم يدلسه على غيره جائز، كالمعاملة بدراهمنا المغشوشة. وأما إذا كان قدره مجهولًا كاللبن الذي يخلط بالماء، ولا يقدر قدر الماء، فهذا منهى عنه، وإن علم المشتري أنه مغشوش.
ومن باع مغشوشًا لم يحرم عليه من الثمن إلا مقدار ثمن الغش، فعليه أن يعطيه لصاحبه، أو يتصدق به عنه إن تعذر رده، مثل من يبيع معيبًا مغشوشًا بعشرة، وقيمته لو كان سالما عشرة، وبالعيب قيمته ثمانية. فعليه إن عرف المشتري أن يدفع إليه الدرهمين إن اختار، وإلا رد إليه المبيع، وإن لم يعرفه تصدق عنه بالدرهمين. والله أعلم.
سئل عن قوم يعملون عبيا يدخلون فيه صوفا لا ينتفع به
[عدل]وسئل رحمه الله عن قوم يعملون عبيًا، يدخلون فيه صوفًا لا ينتفع به، يسمونه السلاقة فيخلطونه بمشاق الكتان تدليسًا منهم، ويبيعونه على أنه صوف جيد، وربما عرفه التاجر، لكن التاجر يكتم ذلك على المشتري، فما يجب على صانعه؟ وهل يتجر فيه ويكتمه عن مشتريه؟ وما حكمه في نفس عمله؟ وما يجب على من عمل ذلك من المسلمين؟ وما يجب على ولاة الأمور في ذلك إذا كانوا يخلطون المشاق في الصوف الأبيض، وقد نهوا عن ذلك غير مرة، ويعودوا إليه؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس للصانع أن يصنع ذلك، ولا للبائع أن يبيعه، ولو علم المشتري أن فيه عيبًا، فإن مقدار الغش غير معلوم. وقد روي عن النبي ﷺ: أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع بخلاف الشرب، فإذا خلط اللبن بالماء للشرب جاز، وأما للبيع فلا، ولو علم المشتري أنه مخلوط بالماء؛ لأن المشتري لا يعلم مقدار الخلط، فيبقي البيع مجهولًا، وهو غرر. وهكذا كل ما كان من المغشوش الذي لا يعلم قدر غشه، فإنه ينهى عن بيعه، وعن عمله لمن يبيعه، وكذلك خلط المشاق بالصوف الأبيض، وكل ما كان من الغش في المطاعم والملابس وغير ذلك إذا لم يعلم مقدار الغش، فإنه ينهى عن ذلك.
وقد أفتي طائفة من العلماء من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما: أن من صنع مثل هذا فإنه يجوز أن يعاقب بتمزيق الثوب الذي غشه، والتصدق بالطعام الذي غشه، كما شق النبي ظروف الخمر وكسر دنانها، وكما أمر عمر وعلى رضي الله عنهما بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وقد نص عليه أحمد وغيره، وكما أمر النبي ﷺ عبد الله بن عمر أن يحرق الثوبين المعصفرين، رواه مسلم في صحيحه. وكما حرق موسي عليه السلام العجل، ولم يعده إلى أهله، وكما تكسر آلات الملاهي. ونظائر هذه متعددة. وهي مبنية على أن العقوبات في الأموال تتبع حيث جاءت بها الشريعة، كالعقوبات بالأبدان.
وادعي طائفة من العلماء أن ذلك منسوخ، ولا حجة معهم بذلك أصلًا، فكما أن البدن إذا قام به الفجور قد يتلف، فالمال الذي قام به صنعة الفجور مثل الأصنام المنحوتة يجوز تكسيرها وتحريقها، كما حرق النبي ﷺ الأصنام، وكذلك من صنع صنعة محرمة من طعام أو لباس ونحو ذلك. والله أعلم.
سئل عن دار لرجل باع ثلثها
[عدل]وسئل عن دار لرجل باع ثلثها لزيد، ثم باع الباقي لعمرو من ملكه: الثلث، والثلثين بالوكالة عن زيد، وتوفي زيد ومن حقوقها قناة ظهرت مستحقة النقل، والإزالة، بحكم تعدي ضررها للغير، وتعذر الرد لإحداث زيادة كثيرة من البناء: فهل يجب أرش القناة على البائع لعمرو؟ وإذا وجب، فهل يطلب بأرش الحصة التي باعها بالوكالة عن المشتري منه؟ أم يختص الطلب بما باعه عن نفسه؟
فأجاب:
الأرش الواجب بسبب العيب في الثمن إن كان الثمن لم يقبضه المشتري سقط من الثمن قدر الأرش. وإن كان قبضه للبائع أو وكيله فله أن يطالب البائع بالأرش. ثم الوكيل إن ضمن عهدة البيع، أو لم يسم موكله في العقد فهو ضامن للأرش، فيجوز مطالبته به. وإن سماه في العقد، ولم يضمن العهدة فهل يكون ضامنًا لذلك؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد، وغيره. والله أعلم.
سئل عن دار بين شخصين باعها أحدهما عن نفسه
[عدل]وسئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن دار بين شخصين باعها أحدهما عن نفسه، وعن شريكه بالوكالة لشخص آخر، ثم إن المشتري بني فوق ما اشتراه بناء كبيرًا، ومن حقوقه قناة ملاصقة جدار تربة، فندت الجدار، وسرت النداوة إلى القبر، فرفع ملاك التربة المشتري للحسبة، فشهدت البينة أر
باب الخبرة بتندية الجدار، ووصول ذلك إلى القبر، وأن القناة محدثة على الجدار، وأنه ضرر يجب إزالتها من مكانها، فألزم المشتري بنقلها، فهل ما أحدثه المشتري من البناء والهدم يمنع الرد؟ أم لا؟ وإذا منع، فهل يثبت الأرش؟ وإذا ثبت، فهل هو على الفور يسقط بتأخيره؟ أم على التراخي فلا يسقط بالتأخير؟ وما ألزم بهدمه وهدمه هل يسقط أرشه، أم لا؟ وإن قيل: إنه على الفور، فأشهد على نفسه بطلب الأرش، ثم تصرف بعد ذلك الإشهاد، فهل يسقط أم لا؟ وإذا كان له ذلك. فتكون المطالبة للوكيل بما باعه من ملكه، وملك موكله، أم ملكه فقط؟
فأجاب:
أما القناة إذا كانت محدثة حيث لا يجوز إحداثها، فإنه يلزم محدثها بإزالة ما لا يجوز إحداثه. والمشتري إن لم يعلم بذلك بل اعتقد أن هذا حق للملك، لا يجوز إزالته، فتبين الأمر بخلاف ذلك كان هذا عيبًا.
فإذا بني في العقار قبل علمه بالعيب، ثم علم أنه عيب، فليس إلا الأرش دون الرد في أحد قولي العلماء. كأبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه. وفي الأخري وهو قول مالك له الرد أيضًا. ويكون شريكًا للبائع بما أحدثه من الزيادة فيه ولا يلزم بالهدم مجانًا؛ لأنه بني بحق.
وخيار الرد بالعيب على التراخي عند جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبهما، ولهما قول كمذهب الشافعي أنه على الفور. فإذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق. فإذا بني بعد علمه بالعيب سقط خياره.
وأما إذا أشهد بطلب الأرش استحقه، كان له أن يطالب به بعد ذلك، ولا يسقط الأرش بتصرفه. والبائع يطالب بالدرك من أرش أو رد فيما باعه من ملكه. وأما إذا باعه من ملك موكله فإن كان لم يسمه في البيع طولب أيضًا بدرك المبيع، وإن كان سماه. فهل يجوز مطالبته؟ ويكون ضامنًا لعهدة المبيع؟ على قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وأما إن كان المشتري ألزم بالأرش؛ لأجل القناة المحدثة التي لا يجوز إحداثها، فله أن يطالب البائع الغار له بأرش ما لزمه بغرره.
سئل عن أناس يتعانون خروج المياه مثل ماء الورد وغيره
[عدل]وسئل رحمه الله عن أناس يتعانون خروج المياه، مثل ماء الورد وغيره، ثم إنهم يأخذون حرقان الورد، وينقعونه، ويستخرجوه عن العادة، وكذلك الينوفر ينقعونه يابسًا، فهل يجوز لهم أن يفعلوا ذلك، ويبيعوه؟
فأجاب:
لا يجوز خلط الماء الأول بالماء الثاني لمن يريد بيعه، ولو علم بذلك المشترون، كما روي عن النبي ﷺ: أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، ولا بأس به للشرب؛ فإن هذه المائعات إذا شيبت لم يعرف مقدار ما يدخلها من الغش. وعلى ولي الأمر عقوبة من يفعل ذلك، وسلوك طريق يمتنعون بها عن الغش.
سئل شيخ الإسلام عن عمل الكيمياء
[عدل]وسئل شيخ الإسلام عن عمل الكيمياء، هل تصح بالعقل، أو تجوز بالشرع؟
فأجاب:
الحمد لله، ما يصنعه بنو آدم من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب وغير ذلك، مما يشبهون به ما خلقه الله من ذلك، مثل ما يصنعونه من اللؤلؤ، والياقوت، والمسك، والعنبر، وماء الورد، وغير ذلك، فهذا كله ليس مثل ما يخلقه الله من ذلك، بل هو مشابه له من بعض الوجوه، ليس هو مساويًا له في الحد والحقيقة. وذلك كله محرم في الشرع بلا نزاع بين علماء المسلمين، الذين يعلمون حقيقة ذلك.
ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق، فقوله باطل في العقل والدين.
وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق، وهو باطل في العقل، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فهو سبحانه لم يخلق شيئًا يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق، وما يصنعونه فهو لم يخلق لهم مثله: فإنه سبحانه أقدرهم على أن يصنعوا طعامًا مطبوخًا، ولباسًا منسوجًا، وبيوتًا مبنية، وهو لم يخلق لهم مثل ما يصنعونه من المطبوخات والمنسوجات والبيوت المبنية. وما خلقه الله سبحانه من أنواع الحيوان والنبات والمعدن، كالإنسان والفرس والحمار والأنعام والطير والحيتان فإن بني آدم لا يقدرون أن يصنعوا مثل هذه الدواب. وكذلك الحنطة، والشعير، والباقلا، واللوبيا، والعدس، والعنب، والرطب، وأنواع الحبوب والثمار لا يستطيع الآدميون أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى. وإنما يشبهونه ببعض هذه الثمار، كما قد يصنعون ما يشبه الحيوان، حتي يصوروا الصورة كأنها صورة حيوان.
وكذلك المعادن؛ كالذهب، والفضة، والحديد، والنحاس والرصاص، لا يستطيع بنو آدم أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله؛ وإنما غايتهم أن يشبهوا من بعض الوجوه، فيصفرون وينقلون، مع اختلاف الحقائق؛ ولهذا يقولون: تعمل تصفيرة؟ ويقولون: نحن صباغون.
وهذه القاعدة التي يدل عليها استقراء الوجود: من أن المخلوق لا يكون مصنوعًا، والمصنوع لا يكون مخلوقًا، هي ثابتة عند المسلمين، وعند أوائل المتفلسفة الذين تكلموا في الطبائع، وتكلموا في الكيمياء وغيرها؛ فإن الله قال في كتابه: { أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } 123، وفي الصحيح عن النبي ﷺ فيما يروي عن الله أنه قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة! فليخلقوا بعوضة!). وقد ثبت عن النبي ﷺ: أنه لعن المصورين. وقال: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)، وقال: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله). وهذا التصوير ليس فيه تلبيس وغش، فإن كل أحد يعلم أن صورة الحيوان المصورة ليست حيوانًا.
ولهذا يفرق في هذا التصوير بين الحيوان وغير الحيوان. فيجوز تصوير صورة الشجر والمعادن في الثياب والحيطان ونحو ذلك؛ لأن النبي ﷺ قال: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)؛ ولهذا قال ابن عباس للمستفتي الذي استفتاه: صور الشجر وما لا روح فيه. وفي السنن عن النبي ﷺ أن جبريل قال له في الصورة: (مر بالرأس فليقطع)؛ ولهذا نص الأئمة على ذلك، وقالوا: الصورة هي الرأس، لا يبقي فيها روح، فيبقي مثل الجمادات. وهذا التصوير ليس فيه غش ولا تلبيس؛ فإن كل أحد يفرق بين المصور وبين المخلوق.
وأما الكيمياء، فإنه يشبه فيها المصنوع بالمخلوق، وقصد أهلها إما أن تجعل هذا كهذا، فينفقونه ويعاملون به الناس، وهذا من أعظم الغش. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه مر برجل يبيع طعامًا، فأدخل يده فيه، فوجده مبلولًا. فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟) فقال: يا رسول الله، أصابته السماء يعني المطر فقال: (هلا وضعت هذا على وجهه، من غشنا فليس منا)، وقوله: (من غشنا فليس منا) كلمة جامعة في كل غاش.
وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشًا؛ ولهذا لا يظهرون للناس إذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم إلا من يريد غشهم. وقد قال الأئمة: إنه لا يجوز بيع المغشوش الذي لا يعلم مقدار غشه، وإن بين للمشتري أنه مغشوش. وقد روي عن النبي ﷺ: أنه نهى عن أن يشاب اللبن بالماء للبيع، وأرخص في ذلك للشرب. وبيع المغشوش لمن لا يتبين له أنه مغشوش حرام بالإجماع، والكيمياء لا يعلم مقدار الغش فيها، فلا يجوز عملها ولا بيعها بحال.
مع أن الناس إذا علموا أن الذهب والفضة من الكيمياء لم يشتروه. ولو قيل لهم: إنه يثبت على الروباص، أو غير ذلك، بل القلوب مفطورة على إنكار ذلك، والولاة ينكرون على من يجدونه يعمل ذلك، ولو كان أحدهم ممن يعمل ذلك في الباطن فيحتاج أن ينكره في الظاهر؛ لأنه منكر في فطر الآدميين، ولا تجد من يعاني ذلك إلا مستخفيًا بذلك، أو مستعينًا بذي جاه، وعلى أصحابه من الذلة والصَّغَار وسواد الوجوه، ما على أهل الفرية والكذب والتدليس كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } 124. قال أبو قِلاَبة: هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وهؤلاء أهل فرية وغش وتدليس في الدين، وكلاهما من المفترين.
وأما القدماء فقد قالوا: إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة، وأخبروا أن المصنوع لا يكون كالمطبوع؛ ولهذا كان المصنفون منهم في الكيمياء إذا حققوا قالوا: لما كان المقصود بها إنما هو التشبيه، فالطريق في التشبيه كذا وكذا. فيسلكون الطرق التي يحصل بها التشبيه، وهي مع تنوعها وكثرتها ووصول جماعات إليها واتفاقهم فيها: عسرة على أكثر الخلق، كثيرة الآفات، والمنقطع عن الوصول أضعاف الواصلين مع كثرتهم، فجماهير من يطلب الكيمياء لا يصل إلى المصنوع الذي هو مغشوش باطل طبعًا، محرم شرعًا، بل هم يطلبون الباطل الحرام، ويتمنوه ويتحاكون فيه الحكايات، ويطالعون فيه المصنفات، وينشدون فيه الأشعار، ولا يصلون إلى حقيقة الكيمياء وهو المغشوش بمنزلة أتباع المنتظر الذي في السرداب، وأتباع رجال الغيب الذين لا يراهم أحد من الناس، وأمثال هؤلاء الذين يطلبون ما لا حقيقة له معتقدين وجوده، ويموتون وهم لم يصلوا إليه، وإن وصلوا إلى من يدعي لقاءه من الكذابين.
وكذلك طلاب الكيمياء الذين يقال لهم: الحدبان لكثرة انحنائهم على النفخ في الكير، أكثرهم لا يصلون إلى الحرام، ولا ينالون المغشوش، وأما خواصهم فيصلون إلى الكيمياء، وهي محرمة باطلة، لكنها على مراتب:
منها: ما يستحيل بعد بضع سنين. ومنها: ما يستحيل بعد ذلك؛ لكن المصنوع يستحيل ويفسد ولو بعد حين، بخلاف الذهب المعدني المخلوق فإنه لا يفسد ولا يستحيل؛ولهذا ذكروا أن محمد بن زكريا الرازي المتطبب وكان من المصححين للكيمياء عمل ذهبًا وباعه للنصاري، فلما وصلوا إلى بلادهم استحال، فردوه عليه، ولا أعلم في الأطباء من كان أبلغ في صناعة الكيمياء منه. وأما الفلاسفة الذين هم أحذق في الفلسفة منه، مثل يعقوب ابن إسحاق الكندي، وغيره. فإنهم أبطلوا الكيمياء، وبينوا فسادها، وبينوا الحيل الكيماوية.
ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء، ولا من علماء الدين، ولا من مشايخ المسلمين، ولا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان. وأقدم من رأينا، ويحكي عنه شيء في الكيمياء خالد بن يزيد بن معاوية، وليس هو ممن يقتدي به المسلمون في دينهم، ولا يرجعون إلى رأيه، فإن ثبت النقل عنه فقد دلس عليه، كما دلس على غيره. وأما جابر ابن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية، فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم، ولا بين أهل الدين، وهؤلاء لا يعدون أحد أمرين: إما أن يعتقد أن الذهب المصنوع كالمعدني جهلًا وضلالًا كما ظنه غيرهم. وإما أن يكون علم أنه ليس مثله، ولكنه لبس ودلس، فما أكثر من يتحلي بصناعة الكيمياء؛ لما في النفوس من محبة الذهب والفضة، حتي يقول قائلهم: لو غني بها مغن لرقص الكون. وعامتهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، ويظهرون للطماع أنهم يعملون الكيمياء حتي يأكلوا ماله، ويفسدوا حاله. وحكاياتهم في هذا ال
باب عند الناس أشهر من أن تحتاج إلى نقل مستقر، تدل على أن أهل الكيمياء يعاقبون بنقيض قصدهم، فتذهب أموالهم حيث طلبوا زيادة المال بما حرمه الله بنقص الأموال، كما قال الله تعالى: { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } 125.
والكيمياء أشد تحريمًا من الربا. قال القاضي أبو يوسف: من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب. ويروي هذا الكلام عن مالك، والشافعي رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال لي رأس من رؤوسهم لما نهيته عنها، وبينت له فسادها وتحريمها ولما ظهرت عليه الحجة: أخذ يستعفي عن المناظرة، ويذكر أنه منقطع بالجدال، وقال فيما قال: النبي ﷺ كان يعرف الكيمياء، فقلت له: كذب، بل هو مستلزم للكفر، فإن الله قال في كتابه: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ } 126، وهذه الآية نزلت بالإجماع في غزوة تبوك، وكان النبي ﷺ قد حض فيها الناس على الصدقة، حتي جاء رجل بناقة مخطومة مزمومة، فقال له النبي ﷺ: (لك بها سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة)، وجاء أبو عقيل بصاع فطعن فيه بعض المنافقين، وقال فيها: كان الله غنيًا عن صاع هذا، وجاء آخر بصرة كادت يده تعجز عن حملها، فقالوا: هذا مراءٍ. فأنزل الله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ إليمٌ } 127، وجاء عثمان بن عفان بألف ناقة، فأعوزت خمسين، فكملها بخمسين فرس، فقال النبي ﷺ: (ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم)، وصارت هذه من مناقبه المشهورة، فيقال: مجهز جيش العسرة.
وقد قال الله: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى } إلى قوله: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ } 128. وقد قيل: إنهم طلبوا أن يحملهم على النعال. وسواء أريد بالبغال النعال التي تلبس، أو الدواب التي تركب، فقد أخبر الله عن نبيه أنه قال لهم: { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }، وقد كان هو يحض الناس على الإنفاق غاية الحض. فلو كانت الكيمياء حقٍا مباحًا وهو يعلمها، لكان من الواجب أن يعمل منها ما يجهز به الجيش، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن نسب إلى النبي ﷺ ذلك فقد نسبه إلى ما نزهه الله عنه.
وأيضًا، فإن علماء الأمة لم يوجب أحد منهم في الكيمياء حقًا؛ لا خمسًا ولا زكاة، ولا غير ذلك، وقد اتفقوا على أن في الركاز الخمس، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ. والركاز الذي لا ريب فيه؛ هو دفن الجاهلية. وهي الكنوز المدفونة في الأرض؛ كالمعادن. فأهل الحجاز لا يجعلونها من الركاز، وهو مذهب أحمد وغيره، وأهل العراق يجعلونها من الركاز، ومن العلماء من يفرق بين أن يوجد المال جملة، وبين ألا يوجد. وللشافعي فيها أقوال معروفة وجمهور العلماء يوجبون في المعدن حقًا؛ إما الزكاة، وإما الخمس.
ولو كانت الكيمياء حقًا حلالًا لكان الواجب فيها أعظم من الخمس وأعظم من الزكاة، فإنها ذهب عظيم بسعي يسير، أيسر من استخراج المعادن، والركاز، لكن هي عند علماء الدين من الغش الباطل المحرم الذي لا يحل عمله، ولا اتخاذه مالا، فضلًا عن أن يوجبوا فيها ما يجب في المال الحلال.
وقال لي المخاطب فيها: فإن موسي ﷺ كان يعمل الكيمياء. قلت له: هذا كذب، لم ينقل هذا عن موسى أحد من علماء المسلمين، ولا علماء أهل الكتاب، بل قد ذكروا عنهم أن موسي كان له عليهم حق يأكل منه، ولو كان يعمل الكيمياء لكان يأكل منها.
قال: فإن قارون كان يعمل الكيمياء، قلت: وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لم يقله عالم معروف، وإنما يذكره مثل الثعلبي في تفسيره عمن لا يسمي. وفي تفسير الثعلبي الغَثّ والسمين، فإنه حاطب ليل، ولو كان مال قارون من الكيمياء لم يكن له بذلك اختصاص؛ فإن الذين عملوا الكيمياء خلق كثير لا يحصون، والله سبحانه قال: { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } 129، فاخبر أنه آتاه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، والكنوز إما أن يكون هو كنزها، كما قال: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الآية 130، وإما أن يكون اطلع على كنائز مدفونة وهو الركاز، وهذا لا ريب أنه موجود.
ثم إنه مات هذا الرجل وكان خطيبًا بجامع، فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة، وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبًا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك، فقام المنادي ينادي على كتب الصنعة وكانت كثيرة يعني كتب الكيمياء؛ فإنهم يقولون: هي علم الحجر المكرم، وهي علم الحكمة، ويعرفونها بأنواع من العبارات، وكان المتولي لذلك من أهل السيف والديوان شهودًا، فقلت لولي الأمر: لا يحل بيع هذه الكتب؛ فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها، فيقولون: هؤلاء زغلية فيقطعون أيديهم. وإذا بعتم هذه الكتب تكونون قد مكنتموهم من ذلك، وأمرت المنادي فألقاها ببركة كانت هناك، فألقيت حتي أفسدها الماء، ولم يبق يعرف ما فيها.
ومما يوضح ذلك: أن الكيمياء لم يعملها رجل له في الأمة لسان صدق، لا عالم متبع، ولا شيخ يقتدي به، ولا ملك عادل، ولا وزير ناصح، وإنما يفعلها شيخ ضال مبطل، مثل ابن سبعين وأمثاله، أو مثل بني عبيد. أو ملك ظالم، أو رجل فاجر. وإن التبس أمرها على بعض أهل العقل والدين، فغالبهم ينكشف لهم أمرها في الآخر، ولا يستطيعون عملها صيانة من الله لهم لحسن قصدهم، وما أعلم أن رجلًا من خيار المسلمين أنفق منها أو أكل منها.
وما يذكره بعض الناس أن أولياء الله يعملون بها. فهذا لا يعدو ما يقوله أحد أمرين: إما أن يكون كاذبًا. وإما أن يكون قد ظن من يعملها أنه من أولياء الله، المخصوصين بمثل هذه الكرامة، فهذا جهل؛ فإن الكيمياء يعملها المشرك واليهودي والنصراني والفاجر والمبتدع، لا يختص بها أولياء الله، بل لا يعرف ولي ثابت الولاية يعملها، ومن ذكرها ممن يدعي أنه من الأولياء مثل صاحب الفصوص وأمثال هؤلاء فهؤلاء في كلامهم في الدين من الخطأ والضلال أعظم مما في كلامهم في الكيمياء، فإذا كان كلامهم في التوحيد والنبوة واليوم الآخر فيه من الضلال ما هو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، بل ما لم يقله اليهود والنصاري فكيف يكون كلامهم في الكيمياء؟
ثم من اغتر بما ذكره صاحب كتاب السعادة فيه، وفي كتاب جواهر القرآن وأمثالهما من الكتب، ففي هذه الكتب من الكلام المردود والمخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ما لا يخفي على عالم بذلك، وقد رد علماء المسلمين ما في هذه الكتب من أقوال المتفلسفة وأشباهها من الضلال المخالف للكتاب والسنة. ومن الناس من يطعن في نقل هذه الكتب عمن أضيفت إليه، ويقول: إنه كذب عليه في نسبة هذه الكتب إليه. ومنهم من يقول: بل قد رجع عن ذلك؛ فإنه قد ثبت عنه في غير موضع نقيض ما يقوله في هذه الكتب، ومات على مطالعة البخاري ومسلم.
نعم، خرق العادات للأولياء جائز، مثل أن يصير النبات ذهبًا. وذلك مما لا يكون طريقه طريق الكيمياء المعمولة بالمعالجات الطبيعية، وبين هذين من الفرق ما بين عصا موسي، وعصي السحرة، فإن تلك كانت حية تسعي، وتلك يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
وبالجملة، فإذا كان طائفة من المنتسبين إلى العلم والعبادة اعتقدوا أن علم الكيمياء حق وحلال، فهذا لا يفيد شيئًا؛ فإن قول طائفة من العلماء والعباد خالفهم من هو أكبر منهم وأجل عند الأمة لا يحتج به إلا أحمق؛ فإنه إن كان التقليد حجة فتقليد الأكبر الأعلم الأعبد أولي. وإن لم يكن حجة لم ينفعه ذكره لهؤلاء. وعلى التقديرين فلا يفيد هذا شيئًا. ويكفيه أن خيار هذه الأمة من القرون الذين بعث فيهم رسول الله ﷺ، ثم الذين يلونهم، لم يدخلوا في شيء من هذا، إذ لو كانت حلالًا لدخلوا فيها، كما دخلوا في سائر المباحات؛ فإنهم كانوا يكتسبون الأموال بالوجوه، واكتساب المال مع إنفاقه في طاعة الله عمل صالح. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (على كل مسلم صدقة). قالوا: فمن لم يجد، قال: (يعمل بيده فينفع نفسه، ويتصدق). قالوا: فإن لم يستطع، قال: (يعين صانعًا، أو يصنع لأخرق). قالوا: فإن لم يستطع، قال: (يكف نفسه عن الشر، فإنها صدقة يتصدق بها على نفسه).
ومما يوضح الأمر في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى خلق الأشياء أجناسًا وأصنافًا وأنواعًا، تشترك في شيء، ويمتاز بعضها عن بعض بشيء، كما أن الدواب تشترك في أنها تحس وتتحرك بالإرادة فهذا لازم لها كلها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (أصدق الأسماء حارث وهمام). إذ كل إنسان لابد له من حرث، وهو كسبه وعمله، ولا بد له من هم، هو مبدأ إرادته، ويمتاز بعض الدواب عن بعض بما ي
فصل بينه وبين غيره. فهذه الخواص الفاصلة مختصة، كما أن الصفات المشتركة عامة، وهذا كالنطق للإنسان، والصهيل للفرس، والرغاء للبعير، والنهيق للحمار، وأمثال ذلك.
وكذلك النباتات، تشترك مع الدواب في أنها تنمي وتغذي، ولكن ليس للنبات حس، ولا إرادة تتحرك بها، والمعدن مشارك في بعض ذلك. وقد علم أن هذه الأصناف التي تسمي الأنواع التي يفضل بعضها عن بعض بهذه الخواص الفاضلة إذا تقومت بهذه الفضول الخواص لم يكن لبشر أن يجعلها من أنواع أخر، ولا أن يجعل ذلك الفضل ويلبسها فضلًا آخر، فلا يمكنه أن يجعل الحنطة شعيرًا، ولا الفرس حمارًا، ولا الحمار ثورًا. وكذلك لا يمكنه أن يجعل الفضة ذهبًا ولا النحاس فضة، وأمثال ذلك، وإنما غايته يشبه وجوده، ويدلس.
ومن زعم من الكيماوية أن الفضة ذهب لم يستكمل نضجه، فقد كذب، بل لهذا معدن، ولهذا معدن، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه قيل له: أي الناس أكرم؟ فقال: (أتقاهم). فقالوا: لسنا نسألك عن هذا؛ فقال: (يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله). فقالوا: لسنا نسألك عن هذا. فقال: (أفعن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)، فكما أن قريشًا ليس أصلها أصل تميم، وعدنان ليس أصلها أصل قحطان، والعرب ليس أصلها أصل العجم، فكذلك ليس أصل الذهب أصل الفضة، ولا أصل الفضة أصل الذهب، وإن قدر أن معدن الذهب يكون فيه فضة، كما يكون في معدن الفضة نحاس، فكذلك خبث المعادن.
ومعلوم أن المستخرج من المعدن لابد من تصفيته من خبثه، والناس يعلمون ماشاء الله من معادن الفضة لا يخرج منها ذهب. ولو كانت الفضة إذا أكمل طبخها صارت ذهبًا، لكان يخرج من معادن الفضة ذهب، إلا أن يقال: ليس من طبيعة ذلك المعدن حرارة طبخها. فيقال: هذا أيضًا مما يبطل الكيماوية؛ وذلك أن الله سبحانه يخلق الذهب في معادن بحرارة ورطوبة، ويخلقها في المعدن كما يخلق الأجنة في بطون الأرحام، وكما يخلق في الحرث من الأشجار والزرع بحرارة يخلقها، وما يخلق به من الحرارة التي أودعها في تلك الأجسام لا تقوم مقامه حرارة النار التي نصنعها نحن.
وبالجملة، فاستقراء هذين الأصلين أن المخلوق لا يكون مصنوعًا، والمصنوع لا يكون مخلوقًا، وأن الأنواع المفضلة بخواصها لا يمكن أن ينقل منها نوع إلى نوع آخر يظهر ذلك بالعقل، والدلالة الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة، والإجماع أيضًا في ذلك، ثم ما فطر الله عباده وسوي بين بلاده من إنكار ذلك وعقوبة فاعليه في الجملة ظاهر، وإن فعله بعضهم باطنًا.
ثم إن الذين يصنعون الكيمياء، ويدعون أنها حق حلال لو بيع لأحدهم ذهب، وقيل له: هو من عمل الكيمياء لم يشتره، كما يشتري المعدني، وإن صنع به كما يصنع بذهبه الذي يعلمه من الاعتبار، بل قد جبلت قلوب الناس على أن من فعل هذا نسبوه إلى الغش والزغل والتمويه، والناس شهداء الله في الأرض.
وأيضًا، فإن فضلاء أهل الكيمياء يضمون إليها الذي يسمونه السيميا كما يصنع ابن سبعين، والسهروردي المقتول، والحلاج، وأمثالهم. وقد علم أنه محرم بكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الأمة، بل أكثر العلماء على أن الساحر كافر، يجب قتله. وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله، وروي ذلك مرفوعًا عنه عن النبي ﷺ. وقد قال الله تعالى: { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } 131. وقال تعالى: { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } 132.
فبين سبحانه أن طلاب السحر يعلمون أن صاحبه ما له في الآخرة من خلاق: أي من نصيب، ولكن يطلبون به الدنيا. من الرئاسة والمال. { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا } 133، لحصل لهم من ثواب الله في الدنيا والآخرة ما هو خير لهم مما يطلبونه.
ولهذا تجد الذين يدخلون في السحر، ودعوة الكواكب، وتسبيحاتها، فيخاطبونها، ويسجدون لها، إنما مطلوب أحدهم المال والرئاسة، فيكفر ويشرك بالله؛ لأجل ما يتوهمه من حصول رئاسة ومال، ولا يحصل له إلا ما يضره ولا ينفعه، كما يدل عليه استقراء أحوال العالم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: أنه عد من الكبائر الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من أنواع السحر، وأصنافه متنوعة.
وإنما المقصود هنا أنك تجد السيميا التي هي من السحر كثيرًا ما تقترن بالكيمياء؛ ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السحر من أعظم المحرمات، فإذا كانت الكيمياء تقرن به كثيرًا، ولا تقترن بأهل العلم والإيمان، علم أنها ليست من أعمال أهل العلم والإيمان، بل من أعمال أهل الكفر والفسوق والعصيان. وهذا كله فيمن وصل إلى الكيمياء وعملها، وقدر على أن ينفق منها ولا ينكر عليه، وأكثر الطالبين لها لم يوصلوا إلى ذلك، ولم يقدروا عليه، ومن وصل منهم إلى ذلك مرة تعذر عليه في غالب الأوقات، مع حصول المفسدات.
ومن استقرأ أحوال طالبيها وجد تحقيق ما قاله الأئمة، حيث قالوا: من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب. وكم أنفقوا فيها من الأموال، وكم صحبوا بها من الرجال، وكم أكثروا فيها من القيل والقال، وكم علقوا بها الأطماع والآمال، وكم سهروا فيها من الليالي، ولم يظفروا إلا بخسارة الدنيا والدين، ونقص العقل والعلم، ونصب العرض والذل والصغار والحاجة والإقتار، وكثرة الهموم والأحزان، وصحبة شرار الأقران، والاشتغال عما ينفعهم في المعاش والمعاد، والإعراض عما ينفع في الآخرة من الزاد.
لا سيما وهي كثيرًا ما تقود أصحابها إلى أنواع المعاصي والفسوق؛ إذ طالبها يبغيها بغية العاشق للمعشوق، بل قد تؤول إلى الكفر بالرحمن، والإعراض عن الإيمان والقرآن، والدخول في أضاليل المشركين. وعباد الأوثان، وهو خسارة الدنيا والدين، لم يحصل إلا على طمع كاذب، كالبرق الخالب، والسراب الذي { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } 134، فهم في ذلك بمنزلة من يظن في أهل الكفر من القسيسين والرهبان أنهم من عباد الله أهل الإيمان، أو من يظن في أهل البدع والكذب والتلبيس أنهم من أولياء الله الذين { أَلا إِنَّ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } 135.
بل كثير منهم يظن في المتنبئ الكذاب؛ كمسيلمة، والعنسي، ونحوهما، أنهم بمنزلة الأنبياء الصادقين؛ كإبراهيم، وموسى، وعيسي، ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين. واشتباه الحق بالباطل، واشتباه النبي بالمتنبئ، والمتكلم بعلم بالمتكلم بجهل، والولي الصادق بالمرائي الكاذب، هو كاشتباه الذهب المعدني بالذهب المصنوع، وقد فرق الله بين الحق والباطل، وإنما اهتدي للفرق التام أهل العلم والإيمان من أمة محمد ﷺ. الذين قال الله فيهم: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 136.
وهي الأمة الوسط، الذين هم شهداء الله في الأرض على خلقه في الحق، وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، جعلنا الله وسائر إخواننا من أتباعهم، والمقتدين بهم، وحشرنا في زمرتهم، بمنه وفضله.
ومن أعظم حجج الكيماوية: استدلالهم بالزجاج، قالوا: فإن الزجاج معمول من الرمل والحصي، ونحو ذلك، فقاسوا على ذلك ما يعملونه من الكيمياء. وهذه حجة فاسدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يخلق للناس زجاجًا؛ لا في معدن، ولا في غيره؛ وإنما الزجاج من قسم المصنوعات، كالآجر والفخار ونحوهما مما يطبخ في النار. وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى جعل لبني آدم قدرة على أن يعملوا أنواعًا من المطاعم والملابس والمساكن، وكذلك جعل لهم قدرة على ما يصنعونه من الآنية من الفخار، والزجاج، ونحو ذلك، ولم يخلق لهم سبيلًا على أن يصنعوا مثل ما خلق الله.
وإذا تبين أن الزجاج من قسم المصنوعات دون المخلوقات، ليس فيه ما يشتبه المصنوع بالمخلوق، بطلت حجة الكيمياء.
فإن أصل المخلوقات التي خلقها الله لا يمكن البشر أن يصنعوا مثلها، ولا يمكنهم نقل نوع مخلوق من الحيوان والنبات والمعدن إلى نوع آخر مخلوق، وهذا مطرد لا ينقض. والله أعلم.
سئل عن رجل باع ملكا وعقارا ثم خرج مستحقا
[عدل]وسئل رَحمه الله عن رجل باع ملكًا وعقارًا، ثم خرج مستحقًا، فهل يحاسب المشتري بالثمن من أجرة المبيع، إذا كان له أجرة؟ وهل يتوقف استحقاق الأجرة على انتفاع المشتري بالبيع؟ أم لا؟ وهل يرجع المشتري على البائع بما يجب عليه في الشرع من الأجرة للمبيع مدة مقامه في يده، أو بالثمن الذي دفعه؟
فأجاب:
إذا كان المشتري عالما بالغصب، فهو ظالم ضامن للمنفعة، سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وإن لم يعلم فقرار الضمان على البائع الظالم، وإذا انتزع المبيع من يد المشتري، فله أن يطالب بالثمن الذي قبضه، وإن أخذ منه الأجرة وهو مغرور رجع بها على البائع الغار. والله أعلم.
وسئل عمن يقول السيميا والكيمياء علمان من علوم الأنبياء والأولياء
[عدل]وسئل عمن يقول: إن السيميا والكيمياء علمان من علوم الأنبياء والأولياء. ويروي بعضهم في الكيمياء وهو الفضة الخدماء أو المخدمة من أسفاها أكل الحلال ونحو ذلك؟
فأجاب:
وأما من قال: إن السيميا والكيمياء من علوم الأنبياء والأولياء فكاذب مفتر، لم يعرف عن نبي من الأنبياء أنه تكلم لا في هذا، ولا في هذا، ولا عن ولي مقبول عند الأمة.
أما السيميا فإنها من السحر، { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } 137. ولا ريب أن السحرة قد يشتبهون بالأنبياء والأولياء، ويأتون ما يظن أن يضاهي ما تأتي به الأنبياء، كما أتي سحرة فرعون بما يضاهون به معجزة موسى، { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } إلى قوله: { سَاجِدِينَ } 138
وأما الكيمياء: فهو المشبه بالذهب والفضة المخلوقين. والكيمياء لا تختص بهذين، بل تصنع كيمياء الجواهر. كاللؤلؤ والزبرجد. وكيمياء المشمومات: كالمسك والعنبر والورد، وكيمياء المطعومات. وهي باطلة طبعًا، محرمة شرعًا، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من غشنا فليس منا).
والكيمياء من الغش؛ فإن الله لم يخلق شيئًا إلا بقدر، والخلق لا يصنعون مثل ما خلق الله تعالى، قال الله تعالى: { أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } 139. وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة).
والفلاسفة يقولون: إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة: يعني أن المصنوع من الذهب والفضة وغيرهما لا يكون مثل المطبوع الذي خلق بالقوة الطبيعية السارية في الأجسام؛ ولهذا لا يوجد من المخلوقات ما صنع الخلق مثله، وما يصنعه الخلق لم يخلق لهم مثله، فهم يطحنون الطعام، وينسجون الثياب، ويبنون البيوت، ولم يخلق لهم مثل ذلك.
وكذلك الزجاج يصنعونه من الرمل والحصي، ولم يخلق مثله. وهذا مما احتج به الكيماوية على صحة الكيمياء، وهي حجة باطلة لما ذكر، فإنه لو خلق زجاج، وصنع زجاج مثله، لكان في هذا حجة، وليس الأمر كذلك.
وجماهير العقلاء من الأولين والآخرين، الذين تكلموا بعلم في هذا الباب، يعلمون أن الكيمياء مشبه، وأن الذهب المخلوق من المعادن ما يمكن أن يصنع مثله، بل ولا يصنع، وكل ينكشف قريبًا، أو بعيدًا، ولكن منه ما هو شديد الشبه، ومنه ما هو أبعد شبهًا منه. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
سئل عن رجل اشترى عبدا سليما من العيب ثم باعه
[عدل]وسئل عن رجل اشتري عبدًا سليمًا من العيب، ثم باعه كذلك، فسرق العبد من المشتري الثاني مبلغًا وأبق، فهل يرجع بالثمن على البائع الأول؟ أو الثاني؟ أو بالأرش، أم لا؟
فأجاب:
للمشتري أن يطالب بالأرش بلا نزاع بين العلماء، ومعني ذلك: أن يقوم العبد ولا عيب فيه، ويقوم وبه هذان العيبان، فما نقص من القيمة نقص من الثمن بحسابه، فإذا كانت قيمته سليمًا أربعمائة، وقيمته معيبًا مائتان، حط عنه نصف الثمن.
وهل يرجع بالثمن كله على السيد الذي دلس العيب؟ فهذا فيه نزاع مشهور بين العلماء. فمذهب مالك وأحمد في أنص الروايتين عنه أنه يرجع عليه بالثمن كله. وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في القول الآخر يرجع عليه بذلك.
سئل عن رجل اشترى جارية فبانت عاشقة في سيدها الذي باعها
[عدل]وسئل عن رجل اشترى جارية فبانت عاشقة في سيدها الذي باعها، وباعها الثاني لثالث، فهل للثالث أن يردها على الثاني؟ وهل يردها الثاني على الأول؟ أم لا؟
فأجاب:
نعم، هذا عيب ينقص القيمة في العادة نقصًا بينًا، فإذا ثبت ولم يعلم به المشتري كان له أن يردها على بائعه المشتري الثاني، وإذا كان المشتري الثاني لم يعلم العيب فله أن يردها على البائع الأول. والله أعلم.
سئل عن رجل اشترى جارية صحيحة سالمة فهربت
[عدل]وسئل عن رجل اشتري جارية صحيحة سالمة فهربت من يوم ابتاعها من غير ضرب، ولا إجحاف، فهل للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن قبل حضور الجارية، ووجودها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كانت الجارية معروفة بالإباق قبل ذلك، وكتم البائع هذا العيب، وأبقت عند المشتري، فللمشتري أن يطالب البائع بالثمن في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه من القولين. وفي القول الآخر يطالب بالأرش.
وإن لم تكن أبقت قبل ذلك، ولكن أبقت بسبب ما فعل بها المشتري، فلا شيء على البائع. وإذا حدث به عيب إباق أو غيره بعد القبض، فلا رد له عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأما مالك فيقول: له الرد بذلك إلى تمام ثلاثة أيام، وما بعد ذلك إلى سنة وله الرد بالجنون والجذام والبرص. والله أعلم.
سئل عن دابة لم يعلم أحد المتبايعين بها عيبا
[عدل]وسئل عن دابة لم يعلم أحد المتبايعين بها عيبًا، فمكثت عنده مقدار شهر، ثم وجد بها عيبًا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا ظهر بها عيب قديم قبل البيع، ولم يكن علم به، فله أن يردها بذلك العيب؛ ما لم يظهر منه ما يدل على الرضا به.
سئل عن رجل باع قمحا فبذره فتلف
[عدل]وسئل عن رجل باع قمحًا فبذره فتلف، فطلب المشتري من البائع خراج الأرض، فهل يجب على البائع ذلك؟ وهل للمشتري أن يطالبه بذلك؟ وإذا ادعي المشتري أن العيب كان من البائع؟
فأجاب:
إذا باعه وسلم اليه المبيع، ثم تلف بعد ذلك عند المشتري، أو بذره المشتري فتلف، فلا ضمان على البائع، بل يستحق جميع الثمن إلا أن يكون به عيب، أو تدليس، ونحو ذلك.
وإن ادعي المشتري أن تلفه بسبب عيب كان فيه، وكان ذلك القمح قد اشتري منه غير هذا المشتري، وشهدوا أنه سليم من العيب، لم يقبل قول المشتري، وإن لم يكن للبائع بينة، فالقول قوله مع يمينه، إذا لم يقم المشتري بينة.
وأيضًا، فإذا قال أهل الخبرة: إن المعيب لا ينبت النبات المعتاد، وهذا قد نبت النبات المعتاد، ثم هاف، كان حجة للبائع.
سئل عن رجل باع زوجته دارا بيع أمانة
[عدل]وسئل عن رجل باع زوجته دارًا بيع أمانة بأربعمائة درهم، وقد استوفت الدراهم من الأجرة، فهل يجوز لها أخذ شيء آخر، وقد أخذت الأربعمائة، فهل يحرم عليها؟
فأجاب:
الحمد لله، وحده، المقصود بهذا وأمثاله أن يعطيه المال، ويستغل العقار عن منفعة المال، فما دام المال في ذمة الآخذ فإنه يستغل العقار، وإذا رد عليه المال أخذ العقار، وهذا على هذا الوجه لا يجوز باتفاق المسلمين. وإن قصدا ذلك وأظهرا صورة بيع لم يجز على أصح قولي العلماء أيضًا.
ومن صحح ذلك فلابد أن يكون بيعه شرعيا، فإذا شرط أنه إذا جاء بالثمن أعاد اليه العقار، كان هذا بيعًا باطلًا. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له في أصح قولي العلماء.
وحينئذ، فما حصل للمرأة من الأجرة بعد أن علمت التحريم تحسبه من رأس المال، وما قبضته قبل ذلك: فهو على الخلاف المذكور، وإن اصطلحا على ذلك فهو أحسن. وما قبضته بعقد مختلف تعتقد صحته لم يجب عليها رده في أصح القولين.
سئل عن رجل طلب من إنسان أن يقرضه دراهم وللرجل كرم
[عدل]وسئل عن رجل طلب من إنسان أن يقرضه دراهم، وللرجل كرم، فامتنع إلا أن يبيعه الكرم بمائة درهم، وأنه إذا جاء بالدراهم أعاد اليه الكرم، فباعه الكرم بهذا الشرط، ولم يذكر الشرط في العقد، ثم بعد العقد قال المشتري لجماعة شهود: اشهدوا على أنه متي جاء هذا بدراهمي أعدت اليه كرمه: فهل يكون هذا البيع صحيحًا، أم لا؟ وهل يجب على المشتري القيام بما شرطه على نفسه في إعادة الكرم ؟ وإذا مكر المشتري بالبائع، هل يجوز له ذلك؟
فأجاب:
ليس هذا بيعًا لازمًا، بل عليه أن يرد عليه كرمه إذا أعطاه دراهمه، ولا يحل له أن يمكر به.
سئل عن امرأة اشترت خرقة تخيطها ثم بعد ذلك وجدتها خامية وفيها فزور
[عدل]وسئل عن امرأة اشترت خرقة تخيطها، ثم بعد ذلك وجدتها خامية وفيها فزور، فهل تلزم التاجر إن ردتها اليه؟
فأجاب:
لها أن تطالبه بأرش العيب القديم، وإذا كان قد نقص بما أحدثته فيه من العيب كان لها الرد مع أرش العيب الحادث في أصح قولي العلماء. والله أعلم.
سئل عن رجل باع ملكا لابنة تحت حجره
[عدل]وسئل عن رجل باع ملكًا لابنة تحت حجره بألف وثمانين بيع أمانة وهو يساوي أربعة آلاف درهم، وشهدت الشهود، وذكروا في المكتوب أن ابنة البائع أذنت في البيع، ولم يكن الشهود حضروها، ولا لها جلية عندهم، فهل يصح هذا البيع؟
فأجاب:
الحمد لله، بيع الأمانة بيع باطل، والواجب رد العوض، وبيع الأب مثل هذا الغبن العظيم لا يجوز، والمحجور عليها لا يصح إذنها والإشهاد عليها بالإذن في مثل ذلك، بل إذا عرف ذلك فسخ البيع بكل حال.
سئل عن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف قبل القبض فتلفت
[عدل]وسئل رحمه الله:
هل ذكر أحد من العلماء أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت يكون ضامنًا لها؟ أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردًا وعكسًا؟ فالنزاع في ذلك مشهور؟
فأجاب:
القولان في مذهب أحمد، وهو طريقة القاضي وأصحابه.
والمتأخرون من أصحاب أحمد مع أبي حنيفة والشافعية يقولون بتلازم التصرف والضمان، فعندهم أن ما دخل في ضمان المشتري جاز تصرفه فيه، وما لم يدخل في ضمانه لم يجز تصرفه فيه؛ ولهذا طرد الشافعي ذلك في بيع الثمار على الشجر، فلم يقل بوضع الجوائح؛ بناء على أن المشتري إذا قبضها، وجاز تصرفه فيها، صار ضمانها عليه.
والقول الثاني في مذهب أحمد الذي ذكره الخرقي، وغيره من المتقدمين، وعليه تدل أصول أحمد: أن الضمان والتصرف لا يتلازمان؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد: أن الثمار إذا تلفت قبل تمكن المشتري من جذاذها. كانت من ضمان البائع، مع أن ظاهر مذهبه أنه يجوز للمشتري التصرف فيها بالبيع وغيره، فجوز تصرفه فيها مع كون ضمانها على البائع. وقد ثبت بالسنة أن الثمار من ضمان البائع، كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: (إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنها شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟!).
ولكن الرواية الأخرى عنه في منع التصرف في هذه الثمار يوافق الطريقة الأولى.
ومن الحجة لهذه الطريقة: أن منافع الإجارة مضمونة على المؤجر قبل الاستيفاء، بمعني أنها إن تلفت بآفة سماوية كموت الدابة، وتعطلت المنافع كانت من ضمان المؤجر؛ لأنها تلفت قبل التمكن من استيفائها، مع أنه يجوز للمستأجر التصرف فيها حتى بالبيع في ظاهر المذهب، وإن كان عنه رواية أخرى لا يؤجرها بأكثر من الأجرة، إذا لم يحدث فيها زيادة؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، وهي مذهب أبي حنيفة. وأبو حنيفة عنده أن المنافع لا تملك بالعقد، وإنما تملك بالاستيفاء شيئًا فشيئًا.
وأحمد في المشهور عنه هو وغيره يجوزون إجارتها بأكثر من الأجرة، ويقولون: هذا ليس ربحًا لم يضمن؛ لأن هذه المنافع مضمونة على المشتري، بمعني أنه لو تركها مع القدرة على استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، وإنما تكون مضمونة على البائع إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد في باب الضمان ضمان العقد الفرق بين ما يتمكن من قبضه، وما لم يتمكن، ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره. ومن ذلك أن الخرقي وغيره يقولون: إن الصُّبْرَة المتعينة المبيعة جزافًا تدخل في ضمان المشتري بالعقد، ولا يجوزون للمشتري بيعها حتى ينقلها، لحديث ابن عمر، وابن عمر روي الحكمين جميعًا. قال من السنة: أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعًا فهو من ملك المبتاع، وقال ما رواه البخاري عنه: (كنا نبتاع الطعام جزافًا، فنهينا أن نبيعه في مكانه حتى ننقله إلى رحالنا)، فقد جاز التصرف حيث يكون الضمان على البائع، كما في الثمار، ومنع التصرف حيث يكون الضمان على المشتري كالصبرة من الطعام، فثبت عدم التلازم بينهما.
ومن حجة هذا القول: أنه ليس كل ما دخل في ضمان المشتري يجوز تصرفه فيه، بدليل المقبوض قبضًا فاسدًا، والمقبوض في قبض فاسد.
أما الأول فلو اشتري قفيزا من صبرة، أو رطلا من زُبرة، ونحو ذلك مما يشترط في إقباضه الكيل أو الوزن، فقبض الصبرة كلها، أو الزبرة كلها، فإن هذا قبض فاسد، لا يبيح له التصرف إلا بتميز ملكه عن ملك البائع؛ ومع هذا فلو تلفت تحت يده كانت مضمونة.
وأيضا، فليس المشتري ممنوعا من جميع التصرفات، بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعا. وقد تنازع الناس في الهبة وغيرها. وقد تنازع الناس في غلة الطعام المبيع قبل النهي عن قبضه، فإنه هو الذي ثبت في النصوص، واتفق عليه العلماء. وكذلك اختلفوا في تفريع هذا الأصل.
وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة، فليس كل ما كان مضمونًا على شخص كان له التصرف فيه؛ كالمغصوب، والعارية. وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونا على المتصرف؛ كالمالك: له أن يتصرف في المغصوب، والمعار، فيبيع المغصوب من غاصبه، وممن يقدر على تخليصه منه، وإن كان مضمونًا على الغاصب، كما أن الضمان بالخراج، فإنما هو فيما اتفق ملكا ويدًا. وأما إذا كان الملك لشخص، واليد لآخر؛ فقد يكون الخراج للمالك، والضمان على القابض.
وأيضا، فبيع الدين ممن هو عليه جائز في ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وكذلك أبوحنيفة. وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه، وهو رواية عن أحمد؛ مع أن الدين ليس مضمونًا على المالك.
وأيضا، فالبائع إذا مكن المشتري من القبض، فقد قضي ما عليه؛ وإنما المشتري هو المفرط بترك القبض، فيكون الضمان عليه، بخلاف ما إذا لم يمكنه من القبض بألا يوفيه التوفية المستحقة، فلا يكيله ولا يزنه ولا يعده، فإنه هنا بمنزلة ما لم يوفه إياه من الدين. وإذا لم يفعل البائع ما يجب عليه من التوفية، كان هو المفرط، فكان الضمان عليه، إذ التفريط يناسب الضمان.
وأما حل التصرف وحرمته فله أسباب أخر:
فقد يكون السبب التمكن من التسليم حتى لا يشابه بيع الغرر. وإذا لم ينقله من مكانه، فقد ينكر البائع البيع، ويفضي إلى النزاع. وقد لا يمكنه البائع من التسليم، كما اشترط في الرهن: القبض؛ لأن مقصوده استيفاء الحق من المرهون عند تعذر استيفاء الحق من الراهن. وهذا إنما يتم بأن يكون قابضًا للرهن، بخلاف ما إذا كان بيد الراهن، فإنه يحول بينهما.
وقد يكون سبب ذلك أن المقصود بالعقود هو التقابض، وبالقبض يتم العقد، ويحصل مقصوده؛ ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا الينا وقد تعاقدوا عقودا يجوزونها وتقابضوها، لم نفسخها؛ وإن كانت محرمة في دين المسلمين، وإن كان قبل التقابض نقضناها؛ لئلا يفضي إلى الإذن بعد الإسلام في قبض محرم، فالبيع قبل قبضه لم يتم ملك المشتري عليه، بل هو يتعرض للآفات شرعًا وكونًا، فكان بيعها قبل القبض من جنس بيع الغرر؛ ولهذا نهي عن بيع المغانم قبل القبض؛ ولهذا نهي النبي ﷺ عن بيع ما ليس عنده؛ لعدم تمكنه من القبض الواجب عليه بالعقد. وإن كان من الناس من يجعل الحديث متناولا للدين والعين، ويجعل التسليم مستثني منه. ومنهم من يخصه بالعين، ويفسره ببيع عين لم يملكها، ويجعل معني "ما ليس عندك": ما ليس في ملكك. ومنهم من يحمله على الملك واليد جميعا، أو يشترط في المبيع أن يكون مملوكا مقبوضا، فلا يجوز بيع المملوك الذي لا يتمكن من تسليمه، وهو من بيع الغرر: كالعبد الآبق، والفرس الشارد.
وهذا حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه. قال: لأنه غرر ليس بمقبوض. ومن جوزه قال: بيعه كالحوالة عليه، وكبيع المودع والمعار، فإنه مقبوض حكمًا؛ ولهذا جوزنا بيع الثمار. وظاهر مذهب أحمد أنه: إذا اشتري ثمرة بادية الصلاح، وقبض ثمنها، فإنها تكون من ضمان البائع؛ لأن عليه القبض إلى كمال الجذاذ، والمشتري لم يتمكن من جذاذها، ولكن جاز تمكنه منها إذا خلي بينه وبينها، بجعل التصرف، وقبضها التخلية، وجعل في الضمان قبضها التمكن من الانتفاع الذي هو المقصود بالعقد. ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها، ولم يطرد إلى التوهم فيها قياس كما تراه.
وكثير منهم لا يلحظ فيها معني، بل يتمسك فيها بظاهر النصوص، وكل منهما قد يتناقض فيها، لكن قد جعل على حمل المذاهب فيها. والله أعلم.
سئل عن رجل اشتري صبرة مجازفة ثم تلفت
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل اشتري صُبْرَة مجازفة، ثم تلفت على ملك المشتري قبل قبضها، ثم باعها قبل قبضها من غير أن يعلم تلفها.
فإذا قلنا: إن المشتري الأول لم يجز له بيعها قبل قبضها. فتلفت، فهل هي من ماله؟ أو من مال البائع الأول؟ وهل ذكر أحد من العلماء: أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت، يكون ضامنا لها، أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردا وعكسًا؟.
فأجاب:
الحمد لله، أما في هذه الصورة، فالبيع باطل بالاتفاق، إذا تلف المبيع وقت العقد، سواء باعها بالصفة، أو بغير الصفة، أو باعها برؤية سابقة على العقد، بل في مثل هذه الصورة لو تلفت بعد العقد، وقبل وجودها على الصفة، أو الرؤية الأولي، لا يفسخ البيع. فأما إذا تبين أنها كانت تالفة حين العقد، فالبيع باطل بلا ريب.
وأما ضمانها، فظاهر مذهب مالك وأحمد: أن التلف من ضمان المشتري؛ لما احتج به من حديث الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: (مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا، فهو من ضمان المشتري) إذ ظاهر مذهب أحمد أن ما كان متعينًا بالعقد لا يحتاج إلى توفية بكيل أو وزن ونحوهما، بحيث يكون المشتري قد تمكن من قبضه، فهو من ضمانه، قبضه أو لم يقبضه.
وأما مذهب أبي حنيفة والشافعي: فإنها من ضمان البائع، وهي الرواية الأخري عن أحمد، واختارها أبو محمد، لكن الصواب في ذلك متنوع. فمذهب أبي حنيفة: لا يدخل المبيع كله في ضمان المشتري إلا بالقبض، إلا العقار. وعند الشافعي: العقار وغيره سواء، وهو رواية عن أحمد.
وعن أحمد رواية بالفرق بين المكيل والموزون وغيرهما. ورواية بالفرق بين الطعام وغيره. ورواية بالفرق بين المطعوم: المكيل الموزون وغيره. وهذا في القبض عنه، كالروايات في الربا.
فصل في المقبوض بعقد فاسد
[عدل]وقال رَحِمَهُ الله:
في المقبوض بعقد فاسد
أصله: أن العقد الصحيح يوجب على كل من المتعاقدين ما اقتضاه العقد، مثل ما يوجب التقابض، في البيع، والإجارة، والنكاح، ونحو ذلك من المعاوضات اللازمة، فإن لزومها يقتضي وجوب الوفاء بها وتحريم نقضها.
وأما العقود الجائزة من الوكالات بأنواعها، والمشاركات بأصنافها، فإنها لا توجب الوفاء مطلقا؛ إذ العقد ليس بلازم يجب الوفاء به، بل هو جائز مباح، وصاحبه مخير بين إمضائه وفسخه، وإذا فسخه كان نقضًا له، لكن ما دام العقد موجودا فعليه الوفاء بموجبه من حفظ المال، فإنه عقد أمانة.
وأما تحريم العدوان كالخيانة فذاك واجب بالشرع لا بالعقل، إذ يحرم عليه العدوان في مال من ائتمنه، وغيره، لكن العقد أوجب ذلك أيضا وزاده توكيدًا.
وأما وجوب التصرف عليه، بحيث يكون العامل في المضاربة، والمزارعة، والمساقاة، إذا ترك التصرف الذي اقتضاه العقد مفرطا، فهذا هو الظاهر؛ فإن العقد وإن كان جائزًا، فما دام موجودًا فله موجبان: الحفظ بمنزلة الوديعة، والتصرف الذي اقتضاه العقد. وهذا قياس مذهبنا؛ لأنا نوجب على أحد الشريكين من المعاوضة بالبيع والعمارة ما يحتاج اليه الآخر في العرف؛ مثل عمارة ما استهدم هذا في شركة الأملاك، فكذلك في شركة العقود؛ فإن مقصودها هو التصرف. فترك التصرف في المضاربة والمساقاة والمزارعة قد يكون أعظم ضررًا من ترك عمارة المكان المستهدم في شركة الأملاك.
ومن ترك بيع العين والمنفعة المشتركة؛ لأنه هناك يمكن الشريك أن يبيع نصيبه، وهنا غره وضيع عليه منفعة ماله، فإذا كان العقد فاسدًا لم يثبت جميع مقتضاه من وجوب التقابض والتصرف، وحل التصرف والانتفاع ونحو ذلك، فإذا اتصل به القبض فهو قبض مأذون فيه بعقد، فليس مثل قبض الغاصب الذي هو بغير إذن؛ ولهذا قال الفقهاء: ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض في العقد الفاسد؛ كالمبيع والمؤجر. وما لم يضمن بالقبض في العقد الصحيح لا يضمن بالقبض في العقد الفاسد، كالأمانات من المضاربة والشركة ونحوها؛ لوجود الإذن؛ ولهذا تنازع العلماء في حصول الملك بالقبض فيه، وفيما يستحقه من العوض، هل هو المسمي، أو عوض المثل، أو نحو ذلك. وذلك أن الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن ذلك قبض بغير إذن المالك، وهذا قبض بإذن المالك.
الثاني: أن هذا قبض اقتضاه عقد، وإن كان فيه فساد، وذاك قبض لم يقتضه عقد بحال؛ ولهذا نوجب في ظاهر المذهب المسمي في النكاح الفاسد، وفي المضاربة الفاسدة، ونحوها على أحد القولين.
فإن كان المقبوض به موجودا وأراد الرد رده، وإن كان فائتا رد مثله إذا أمكن. فإذا تعذر رد العين أو المثل فلابد من رد عوض، مثل أن يكون المبيع ليس من ذوات الأمثال، بل من ذوات القيم، ومثل المنافع المستوفاة بالإجارة الفاسدة، ومثل عمل العامل في المشاركة الفاسدة: من المساقاة والمضاربة ونحوها. فمن أصحابنا من يوجب رد القيمة في هذه الصورة، كقول الشافعي، بناء على أن المستحق رد العين أو المنفعة، وقد تعذر عينه ومثله فينقل إلى القيمة، كما لو ضمنت بالإتلاف أو الغصب.
وطرد الشافعي هذا في المسمي الفاسد في النكاح، والمغصوب، فأوجب مهر المثل؛ بناء على أنه كان يجب رد البضع لفساد التسمية، فلما لم يمكن رده رد بدله، وهو مهر المثل، وخالفه بعض أصحابه، والجمهور من أصحابنا وغيرهم، وسائر العلماء أوجبوا بدل المهر المسمي مثله أو قيمته؛ لا بدل البضع، وهو الصواب قطعا؛ لأن النكاح هنا لم يفسد، فلم يجب رد المستحق به وهو البضع، وإذا لم يجب رد البضع لم يجب رد بدله، بل الواجب هو إعطاء المسمي إن أمكن، وإلا فبدله، فكان بدل المسمي هو الواجب، وهو أقرب إلى ما تراضوا به من بدل البضع، وفي سائر العقود إذا فسدت نوجب رد العين أو بدلها. وظاهر كلام أحمد أن الواجب في المشاركة مثل المضاربة ونحوها المسمي أيضا؛ كالنكاح الفاسد، على ظاهر المذهب. وهذا القول أقوى.
بل الصواب أنه لا يجب في الفاسد قيمة العين، أو المنفعة مطلقا، وذلك؛ لأن العين لو أمكن ردها أو رد مثلها لكان ذلك هو الواجب؛ لأن العقد لما انتفي وجب إعادة كل حق إلى مستحقه، والمثل يقوم مقام العين. أما إذا كان الحق قد فات مثل الوطء في النكاح الفاسد، والعمل في المؤاجرات والمضاربات، والغبن في المبيع، فالقيمة ليست مثلا له.
وإنما تجب في بعض المواضع؛ كالمتلف والمغصوب الذي تعذر مثله، للضرورة؛ إذ ليس هناك شيء يوجد أقرب إلى الحق من القيمة، فكان ذلك هو العدل الممكن، كما قلنا مثل ذلك في القصاص، ودية الخطأ وأرش الجراح. واعتبرنا القيمة بتقويم الناس؛ إذ ليس هناك متعاقدان تراضيا بشيء. وأما هنا فقد تراضيا بأن يكون المسمي بدلا عن العين أو المنفعة، والناس يرضون لها ببدل آخر، فكان اعتبار تراضيهما أولي من اعتبار رضا الناس.
فإن قيل: هما إنما تراضيا بهذا البدل في ضمن صحة العقد، ووجوب موجباته، وذلك منتف هنا؟ قيل: والناس إنما يجعلون هذا قيمة في ضمن عقد صحيح له موجباته. فلما تعذر العقد هنا قدرنا وجود عقد يعرف به البدل الواجب فيه، فتقدير عقدهما الذي عقداه أولي من تقدير ما لم يوجد بحال، ولا رضيا به، ولم يعقده غيرهما. فإذا كان لابد من التقدير والتقريب، فما كان أشبه بالواقع كان أولي بالتقدير وأقرب إلى الصواب.
فتبين بهذا أن إيجاب مهر المثل في النكاح الفاسد، إنما هو شبيه لها بمن يتزوج من أمثالها نكاحا صحيحا لازما، فتحتاج فيه إلى شيئين: إلى تقدير مثلها، وتقدير نكاح صحيح، فيه مسمي. فقسناها على أمثالها، وقسنا فاسدها على صحيح أولئك، وهذا في غاية البعد، وإذا أوجبنا المسمي في الفاسد قسنا فاسدها بصحيحها، وهي إلى نفسها أقرب من غيرها اليها. ثم عقدهما الفاسد وعقدهما الصحيح أقرب من عقدهما الفاسد إلى عقد غيرهما الصحيح. وأما إذا كان وطئ بشبهة بلا نكاح، فهنا يوجب مهر مثلها.
قاعدة في المقبوض بعقد فاسد
[عدل]وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
قاعدة في المقبوض بعقد فاسد
وذلك أنه لا يخلو: إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه، أو لا يعتقد الفساد.
فالأول يكون بمنزلة الغاصب؛ حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، لكنه لشبهة العقد، وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه؟ أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف؟ هذا فيه خلاف مشهور في الملك. هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد؟وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد؛ مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام؛ مثل بيع الخمر، والربا، والخنزير؛ فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم الينا أمضيت لهم، ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع؛ لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } 140، فأمر بترك ما بقي.
وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد، ووجب رد المال إن كان باقيا، أو بدله إن كان فائتا. والأصل فيه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إلى قوله: { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } 141، أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم، ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام، وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رؤوس الأموال. فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه، أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ، وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال، ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض، ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام؛ لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته، وذلك العقد أوجب ذلك القبض، فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده، وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة به، وذلك خلاف ما تقدم.
وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد؛ مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل، ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها؛ فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة لم تنقض بعد ذلك؛ لا بحكم، ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد.
وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل التقابض، أو استفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي. وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال، وزيادة ربوية، أسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال. ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول، كأهل الذمة وأولي؛ لأن ذلك الاعتقاد باطل قطعا.
فصل في إيجاب المسمي أو مثله
[عدل]وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
إذا كان إيجاب المسمي أو مثله أقرب إلى التسوية في الفاسد الذي يتعذر رده، رد المقبوض أو مثله من إيجاب، مثل العوض المسمي في العقد على مثال هذا المضمون.
فنقول: المثل من فاسد فسد مثله، فليس المؤجل مثل الحال، ولا أحد النوعين مثل الآخر، فلو أسلم اليه دراهم في شيء سلما، ولم يتغير سعره، وقلنا: هو سلم. فإن رد اليه رأس ماله في الحال، أو مثله، فهذا هو الواجب.
وأما إذا أخره إلى حين حلول السلم، ثم أراد رد مثل رأس ماله، فليس هذا مثلا له. فإذا أوجبنا المسلم فيه بقيمته وقت الإسلاف كان أقرب إلى العدل، فإنهما تراضيا أن يأخذ بهذه الدراهم من المسلم فيه، لا من غيره، لكن لم يتفقا على القدر، فردهما إلى القيمة العادلة هو الواجب بالقياس؛ فإن قبض الثمن قبل قبض المثمن. ولو اشتري سلعة لم يقطع فيها، وقلنا هو بيع فاسد، فإذا تعذر رد العين ومثلها ردت القيمة بالسعر وقت القبض، فكما أوجبنا هنا قيمة المقبوض من العوض، نوجب هناك قيمة المقبوض من الدراهم.
ونظيرها من كل وجه: أن يكون المبيع مكيلا، أو موزونا، لم يقطع ثمنه، لكنه مؤجل إلى حول، فحين يحل الأجل إن رد حنطة مثلا لم يكن مثلا لتلك المقبوضة؛ لاختلاف القيمة، فإعطاء قيمة المقبوض وقت قبض السلعة مؤجلا إلى حين قبض الثمن أشبه بالعدل. فهذا في الثمن والمثمن سواء.
والأصل فيه أن كل ما كان أقرب إلى ما تعاقدا عليه، وتراضيا به؛ كان أولي بالاستحقاق مما لم يتعاقدا عليه ولم يتراضيا به، وأن المضمون بالغصب والإتلاف إذا لم يكن مثليا فإنه يقدر بالقيمة لا بالعقود، فتقدير المضمون بذلك العقد أولي من تقديره بالمضمون بعقد آخر، لكن هذه المسألة مسألة الحلول والتأجيل مبنية على أصل آخر، وهو أن اختلاف الأسعار يؤثر في التماثل، وهذا مذكور في موضعه. والله أعلم.
سئل عن رجل عاقد رجلا على غلة غائبة
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل عاقد رجلا بثغر الإسكندرية على غلة ذكر أنها مودعة في ناحية ببيروت، وأعطاه الثمن، وأرسل وكيله ليسلم ذلك للمشتري، فلم يجد الغلة، بل وجدها تحت الحوطة، كل ذلك بعد أن أشهد المشتري على نفسه أنه تسلم الغلة المذكورة، فهل يجوز لهذا البائع تأخير ما قبضه من الثمن؟ وهل له في ذلك شبهة، ويعطي البائع بتأخير الثمن عمن سلمه بعد المطالبة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا لم يجد المبيع الغائب، أو وجده ولم يتمكن من قبضه، فله فسخ البيع إن كانت العين مغصوبة. وإن تلفت انفسخ البيع ووجب على البائع أن يرد عليه الثمن إذا طلبه المشتري، ولا ينفعه إشهاد المشتري عليه بالقبض، إذا كان قد أشهد قبل القبض، وإن قامت عليه بينة بالإقرار، وكان الإقرار صحيحا، فله تحليف البائع أن باطن الإقرار كظاهره في أصح قولي العلماء.
وأما إذا علم كذب الإقرار، بأن يكون قد أقر بالقبض قبل التمكن منه، لم يصح هذا الإقرار كله إذا صح بيع الغائب، بأن يبيعه بالصفة على مذهب مالك، وأحمد في المشهور.
وأما من أبطل بيعه مطلقا كالشافعي، وأحمد في رواية، فالبيع باطل من أصله، وأبوحنيفة يصححه مطلقا، وأحمد في رواية، لكن له الخيار عند الرؤية بكل حال، وبكل حال فالأئمة متفقون على أن على البائع دفع الثمن إذا طلبه المشتري والحالة هذه. والله أعلم.
سئل عمن باع بيعا وجحد البيع
[عدل]وسئل رحمه الله عمن باع بيعًا وجحد البيع، وأشهد المشتري على نفسه بالفسخ، فما الحكم في ذلك؟
فأجاب:
إذا جحد البيع وفسخه المشتري كذلك، لم يكن للبائع إلزام المشتري ثانيا بالقبض. والله أعلم.
سئل عن رجل اشتري ملكا بثمن معين
[عدل]وسئل عن رجل اشتري ملكا بثمن معين، ودفع الثمن بمحضر شهود كتاب التبايع، وثبت الكتاب، وحكم به حكام المسلمين الأربعة، ثم استحق الملك المشتري مستحق غير البائع، وأثبت استحقاقه بذلك الشرع، ورفع يد المشتري عما اشتراه منه، والرجل يومئذ غائب فوق مسافة القصر، وله أملاك حاضرة وأموال، فهل إذا طلب الرجل المذكور من الحاكم الذي ببلد المشتري الذي حكم له على الغائب بنظير ما قبض الغائب من الرجل المشتري من ثمن المبيع يجيبه إلى ذلك، والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم إذا ظهر المبيع مستحقا، فللمشتري أن يرجع بالثمن على من قبضه منه، أو ببدله. فإذا كان القابض منه غائبا حكم عليه إذا قامت الحجة، وسلم إلى المحكوم له حقه من مال الغائب مع بقائه على حجته. والله أعلم.
باب الربا
[عدل]سئل عن تحريم الربا
[عدل]وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه:
عن تحريم الربا، وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم؛ ليتوصلوا بها إلى الربا، وإذا حل الدين يكون المديون معسرا، فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا، وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا؟
فأجاب:
المراباة حرام بالكتاب والسنة، والإجماع. وقد لعن رسول الله ﷺ آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه. ولعن المحلل، والمحلل له. قال الترمذي: حديث صحيح، فالاثنان ملعونان.
وإن كان أصل الربا في الجاهلية: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له: أتقضي؟ أم تربي؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال والأصل واحد. وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين.
وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخري، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين، وأما الصحابة فلم يكن بينهم نزاع أن هذا محرم، فإنما الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة.
والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الربوية. وأما إذا حل الدين وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره.
والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية، بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقطوا الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها وفي دينه منها بحسب الإمكان. والله أعلم.
فصل فيمن أوقع العقود المحرمة ثم تاب
[عدل]فيمن أوقع العقود المحرمة ثم تاب
قال الله تعالى في الربا: { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } 142. وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
وقد قال تعالى لما ذكر الخلع والطلاق، فقال في الخلع: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } إلى قوله: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } 143، وقال تعالى: { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } 144.
فالطلاق المحرم، كالطلاق في الحيض، وفي طهر قد أصابها فيه. حرام بالنص والإجماع، وكالطلاق الثلاث عند الجمهور، وهو تعد لحدود الله، وفاعله ظالم لنفسه، كما ذكر الله تعالى: { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } 145. والظالم لنفسه إذا تاب تاب الله عليه؛ لقوله: { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا } 146، فهو إذا استغفره غفر له ورحمه، وحينئذ يكون من المتقين، فيدخل في قوله: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } 147
والذين ألزمهم عمر ومن وافقه بالطلاق المحرم كانوا عالمين بالتحريم، وقد نهوا عنه فلم ينتهوا، فلم يكونوا من المتقين، فهم ظالمون لتعديهم الحدود، مستحقون للعقوبة. ولذلك قال ابن عباس لبعض المستفتين: إن عمك لم يتق الله، فلم يجعل له فرجا ولا مخرجا، ولو اتقي الله لجعل له فرجًا ومخرجًا.
وهذا إنما يقال لمن علم أن ذلك محرم وفعله. فأما من لا يعلم بالتحريم فإنه لا يستحق العقوبة، ولا يكون متعديا، فإنه إذا عرف أن ذلك محرم، تاب من عوده إليه، والتزم ألا يفعله.
والذين كان النبي ﷺ يجعل ثلاثتهم واحدة في حياته كانوا يتوبون، وكذلك من طلق في الحيض، كما طلق ابن عمر، فكانوا يتوبون فيصيرون متقين، ومن لم يتب فهو الظالم لنفسه، كما قال: { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } 148.
فحصر الظلم فيمن لم يتب، فمن تاب فليس بظالم، فلا يجعل متعديا لحدود الله، بل وجود قوله كعدمه، ومن لم يتب فهو محل اجتهاد.
فعمر عاقبهم بالإلزام، ولم يكن هناك تحليل، فكانوا لاعتقادهم أن النساء يحرمن عليهم لا يقعون في الطلاق المحرم، فانكفوا بذلك عن تعدي حدود الله. فإذا صاروا يوقعون الطلاق المحرم، ثم يردون النساء بالتحليل المحرم، صاروا يفعلون المحرم مرتين، ويتعدون حدود الله مرتين، بل ثلاثا، بل أربعا؛ لأن طلاق الأول كان تعديا لحدود الله، وكذلك نكاح المحلل لها، ووطؤه لها قد صار بذلك ملعونا هو والزوج الأول. فقد تعديا حد الله، هذا مرة أخري، وذاك مرة. والمرأة ووليها لما علموا بذلك وفعلوه كانوا متعدين لحدود الله، فلم يحصل بالالتزام في هذه الحال انكفاف عن تعدي حدود الله، بل زاد التعدي لحدود الله، فترك التزامهم بذلك وإن كانوا ظالمين غير تائبين خير من إلزامهم به. فذلك الزنا يعود إلى تعدي حدود الله مرة بعد مرة.
وإذا قيل: فالذي استفتي ابن عباس ونحوه لو قيل له: تب. لتاب؛ ولهذا كان ابن عباس يفتي أحيانا بترك اللزوم، كما نقل عنه عكرمة وغيره. وعمر ما كان يجعل الخلية والبرية إلا واحدة رجعية ولما قال.
قال عمر: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } 149. وإذا كان الإلزام عاما ظاهرا كان تخصيص البعض بالإعانة نقضا لذلك، ولم يوثق بتوبته. فالمراتب أربعة.
أما إذا كانوا يتقون الله ويتوبون، فلا ريب أن ترك الإلزام كما كان في عهد النبي ﷺ وأبي بكر خير.
وإن كانوا لا ينتهون إلا بإلزام فينتهون حينئذ، ولا يوقعون المحرم، ولا يحتاجون إلى تحليل. فهذا هو الدرجة الثانية التي فعلها فيهم عمر.
والثالثة: أن يحتاجوا إلى التحليل المحرم، فهنا ترك الإلزام خير.
والرابعة: أنهم لا ينتهون، بل يوقعون المحرم، ويلزمون به بلا تحليل. فهنا ليس في إلزامهم به فائدة إلا آصار وأغلال لم توجب لهم تقوي الله، وحفظ حدوده، بل حرمت عليه نساؤهم، وخربت ديارهم فقط. والشارع لم يشرع ما يوجب حرمة النساء وتخريب الديار، بل ترك إلزامهم بذلك أقل فسادا، وإن كانوا أذنبوا فهم مذنبون على التقديرين، لكن تخريب الديار أكثر فسادا، والله لا يحب الفساد.
وأما ترك الإلزام فليس فيه إلا أنه أذنب ذنبا بقوله، ولم يتب منه، وهذا أقل فسادا من الفساد الذي قصد الشارع دفعه ومنعه بكل طريق.
سئل عما إذا أبدل قمحا بقمح
[عدل]فأجاب:
إذا أبدل قمحا بقمح، كيلا بكيل، مثلا بمثل، جاز. وإن كان بزيادة لم يجز.
سئل عن امرأة باعت أسورة ذهب بثمن معين إلى أجل معين
[عدل]وسئل عن امرأة باعت أسورة ذهب بثمن معين إلى أجل معين، هل يجوز؟ أم لا؟
فأجاب:
إذا بيعت بذهب أو فضة إلى أجل لم يجز ذلك باتفاق الأئمة، بل يجب رد الأسورة إن كانت باقية، أو رد بدلها إن كانت فائتة. والله أعلم.
سئل هل يجوز بيع الحياصة بنسيئة بزائد عن ثمنها
[عدل]وسئل: هل يجوز بيع الحياصة بنسيئة، بزائد عن ثمنها؟
فأجاب:
أما الحياصة التي فيها ذهب أو فضة، فلا تباع إلى أجل بفضة أو ذهب، لكن تباع بعرض إلى أجل. والله أعلم.
سئل عن حديث رخص في العرايا أن تباع بخرصها
[عدل]وسئل عن حديث: (رخص في العرايا أن تباع بخرصها) فما خرصها؟ و(نهى عن بيع المصراة، والمحفلة)
فأجاب:
الحمد لله، أما المصراة، والمحفلة فهي البهيمة من الإبل والغنم وغيرهما تترك حتى يجتمع اللبن في ضرعها أياما، ثم تباع، يظن المشتري أنها تحلب كل يوم مثل ذلك. فهذا من التدليس والغش، وقد حرمه النبي ﷺ عموما، وخصوصا وجعل للمشتري الخيار ثلاثا إذا حلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها، ورد عوض اللبن الذي كان موجودا وقت العقد، وجعل ﷺ عوضه صاعا من تمر.
وأما بيع الغرر الذي لا يمكن البائع تسليمه، مثل أن يبيع عبده الآبق، وبعيره أو فرسه الشارد، أو طيره الذي خرج من قفصه، أو من حبله، ونحو ذلك، فإن بيع مثل هذه الأمور من باب المخاطرة والقمار فإن المبيع إن قدر عليه كان المشتري قد قمر البائع، حيث أخذ ماله بدون قيمته، وإن لم يقدر عليه كان البائع قد قمر المشتري، وفي كل منهما أكل مال الآخر بالباطل. وشر من ذلك أن يبيعه ما في بطن الدابة، وكذلك إذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها، فهذه من أنواع الغرر. وقد نهى النبي ﷺ عنها عموما، وخصوصا. وكل ذلك من الميسر الذي حرمه الله في القرآن.
وكذلك بيع الحصاة، مثل أن يقول: بعتك من هذه الأرض إلى حيث تبلغ هذه الحصاة، أو بعتك من هذه الثياب، أو الشياه، أو الغلمان، أو غيره ما تقع عليه هذه الحصاة، فيكون المبيع مجهول القدر، أو العين، أو الوصف.
وأما العرايا، فإن النبي ﷺ استثناها مما نهى عنه من المزابنة؛ وذلك أنه ﷺ نهى عن المزابنة، والمحاقلة. والمزابنة أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر. والمحاقلة أن يشتري الحنطة في سنبلها بخرصها من الحنطة. والخرص هو: الحزر والتقدير. فيقال: كم في هذه النخلة؟ فقال: خمسة أوسق فيقال: اشتريته بخمسة أوسق. أو كم في هذا الحقل من البر فيقال: خمسة أوسق، فيقال: اشتريته بخمسة أوسق.
وهذا الحكم عام في كل ما يباع إلا بقدره، كما قال النبي ﷺ: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة، إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الحنطة بالحنطة إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا التمر بالتمر إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلا بمثل). ونهى ﷺ عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمي. فإذا بيعت هذه الأموال بمثلها جزافا لم يجز ذلك؛ لأن النبي ﷺ نهى عن بيعها إلا متماثلة، فإذا لم يعلم التماثل لم يجز البيع؛ ولهذا يقول الفقهاء: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. والتماثل يعلم بالكيل والوزن.
وأما الخرص: فهو ظن وحسبان، يقدر به عند الحاجة والضرورة، فأما مع إمكان الكيل والوزن فلا. فنهى النبي ﷺ عن المحاقلة، والمزابنة؛ لأنهم يحزرون من غير حاجة، وأباح ذلك في العرايا لأجل الحاجة؛ لأن المشتري يحتاج إلى أكل الرطب بالتمر خرصا؛ لأجل حاجته إلى ذلك. ورخص في ذلك في القليل الذي تدعو إليه الحاجة، وهو ما دون النصاب، وهو ما دون خمسة أوسق. وكذلك يجوز لحاجة البائع إلى البيع. كما قد بسط ذلك في موضعه.
ولفظ العرايا معناه في اللغة: هي النخلات التي يعيرها الرجل لغيره، أي: يعطيه إياها ليأكل ثمرها، ثم يعيدها إليه، كما قال الشاعر يمدح فيه بالكرم:
فليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السِّنين الجوائح
وهذا كما يقال للماشية المنيحة: مثل أن يعطيه الناقة أو الشاة ليشرب لبنها، ثم يعيدها إليه، وهو من جنس العارية. وهو أن يعيره داره ليسكنها ثم يعيدها إليه.
ومنه إفقار الظهر؛ وهو أن يعطيه دابته ليركب فقارها، ثم يعيدها إليه. فهذا أصل هذه اللفظة، لكن حكم العرايا، هل هو مخصوص بما كان موهوبا للمشتري؟ أو عام في ذلك وفي غيره؟ فيه قولان للعلماء. والأول قول مالك. والثاني قول الشافعي، وفي مذهب أحمد القولان. والله أعلم.
سئل عن رجل اشترى قمحا بثمن معلوم إلى وقت معلوم
[عدل]وسئل عن رجل اشتري قمحا بثمن معلوم إلى وقت معلوم، ثم إنه ما حصل لصاحب القمح شيء، ثم داره عقدا، وارتهن عليه ملكا، وأنه أخذ ذلك بيعا وشراء بذلك العقد، فهل البيع جائز؟
فأجاب:
إذا اشتري قمحا بثمن إلى أجل، ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز؛ فإن هذا بيع دين بدين. وكذلك إن احتال على أن يزيده في الثمن، ويزيده ذلك في الأجل، بصورة يظهر رباها لم يجز ذلك، ولم يكن له عنده إلا الدين الأول. فإن هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن؛ فإن الرجل يقول لغريمه عند محل الأجل: تقضي أو تربي، فإن قضاه وإلا زاده هذا في الدين، وزاده هذا في الأجل فحرم الله ورسوله ذلك، وأمر بقتال من لم ينته. والله أعلم.
سئل عن رجل اضطر إلى قرضة دراهم فلم يجد من يقرضه إلا رجل يأخذ الفائدة
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل اضطر إلى قرضة دراهم، فلم يجد من يقرضه إلا رجل يأخذ الفائدة، فيأتي السوق يشتري له بضاعة بخمسين، ويبيعها له بربح معين إلى مدة معينة، فهل هي قنطرة الربا؟
فأجاب:
إذا اشتري له بضاعة، وباعها له فاشتراها منه، أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه، فهذا ربا.
والأحاديث عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين في تحريم ذلك كثيرة؛ مثل حديث عائشة لأم ولد زيد بن أرقم، قالت لها: يا أم المؤمنين، إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء، بثمانمائة درهم نسيئة ثم ابتعته منه بستمائة نقدا. فقالت عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب. فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم أجد إلا رأس مالي؟ فقالت عائشة: { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 150. وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن مثل ذلك. فقال: هذا ما حرم الله.
وأما الذي لم يعد إلى البائع بحال، بل باعها المشتري من مكان آخر لجاره، فهذا يسمي التورق وقد تنوزع في كراهته. فكرهه عمر بن عبد العزيز، والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في إحدى الروايتين. وقال عمر بن عبد العزيز: التورق أخية الربا، أي: أصل الربا. وهذا القول أقوي.
سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتي درهم فباعه
[عدل]وسئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتي درهم، فباعه فرسا أو قماشا بألف درهم، واشتراه منه بألف ومائتي درهم إلى أجل معلوم، فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
لا يحل له ذلك، بل هو ربا باتفاق الصحابة وجمهور العلماء، كما دلت على ذلك سنة رسول الله ﷺ. سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة، ثم ابتاعها لأجل زيادة درهم، فقال: دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة.
وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا مما حرم الله ورسوله. وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب.
فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فسواء باع المعطي الأجل، أو باع الأجل المعطي، ثم استعاد السلعة. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا). وفيه أيضا عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا تبايعتم بالعينة؛ واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) وهذا كله في بيع العينة، وهو بيعتان في بيعة.
وقال ﷺ: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح مالم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك). قال الترمذي: حديث صحيح. فحرم النبي ﷺ أن يبيع الرجل شيئا، ويقرضه مع ذلك؛ فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض، حتى ينفعه، فهو ربا.
وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان، بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، فإنه ربا، سواء كان يبيع ثم يبتاع، أو يبيع ويقرض، وما أشبه ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل تداين دينا فاشترى شيئا بحضرة الرجل ثم باعه عليه بفائدة
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل تداين دينا، فدخل به السوق، فاشتري شيئا بحضرة الرجل، ثم باعه عليه بفائدة، هل يجوز ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون بينهم مواطأة لفظية، أو عرفية، على أن يشتري السلعة من رب الحانوت، فهذا لا يجوز.
والثاني: أن يشتريها منه على أن يعيدها إليه. فهذا أيضا لا يجوز، فقد دخلت أم ولد زيد بن أرقم على عائشة، فقالت: يا أم المؤمنين، إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم نسيئة، ثم ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئسما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب. وقال النبي ﷺ: (من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا)، وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. وقال أنس بن مالك: هذا مما حرم الله ورسوله.
والوجه الثالث: أن يشتري السلعة سرا، ثم يبيعها للمستدين بيانا، فيبيعها أحدهما، فهذه تسمي التورق ؛ لأن المشتري ليس غرضه في التجارة، ولا في البيع، ولكن يحتاج إلى دراهم، فيأخذ مائة، ويبقي عليه مائة وعشرون مثلا. فهذا قد تنازع فيه السلف والعلماء. والأقوي أيضا أنه منهي عنه، كما قال عمر بن عبد العزيز ما معناه: أن التورق أصل الربا؛ فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل؛ لما في ذلك من ضرر المحتاج، وأكل ماله بالباطل، وهذا المعني موجود في هذه الصورة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي.
وإنما الذي أباحه الله البيع والتجارة، وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها. فأما إذا كان قصده مجرد الدراهم بدراهم أكثر منها، فهذا لا خير فيه. والله أعلم.
سئل عن رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين ويجعل سلفا على حرير
[عدل]وسئل رحمه الله عن رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين، ويجعل سلفا على حرير، فإذا جاء الأجل، وأعسر المديون عن وفائه قال له: عاملني، فيأخذ رب الحرير من عنده، ويقول للمديون: اشتريت مني هذا الحرير بمائة وتسعين، إلا أنه يأتيه على حساب كل مائة بمائة وأربعين. وإذا قبضه المديون منه قال: أوفني هذا الحرير عن السلف الذي لي عندك. وإذا جاءت السنة الثانية طالبه بالدراهم المذكورة، فأعسرت عليه، أو بعضها. قال: عاملني، فيحسب المتبقي والأصل، ويجعل ذلك سلفا على حرير. فما يجب على هذا الرجل؟
فأجاب:
هذا هوعين الربا الذي أنزل فيه القرآن؛ فإنه كان يكون للرجل على الرجل الدين، فيأتي إليه عند محل الأجل، فيقول: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن وفاه وإلا زاده المدين في الدين، وزاده الغريم في الأجل، حتى يتضاعف المال. فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } 151. وهذه المعاملة التي يفعلها مثل هذا المربي، مقصودها مقصود أولئك المشركين المربين، لكن هذا أظهر صورة المعاملة، وهذا لا ينفعه باتفاق أصحاب محمد ﷺ؛ فإن هذا المربي يبيعه ذلك الحرير إلى أجل؛ ليوفيه إياه عن دينه، فهو بمنزلة أن يبيعه إياه إلى أجل ليشتريه بأقل من ذلك، وقد سئل ابن عباس عن مثل هذا، فقال: هذا حرام، حرمه الله ورسوله. وسألت أم ولد زيد بن أرقم عائشة أم المؤمنين عن مثل هذا، فقالت: إني بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم ابتعته بستمائة، فقالت لها عائشة: بئس ما اشتريت، وبئس ما بعت، أخبري زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب. قالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم أجد إلا رأس مالي. فقالت عائشة: { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ } 152. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا). وقد قال النبي ﷺ: (لا يحل سلف وبيع)، فنهى أن يبيع ويقرض ليحابيه في البيع؛ لأجل القرض. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراما؛ لأن المقصود حرام لا يحل قصده، بل قد نهى السلف عن كثير من ذلك سدا للذرائع؛ لئلا يفضي إلى هذا المقصود. وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره. فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل، فإنه يعفي عنه. وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله: { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } 153، والله أعلم.
سئل عن رجل أراد الاستدانة من رجل فقال أعطيك كل مائة بكسب كذا
[عدل]وسئل عن رجل أراد الاستدانة من رجل، فقال: أعطيك كل مائة بكسب كذا، وتبايعا بينهما شيئا من عروض التجارة، فلما استحق الدين طلبه بالدين فعجز عنه. فقال: اقلب على الدين بكسب كذا وكذا في المائة، وتبايعا بينهما عقارا، وفي آخر كل سنة يفعل معه مثل ذلك، وفي جميع المبايعات غرضهم الحلال، فصار المال عشرة آلاف درهم، فهل يحل لصاحب الدين مطالبة الرجل بما زاد في هذه المدة الطويلة؟ وهل لولي الأمر إنكار ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام، وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين. وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية. والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك. وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية، وعقوبة من يفعلها ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم؛ دون الزيادات؛ فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله، وقد قال تعالى: { اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 154
سئل عن رجل له مع رجل معاملة فتأخر له معه دراهم فطالبه وهو معسر
[عدل]وسئل عن رجل له مع رجل معاملة، فتأخر له معه دراهم، فطالبه وهو معسر، فاشتري له بضاعة من صاحب دكان، وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه، فهل تصح هذه المعاملة؟
فأجاب:
لا تجوز هذه المعاملة، بل إن كان الغريم معسرا، فله أن ينتظره.
وأما المعاملة التي يزاد فيها الدين والأجل فهي معاملة ربوية، وإن أدخلا بينهما صاحب الحانوت. والواجب أن صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله، لا يطالب بالزيادة التي لم يقبضه.
سئل عن العينة
[عدل]وسئل قدس الله روحه عن العينة: هل هي جائزة في دين الإسلام؟ أم لا؟ وهل يجوز لأحد أن يقلد فيها بعض من رأي جوازها من الفقهاء، أم يجب عليه أن يحتاط لدينه ويتبع النصوص الواردة في ذلك، ومن تاب من مسألة العينة المذكورة، هل يحل له ما ربحه بطريقها؟ أم يجب عليه إخراج الربح ورده إلى أربابه إن قدر، أو التصدق بذلك؟ فإن عاد إليها مقلدا بعد العلم ببطلانها، هل يجوز له ذلك؟ أم لا؟ وكذلك ما تقولون في مسألة الثلاثية ؟ ومسألة التورق ؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر منها إلى أجل، والمعطي يقصد إعطاءه ذلك فهذا ربا لا ريب في تحريمه، وإن تحيلا على ذلك بأي طريق كان؛ فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي؛ فإن هذين قد قصدا الربا الذي أنزل الله في تحريمه القرآن، وهو الربا الذي أنزل الله فيه قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } 155
وكان الرجل في الجاهلية يكون له على الرجل دين، فيأتيه عند محل الأجل، فيقول له: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده المدين في المال، وزاده الغريم في الأجل، فيكون قد باع المال بأكثر منه إلى أجل، فأمرهم الله إذا تابوا ألا يطالبوا إلا برأس المال، وأهل الحيل يقصدون ما تقصده أهل الجاهلية، لكنهم يخادعون الله، ولهم طرق:
أحدها: أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقل من ذلك نقدا، كما قالت أم ولد زيد ابن أرقم لعائشة: إني بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة، وابتعته بستمائة نقدا. فقالت لها عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أخبري زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب. قالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، فقرأت عائشة: { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللّهِ } 156.
وقيل لابن عباس: رجل باع حريرة إلى أجل، ثم ابتاعها بأقل من ذلك؟ فقال: دراهم، بدراهم، دخلت بينهما حريرة.
وسئل أنس بن مالك عن نحو ذلك، فقال: هذا مما حرمه الله ورسوله. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا). وهؤلاء قد باعوا بيعتين في بيعة.
وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية، ثم أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعا بقدر المال، فاشتراه المعطي، ثم باعه الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك. فيكون صاحب الحانوت واسطة بينهما بجعل، فهذا أيضا من الربا الذي لا ريب فيه.
وكذلك إذا ضما إلى القرض محاباة في بيع أو إجارة أو غير ذلك، مثل أن يقرضه مائة، ويبيعه سلعة تساوي خمسمائة، أو يؤجره حانوتا يساوي كراه مائة بخمسين، فهذا أيضا من الربا، ومن رواية الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك). قال الترمذي: حديث صحيح. فقد حرم النبي ﷺ السلف وهو القرض مع البيع.
والأصل في هذا الباب أن الشراء على ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يشتري السلعة من يقصد الانتفاع بها كالأكل والشرب واللباس والركوب والسكني، ونحو ذلك، فهذا هو البيع الذي أحله الله.
والثاني: أن يشتريها من يقصد أن يتجر فيها، إما في ذلك البلد، وإما في غيره، فهذه هي التجارة التي أباحها الله.
والثالث: ألا يكون مقصوده لا هذا ولا هذا، بل مقصوده دراهم لحاجته إليها. وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضا، أو سلما فيشتري سلعة ليبيعها، ويأخذ ثمنها، فهذا هو التورق وهو مكروه في أظهر قولي العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، كما قال عمر بن عبد العزيز: التورق أخية الربا. وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقد، ثم بعت بنقد، فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد، ثم بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم.
ومعنى كلامه: إذا استقمت: إذا قومت، يعني: إذا قومت السلعة بنقد، وابتعتها إلى أجل، فإنما مقصودك دراهم بدراهم، هكذا التورق يقوم السلعة في الحال، ثم يشتريها إلى أجل بأكثر من ذلك. وقد يقول لصاحبه: أريد أن تعطيني ألف درهم، فكم تربح؟ فيقول: مائتين، أو نحو ذلك. أو يقول: عندي هذا المال يساوي ألف درهم، أو يحضران من يقومه بألف درهم، ثم يبيعه بأكثر منه إلى أجل، فهذا مما نهى عنه في الصحيح.
وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التي اختلفت فيها الأمة، كهذه المعاملات المسؤول عنها، وغيرها، وكان متأولا في ذلك، ومعتقدا جوازه لاجتهاد، أو تقليد، أو تشبه ببعض أهل العلم، أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم، ونحو ذلك. فهذه الأموال التي كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها، وإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك، وأن الذي أفتاهم أخطأ، فإنهم قبضوها بتأويل، فليسوا أسوأ حالا مما اكتسبه الكفار بتأويل باطل.
فإن الكفار إذا تبايعوا بينهم خمرا أو خنزيرا، وهم يعتقدون جواز ذلك، وتقابضوا من الطرفين، أو تعاملوا بربا صريح، يعتقدون جوازه وتقابضوا من الطرفين، ثم أسلموا، ثم تحاكموا إلينا، أقررناهم على ما بأيديهم، وجاز لهم بعد الإسلام أن ينتفعوا بذلك، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } 157، فأمرهم بترك ما بقي لهم في الذمم، ولم يأمرهم بإعادة ما قبضوه.
وكان بعض نواب عمر بالعراق يأخذ من أهل الذمة الجزية خمرا، ثم يبيعها لهم، فكتب إليه عمر ينهاه عن ذلك. وقال: إن رسول الله ﷺ قال: (لعن الله إليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا أثمانها)، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أثمانها. فنهاهم عمر عن بيع الخمر، وقال: ولّوا بيعها الكفار. فإذا باعوها هم لأهل دينهم، وقبضوا أثمانها جاز للمسلمين أن يأخذوا ذلك الثمن منهم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام).
بل أكثر العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة يقولون بما دلت عليه سنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين، وهو: أن الكفار المحاربين إذا استولوا على أموال المسلمين بالمحاربة، ثم أسلموا بعد ذلك، أو عاهدوا، فإنها تقر بأيديهم، كما أقر النبي ﷺ بيد المشركين ما كانوا أخذوه من أموال المسلمين حال الكفر؛ لأنهم لم يعتقدوا تحريم ذلك وقد أسلموا، والإسلام يجب ما قبله، فإنما غفر لهم بالإسلام ما تقدم من الكفر، والأعمال صاروا مكتسبين لها بما لا يأثمون به.
وإذا كان الأمر كذلك، فالمسلم المتأول الذي يعتقد جواز ما فعله من المبايعات والمؤاجرات والمعاملات التي يفتي فيها بعض العلماء، إذا أقبض بها أموال، وتبين لأصحابها فيما بعد أن القول الصحيح تحريم ذلك، لم يحرم عليهم ما قبضوه بالتأويل، كما لم يحرم على الكفار بعد الإسلام ما اكتسبوه في حال الكفر بالتأويل، ويجوز لغيرهم من المسلمين الذين يعتقدون تحريم ذلك أن يعاملوهم فيه، كما يجوز للمسلم أن يعامل الذمي فيما في يده من ثمن الخمر، وغيره، لكن عليهم إذا سمعوا العلم أن يتوبوا من هذه المعاملات الربوية. ولا يصلح أن يقلد فيها أحدا ممن يفتي بالجواز تقليدا لبعض العلماء؛ فإن تحريم هذه المعاملات ثابت بالنصوص والآثار، ولم يختلف الصحابة في تحريمها، وأصول الشريعة شاهدة بتحريمها.
والمفاسد التي لأجلها حرم الله الربي موجودة في هذه المعاملات، مع زيادة مكر وخداع، وتعب وعذاب. فإنهم يكلفون من الرؤية والصفة والقبض وغير ذلك من أمور يحتاج إليها في البيع المقصود، وهذا البيع ليس مقصودا لهم، وإنما المقصود أخذ دراهم بدراهم، فيطول عليهم الطريق التي يؤمرون بها، فيحصل لهم الربا، فهم من أهل الربا المعذبين في الدنيا قبل الآخرة، وقلوبهم تشهد بأن هذا الذي يفعلونه مكر وخداع وتلبيس؛ ولهذا قال أيوب السختياني: يخادعون الل