مجلة المقتبس/العدد 93/أخبار وأفكار
مجلة المقتبس/العدد 93/أخبار وأفكار
البسيكومتر
اخترع عالمان من علماء النفس الأستاذ جونغ من جامعة زوريخ والأستاذ بترسن من جامعة نيويورك آلة دعواها البسيكومتر الكهربائي أن لم يمكن بها قراءة أفكار من يخضعون للتّجربة برضاهم أبغير رضاهم فلا أقلّ من الوقوف على حقيقة أقوالهم والآلة مؤلفة من كالفانومتر ومن آلة تقيد تنوع ألفكر وظهوره في الكلام وذلك على الوجه الآتي: أ، الكالفانومتر متصل مع مصباح ينزل لهيبه أو يصعد بحسب قوة المجرى الكهربائي ويقاس علو هذا اللهيب بمرآة ذات درجات تنعكس عليها فلا جل فحص إنسان توضع يده الوحدة على قطب من الزنك والأخرى على قطب من ألفحم ومن ذلك ينشأ مجى كهربائي تختلف قوته بحسب شدّة الحواس النفسية أو الطبيعة التي تجري في خاطر الإنسان الذي يراد اختباره فإذا كذب هذا الرجل كان من اضطراب حركة الدماغ الحادثة من التناقض بين ألفكر والإرادة التي تظهر العكس أن يحدث منه مجرى كهربائي يختلف ضعفاً وقوته بعلو اللهيب المار ذكره. وقد أثبتت التجارب الكثيرة صحة هذا الاختراع الذي هو من أغرب ما سمع.
ألمانيا الاقتصادية
الظاهر أن ليس في العالم أمة كالألمان عرفت طرق الاقتصاد وادخرت وفرها للأيام الشّداد وعالجت كلّ أسباب هذا الباب حتى أعجب بها الأعداء قبل الأحباب. وقد قدّر العارفون ثروة الشّعب الألماني قبل من 33. إلى 39. مليار مارك وثروة بريطانيا من 3. . إلى 36. وثروة فرنسا من 26. إلى 29. ودلّت كثرة الوارد على صناديق التّوفير خلال الحرب أيضاً أن ثروة ألمانيا ما برحت في نمو مع أن أصحاب هذه الأموال اشتركوا في إقراض حكومتهم أربعة قروضٍ كبيرةٍ وكانت قيمة القرض الأخير عشرة مليارات وسبعمائة مليون مارك اشترك فيه 645، 279، 5 ألمانيا ومع ذلك زاد ما وضعوه في صناديق التوفير عن 66. مليون مارك خلال سنةٍ واحدةٍ آخرها سلخ سنة 1915م.
كانت ألمانيا قبل الحرب تملك 45 مليون رأس من الماشية وفرنسا تملك 2. مليوناً وإنكلترا 13 مليوناً وبلغ محصول القمح والجاودار في ألمانيا 16. 8مليون طن في حين لم يبلغ محصول فرنسا من ذلك أكثر من 1. ومحصول إنكلترا 1. 4 مليون وبلغ محصول ألمانيا من البطاطا 54 مليون طن ومحصول فرنسا 13 مليوناً وإنكلترا 6 ملايين.
كان في بنك ألمانيا في أواخر السنة ألفائتة ما قيمته 55 مليون من السندات المستهلكة في حين كان بنك فرنسا 2. 91. ملايين وفي بنك إنكلترا 2. 193 ويفهم من ذلك أنّ ألمانيا قضت الأسابيع الأولى من الحرب دون أن تعتمد إلى تأجيل دفع الديون (موراتوريوم). ويستفاد من الأرباح التي أعطتها الشركات الألمانية لمساهميها مدّة هاتين السّنتين في الحرب العامّة أنّ 3. . . شركة دفعت لمساهميها 6. 48 في المئة سنة1914م ودفعت 8. 37 في المئة في السنة التالية هذا مع انقطاع ألمانيا عن أقطار العالم الأخرى.
وكان الدَّين الذي على إمبراطورية ألمانيا والإمارات المتّحدة الألمانية قبل الحرب 21ملياراً وديون بريطانيا العظمى 14 مليار مارك ومعظم الدَّين الذي على حكومة ألمانيا هو ثمن سككها الحديدية التي ابتاعتها من الشركات بعشرين مليار مارك فالديون الألمانية يقابلها ما لألمانيا من الخطوط الحديدية ويضاف إلى هذه ما تملكه من المناجم والأملاك والغابات التي تساوي أربعة مليارات فلألمانيا ملكٌ يساوي 34ملياراً من الديون لقاء 21 ملياراً من الديون على حين ليس لحكومة إنكلترا من الملك سوى 78. مليون مارك وباقي ما عليها أي 13ملياراً و6. . مليون مارك ديناً لا مقابل له ومثل ذلك يقال عن فرنسا التي يقلٌّ ما تملكه أكثر من ذلك ويصيب ألفرد من دين الحكومة في ألمانيا 312 ماركاً وفي إنكلترا 313 وفي فرنسا 664. وقد أنفقت حكومات أواسط أوروبا على تسليحها من سنة19. 5 إلى 1914م، 81 ملياراً وكانت نفقات حكومات الوفاق 42 مليار مارك ويصيب من هذه النفقات كلّ فردٍ في ألمانيا2. 2 مارك وفي النمسا 111 وفي إنكلترا 3. 5 وفي فرنسا 259 وعلى هذه النسبة كانت نفقات الحرب ويؤخذ من المجلّة الاقتصادية الإنكليزية أن حكومات أوروبا الوسطى يصيبها 35 في المئة من المئة نفقات الحرب ويصيب حكومات الاتفاق 61 في المئة فتنفق كل يوم حكومات أوروبا الوسطى كل يوم 12 مليون مارك وينفق خصومها 245 مليوناً وقد زاد سعر القطع في الاقتراض في جميع الممالك وهو في ألمانيا أقل منه في غيرها فارتفع فيها من 3. 9. في المئة إلى 5. . 5 في المئة وفي فرنسا من 36. إلى 575 وفي إنكلترا من 3. 33 إلى 5. 21 فالزيادة في ألمانيا 3. في المئة وفي فرنسا 6.
وفي إنكلترا 57 وزاد تداول أوراق المصارف فكان في أواخر سنة 1915 في ألمانيا نحو ستّة مليارات ورقة في حين كان لفرنسا منها 11 مليار ورقة وأكبر دليل على قوّة الحياة الاقتصادية في ألمانيا أنّ المودعات في المصارف الألمانية زادت عشرة في المئة على حين نقصت في فرنسا 28 في المئة. وسعر القطع كان في ألمانيا قبل الحرب أرقى من غيرها فأصبح الآن خمسة مثل سائر الممالك أما سعر القطع الخاص فهو الآن أقل مما في إنكلترا مما لم يعهد إلى هذا اليوم. وأكبر دليل على وفرة المال في ألمانيا أن المصارف لا تعطي من ألفائض عن المال المودع عندها أكثر من 1. 5 بالمئة وتدفع مصارف إنكلترا 3. 5 في المئة
وهذا من الأدلة الناصعة على ارتقاء القوة في ألمانيا ويدل أنها أرقى من خصومها في الاقتصاد والمالية فقد أبانت الحرب الحاضرة أن ألمانيا أول دولة في العالم وأخذ علماؤها يعنون ببيان أن المدنية الألمانية أرقى من كل خصومها وقد نشر أحدهم مؤخراً في كتابٍ له أرقاماً هي أصدق شاهدٍ على تقدّم ألمانيا على فرنسا وإنكلترا فتبين أن ألمانيا أصدرت سنة 1913م - 34 ألف كتاب وإنكلترا أصدرت تلك السّنة 21 ألفاً وفرنسا 9 آلاف وأنّ ألمانيا تنفق على مدارسها 878 مليون مارك وإنكلترا 384 مليوناً وفرنسا2. 1مليون وأنّ الألمان أحرزوا من جوائز نوبل مكافأةً لأبحاثهم العلمية 14 جائزة وإنكلترا 3 وفرنسا 3 وأن نفوس ألمانيا زادت في تلك السّنة 82. ألفاً وإنكلترا134 وفرنسا2. ألفاً وأنّ محصول ألمانيا من الحنطة 25مليون طن وإنكلترا 16 وأن لألمانيا 51 مركز بريد ولإنكلترا 24 ولفرنسا14 ولها 1315 مركز تلفون ولإنكلترا 733 ولفرنسا 3. 4 وتجاربها الخارجية عدا المستعمرات 1. مليارات مارك ولإنكلترا 6 ولفرنسا 4 وثروة الشعب الألماني 375مليار مارك والإنكليزي 345 والفرنساوي 245 فألمانيا أرقى في معظم ما تقدَّم ضعفين من إنكلترا وفرنسا معاً
وإليك أيضاً أرقاماً أخرى تدلّ على ارتقائها في سلّم الحضارة أكثر من خصيمتيها ففي كل 1. . . . . جندي ألماني أميّان اثنان وفي كل 1. . . . . انكليزي 1. . وفي كل 1. . . . . فرنساوي 32. ويصيب ألفرد في ألمانيا من ديون الحكومة 31. ماركات وفي إنكلترا 323 وفي فرنسا 657 ويدفع ألفرد من الضرائب في الأولى 4. ماركاً وفي الثانية 73 وفي الثالثة 8. ونفقة الأولى على الجيش والأسطول 21. 86والثانية 33. 5. والثالثة 67. 29
ومن الغريب أن ألمانيا لم تؤثّر الحرب فيها كما أثّرت في غيرها وأنّ ما أنفقته حكومتها على إعداد الأساطيل والجيوش تسرّب إلى خزائن رعاياها فقد قال الدكتور هلفريش الأخصائي المشهور أن أكثر من نصف ما أنفقته تلك الدولة تحول إلى ريع للملتزمين والمتعهدين في حين ترى سائر الدول المحاربة لم يكد يبقى لها ولرعاياها مما أنفقت سوى الربع على أكثر تعديل فأنفقت ألمانيا في السنتين نحو 2. - 25 مليار مارك والنمسا والمجر 1. - 12 ملياراً وإنكلترا 4. وفرنسا 25 وروسيا 3. ففقدت ألمانيا من مجموع ثروتها نحو 6 في المئة وإنكلترا أكثر من الضّعف وقد قدّر أحد رجال ألمانيا أنّ أمّته يقتضي لها ثلاث أو أربع سنين بعد الحرب لتستعيد مكانتها الاقتصادية على شرط أن لا يحسب في باب النفقات إلا ما أنفقته مباشرة على الحرب. وقال أن ثروتها تريد عشرة مليارات في العادة كل سنة منها ثمانية مليارات إلى ثمانية ونصف قيمة عمل وإذا قلت الزيادة بعد الحرب قليلاً فثلاث أو أربع سنين تكفي وأن ما يبهظ العوائق في ألمانيا من الضرائب مدّة الحرب ينزل بعدها فتتعادل الحالة الاقتصادية
هذه حقائق تشهد شهادةً صادقةً بارتقاء حليفتنا ومن أعدّ للمستقبل مثل هذه العدّة المالية يستحيل على جيوشه أن تغلب وعلى خزانته أن تنضب ومثل هذه القوى المادية إذا وقفت إلى إيجادها أمّةٌ لا تحارب حولين فقط بل عشراتٍ من السنين.
الجرائم والحرب
كتب الغربيون كثيراً في الدواعي والبواعث على الإخلال بالأمن والقتل والانتحار وقام أناس يدّعون في العهد الأخير أن الحرب من العوامل التي تساعد على كثرة الجرائم بالواسطة لأنها تحسّن حالة الاستكثار من التسليح وهو على ما يزعمون سبب معظم الشرور التي يقاسي منها المجتمع وخصوصاً في كثرة الجرائم وزعموا أن التسليح العام سببٌ عظيمٌ من أسباب الانحلال الطبيعي والأدبي. وهذا القول يصحّ على إطلاقه بالنظر للفرنسيس والطليان مثلاً حيث يضعف الوازع الديني وتطلق للنفوس حريتها المطلقة ولا يصح على النمسا والمجر وألمانيا حيث تجد للآداب الدّينية والمدنيّة شأنها ذلك لأنّ ضابط هاتين الأمتين الأخيرتين يتعلمون تعلماً يتمكنون به من إحسان الخدمة زمن السلم وزمن الحرب وهم للمجتمع هناك مادة قوّة لا سبب ضعف أمّا الجنود فإن التدقيق في نظامهم وتدريهم في الثكن يؤثر فيهم تأثيراً فيهم تأثيراً أخلاقيّاً مهمّا. وكثير من أهل الدّعارة قضوا خدمتهم الجنديّة فلمّا عادوا إلى قراهم كانوا مثال حسن السّلوك وذلك لأنهم النظام وهذا أكبر أعداء الجرائم. ولذا فإن قوانين بعض البلاد تقضي بأن لا يجعل المجرم الصغير في دار الإصلاح إلى ما بعد الحادية والعشرين من عمره فينقل إذ ذاك إلى الثّكنة لأنّ الملحوظ أنّها تطهره بنظامها وتوفي ما عجزت عنه الحبوس ودور الإصلاح للنّفوس فالجنديّة إذا هي من العوامل الّتي تؤثّر تأثيراً حسناً في تقليل الجّرائم وليست عاملاً من عواملها ولا سبيل إلى الدّفاع عن دولة والاحتفاظ بمصالح الجماعة إلاّ بقوة السّلاح.
منذ قرون بل على عهد نابليون كانت الجيوش مؤلفّة من حثالة من اللصوص ومن أناس لا خلاق لهم بحيث لا يستغرب أنّ الناس يخشونهم كما يخشون قطّاع الطّوق أرباب الشقاوة وكانت فرنسا إلى القرن السابع عشر تتخذ حتى الحامية الملوكية من الدّعار بحيث كان الجند مصيبة على الأمّة كما قال بعض مؤرخيهم
وإذا نظرنا إلى حرب النّمسا وبروسيّا سنة 1866 وحرب ألمانيا وفرنسا سنة187. - 1871 نجد كما قال بعضهم أن عدد الجرائم والجنايات في المجر سنة 1866 3663 وعدد الجنح9583 أي أقل مما كان في السنين التي سلفت. فارتكبت سنة1865 - 2864 اعتداء على الآداب وفي سنة 1866 كان عدد هذا النوع 2588 وسنة 1867 - 2732 وارتكبت سنة1865 - 596 جناية قتل وسنة 1865 - 539 وسنة 1867 - 618 وارتكبت سنة1865 - 44. 162 سرقة وسنة 1866 - 43. 575 وسنة 1867=41. 717 وجميع الجرائم والجنح تقل زمن الحرب ولكن تزيد زمن الحرب جرائم أخرى مثل جرائم تناول الملوك بسوء أو تفوهات ردينه كما جرائم سك النقود زادت الجنح في السّنة التّالية لسنة حرب ألمانيا=فرنسا زيادة مهمّة. . . .
وأهمّ الأسباب المؤثرة مباشرة في تقليل الجرائم مدّة الحرب هو أن عناصر الشّعب التي تجترح الجرائم تكون في ساحة الحرب مشغولة فقد جيّشت ألمانيا في حرب السّبعين مليوناً ومائتي ألف جندي فخف بذلك عدد المجرمين ولكن زاد عدد المجرمات وذلك لأن النَساء بقين بدون معين خلال الحرب ودفعتهنّ ألفاقة إلى ارتكاب المحظورات
الحرب تؤثّر في أخلاق الشّعب المحارب وعقل سكّانه المدنيّين فتحدث فيهم حماسة من شأنها أن تحمي ألفرد من العوامل الدّافعة إلى الجرائم ويقلّ ارتكاب الشرّ في الإنسان. ومتى زاد ألفحش في أمّة تشتد الحاجة إلى عاصفة مطهّرة تشتد إلى حرب تخلّص النّفوس من شقوتها وقد أثبت علماء الإحصاء في ألمانيا أنّ هذا الانقلاب في الأخلاق مع ألفكر المتّحد والحماسة الوطنية الّتي ولّدتها حروب الألمان هي أيضاً من أسباب قلّة الجرائم.
وهناك سبب ثالث غير هذين العاملين الطبيعي والأزليّ وهو أنّ الأفراد قد لا يشكون زمن الحرب في المسائل الطفيفة والحكومات تكون أوسع صدراً في هذا الشّأن فلا الصّغائر فيقلّ الضّرب على يديّ المجرمين حتّى يظنّ النّاس أنّ الجرائم قلّت أكثر ممّا هي في الحقيقة. والجرائم أيّام الحرب تختلف باختلاف طبيعتها ومهما كان الشعب راغباّ في إشهار الحرب فإنّ من النّاس من يحملون تبعة ذلك على ملك البلاد فيطيعون فيه ألسنتهم ولذلك يحكم عليهم بأحكام إهانة الملوك وجرائم الإفلاس تزيد زمن الحرب لاشتداد الأزمة الماليّة. والجنايات بعد الحرب وأنّ لم تطل أيّامها تكون أكثر لوقوف دولاب الصناعة بقلِّة المال وقلِّة اليد العاملة وإذ يهلك كثير في الحرب ومنهم من تقعد بهِ جراحته عن العمل فيزيد شقاء العائلات ويختلّ نظام البيوت وبذلك تزيد جنايات الانتحار كما قال ستارك. وزيد عقبى الحرب الاعتداءُ على الأفراد لأنّ عدداً كبيراً منَ الجندِ يعودونَ إلى الحياة المدنيّةِ وقد فقدوا شعور احترام الحياة الإنسانيّة والملكيّة أو قلّ هذا الشّعور وهذا ما يحقّ بهِ قول من يقول أنّ فكرةَ الحربِ لا تشبَعُ بغيرِ الذّهب والدّم. .
وممّا لا ينكرُ أنّ الدّورِ الّذي يعقب الحربَ يحمل في مطاويه القرْم إلى السّفك والتّخريب لا المتسامح فيه بل المحرّض عليه من الرّؤساء. وهذه الأهواء الّتي تعمل عملها بالإغواء والقدوةِ يحاول المجتمع والممالك المتحاربة أن يؤجِّجُّوا نيرانها بكلّ ما لديهم من الذّرائع تغرس في النّفوس أصولاّ يصعب اقتلاعها في الحال وتظلُّ تنمو حتّى إذا مدّ السّلام رواقهُ لم تعد حاجة إليها فوجب استئصالها أو منعها من النّماء.
وهنا واجبات سياسيّة اجتماعيّة يجب علينا زمن الحرب وبعده أنّ نأخذ بمحظ مّنها وهو أنّه وهو أنّه يجب على الحكومة والمجتمع أن يجتهدا في القضاء على الشّقاء والأمراض الّتي أحدثتها الحرب وأن يقوي في غضون الحرب في جميع طبقات الشعب الاعتقاد بالظّفر النّهائي وأننا على حقٍّ فيما نحارب لأجله وأن نثلم من النفوس بعد الحرب وحشيّتها وقسوتها وذلك بوساطة الصّحافة والتّمثيل والمحاضرات العامّة
الألعاب الرياضيّة
كتب الدّكتور ماكس نودرو العالم الإسرائيلي الألماني الكبير مقالة في إحدى المجالات الإفرنسيّة في الرّياضات والألعاب الرّياضية قال ما تعريبهُ:
لقد دعي عصرنا حتى الآن بجميع الأسماء الممكنة فسمّي عصر الطّفل وعصر المرأة وعصر الطّيران وعصر السّرعة. وإذا قلنا عصر الرّياضات كانت هذه التّسمية من أصحِّ التّسمياتِ. كانت الألعاب الرّياضية بالإنكليز جسمها واسمها أمّا اليوم فقد أصبحت المسألة الكبرى بل هذه جميع الشّعوب الممدنة ولها المقام الأول في خطط تهذيب الشّبيبة والمرأة فهي في نظر الجيل الرّاقي تنوب مناب جميع الكماليّات التّقليديّة والأخلاقيّة والجماليّة والاجتماعيّة تهتمّ لها الحكومات فتبذلُ لها من العناية الإدارية مثل ما تبذل لمسائل الخراج والجيش. لا جرم أنّ الوقت قد كاد يحين لتنشيئ فيه كل حكومة منظّمة وزارة الرّياضات فإن الاستعداد للقيام بالألعاب الأولمبية الدولية يجري على أتمِّهِ في كل مكان كما يجري الاستعداد لحملة. وكلُّ ظفر يحرز في هذه الألعاب يصبح علامة محد وطنيّ وكل انّكسار يتحوّل إلى ذلِّةِ ينال شرّها شعباً برأسه. ويظهر الجمهور أهمّ الصّحف وأكبر عناوينها الخاصّة بالألعاب الريّاضية من يوم إلى آخر وقد لا تشبعه هذه الحال فيميل إلى الحصول على صحف لا يتحدّث في الأمور التّافهة كالسّياسة الدّاخلية والخارجيّة والاقتصاد السّياسيّ والآداب والفنون والتّمثيل وأنّ لا تنشر له إلّا ما ينفعه حقيقة وأعني بذلك الرّياضات وأنّ الصّحف المستقلِّة الّتي تعني بالبحث في الألعاب الريّاضيّة قد كثرت في كلِّ مكان وكثرة المطبوع منها يدل على مبلغ الحاجة العامّة التي تبيدها لممارسة الألعاب الريّاضيّة تاريخ قديم في إنكلترا فهو أحد المظاهر المهمِّة يتبع الطّبقات الاجتماعيّة الشّغب الإنكليزي فقد أخذ الفاتحون الرّومانيّون على أنفسهم حكم جمهور السّلتيين الإنكليز السّكسونيّين ممّن غلبوا على أمرهم وحرموا من حقوقهم فألفوا طبقة خاصّة يدخل فيها غيرهم إذا كان يستحقُّ أن يعدَّ في جملتهم وهذه الطّبقة معينة والألعاب وعلامة لأهل تلك الطّبقة.
الألعاب الرّياضيّة تستلزم صرف الوقت والمال والقوّة والخدمة والعناء والصّبر وتستدعي فراغاً وسعة ماديّة وقوّة طبيعية وصفات من الأخلاق في قوّة الإرادة والثّبات ومجموع هذه الصّفات العالية يتألف منها تعريف الارستقراطية. وقد اكتفت بعض طبقات من ألفاتحين بتملك الّثروة ونيل الامتيازات السّياسيّة والاجتماعية. فالبذخ والنّعيم هما اللّذان تأنّثت بهما أمّة الوزير غوت في إسبانيا ففسدت وكذلك شأن اللومبارديين في إيطاليا الشّمالية والمغزل والتّتار في روسيا والمنشور في الصين. ذلك إلى اليوم الّذي قضى فيه عليهم انحلالهم وقلّة مضائهم وكان ذلك من دواعي حمل العامّة عليهم لإخراجهم من مراكزهم الممتازة ودوسهم في الأرض. وكان الدينيمركيّون والنرويجيّون الّذين أصبحوا نورمانديّين ممّن يؤلّفون الارستقراطيّة ألفاتحة في إنكلترا على جانب من المكانة والذّكاء وبعد النّظر فأرادوا أن يبقوا شجعاناً بحسب الطّبيعة وأنّ يكونوا أشدّ قوّة لا من حيث القانون فقط بل كانوا يرغبون بأن يكون كلّ واحد منهم في كل مكان وفي كلّ ساعة قادراً أن يظهر بقوة زنده حقيقة استعلائه وتقدّمه على كلّ من يجرا على أن يشكّ فيه أو ينكر عليه تقدّمه ولذا كانوا يذهبون إلى أن هناك واسطتين لحفظ القوّة العضليّة وزيادتها فهم أمّا أن يقوموا على الدّوام بأعمال جسدية عظيمة وأن يعمدوا إلى الألعاب الأولمبية الحاوية على المشاهد والملاهي والدّقة ولم يكونوا يعملون أعمالاً هي من شأن العمامّة وعدوا إلى استخدام الألعاب الرّياضيّة التي كانت علامة مميّزة لطبقتهم.
وقد أرى في هذا الباب كما يجري في كلّ مكان للمجتمعات الأوليّة الّتي تضع بصنعها خطّة تتّبعها الطّبقات الأخرى في الأمّة فإن الريّاضيات كانت بادئ بدء امتيازاً بل علامة للإشراف فغدت من أكثر ما تعنى به الأمّة. وبديهي أنّ الرّجل المنوّر يقوم على أحسن ما يكون بنوع من الألعاب الرّياضيّة على الأقلّ. وأنك لترى في الكتاب الّذي وضع للتّعريف بكل إنسان ذي مكانة في المجتمع واسم مشتهر بين النّاس في جملة التّفصيلات المعتادة عنه إشارة إلى نوع الرّياضة الّذي يميل إليه والمترجم له يرى أنّ ذكر المرء وما يرتاض به هو من الجوهريّات مثل مكان الولادة وتاريخها وإيراد سلسلة نسبة وحالة أسرته ودروسه المدرسيّة ومركزه وألقاب تشريفه وأعماله الّتي رفعته.
ولما سئلت للمرّة الأولى أن أجيب على تسجيلٍٍ في هذا الكتاب ليرجع إليه عرانيّ الخجل أن أترك عنوان الملذ له من الرّياضيّات فكتبت بجسارة: المسايفة (لعب السّيف والتّرسّ) والعوم وإن لم يبلغ مبلغاّ من المهارة فيهما يصح أن يذكر وإن كت منذ سنين ممتنّعاً عن هاتين الرّياضيتين ويا للأسف ولم أستطع أن أصرف فيهما وقت قصير حدّاً وأنّك لترى القصص الإنكليزية الّتي تؤلفها النّساء وغيرها من أنواع الأقاصيص يوصف أبطال رجالها بقوّة لطماتهم ولكماتهم وثباتهم وصبرهم في هذه الألعاب وحذقهم في التّجديف ولقد ضحك السّياح الّذين أتوا من أقطار أوربا إلى إنكلترا من طريقة التّعليم العالي في هذه الدّيار وظهر لهم وهم يهزّون أكتافهم أنّ تربية العضلات هناك مقدّمة على التّربية العقليّة وأنّ صفوف الدّروس كانت فارغة على حين تغصّ ساحات اللّعب بالطّلبة وقد امّتازت كلّيتا كمبردج وأكسفورد قبل كلّ شيء عن المدارس العليا بلعبة الفوتبول والرّياضات المائيّة كالعوم وإنّ الشّبان الّذين ينالون ألقاب الأكاديميات كانوا يجعلون لقوّة الجسم ميّزة على تعلّم العلوم
لا جرم أنّ إنكلترا تعجب بمن قام فيها من الرّجال أمثال داروين وماكسويل واللورد كلفن ورامسي ولكن هؤلاء العظماء لا يعزونها عن رؤيتها أن يكون رجلها في الملاكمة الثّقيل الجسم بومبارديه ولس يستحقّ مؤخّراً في ساحة اللّعب في 71 ثانية على يد شاب فرنساوي فظ اسمه كارانتيه وعمره تسع عشرة سنة. لا جرم أنّ إنكلترا كانت تؤثّر التّخلّي برضاها عن اكتشاف علمي نسب إليها تغلب مبارزها الذي كانت غلبته مصيبة وطنية عامّة سجلتها كبريات صحف لندرا بمداد الحدّاد وأشارت إلى أنّ ذلك الانكسار دليل انحطاط الشّعب الإنكليزي.
ومع ذلك فإنّ الرّياضيات تكاد لا تكون الآن خاصيّة من خواص إنكلترا فقد أجازت الخلجان والبحار وهي الحاكمة المحكمة اليوم في اليوم العالمين وقد اتّفق على استحسانها مؤرّخو المدينة ورجال الأخلاق والنّاقدون واللّغويون في العصر ليدلّوا على ما في الألعاب الرّياضيّة من ألفرح والبهجة فهي تصغي الأخلاق لأنّها تستدعي نظاماً قاسيا وتضطّر صاحبها إلى القناعة والعفّة وحيث انّتشر الولوع بها تراجعت ربّتا الخمر والجمال (باخوس وفينوس) وبتأثيرها يضمحلّ ما يضرّ بالخَلق والخُلق فهي تربّي النّوع على السّرعة والشجاعة والجمال والإنسانية مدينةٌ لها بجيلٍ من الأبطال. وهذا الرّأي الشّائع لا يجرأ على مناقضته إلا بعض علماء التربية ممن يصرّحون بأفكارهم ولا يحاذرون أن يطردوا من حظيرة الحظوة وأن يوصموا بالارتجاع والجمود
ليس للرياضيّات من ألفضائل ما ينسبونه إليها بل هي تستفيد من الخطأ الشّائع الذي به يخلطون بين الألعاب الطّبيعيّة والألعاب في الهواء الطّلق ولا يراد بلفظ الرّياضة البراز ولا الجمناستيك بل للرياضة البدنيّة غاياتٌ أخرى ومقدّماتٌ طبيعيّة فهي تقوم بمؤثّراتٍ أخرى وفي مطاويه عدّة فروقٍ في العواطف بل إنّ الرياضة مع الجمناستيك لعى طرفي نقيضٍ فإنّ المتعصّبين للرّياضة ينظرون إلى الجمناستيك نظر ازدراءٍ ويرون أنفسهم في ألعابهم مجددين وأنّهم صورة الارتقاء والتّنوير ويعبّرون عن مرامي العصر أما المنصرفون إلى الألعاب الجمناستيكيّة فيجيبون على ذلك أنّ جميع النّتائج الميمونة التي تدّعي أنّها تحويها الرّياضة يحتويها الجمناستيك على حين ليس في هذا كما في ذاك من العوائق
فالرياضة الجسمية أو الجمناستيك يبحث عن نظام الجسم وعن الكمال العامّ في قواه وعن قمع مجموع العضلات وعن تربية الإرادة وتنمية الثّقة بالنّفس والمصارع المدرّب تدريباً حسناً ينال بدون تعمل من أعماله كلّ ما فيها من النّتائج فيبلغ هادئاّ آمناً مطمئنّاً إلى أقصى الحدود التي تستطيع بلوغها قواه الجسديّة. والرّياضة لا تعمد إلى تربية جميع القوى الطّبيعيّة تربيةً واحدةً وغايتها التّفريق والتّخصيص ولا تستلزم من الجسم إلا حالةً واحدةً ولكن يجب أن تكون في أرقى مظاهر الكمال. والسّرعة هي التي تطلب من جميع الرّياضات ولا يعدّ من أهل الارتياض في شيءٍ من لا يعجّل ويقطف ثمار الظّفر في رياضاته. والمرتاض يحمّل طاقته فوق قوّتها ولا يسوّغ له أن يضعف لا لأجل نفسه بل ضدّ غيره. وقد قال شيلر: إنّ المصارع يتعلّم في طيّ السّكوت والمرتاض بين جلبة العالم. وتقاس قوة المرتاض ضدّ خصومه ويقام أبداً مع منافسين يحاول أن يتفوّق عليهم ولا يشعر بأدنى سرور في حالةٍ حسنةٍ في ذاتها كانت أحطّ من غيرها فإذا بلغت به الحال أن يصل بتكرار العمل أن يكون الأول يجب عليه أن يدافع عن مركزه من التّالين له أو أن يترك العراك ويعترف بأرجحيّة غيره عليه ويرضى صاغراً بالتّصريح بأنّه تجاوز أقصى درجات قوّته وانّ الخطّ المستدير من حياته أخذ بالهبوط. يتأتّى أن يكون المرء مصارعاً إلى سنٍّ متقدّمةٍ ولا يكون مرتاضاً إلا في أوائل سنّ الشباب وقوّته على لقاها لم تصبّ بما ينقصها. ومن النّادر أن يكمل المرء في الصّراع بعد الثلاثين من عمره ولا أعلم أحداً في الأربعينات وفِّق إلى تعلّم السرعة. البراز هو الوساطة التي يبقى بها المرء زمتاً طويلاً أما المرتاض فإنّ صحّته تعجّل عليه فتنحّيه عن عمله. البراز يمكن أن يكون مشغلاً ومسلاّت لوضع الموازنة بين النشاط الطبيعي والعمل العقلي والإرتياض حاكمٌ حسودٌ لا يسمح لغيره بأن يقف معه. ولكي ينال المرء ما في التبريز في الإرتياض من الشرف يقتضي عليه أن ينصرف إليه كلّ الانصراف وإنّك لتطلب من محترفٍ بحرفةٍ أكثر مما تتطلب من مولّع بها. والرّياضة تستلزم أن تشغل حياة من يطمع في التّبريز فيها بأسرها. الإرتياض يضرّ بالجمال ويقضي على تناسب الأعضاء بإحداثه خللاً في نظام القوى وانبساط قلبٍ مفرطٍ إلى جانب هزالٍ مضنٍ. فليس هو بمناسبٍ للصّحّة بل يؤدّي بها إلى الخطر. والمتنافسون في الإرتياض معرّضون لأمراض القلب ولداء الأعصاب وقلّما يعمّرون طويلاً. الإرتياض لا ينشئ جنساً قويّاً والمرتاض الحقيقي لا يعدّ شيئاً إذا خرج عن اختصاصه فهو إذا قفز لا يحسن الجري وإذا رمى بالإطار (الطارة) لا يُطلَب منه عملٌ آخر. ولا عمل له في تحسين الجنس وبكثرة إنهاكه لقواه العصبيّة وإفراطه في عمله يكون متوسّطاً فيما يتمّ على يديه أو بالمجد والغنى وقد احتفل بالفائزين في سباق الرياضات أكثر مما احتفل بالعلماء الأعلام ولا فائدة منه إلا أنّه يدلّ أنّ المرء يستطيع أن يسير أبرع من حصان السّباق وأنّه يجري شوطاً أوسع من شوط الذّئب ويقفز أكثر من النّمر
القضاء والعلم
دعا ناظر مدرسة حقوقٍ تلامذة الصّف الآخر من مدرسته وخاطبهم فقال:
إنني مسرورٌ لرؤيتكم مرّةً أخرى مجتمعين قبل حصولكم على شهادتكم النهائية ومفارقتكم للمدرسة. لا تتصوّروا بعد حصولكم على الشّهادة أنّ باب الدّرس أقفل فالإنسان لا يستغني أبداً عن المطالعة والدّروس وعليه فأنا أميل كثيراً إلى أن تكونوا نادياً أو جمعيّةً يكون القصد منها إيجاد مكتبةٍ فيها تطالعون وترجعون إليها في أبحاثكم في المستقبل وبداعي قرب الامتحان ألفتُ نظركم إلى مسألةٍ كثيراً ما تنسونها وتعتقدون أنّ فيها ضياعاً للوقت تلك المسألة هي الراحة والفسحة فأعطوا أنفسكم نصيبها من ذلك إذا أردتم نجاحاً يهمّني كثيراً قبل مفارقتكم لنا أن أملي عليكم بعض الصّفات التي يجب أن تتحلّوا بها في مستقبلكم والتي عليها تتوقّف علوّ منزلتكم واعتباركم بين زملائكم أنّ أول ما أذكّركم به عزّة النّفس واعتماد الإنسان على نفسه تلك أمورٌ كثيراً ما تدور على الألسن وينصح بها كلّ إنسانٍ غيره ولكن قلّ من يطبّقها على نفسه. إنّ ذلّ النفس أمرٌ مرذولٌ جدّاً. فإذا أحاطت بالإنسان أحوال احتياجٍ فعليه أن يسعى بقدر الإمكان في كتمانها وان يتظاهر أمام الناس بأنّه في غنىً وأنّه لا يريد المزيد. تلك صفاتٌ تجعل صاحبها مهيباً موقّراً في أعين أقرانه فإنّ كثيرين من الناس يبثّون الشّكوى لغيرهم من سوء حالتهم ويذكرون لهم أموراً متعلّقةً بأشخاصهم وقد لا يميل المشكو إليه إلى سماعها مثال ذلك يقول شخصٌ لغيره إنّي فقيرٌ ومحتاج وأريد تنمية ثروتي. فهذا كلامٌ لا لزوم له ولا محصّل
يجب على الإنسان أن لا يصرّح بكلّ ما في ضميره خصوصاً مما لا يهمّ الغير. فإذا كان أحدكم في وظيفةٍ فلا يلزمه أن يشكو ويقول أنّ فلاناً كان معي وكان أقلّ منّي في المرتبة وهو الآن رئيسي. فإنّ إفشاء مثل هذه الأمور ينقص اعتبار قائلها. الإنسان يسعى ليرتقي ولكن بدون أن يشكو ويبكي
تجول في خاطري مسألةٌ أخرى كثيراً ما يقع فيها معظم الناس وأعني بها التسرّع في الغضب وعدم مقدرة الإنسان على كتمان فزعه. حقيقةً أنّ هذه أمورٌ قد يصعب في بعض الأحيان تجنّبها ولكن إذا تجنّبها الإنسان تجعله مهيباً مسموع الكلمة يلفت أنظار النّاس خصوصاً عندما يرون من هدوئه وسكونه إذا حلّ به أمرٌ يوجب القلق. إنّ اللين يفعل ما لا تفعله الشّدّة. خذوا مثالاً بسيطاً. افرض أنّ عندك خادماً أتى أمراً أوجب سخطك فانهلت عليه بالشّتائم فقل أن يفعل زجرك في خادمك فعلاً حسناً وقل أن يهابك ولكن وبّخه بطريقةٍ ليّنةٍ مذكّراً إيّاه أنّ له حقوقاً وعليه واجبات فإنّ ذلك يفعل فيه ما لم تفعله جلبتك فضلاً عن أنّك تصون نسك. هذه الصّفة العالية شديدة اللزوم في حرفتكم سواء كنتم قضاةً أو محامين فيجب على القاضي أو المحامي أن يسعى بقدر الإمكان في كتمان إحساسه ولا يتأثّر بسرعةٍ ولا يأخذه انزعاجٌ ولا دهشةٌ حتّى يكون حكمه مبنيّاً على عقلهِ لا على وجدانه. فإذا كان أحدكم محامياً وعامله القاضي بغلظةٍ وبشدّةٍ فلا يجب أن يفزع من أول الأمر بل عليه أن يصبر مرّة وأخرى ويدافع عن حقّه بدمٍ ساكنٍ وبذلك يؤثّر في نفس القاضي ويزداد هيبةً ووقاراً. ألفت أنظاركم إلى مسألةٍ تتعلّق بمعلوماتكم العلميّة إنّي لا أشكّ في أنّ مهمّة القاضي والمحامي من أشرف الأعمال وأشقّها. فكلٌّ منهما ليس مختصّاً فقط بمعرفة القانون وعندي أنّه لو درسه في أوسع موسوعاته لما عدّ قاضياً خطيراً أو محامياً نحريراً. إن إجادة درس القضايا والحكم فيها لا يحتاج فقط إلى معلومات قانونيّة بل إلى معلومات طبيّةٍ وزراعيةٍ وهندسيّةٍ وحسابيّة. إنّ القاضي يفصل في نقط قانونيّة بعد تقدير الموضوع ولكنّ هذا الأخير يحتاج إلى معلوماتٍ كثيراّ ما تكون غير قانونيّةٍ
أنا لا أطلب أن يكون بيد رجل القانون شهادةٌ في العلوم الأخرى فذلك أمر مستحيلٌ وإنّما أطلب منه أن يكون ذلك الرّجل الّذي يمكنه أن يبدي رئياً في كلّ شيءٍ ولو إلى درجة محدودةٍ. أطلب منه أن يكون عموميّاً فكثيراً ما أهمل القضاةُ والمحامون ذلك الأمر وعند عرض نقط طبيّة أو هندسيّة ينفضون أيديهم ويقولون نحن لسنا أطبّاء أو مهندسين لنأخذ تقرير الاختصاصيّ. فذلك ما أنهاكم عنه قد يستعين رجل القانون بتقرير الاختصاصيّ فلا يجب أن يهمل المسألة ففي يده أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم وهو المسؤول عن حكمه لا الخبير. فيجب عليه أن يبحث بنفسه ويناقش الاختصاصيّ في رأيه ويطلب منه بيان الأسباب التي أدّته إلى تكوين اعتقاده حتّى يرتاح ضميره. لا جرم أنهلا يمكنه القيام بذلك إلا إذا كان عنده بعض معلوماتٍ بالطّبّ أو الهندسة أوغير ذلك
يجب على المحامي أن يكون كذلك حتى يصون حقوق موكّله ويقوم بالدّفاع خير قيام. أستشهد بقضايا كثيرةٍ تحتاج إلى المعلومات العلميّة مثل قضايا التّنويم المغناطيسي والتّسميم وأشير أيضاً إلى قضيّةٍ حدثت في بلاد الإنكليز كان لها رنّةٌ بين رجال القانون. قضيّةٌ تضمّنت حيثيّاتها منشأ التّلغراف اللاسلكي وتاريخه وتركيبه وكلّ ما يتعلّق به حتّى قال بعضهم لمّا قُرأ الحكم: إنّ القاضي الذي أصدر الحكم كان بلا شكٍّ مرافقاً لمخترع هذا الاختراع في جميع أبحاثه. فهذا يبيّن لكم بأجلى بيانٍ المعلومات التي يجب على القاضي أن يعرفها فلا تحرموا إذا مكاتبكم من كتبٍ متعلّقةٍ بتلك الموضوعات حتّى تقوموا بحرفتكم أحسن قيام وكونوا في كلّ أطواركم مهذّبين من الرّقّة والأدب على جانبٍ أي ليكن كلٌّ منكم جنتلمان
مرض المسكرات ألقى الطّبيب مطهر عثمان بيكأحد الأخصّائيين في الأمراض العقليّة والعصبيّة محاضرة في مرض السّكر أحببت أن أعبها قال:
كان يحظّر على طبقة النّبلاء في الهند قديماً تناول السّكّر ومن أقدم على تناوله منهم فإنّه يسقط عن مكانته الأولى ولا يحسب في عداد النّبلاء. أمّا الصّين اليوم فإنّها ذاهبةٌ قرباناً للمسكر وإنّ أكبر عامل في انحطاط هذه الأمّة المؤلّفة من مئات الملايين من النّفوس هو المسكر وإنّه هو الذي جعلها تصل إلى هذه الدّركة من التّدنّي وأفقدها روحها وتركها بها يائسة ومما يؤثر عن أحد امبراطرة الصّين أنه قال: إذا دام فتك مرض السّكّر بهذه الصّورة فإنّي في شك من بقائنا على تخت السّلطنة في المستقبل وقد اتّخذوا تدابير كثيرة لوضع حد لتفشّي هذا المرض وأثر عن فلاسفتهم مثل قوا وكنفوشيوس كثيرٌ من القول في هذا الصّدد ولكن هذه المملكة الهرمة القاطنة في الشّرق الأقصى لا تزال سكرى ثملة ولا يزال أهلوها قاطبةً يتناولون أقراص الأفيون في منازلهم المنزوية بين ثنايا تلك الأزقّة الضّيقة ويقضون كلّ يوم ساعات كثيرة سكارى لا يعقلون
تعاطي المسكر لم ينحصر في الهند والصّين فقط بل تفشّى عند التراك والعرب والعجم وبين كل المم الشّرقيّة غير أنّه في دور مبعث صاحب الرّسالة عليه السّلام أعلنت أكبر حرب على المسكر ونزل كثير من آيات القرآن الكريم المعجزة ورويت أحاديث نبويّة جمّة بأسلوبها الّطيف الوقور ومتانتها وكلّها تخطر على من دانوا بالإسلام تعاطي هذا السّمّ القاتل وبسبب هذه الحرب التي أعلنها الدّين الإسلامي على المسكرات دخل المسلمون إلى حظيرة من السّعادة ولم يجد المسكر بين ظهرانيهم محيطاً ملائماً ولا مناخاً سهلاً وإنّ هذه الشّدة التي جاء بها الدّين الإسلامي إزاء تعاطي المسكر يؤيّدها ألفن اليوم ويسعى للقيام بها بكل ما أوتي من قوّة
المسكر أحد الأمراض الإنسانيّة الواجب معالجتها وهو أنواع جمّة متعددة ولكننا نستطيع أن نقول بصورة مطلقة أنّها كلّها مضرّة وأنّها تهدم البنية وتنخر الدّماغ والعصاب ولها تأثير كبير في الأنسال فإنّ أكثر المرتطمين في حمأة المسكر لا يلدون وإذا نسلوا ولابد فيكون ولدهم شخت الخلقة سيءّ التّركيب ضعيف البنية.
المسكر ليس بغذاء يربّي الجسم أو يزيد الدّم أو يبعث القوّة ولا يصدق هذا على الإنسان وحده فقط بل على الحيوان أيضاً والتّجارب التي أجراها العلماء تؤيّد هذه الحقيقة. إنّ ألفراشة التي تعيش متطايرةً في حدائق الورد لتسكرها تلك القطرات المترقرقة على اوراق الأزهار الملوّثة المفتّحة في فصل الربيع، وإن القردة لتشرب المسكر من يد سقاتها بكل لذّة وشوق ولا تزال تعوي وراء أولئك السّقاة تستعطفهم ليزيدوها من هذا المسكر حتى تصل إلى جدران المدينة، والخيل إذا سقيت المسكر يقوى بها الشّبق الشّهوةوتعدو كثيراً ولهذا ترى فرسانها يحرصون كلّ الحرص على سقيها المسكرات قبيل السّباق، ولكن هذا الحيوان المسكين لا يلبث أن يسقط فيما بعد مريضاً، حتى أن الحمر ليمرضها تناول الجرعة الواحدة منه.
يوجد في بلادنا اعتقادٌ غريب وهو أن المسكر يصلح أن يكون دواءً لبعض الأمراض وهذا بناءً على بعض روايات باطلة يعزونها إلى أطبّاء اليونان، لا، إنّ هذا الاعتقاد من الأمراض السّارية فالمسكرلم يكن في وقت من الأوقات نافعاً للحياة.
وأعود فأكرر القول بأنّ المسكر سمّ قاتل لأنّه يبيد الحجيرات الدّماغية وانّه يأتي إلى العروق وإلى أدق الأعضاء وألطفها فينخرها. يبحث بعضهم عن فائدة تعاطي المسكربكميّة قليلة. وهذا يصلح أن يكون نموذجاً لإغلاط ألفكر الإنساني، نعم، إنّ كل القرابين التي قُدِّمت من بني الإنسان لهذا السّم بدأت أولاً تتعاطاه قليلاً قليلاً ثمّ تمكّن منهم وعُدّوا فيما بعد من صرعاه. وإنّ كل الجنايات والفضائح في العالم كله أثرمن آثار المسكر.
في الغرب لا يتناول المسكر إلا الطبقات السفلى من البشر أمّا عندنا فإنّ كبار الأسرات تضعه على موائدها بين الأطعمة المغذّية وبين مختلف النّقول. وإنّ هذا الخائن الذي يُطرد اليوم من كلّ الممالك وُجِد له بين ظهرانينا مباءة صالحة. وأهم ما يجب عمله على الحكومة بلا شبهة أن تمنع تعاطي المسكر بين موظّفيها بصورة قطعية. المسكر لم يكن منذ زمن قريب معروفاً عند الأهلين وإنّما تسرّب إليهم من بعض الأورام المهاجرين من بلاد اليونان للإتجار في بلادنا فإنّ هؤلاء كانوا السببفي تفشّيه بين شبابنا في عامة الأنحاء فتراه اليوم يباع في الأناضول في كل مدينة وقصبة وقرية ومزرعة ومن المُحَقّق أنّه بعد مدّة يصبح دواء هذا الخطر من أعقد المسائل وعليه فينبغي اتّخاذ الأسباب اللاّزمة من الآن والتّحيّل لرد هذا العدو الأزرق الذي يسمّ النّسل ويضربه ضربة قاضية لا يقوم منها أبداً. رشدي الحكيم.