مجلة المقتبس/العدد 50/ملك الإنكليز وإمبراطور الهند
مجلة المقتبس/العدد 50/ملك الإنكليز وإمبراطور الهند
إذا كان فراق هذه الدنيا تزداد صعوبته بزيادة إقبال الحظ وسعادة الطالع على المرء فالملك إدوارد السابع أولى الخلق بكراهة الموت وحب البقاء. وإن كان بلوغ الأماني وحصول الرغائب وازعاً عن التشبث بحبال الحياة ومفضياً به إلى القناعة من الدنيا والاكتفاء من لذائذها وحب الرحيل عنها فهذا العاهل الكبير أجدر الناس على الإطلاق بالملل من العمر والازدراء بأطايب الحياة.
وذلك لأنه عاش عمراً مفعماً بالحوادث العظيمة ومملوءاً بكل ما اشتهته نفس وطاب به قلبه وتمتع بجميع ما تتطلبه الأميال البشرية وتهنأ به النفوس. فقد كان قبل أن ارتقى إلى العرش البريطاني في 22 كانون الثاني 1901 منصرفاً إلى ما يلذه من السياحات والمذاكرات والمشاغل الخاصة غير محتمل عناء السياسة ولا متعرض إلى ما لا يعنيه من شؤونها فكان يكثر من مخالطة العلماء ومفاوضتهم في الفنون التي أولع بها ويحضر الحفلات العلمية ويسمع الخطب ويقرأ المقالات في العلوم الطبيعية والجرائد السياسية ويقف على آراء الزعماء ومطالب الأحزاب وأغراضهم ويعي ذلك في صدره لينتفع به عند الحاجة ويتلهى بالخروج إلى الصيد في أوقات الفراغ والسياحة في أوربا وقد كان مولعاً بمدينة باريس وجعلها موضع طربه ومقر صفائه وأكثر من انتيابها واللهو فيها حتى اتهمه الناس بالمجون والطيش وحسبوا انبعاثه في الملذات وقيامه على صفاء العيش وخلو الذهن من المشاكل يجعله ضعيفاً في إدارة الشؤون السياسية قاصراً عن النهوض بأعباء الملك عند انتدابه إليه.
درس العلوم العالية في جامعة كامبريدج وجامعة أكسفورد ونال منهما رتبة دكتور في الشرائع ووجهت إليه درجات علمية سامية من المدارس الكبرى في بريطانيا ومستعمراتها وعين قائداً في الجيش البري وأميرالاً في البحرية الإنكليزية وانتخبه الماسون رئيساً أعظم للمحفل الإنكليزي وكان غيوراً على هذه الجمعية مؤيداً لمبادئها حافظاً لقوانينها حتى صار له في العالم الماسوني مقام جليل ومنزلة سامية. وقد زار سورية سنة 1862 وجال في مدائنها وتفقد آثارها كما ساح في غيرها من بلاد الشرق والغرب مثل مصر والهند وكندا والولايات المتحدة وغيرها وتعرف بأكثر ملوك الدنيا قبل وصوله إلى العرش واضطلع بالسياسة الخارجية ودرس طبائع الأقاليم والشعوب وكان ينوب عن والدته الملكة فيكت في أكثر الاحتفالات الدولية والجمعيات العلمية والخيرية.
أقضى إليه صولجان الملك بعد وفاة والدته فطرح اللهو جانباً وانتقل من دور التأهب إلى دور العمل وقد كان عندئذ الاضطراب سائداً والارتباك مستولياً في دوائر إنكلترا السياسية بسبب الحروب الناشئة في جنوبي أفريقية مع الترانسفال وإن كان النصر قد انبلج للإنكليز وتوثفوا من استيساق الأمر في تلك الناحية فعمد إلى سياسة اللين والرفق وغير خطة العنف التي كانت تنويها حكومته مع ذلك الشعب فأباح لهم الأمن والاستقرار في منازلهم ووزع عليهم الأرزاق والحقوق حتى أخلدوا إلى السكينة والهدوء ورتبت الشؤون في بلاد الراس على أسلوب مهد لإنكلترا ثبوت القدم على نصف قارة أفريقية من جهة الجنوب وإقامة دولة إنكليزية في تلك الأقاليم تضارع دولتها في الهند.
ثم فكر بوسيلة للاطمئنان من جهة هذه الدولة الضخمة وإيصالها من منابع النيل إلى مصبه وما زال يدبر ويمهد حتى وفق إلى عقد الاتفاق الودي مع فرنسا وأطلق يد إنكلترا في وادي النيل فأصبح البأس الإنكليزي مشتملاً على القسم الأعظم من قارة أفريقية من الإسكندرية إلى رأس الرجاء الصالح.
وهذا الاتفاق الذي ألف به إدوارد السابع بين الإنكليز والفرنسيس هو أعظم عمل قام به في حياته وأحسن ما استفادت منه إنكلترا في القرن الماضي خصوصاً وقد كان عقده أثناء الحرب اليابانية في الشرق الأقصى عندما كان يخشى من أن تسعى فرنسا بتأليف حزب كبير في أوربا لمناصرة روسيا وإضاعة انتصارات اليابان.
في أيامه شذبت اليابان قتادة الروس في الشرق الأقصى، وكفكفوا غائلهم إلى الوراء في منشوريا وبلغت السياسة الإنكليزية في ذلك أوجها الأعلى بانكسار شوكة روسيا والطمأنينة من تعاظمها وتعاليها في الشرق فأمنت الهند منها وتحققت أن هذا القلق قد خمدت خمرته وبردت ثائرته فلا يتحرك قبل اواسط القرن العشرين.
وفوز الساسة الإنكليزية في الشرق أقنع أوربا قاطبة أن إنكلترا هي صاحبة الكعب الأعلى والمقام الأول وهي الخصم الذي لا ينازع والقرن الذي لا يدافع فتزلفوا إليها بالمودة وتلطفوا بخطبة مودتها والتقرب منها حتى أن روسيا التي تحملت الضربة الكبرى اغتفرت لها الذنب وتناست ما للإنكليز من تعزيز شأن اليابان ومعاضدتهم في تلك الحرب ومالت إلى مصانعتهم واسترضائهم والفضل الأكبر في هذا النفوذ كان للملك إدوارد الذي أدار دفة السياسة بيده واهتم بتدبير الأمور على هذا المنوال.
ومن غرائب الاتفاق في السنوات التسع التي كان فيها هذا العاهل على العرش البريطانية لم يظهر أثنائها رجال بين ساسة الإنكليز مثل الذين ظهروا على عهد والدته بالاقتدار والحنكة والدراية فلم يكن لديه مثل غلادستون وسالسبوري وبيت وبكنسفليد وبلمترسون وغيرهم فكان الحمل عليه ثقيلاً والتبعة عظيمة وأخذ على عاتقه استنباط الأساليب واختراع المذاهب السياسية ومال إلى سياسة العلم والرفق أكثر ملوك أوربا ورؤساء حكوماتها وألف بين القلوب وأصفى الود لأعدائه وعقد معهم عقد المودة والإخلاص وصارت إنكلترا التي كانت بالتقاليد الأوربية القديمة مهتمة بالاعتزال والانفراد والكبرياء ومكروهة من الشعوب أقرب الأقوام مودة وأعلقهم بقلوب الأمم.
فهو أول ملك إنكليزي زار قياصرة الروس في عاصمتهم وأول من انتزع سخائم البغض والعداوة الراسخة بين الإنكليز والفرنسيس. وقد تعاصى عليه استجلاب ابن أخته إمبراطور ألمانيا باللين والصداقة فألب عليه جيرانه وكاد يخرج إيطاليا من المحالفة الثلاثية يفرد الدولة الألمانية وحدها بين الممالك الأوربية.
أما علاقة الملك إدوارد بدولتنا وسلطاننا فقد كانت في دور الاستبداد أقرب إلى العداء منها إلى الصداقة وقد صرح مراراً في مفاوضاته السياسية أنه يتمنى الخير للدولة العلية غير أنه بائس من إصلاحها ويحسبها عضواً فاسداً في العالم المتمدن لم يكن نصيراً للدولة الحميدية في نكباتها ولا أعانها في ويلاتها الكثيرة بل ربما شد في بعض مآزقها ومهد السبيل إلى ندور بعض الولايات عنها فكانت له اليد الطولى في استقلال كريت ورغب في إخراج مكدونيا من الوحدة العثمانية متبعاً بذلك سياسة غلادستون الذي كان الحزم بتقسيم الدولة العثمانية إلى ممالك صغيرة حرصاً على السلم العام. وصفاء بال العناصر من المشاكل الحميدية.
ثم لما تبين الرشد من الغي وانتصر الحق على الباطل بظهور الأحرار على الأشرار وإعلان الدستور في البلاد العثمانية كان الملك إدوارد أشد الأجانب فرحاً بهذا الانقلاب وأكثرهم مظاهرة لحكومتنا الجديدة الحرة فوقف في وجه ألمانيا وعرقل دسائسها في البلقان وصرف نفوذه وقوة دولته العظيمة في استمالة الرأي العام في أوربا لجهتنا وتسكين القلاقل في الروم إيلي وحال دون أمنية الأعداء الذين حاولوا إلحاق جزيرة كريت بحكومة اليونان وقد أثر عنه كلام كثير ومواقف متعددة نشط فيه حركتنا الدستورية وتمنى لنا الخير والإقبال وتوسم فينا التقدم والفلاح وكان أول من قر بين الملوك على خلع عبد الحميد بما هنأ عليه السلطان محمد رشاد من عبادات الود والإخلاص وقد اشتدت عزائم أحرارنا بمظاهراته لهم وتصريحه بالسرور والاستبشار بما قاموا به من النجدة والحمية.
هذه أهم الأعمال السياسية التي قام بها الملك إدوارد السابع مدة ملكه القصيرة وجميعها عائدة على أمته بالخير والنجاح وعلى العالم بالفضل والصلاح حتى لقبه الأوربيون بصانع السلام واعترفوا أنه رئيس السلم والداعي إلى الوئام والوفاق وحامي الحرية والعدل ينضوي تحت رايته نحو مائة مليون من المسلمين في الهند وجزائها وأفريقية والسودان والصومال وغيرها وقد كان يحب هؤلاء المسلمين من رعاياه ويعدهم أخلص الشعوب لعرشه وأعلقهم به حباً وقد اسفوا على موته وحفظوا له ذكراً حميداً.
لا يجادل أحد في أن الملك إدوارد كان أرحب الملوك صدراً وأوسعهم فضلاً ومن أكثرهم علماً وأعرضهم جاهاً وأسلمهم قلباً وأصفاهم وداً. وقد اشتد حزن شعبه عليه ولم يجد سبيلاً للعزاء سوى ما يؤملونه من أن ابنه وولي عهده ينسج على منواله ويحذوا حذوه في السياسة بهذه الأيام التي يشكو فيها الإنكليز من قحط الرجال في عواصمهم.
ولد ابنه الملك جورج في 3 حزيران سنة 1865 فهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره وتبوأ التخت الإنكليزي منذ أسبوع وليس له من الشهرة وسعة الاطلاع ما كان لوالده قبل بلوغ الملك فهو أقرب للعلم منه إلى العروش وأشد ولعاً بالمطالعة والدرس منه بالتمرسات السياسية وقد صرف معظم حياته الماضية بين الكتب وفي الأندية العلمية وملاحظة المعاهد الخيرية. على أن القوم لا يتوقعون منه أعمالاً عظيمةً ويحسبون أن عقله الكبير الذي أجاد في مجال العلم والتفكير لا يقصر في ميدان السياسة والتدبير.
فارس الخوري.