مجلة المقتبس/العدد 93/الوافي بالوفيات
مجلة المقتبس/العدد 93/الوافي بالوفيّات
صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدي أحد رجال قرن القرن الثّامن وُلد في صفد سنة 696هـ - (1296م) وتوفّي سنة 764هـ - (1363م) وهو إمام في اللغة والشّعر والتاريخ وألفقه تخرّج على علماء دمشق في عصره فأخذ الشّعر عن جمال الدين بن نباتة واللغة عن أبي حيّان وألفقه الشّفعي عن الحافظ المزّي وابن جماعة والتّاريخ عن الذّهبي والمغازي والسِّيَر عن الحافظ بن سيّد الناس وتولّى عدّة مناصب إداريّة وماليّة في صفد والقاهرة وحلب ودمشق وقبره إلى اليوم معروفٌ في صفد وهو في حيّ الإسرائليين هناك وقد كان من المؤلّفين المجيدين ذكر له بروكلمان في تاريخ آداب اللغة العربية ثلاثين مصنّفاً تحتوي على نحو مئة مجلّد وكانت له عنايةٌ خاصّةٌ بالشّعر والنّثر ومما طبع له في الأستانة سنة 1299م كتاب جنان الجناس في علم البديع وطبع له في مصر سنة 1329م كتاب نكت الهميان في نكت العميان ويكاد يكون أخصّائياً في التراجم وأهمّ كتبه الوافي بالوفيّات يدخل في بضع مجلّداتٍ كبرى تحتوي على زهاء عشرة آلاف ترجمةٍ من أول الإسلام إلى عهد المؤلّف وفيه ما في وفيّات الأعيان لابن خلكان وطبقات الأدباء لياقوت مع زياداتٍ كثيرةٍ فاتت هذين المؤلّفين أو حدثت بعدهما
ولقد كان يظنّ أنّ كتاب الوافي فقد في جملة ما فقد من كتب العرب لكن تبيّن بعد أنّ أجزاءه مبعثرةٌ في خزائن الكتب في ديار الغرب ولاسيّما خزائن أكسفورد وباريز وفيينا وفي الخزانة التيموريّة والخزانة الزّكية في القاهرة ودار الكتب الخديوية عدّة أجزاءٍ منه إذا جمعت الأجزاء من مصر وأوروبة كان من مجموعها نسخةٌ تامّةٌ فيما نظنّ. وإذا صحّت نيّة إحدى المطابع أو الجمعيّات العلمية في البلاد المصرية أو الألمانية أو الإنكليزيّة أو الهولاندية على طبعه جاء منه كتابٌ لا يقلّ في النّفاسة والفائدة عن تاريخ الطّبري وطبقات ابن سعد والمكتبة الأندلسيّة العربية والمكتبة الجغرافيّة العربية ومعجم البلدان ومعجم الأدباء لياقوت والمخصّص لابن سيده وصبح الأعشى وغيرها من الأسفار المهمة التي أحيتها مصر وأوروبا
افتتح المؤلّف كتابه في من اسمه محمد فبدأ باسم صاحب الشّريعة عليه الصلاة والسلام وثنى بمن اسمه محمد من الرجال ثم عاد فساق التراجم على حروف المعجم وكلامه بشفّ عن تحقيقٍ إذ تهيّأت له موادٌ من التاريخ معقودٌ بعضها اليوم بحكم الضّرورة وعبارته من السهل الممتنع فيها الأدب الغضّ مع السلاسة الساحرة فكان من صدر عفو القريحة من قلم الصلاح الصفدي أقرب إلى مناحي ألفصحاء من عبارات المتكلّفين المتنطعين
ذكر في مقدمته البديعة أعاظم رجال الملّة الذين قال فيهم أنّ علماءها كأنبياء بني إسرائيل وأمرائها كملوك فارس في التنويه والتنويل ذاكراً فيه الخلفاء والصحابة والتابعين والأمراء والقضاة والعمال والوزراء والقرّاء والمحدّثين والفقهاء والشيوخ والأتقياء والأولياء والنّحاة والأدباء والكتّاب والشّعراء والأطبّاء والعلماء وأهل العقل والذّكاء وأرباب المقالات ورؤساء المذاهب والمتفلسفين وكل من اشتهروا بعلمٍ أو شأنٍ وقد جعل المقدّمة على فصول الأول في مصطلحات الأمم ولاسيّما العرب والفرس واليهود وغيرهم على حساب السنين والتاريخ. الثاني بحث فيه بحثاً نحويّاً. الثالث في كيفيّة كتابة التاريخ. الرابع في الأنساب. الخامس في الكنى والألقاب والعلم. السادس في الهجاء والإملاء والاختصار. السابع فيمن كتب في التاريخ. الثامن فيما يراد بالوفاة والوفيّات. التاسع في فائدة التاريخ. العاشر في صفات المؤرّخ. الحادي عشر ذكر فيه تواريخ الشرق
قال في ألفصل الثالث: تقول للعشرة وما دونها خلون لأن المميز جمع والجمع مؤنّثٌ وقالوا لما فوق العشرة خلت ومضت لأنهم يريدون أنّ الجمع مميزه واحدٌ وتقول من بعد العشرين لتسعٍ إن بَقَين تأتي بلفظ الشّكّ لاحتمال أن يكون الشّهر ناقصاً أو كاملاً وقد منع أبو علي ألفارسي رحمه الله تعالى أن يكتب لليلةٍ خلت كما منع من صبيحتها أن يقال المستهلّ لأن الاستهلال قد مضى ونصّ على أن يؤرّخ بأول الشّهر في اليوم أو بليلةٍ خلت منه وقال الحريري في درّة الغوّاص: والعرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير فيقولون لأربعٍ خلَون ولأربع عشرة ليلةٍ خلت قال: ولهم اختيار آخر وهو أن يجعل ضمير الجمع الكثير الهاء والألف وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشدّدة كما نطق به القرآنإنّ عدة الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعٌ حُرُمٌ ذلك الدِّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكمفجعل ضمير الأشهر الحُرُم بالهاء والنون لقلّتهنّ وضمير شهور السّنة الهاء والألف لكثرتها وكذلك اختاروا أيضاً أن ألحقوا بصفة الجمع القليل الألف والتاء فقالوا أقمت أياماً معدوداتٍ وكسوته أثواباً رفيعاتٍ وعلى هذا جاء في سورة البقرةوقالوا لم تمسّنا النار إلا أياماً معدودةًوفي سورة آل عمرانإلا أياماً معدوداتٍكأنهم قالوا أولاً بطول المدّة ثمّ إنّهم رجعوا عنه فقصروا المدّة انتهى والواجب أن تقول في أول الشهر لليلةٍ خلت منه أو لغرّته أو لمستهلّه فإذا تحقّقت آخره قلت انسلاخه أو سلخه أو آخره. قال ابن عصفور: والأحسن أن تؤرخ بالأقلّ فيما مضى وما بقي فإذا استويا أرّخت بأيهما شئت قل بل إن كان في خامس عشر قلت منتصف أو خامس عشر وهو أكثر تحقيقاً لاحتمال أن يكون الشّهر ناقصاً وإن كان في الرابع عشر ذكرته أو السادس عشر ذكرته
فائدة: ورأيت ألفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا وبعضهم لم يذكروا بعدها شهراً وطلبت الخاصّة في ذلك فلم أجدهم أتوا بشهرٍ إلا مع شهرٍ يكون أوله حرف راءٍ مثل شهري ربيع وشهري رجب ورمضان ولم أدرِ العلّة في ذلك ما هي ولا وجه المناسبة لأنّه كان ينبغي أن يحذف لفظ شهر من هذه المواضع لأنه يجتمع في ذلك رأيان وهم قد فرّوا من ذلك وكتبوا داود وناوس وطاوس بواوٍ واحدةٍ كراهة الجمع بين المثلين وجرت العادة بأن يقولوا في الشّهر المحّرم شهر الله وفي شهر رجب شهر رجبٍ ألفرد أو الأصمّ أو الأصب وفي شعبان شعبانُ المكرّم وفي رمضان رمضانُ المعظّم وفي شوّال شوالُ المبارك ويؤرخوا أول شوّال بعيد ألفطر وثامن ذي الحجّة بيوم التّروية وتاسعه بيوم عرفة وعاشره بعيد النّحر وتاسع المحرّم بيوم تاسوعاء وعاشره بيوم عاشوراء فلا يحتاجون أن يذكروا الشّهر ولكن لابدّ من ذكر السّنة
ومما قاله في ألفصل الخامس: إذا عرفت العلم والكنية فسردها يكون على الترتيب تقدّم اللقب على الكنية والكنية على العلم ثمّ النسبة إلى البلد ثمّ إلى الأصل ثمّ إلى المذهب في ألفروع ثم إلى المذهب في الاعتقاد ثم إلى العلم أو الصناعة أو الخلافة أو السّلطنة أو الوزارة أو القضاء أو الإمرة أو المشيخة أو الحجّ أو الحرفة كلّها مقدّمٌ على الجميع فتقول في الخلافة أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس أحمد السامري إن كان وُلد بسرّ من رأَى البغدادي فرقاً بينه وبين الناصر الأموي صاحب الأندلس الشافعي الأشعري إن كان يتمذهب في ألفروع بفقه الشافعي ويميل في الاعتقاد إلى أبي الحسن الأشعري ثم تقول القرشي الهاشمي العباسي وتقول في السلطنة السلطان الملك الظّاهر ركن الدِّين أبو ألفتح بيبرس الصَالحيَ نسبةً إلى أستاذه الملك الصالح التركي الحنفي البندقدار أو السلاح دار وتقول في الوزراء الوزير فلان الدين أبو كذا فلان وتسرد الجميع كما تقدّم ثم تقول وزير فلانٍ وتقول في القضاة كذلك القاضي فلان الدين وتسرد الباقي إلى أن يجعل الآخر وظيفته قبل الإمرة مثل الجاشنكير أو السّاقي وغيرهما وتقول في أشياخ العلم العلاّمة أو الحافظ أو المُسند فيمن عُمِّر وأكثر الرواية أو الإمام أو الشيخ أو ألفقيه وتسرد الباقي إلى أن نختم الجميع بالأصولي أو المنطقي أو النّحويّ وتقول في أصحاب الحِرَف فلان الدين وتسرد الجميع إلى أن تقول الحرفة أما البزّاز أو العطّار أو الخيّاط فإن كان النّسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه قلت القرشي التيميّ البكريّ لأنّ قريشاً أعمّ من أن يكون تيميّاً والتّيميّ أعمّ من أن يكون من ولد أبي بكر رضي الله عنه وإن كان النّسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت القرشي العدوي العمري وإن كان النسب إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه قلت القرشيّ الأموي العثماني وإن كان النسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قلت القرشي التيميّ الطلحيّ وإن كان النّسب إلى الزبير رضي الله عنه قلت القرشي الأسدي الزبيري وإن كان إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قلت القرشي الزّهريّ السّعديّ وإن كان النسب إلى سعد رضي الله عنه قلت القرشيّ العدوي السعدي إلا أنه ما نُسِب إليه فيما علم وإن كان النسب إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قلت القرشي الزهري العوفي من ولد عبد الرحمن بن عوف وإن كان إلى أبي عبيدة بن الجرّاح قلت القرشي من ولد أبي عبيدة
وقال في أدب المؤرخ: نقلت من خط الإمام العلاّمة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ما صورته: يشترط في المئرّخ الصّدق وإذا نقل يعتمد اللفظ والمعنى وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في الذاكرة وكتبه بعد ذلك وأن يسمي المنقول عنه فهذه شروطٌ أربعةٌ فيما ينقله ويشترط أيضاً لما يترجمه من عند نفسه ولما عساه يطول في التّراجم من القول أو يقصر أن يكون عارفاً بحال صاحب الترجمة علماً وديناً وغيرهما من الصفات وهذا عزيزٌ جدّاً وأن يكون حسن العبارة عارفاً بمدلولات الألفاظ وأن يكون حسن التصوّر حتى يتصوّر حال ترجمته جميع حال ذلك الشّخص ويعبّر عنه بعبارةٍ لا تزيد عليه ولا تنقص عنه وأن لا يغلبه الهوى فيخيّل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبّه والتّقصير في غيره بل إما أن يكون مجرّداً من الهوى وهو عزيزٌ وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه ويسلك طريق الإنصاف فهذه أربعة شروطٍ أخرى ولك أن تجعلها خمسةً لأن حسن تصوُّره وعلممُه معهما الاستحضار حين التصنيف فيجعل حضور التّصوُّر زائداً على حسن التّصوُّر والعلم فهي تسعة شروطٍ في المؤرِّخ وأصعبها الاطّلاع على حال الشّخص في العلم فإنّه يحتاج إلى المشاركة في علمه والقرب منه حتى يعرف مرتبته وما ذكرت هذا الكلام غلا بالنسبة إلى تواريخ المتأخّرين فإنّه قلّ فيهم اجتماع هذه الشّروط وأمّا المتقدّمون فأما أتأدّب معهم. . .
وذكر في ألفصل الحادي عشر أسماء كتب التاريخ المؤلّفة لمن تقدّم من أرباب هذا ألفنّ فساق اسم 282 تاريخاً من تواريخ المشرق وبلاده وتاريخ المغرب وبلاده والتواريخ الجامعة وتواريخ الملوك والوزراء والعمّال والقضاة والقرّاء والعلماء والشّعراء وتواريخ مختلفة وقال في آخره: وكتب الجرح والتعديل والأنساب ومعاجم المحدّثين ومشيخات الحُفَّاظ والرّواة فإنها لا شيءٌ يحصره حدٌّ ولا يقصره عدٌّ ولا يستقصيه ضبطٌ ولا يستدنيه ربطٌ لأنها كاثرت الأمواج أفواجاً وكابرت الأدراج اندراجاً. قلنا وأسماء هذه الكتب تنعي إلى الخَلَف قصورَه عن اللحاق بالسّلَف ومن الغريب أن لم يُطبع حتى الآن سوى جزءٌ قليلٌ من تلك التواريخ وقد فقد بعضها على ما يظهر من فهارس خزائن الكتب الغنيّة في أوروبا
وهذه المقدّمة وحدها كتاب علمٌ برأسه تنمّ عن فضل كاتبها وأنّ تاريخه جعبة ألفوائد والأوابد فهي أشبه بمقدّمة ابن خلدون لتاريخه ومقدّمة الصّلاح الصّفديّ تعلّي منزلة تاريخه الوافي الشافي وهاك الآن نموذجاتٍ قليلةً منه تعرف بها أسلوبه في ترجمة المشهورين ونمطه في إنشائه وتصوير الرجال وذكر المهمات من أخلاقهم وعلومهم وأحوالهم نقلناها عن نسخة الأمير كايتاني في رومية التي أخذت له بالتصوير الشمسي نقلاً عن الأجزاء المبعثرة في خزائن كتب أوروبا
قال الصفدي في سنة 7. 2 م: كان المصاف بين التتار والمسلمين في مرج الصفر فانهزم فلّهم في الزواريق واجتازوا ألفرات من دير يسير ومما قاله شمس الدين السيطبي في هذه الوقعة:
جاؤوا وكلّ مقامٍ ظلّ مضطرباً ... ومنهم كلّ مقامٍ بات يرتجف
فشاهدوا علم الإسلام مرتفعاً ... بالعدل فاستيقنوا أن ليس ينصرف لاقاهم الفيلق الجرّار فانكسروا ... خوف العوامل بالتّأنيث فانصرفوا
يا مرج صفر بيّضت الوجوه كما ... فعلت من قبل والإسلام يؤتلف
أزهر روضك أزهى عند نفحته ... أم يانعات رؤوسٍ فيك تقتطف
غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجةٌ بدماء المغل تغترف
زلّت على كتف المصريّ أرجلهم ... فليس يدرون أنّا تؤكل الكتف
آووا إلى جبلٍ لو كان يعصمهم ... من هوج فرخ المنايا حين يختطف
دارت عليهم من الشجعان دائرةٌ ... فما نجا سالمٌ منهم وقد زحفوا
ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا
ففي جماجمهم بيض الظِّبا زبرٌ ... وفي كلاكلهم سمر القَنا قصفُ
فرّوا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتلوا في البراري حيثما وجدوا
فما استقام لهم في أعوجٍ نهجٌ ... ولا أجارهم من مانعٍ كتف
قال الصفدي ما أعرف في كتب الأدب شيئاً إلا وقد اختصره جمال الدين بن مكرم فمما اختصره كتاب الأغاني ورتّبه على الحروف وزهر الآداب وكتاب الحيوان فيما أظنّ واليتيمة والذخيرة وشوار المحاضرة وغير ذلك حتى مفردات ابن البيطار وكان يختصر ويكتب في ديوان الإنشاء واختصر تاريخ ابن عساكر وتاريخ الخطيب ذيل ابن النجار وجمع بين كتاب الصّحاح للمجوهريّ والمحكم لابن سيده وكتاب الأزهري فجاء ذلك في سبعةٍ وعشرين مجلّداً ومات وترك بخطّه خمس مائة مجلّدٍ وقال في ترجمة حبيب بن محمد بن صمصامة أمير دمشق القائد أبو ألفتح وليّ دمشق مرّاتٍ من قبل خاله أبي محمودٍ الكتامي وكان جبّاراً ظالماً سفَّاكاً للدماء إذا للأموال كثر دعاء أهل دمشق عليه وابتهالهم إلى الله تعالى فيه فهلك بالجذام سنة تسعين وثلاثمائة
وقال في ترجمة الحرث بن عبد الرحمن بن الغار بن ربيعة الجرشي من وجوه أهل دمشق وفضائحهم وكان قد سرد بالغوطة قبل وصول مروان إلى مصر وكتبوا إليه بولاية دمشق وكان بداريّا يأتيه الأشراف يسلّمون عليه إلى أن أقبل عبد الله بن عليّ فنزل دمشق وقدم الحرث وافداً على المنصور مستعطفاً لأهل الشّام فقام وقال: أصلح الله أمير المؤمنين إنّا لسنا وفد مباهاةٍ ولكن وفد توبةٍ وقد ابتُلينا بفتنةٍ استقرّت كرمنا واستخفّت حلمنا فنحن بما قدمنا معترفون ومما سُلِب منا معتذرون فإن تعاقبنا فيما أجرمنا وإن تعفُ عنّا فبفضلك علينا فاصفح عنّا إذا مَلَكْْتَ وامنن إذا قدرت وأحسِن فطالما أحسنت فقال المنصور: قد فعلت
وقال: محمد ابن أحمد بن عبد الله أبو علي المعتزلي شيخ المعتزلة الداعية إلى مذهبهم كان يدرس الاعتزال والحكمة فاضطرّه أهل السّنّة إلى أن لزم بيته قال صاحب المرآة خمسين سنةً لا يتجاسر على الظّهور
وقال: ناصر الدين ابن المقدسي ولّي سنة 678 هـ وكالة بيت المال ونظر جميع الأوقاف بدمشق وفتح أبواب الظّلم وخلع عليه بطرحة غير مرّةٍ وخافه النّاس وظلم وعسف وعدا طوره وتحامق حتى تبرّم به النّائب ومَن دونَهُ وكاتبوا فيه فجاء الجواب بالكشف عما أكل من الأوقاف ومن أموال السّلطان والبرطيل فرسموا عليه بالعذراوية وضربوه بالمقارع فباع ما قدر عليه وحمل جملةً وذاق الهوان واشتفى منه الأعادي وكان قد أخذ من النّاصريّ الزّنبقيّة وكان يباشر شهادة جامع العقيبة فحصل بينه وبين قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي نفرة فتوجه إلى مصر ودخل على الشَّجاعيّ فأدخله على السلطان وأخبره بأشياء منها أمر بنت الملك الأشرف موسى بن العادل وأنها باعت أملاكها وهي سفيهةٌ تساوي أضعاف ما باعته فوكّله السلطان وكالةً خاصّةً وعامّةٌ فرجع غلى دمشق وطلب مشتري أملاكها بعد أن أثبت سفهها فأبطل بيعها واسترجع الأملاك من السيف السامري وغيره وأخذ منهم تفاوت المغل وأخذ الخان الذي بناه الملك الناصر قريب الزنجيلية وبساتين بالنيرب ونصف حزرما ودار السعادة وغير ذلك الخ ثم طُلب إلى مصر فوجد مشنوقاً بعمامته
وقال: مؤيد الدين المهندس الدمشقي كان أستاذا في نجارة الدّفّ ثم برع في علم إقليدس ثمّ ترك نقش الرخام وضرب الخيط وأقبل على الاشتغال وبرع في الطب والرياضي وهو الذي صنع الساعات على باب الجامع سنة 599 هـ
وقال الصفدي في ترجمة رجار صاحب صقلية: رجار ملك الفرنج صاحب صقلية هلك بالخوانيق سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمائة ويقال فيه أجّار بهمزة بدل الراء وجيمٍ مشددة وبعد الألف راءٌ كان فيه محبّة لأهل العلوم ألفلسفية وهو الذي استقدم إليه الشّريف الإدريسي صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق من العدوة ليصنع له شيئاً في صورة العالم فلما وصل إليه أكرم نزله وبالغ في تعظيمه فطلب منه شيئاً من المعادن ليصنع منه ما يريد فحمل إليه من ألفضّة الحجر وزن أربعمائة ألف درهمٍ فصنع منها دوائر كهيئة الأفلاك وركّب بعضها على بعضٍ ثمّ شكّلها له على الوضع المخصوص فأُعجب بها رجارٌ ودخل في ذلك ثلث ألفضّة وأرجح بقليلٍ وفضل له ما يقارب الثلثين فتركه له إجازةً وأضاف لذلك مائة ألف درهمٍ ومركباً موسقاً كان قد جاء إليه من برشلونة بأنواع الأجلاب الرّوميّة التي تجلب للملوك وسأله المقام عنده ومتى كنت بين المسلمين على فلك (كذا) ومتى كنت عندي أمنت على نفسك فأجابه إلى ذلك ورتّب له كفايةً لا يكون إلا للملوك وكان يجيءُ له راكب بغلةٍ فإذا صار عنده يتنحّى له عن مجلسه فيأتي فيجلسان معاً وقال له: أريد تحقيق أخبار البلاد بالمعاينة لا بما ينقل من الكتب فوقع اختياره على أناسٍ ألباء فطناء أذكياء وجهّزهم رجار إلى أقاليم الشرق والغرب جنوباً وشمالاً وسفّر معهم مصوّرين ليصوّروا ما يشاهدونه عياناً وأمرهم بالتّقصّي والاستيعاب لما لابدّ من معرفته وكان إذا حضر أحدٌ منهم بشكلٍ أثبته الشّريف الإدريسي حتى تكامل ما أراد وجعله مصنفا وهو كتاب نزهة المشتاق الذي للشريف الإدريسي وكان رجار المذكور قد أخذ طرابلس الغرب عنوةً بالسيف في يوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل أهلها وسبى الحريم والأطفال وأخذ الموال ثم إنه شرع في تحصينها بالرجال والعدد ثم إنّه أخذ المهدية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة لأنّ صاحبها الحسين بن علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ الصهناجيّ عجز عن مقاومته فخرج من المهدية هارباً بما خفّ من النفائس وخرج من قدر على الخروج. ولما هلك رجار ملكَ بعده ولده غُليلم بضمّ الغين وبعده الميم المعجّمة بين اللامين الساكنين ياءٌ وبعده اللام وعليه قدم قلاقس الإسكندري سنة ثلاث عشرة وستّين وخمسمائة وامتدحه بقصيدةٍ إلى آخر ما قال.
هذه نموذجاتٌ من الوافي وهو من أجدر ما يجب الاهتمام بطبعه تتميماً لسلسلة تواريخنا