مجلة المقتبس/العدد 93/الحقيقة في الخيال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 93/الحقيقة في الخيال

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1914



متى تنجاب هاتيك الدّجون
وعنّا تنجلي تلك الظّنون
متى يعلو على الشّكّ اليقين
متى يصبو على الحزن الرّزين
أنبقى هكذا بيد الفجائع
ضرائب للبنادق والمدافع
لنا في كلّ شارقةٍ مصارع
تصيد نفوسنا فيها المنون
تقاضينا إلى حدّ الحسام
على ما ليس يؤبه من خصام
وتقذفنا لمنذور الحطام
لجارية القضاء نوّى شطون
يهيب بنا اللموع من السّرابِ
لورد الحتف في حمس الضراب
ويخدعنا الجهام من السّحابِ
فنحسب أنّه الغيث الهتونُ
يرينا المرء في سكنى الأطام
خلال المرء في سكنى الخيام
ألذّ مُدامه كأس الحمام
واهنأ عيشه الحرب الزّبون
له دانت مواليد الطبيعة
فأضحت وهي صمّاءٌ سميعة
أطاعته وما برحت مطيعة
تبوح بسرّها وهو المصون
فكم كشفت معارفه حجاباً
وكم راضت مواهبه صعاباً
وكم دكّت عزائمه هضاباً
وكم خضعت له بكرٌ وعون
فنونٌ كم له منها جنونٌ
وإنّ جنونه أبداً فنون
وكلّ حديثه معها شجون
وكلّ شجونه فيها فتون
تضاحكه فيطرب لا يبالي
بما منها له تلد الليالي
وينسى ما جنته على الأوالي
وما خبّأت له منها القرون
يطيع نداء ناقضة الذّمام
ويعصي كلّ طيّعة الزّمام
هجيراه مجانبة الوئام
وبين ضلوعه الدّاء الدّفين
سواءٌ عنده ركب ألفضاََء
بتطلاب العلى أم خاض ماَء
ودأماء توسَّطُ أم دماَء
له في كلّ حادثةٍ سفين
أجال بغامضٍِ الأكوان فكراً
فأوضح مبهماً وابان سرّاً
وكم أوحت له آياً وسفرا
ًوسَر كتابها فيه مبين
جلا سنن الطّبيعة فاجتلاها
كواكب كم أبان له ضياه
خفايا ليس يدرك منتهاها
ولا ترقى لأيسرها الظّنون
رقى سيّارةً فوق الهواء
تحكّ بروقها زهرُ السّماءِ
وراح بها يدلّ على ذكاءٍ
وددت أنها منها تكون
يراها العلم معجزة العصور
ومشكاةً جلاها للدهور
وأطلقها هوازئ بالبدور
تقيّد في محاسنها العيون
تراها وهي ناشرةُ الجناح
كدلاحٍ تلفع بالرياح
فما حملت سوى أجلٍ متاحٍ
وبين ضلوعها حتفٌ مهين
فكم عنها تمخّضت السنين
وما نشرت وكم طويت قرون
وما سمحت بمولدها البطون
ولا بلغ الظّهور لها جنين
تخطّ بمهرق الآفاق سطراً
فتقرأ منه للإعجاز شعراً
وللتدمير والتّفريق نثراً
وحاصل معنييه أذىً وهون
يثور بصدرها غازٍ فتغلي
مراجلها على حقدٍ وغلّ
وإن تنظر فليس لغير ذلٍّ
وضيمٍ ذلك النّظر الشّفون
طوى خبر البساط لها عيانٌ
به لبصائر الدنيا افتتان
وإن يسلس لراكبها عنانٌ
فكم منها يعاصيه حرون
تغرّد في الفضا تغريد شادي
فيطرب شدوها سمع الجماد
وإن هامت بها في كلّ وادٍ
عقولٌ فهي واديها الأمين
تريك على جمام الكدّ مزحاً
فتشرح طبعك المكدود شرحاً
وإن محضتك بعد الغشّ نصحاً
فكم من جدٍّ يولّده المجون
تطير وهل تباريها النسور
ودون محلّها الشّعرى العبور
ولن يرقى لمرقاها الأثير
وهل تُرقى الخواطر والظّنون
لمسترق النّجيّ غدت شهاباً
تلهب في أضالعه التهاباً
وتقصيه وما بلغ اقتراباً
لخافيها المراصد والعيون
تُرى بدراً وآونةً هلالاً
إذا في الأفق أسرعت انتقالاً
وإن لاحت بوجه الكون خالاً
فما غير الفضا لها جبين
إذا جاشت بها قدرٌ تفور
تدور كما يصرفها المدير
وإن زفرت يطير بها الزّفير
وإن غضبت يجنّ لها جنون
كأن البرق أصدقها الودادا
فملّكها بجبينه الفؤادا
وصيّرها لناظره سواداً
ولكنّ الخفوق لها جفونٌ
بجانحة الزّمان غدت ضميراً
وطرفاً في محاجره قريراً
وعضباً في سواعده طريراً
ولكن غير ما صنع القيون
أيا عصر البخار إليك شكوى
يغصّ بها فم الأيّام شجواً
ابن إن كنت تنطق لي بنجوى
لها بأضالعي وجدٌ كمين
أينطق في معاجزك الجماد
ولم يمطرهم رفقٌ ولين
أتجريها جواري منشِئاتٍ
مواثل كالجبال الرآسيات
وتوقرها صنوف المجعزات
تراع بها المعاقل والحصون
تخادعنا ببرّاق لموعٍ
كذلك شيمة الختل الخدوع
وكم لك في البريّة من صنيعٍ
تشيب له الذّوائب والقرون
فنونك لم تدع أرضاً خلاءً
ولم تجرِ بها عسلاً وماء
وكم فيها أفاضت كهرباَء
بساطعها اعتدى ضبٌّ ونونُ
لئن نصبت بنوكٌ لها دلائل
فلم تكًُ للورى إلا حبائل
وإن أهلّت بآنسها المجاهل
فما هي للنهى إلا حزون
وكم لبنيك من آي اختراع
طوائلها تقصّر كلّ باع
وتذهب بالمذانب والتّلاع
إذا يوماً لها فاضت عيون
لئن خلبت بوارقها العقولا
فلم يكُ ومضها غلا نصولا
وكم فينا جلت عضباً صقيلاً
مواقع حدّ منّا الوتين
إلى مَ حياتنا تفنى جهاداً
وأنفسنا نقطّعها جلاداً
ونحمل في الدّنا نوباً شداداً
تنوء بحملها الأجد الأمون
أعصرَ النّور لم نرَ فيك نوراً
ولا منك البخار غدا مطيرا
ولكن من دمٍ أجرى بحوراً
وأشلاء الأنام بها سفين ابن
إن كنت تفصح عن خفيٍّ
يضيق بسرّه صدر الأبيّ
أتخترع النّكال لكلّ حيٍّ
وللإنسان فيك أذىً وهون
كأنّ نفوسنا أضحت متاعاً
يساومنا المنون لها ابتياعاً
وإن طارت على سومٍ شعاعاً
فما غير ألفناء لها وكون
أنسقط من جهين على خبيرٍ
ليصدقنا الحديث عن الدّهور
فقدماً قيل غير مقال زورٍ
(وعند جهين الخبر اليقين)
شكونا داءنا حيناً فحيناً
وأعضل داؤنا منّا وفينا
وكلّ رزيّةٍ صبّت علينا
فأدوى دائها فينا كمين
شغفنا بالتّمدّن وهو داءٌ
عضالٌ لا يرام له دواء
وليس لدائه أبداً شفاءٌ
وهل تشفى الحقائد والضّغون
هل التّمدين غير مثار حربٍ
ومدعاةٌ لكلّ أذىً وكرب
ومنذر فرقةٍ ورسول رعبٍ
وداعيةٌ بكلّ رديّ قمين
متى الإنسان يصبو التصافي
ويخلع عنه أردية التجافي
ويهجر ورد رنقٍ غير صافي
إذا لذّت لشاربها الأج - ون
يرى حملاً وفي برديه ذئب
هجيرة مخادعة ووثب
وأن طمعٌ أهاب به وكسب
يريك الليث أظهره الع - رين
غرائز فيه شتى لاتحد
وجمّ خلائق ليست تعد
وكم منها له خصم ألدّ
عريكته لخطبٍ لا تلين
وظل وما رهى دنيا ودنيا
يسوق لنوعه حتفاً مهينا
ولم يقض إلى طمع ديونا
وقد قضيت وأغلقت الرهون
عزا للدين تفريقاً وظلماً
وكم قد راح ينثر منه نظماً
ولم يلف بغير الدين ضمّاً
وهل يدعوا إلى التفريق دين
متى للسلم يجنح والتّآخي
ويحكم للمؤاخاة الأواخي
يرقّ لكلّ معولة الصراخ
ويعطف من حشاشته الحنين
متى يغدو على طرف الثمام
تودد كل مصريّ لشامي
وينزع معرق للقا تهامي
ونجدي لمن ضمّ الحجون
ويعطف كل غربي لشرقي
حشاشته ويرتق كل فتق
ويطلق ذاك هذا بعد رق
وقسوة ذاك لذا تلين

النبطية سليمان ظاهر