مجلة المقتبس/العدد 50/الاتكال الشرقي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 50/الاتكال الشرقي

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1910



نصيحة غربي

قليل في القارئين من لم يسمعوا باسم المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق الذي خدم بلاده أجل خدمة فعد العالم الاجتماعي الاقتصادي والقائد العظيم والسياسي الإنساني وأعظم ملوك عصره ورؤساء الجمهوريات بلا منازع.

أصل هذا الرجل هولاندي نزل أجداده الولايات لمتحدة منذ مائتي سنة وتخرج هو في كلية هارفرد الجامعة وكان قبيل الحرب الأميركية الإسبانية مساعد أمين سر وزارة البحرية فلما نشبت الحرب استقال وتطوع في الجيش حتى إذا عاد ظافراً عينته الحكومة والياً على نيويورك ثم معاوناً للرئيس ماكنلي فلما قتل هذا انتخبته هذا رئيساً عليها على الرغم مما كان يكيد له بعض منافسيه في السياسة ثم أعيد انتخابه بعد أربع سنين وهي المدة النظامية لكل رئيس جمهورية. ضرب روزفلت على أيدي رجال الاحتكار في الغرب وطأطأت لأقواله رؤوس ملوك الفولاذ والبترول وغيرهم من الأميركان ونصر المستضعفين والفقراء وهاله اجتماع الثروة في أيدي أفراد وحرمان سائر الأمة منها فقام يضرب على المحتكرين الرسوم الفاحشة ويداوي الأجسام والجيوب بأفعاله كما يداوي الأرواح والعقول بأقواله وله عدة تآليف اجتماعية سياسية ومقالات كثيرة في المجلات والجرائد وهو الذي ألف بين جمهوريات الجنوب وجمهوريات الشمال وجعل لبلاده مقاماً سامياً في السياسة الخارجية وحل المعضلة التي كانت استحكمت بين روسيا واليابان فاستحق على عمله جائزة السلام لنوبل وعينه مجمع العلوم السياسية والأخلاقية في باريز عضواً مراسلاً له دلالة على اعتبار أوربا لأعماله.

ولما لم يرض المستر روزفلت أن يعاد انتخابه لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة عملاً بالتقليد المأثور عن الرئيس واشنطون وجفرسون رأى أن يهجر البلاد مدة ليخلو الجو للرئيس تافت الجديد فرحل إلى أفريقية الشرقية ليكمل نفسه في العلم والتجارب ويفيد أمته من رحلته حتى إذا عاد إلى نيويورك يوسد إليه تحرير مجلة الأوتلوك الأسبوعية وهكذا يرجع الرئيس من زعامة خمسة وثمانين مليوناً من البشر الراقي إلى رئاسة تحرير مجلة. وناهيك بمنتصب العلم من منصب.

خطب المستر روزفلت في الخرطوم قاعدة السودان جماعة من طلبة المصريين والسوريين في دار أحد مراسلي الأميركان في شهر ربيع الأول 1328_1910 وانتقد ما يرمي إليه كثير من الشبان في أوربا وأميركا وأفريقية من الرغبة في التولف وخدمة الحكومة فأرادهم على ترك الاتكال والعمل في أعمال المعاش على طريق الاستقلال قال:

فمتى قلت لكم أنه يجب عليكم أن تؤيدوا الحكومة لا أريد أن يخطر لكم أنني أريد من قولي هذا أنكم مضطرون إلى السعي وراء أحرز الوظائف فيها (ضحك) بل إن الأمر على عكس ذلك. وأرجو يا حضرة الدكتور جفن (رئيس الإرسالية الأميركية في السودان) أن الأعمال التي قمتم بها هنا والتي تقوم بها سائر المعاهد العلمية التي لكم صلة بها سترمي إلى تلك الغاية. فتذكرون دائماً أن أعظم الناس خدمة ونفعاً للحكومة هو الرجل الذي يأبى على كل حال أن يشغل وظائفها.

أما أنا فلا أريد أن أرى كلية من كليات الإرسالية موجهة سعيها الأول وجاعلة غايتها الرئيسة من التعلم مجرد تخريج طلبة لإحراز الوظائف في مناصب الحكومة. بل أريد أن أرى المتخرج مستعداً للعمل باستقلال وبدون أقل اهتمام بأية مساعدة ينالها من راتب يتقاضاه من الحكومة. فإن أفضل الوطنيين شأناً هو من برع في الهندسة والصناعة والزراعة ومن سوء الحظ أن يقع في الأذهان سواء في أميركا وأوربا وأفريقية أن الرجل المتعلم يجب أن يجعل غايته الوحيدة اتخاذ وظيفة في خدمة الحكومة. إنني أرجو أن يتخرج من هذا المعهد العلمي وأمثاله عدد من أفضل الموظفين لخدمة الحكومة في أعمالها العسكرية والملكية ولكن إذا وافقت الأحوال فإن موظفي الحكومة بين ملكيين وعسكريين يكونون دائماً العدد الأقل من المتخرجين. لأن الغاية العظمى التي يجب أن ترمي إليها المعاهد العلمية هي تخريج رجال يستطيعون العمل بدون مساعدة ويستطيعون أيضاً مساعدة أنفسهم وغيرهم وهم على استقلال تام بدون أن تكون لهم أقل علاقة بالحكومة. وهذه مسألة أهتم بها كثيراً هنا اهتمامي بها في أميركا بالذات. . . .

وفي الختام أقول لا تقعوا في الخطأ الذي يقع فيه الشبان منكم فتظنوا أن علمكم قد انتهى بخروجكم من المدرسة أو الكلية. بل اعلموا أنكم إنما أنجزتم نصف العلم فأنا الآن في الخمسين من عمري ولو أني توقفت عن تحسين حالي وزيادة معارفي لشعرت أن قد أوشك أن ينتهي نفعي للجمهور.

فعلى كل واحد منكم تخرج من مدرسته أن لا يقول الآن قد انتهى تعلمي فيف وسعي أن أكسل بل أريد أن تقولوا قد سهلوا لي وضع أساس قوي للتعليم الناضج وفيما أنا أقوم بأعمالي سأواصل تمرين نفسي وتعليمها فبدلاً من أن تمر بي الأعوام وأنا واقف في مكاني أراني أتقدم وأصير أكثر كفاءة للعمل وأوفر مقدرة على إنجاز الأعمال الحسنة.

هذا ما قاله في هذه الخطبة وهو كما نراه يدعو إلى الاستقلال في التربية وقال في خطبة له في القاهرة ألقاها في الجامعة المصرية ابتدأها بالأسف لأنه ليس من أهل العلم ليتكلم بالعربية ولو كان منهم لما تكلم إلا بها:

اجتنبوا الباطل والادعاء الفارغ كما تجتنبون التعصب الديني والجنسي والسياسي. إن في كليات أوربا وكليات بلادنا أموراً كثيرة تستفيدون منها ولكن فيها أموراً كثيرة يجب اجتنابها. فاقتبسوا عنها ما كان حسناً ولكن انتقدوه قبل اقتباسه حتى تثقوا بأنكم إنما تقتبسون ما هو الفضل والأصلح لكم.

وأهم اجتناب من التقصيرات التعليمية اجتناب التقصيرات الأدبية. فإنكم ترسلون الطلبة إلى أوربا لكي يدرسوا فيها ويستعدوا لأتن يصيروا أساتذة. وهذا الاستعداد لازم إذ من الأمور الجوهرية أن تكون الجامعة مطلعة على أحسن ما يجري في معاهد أوربا وأمريكا العلمية ولكن ليعتن الشبان الذين يرسلون باقتباس كل ما هو حسن وجميل وواجب لأرقى أنواع التقدم الحديث وليجتنبوا كل ما كان غير ضروري في تمدن هذا العصر ولاسيما رذائل الأمم المتمدنة الحديثة ولتكن أذهانهم مفتوحة إذ من الخطأ العظيم إن تأبوا اقتباس ما رقي به الغرب في مرقاة القوة والعدول والعيشة الطاهرة وأن تقضوا به حاجاتكم ولكن من الخطأ العظيم أيضاً أن تقتبسوا ما كان رخيصاً أو مبتذلاً أو رديئاً. ليعلم الذين يرسلون إلى أوربا أن فيها أشياء كثيرة يجب أن يتعلموها وأخرى يجب أن يجتنبوها ويرفضوها فليأخذوا الحسن ولينبذوا القبيح.

واعلموا أيها الخلان أنه إن كان عندي شيء أقوله لكم فذلك الشيء هو أن الأخلاق أهم من العقول بكثير وأنه يجب على كل جامعة عظيمة بالفعل أن تسعى في تربية الصفات التي تكون منها الأخلاق أكثر من تربية الصفات التي تقوم بها العقول المثقفة. نعم إنه ما من رجل يبلغ الطبقة العليا بين الرجال إذا لم يكن ذكياً عاقلاً بنفسه ولم يكن مثقفاً بعقل وذكاءٍ إذ التثقيف لازم كالذكاء ولكن الذكاء وحده لا يجدي ما لم يسترشد بقلب مستقيم وما لم تكن وراءه قوة وشجاعة. فالآداب والحشمة والعيشة الطاهرة والشجاعة والمروءة واحترام الإنسان لنفسه كلها صفات أهم في تربية الأمم من ذكاء العقول فاجعلوا هذه الجامعة بحيث تساعد أمتكم على الارتقاء دوماً.

واحذروا خصوصاً من نقص واحد في التربية الغربية فقد كثر الميل في مدارس الغرب العالية إلى تعليم الشبان حتى يكونوا رجال علم وأدب ورجال صناعات وموظفين في وظائف رسمية كأن لا تربية حقيقية إلا التربية العلمية ولذلك سررت غاية السرور بأنكم شرعتم في بناء المدارس الصناعية والزراعية في مصر إذ التربية العلمية نوع واحد من أنواع التربية المختلفة وليس من الحكمة أن يقتصر عليها وحدها سوى جزءٍ قليل من أهل كل البلاد. أما بقية الأمة فيجب أن تستبدلها بغيرها وتتمرن على أعمال أخرى. إن سمو الخديوي في أعماله الكثيرة التي تتناول جميع وجوه العيشة المصرية أظهر حكمة عالية بعد أن نظر وأدرك حاجات بلاده بما يظهره من الاهتمام بترقية زراعتها وتحسين الزرع والضرع.

فهذه البلاد كسائر البلدان تحتاج إلى عدد معين من الرجال تؤهلهم تربيتهم الانقطاع إلى العلم والتعليم في المدارس أو تقلد مناصب الحكومة. ولكن ليس من مصلحة بلاد ما أن ينصرف إلى هذه الأمور سوى جزء صغير من ذوي العقول الكبيرة فيها.

ويجب أيضاً ترقية الميل إلى الصنائع وتمرين الأهالي حتى يحسنوا الزراعة وينبغوا فيها كما ينبغ أمهر المحامين والموظفين وحتى يخرج منهم التجار والمهندسون وأصحاب الأعمال الأخرى التي لا غنى عنها في بلاد عظيمة متمدنة.

إن وجود سياسي شعبي مستقيم بعيد النظر مفيد في كل بلاد ولكن فائدته تتوقف خصوصاً على استطاعته التعبير عن مشيئة أمته وللسياسي النصيب الأكبر في قيادتها وللتاجر والزارع والمهندس وأهل الفنون الأخرى النصيب الأوفر. كل أمة لا يكون لها من القادة والساسة والمحامون لم تدرك شأواً يستحق الذكر. فأساس الحياة الصحيحة في كل بلاد واجتماع إنما هو الرجال الذين يعملون الأعمال المختلفة من حراثة وصناعة وتجارة ولا فرق أن يشتغلوا بأيديهم أو بعقولهم. وخير للإنسان أن يشتغل برأسه ويديه معاً فهؤلاء الذين يعملون الأعمال الكبرى في حياة المجموع وما المشتغلون بالعلوم والمعارف والسياسة والقانون وموظفو الحكومة سوى مكملين لهم.

على أن الأمر المهم أن يقوم العمل على الأمانة والكفاءة مهما يكن مركز العامل من أكبر كبير إلى أحقر حقير. وما أقوله هنا على ضفاف النيل هو نفسه ما قلته على ضفاف أنهر الهدسون والميسيسيبي وكولومبيا.

واذكروا دائماً أنه لا الفرد ولا الشعب يتربيان التربية الجوهرية بمجرد فعل يفعلانه وإنما يتربيان بطريقة تتعاقب فيها الأفعال كطريقة النمو فإنك لا تجعل الإنسان متربياً ومتعلماً تعلماً حقيقياً بمجرد إعطائه دروساً معينة وكذلك لا تجعل أمة صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها بمجرد إعطائها دستوراً على الورق. بل تربية الفرد وتعليمه حتى يصير صالحاً للعمل في العالم تستغرقان أعواماً طويلةً وهكذا تربية الأمة وإعدادها حتى تنجح في قضاء واجبات الحكومة الذاتية لا يتمان في عشر سنوات أو عشرين بل يلزم لهما أجيال متعاقبة.

وخطب أيضاً تلميذات كليات البنات الأميركية في القاهرة فقال:

لا تقوم أمة في العالم أبداً إذا لم تكن فيها المرأة قادرة على القيام بعملها بجدارة وأهلية مثل الرجل وأنه من العدل أن تفهم وهي في حداثة السن في مدرستها وتعلم كيف تؤدي أعمالها وأشغالها.

إني أفتخر بكل مدرسة لا تقتصر على تلقين العلوم بل تعلم العمل ولا أشك في أن تلميذات هذه المدرسة متى صرن صاحبات بيوت يبرهن على اقتدارهن على أن يقمن فغي بيوتهن كما تقوم نساء الإرسالية في بيوت رجالهن.

يسرني جداً في هذه المدرسة أنها تعمل على قاعدة التسامح الديني. يسرني جداً أن ما علمته من أن ثلث تلميذات هذه المدرسة مسلمات والثلثين مسيحيات وإسرائيليات ومن طوائف أخرى.

أود الآن أن أتكلم عن المدارس عامة لما جئت إلى مصر من زمن بعيد لم تكن الحالة كما هي الآن إنني لا أقدر أن أصفها تماماً ولكن أتذكر منها ما يجعلني مع المقابلة أرى الآن النجاح والتقدم العظيم. إنني شاهدت الآن بيوتاً وترتيباً ومعيشة لم أشاهدها حينئذ. رأيت في بيوت عديدة ما دلني على أن الزوجات والأمهات اللواتي فيها قد كن تلميذات في هذه المدرسة أو أنهن عاشرن معلماتها والمتعلمات فيها.

إنني في كلامي عن المدارس لا أخصص جنساً منها بل أمتدح كل المدارس على اختلاف نزعاتها وصفاتها والقائمين بالعمل فيها ولا أقول أنه توجد مناظرة بين هذه المدارس أو أنني أكره المناظرة في هذا السبيل بل أقول أنني أرجو الخير لجميعها إذا كانت تعمل وهي ولا شك تعمل لخير المصريين.

هذا ما قالع العلامة المشار إليه وهو كما تراه يرمي إلى الاستقلال وينفر الناس عن الاتكال إذ قد عز عليه أن يرى شبان الشرق يقلدون بعض شبان الغرب في مكاسبهم ومعايشهم فيصبحون عالة على الحكومات يرزقون من خزائنها مختارين في عملهم الراحة على السعي والكسل على المضاء والتضييق على الانطلاق والاتكال على الاستقلال فتخرب البلاد بإهمال أبنائها لها ويفتحون بأيديهم أبواب بيوتهم للدخلاء والغرباء وتترك خيرات الأرض لمن يقوم على تعهدها واستثمارها واستنباتها.

ومن طبيعة المرء أن يحب العيش المضمون المريح وليس أحسن من الوظائف في هذا الباب تضمن معاش الإنسان في حياته وبعد مماته فيتدرج في سلسلة المراتب ولاسيما إذا كان على شيء من المعرفة المكتسبة والجربذة والدهاء ومعرفة المدخل والمخرج في نيل رضى رؤسائه بحيث يكون كالآلة في أيدي محركها ولا يطلب من الآلة إلا تنظيم سيرها فإن نطقت هي وسألت عن السبب كان للموظف ولاسيما إذا كان صغيراً أن يسأل عنه. يكفي في مضار التوظيف في الحكومات أنها تسلب الإرادة ومكن سلبت إراداته فنيت نفسه ومن فنيت نفسه كان كالميت لا يتحرك إلا إذا حرك. وأن أمة يرضى أرباب نوابغ الذكاء فيها لأنفسهم أن يكون بلا إرادة ولا شخصية ولا استقلال جديرة بالضعة والمقت والفقر والخمول وإذا حاز النبهاء هذه الصفات السيئة فأولى أن يكون حظ الخاملين أتعس. ولا رجاء لعامة ضعف خاصتها عن تعهد أمرها.

ومن أكبر الدواعي في ترجع عمران البلاد العثمانية والمصرية أنه وقر في النفوس مع الزمن أن من لم يخدم الحكومة لا يعد من الأشراف ولا من أرباب المكانة والرأي والوجاهة. وإن كل مروءة وحكمة وعقل وعلم ورفعة وقف على الموظفين ومن لم يحتك بالحكومة كان وضيعاً مهما رفعه مقامه وشرف آبائه وأجداده وجده ومضاؤه وحنكته ودربته ومعرفته وثروته.

هذا الخلق من طبيعة الحكم الاستبدادي وكم رأينا بيوتاً خربت لأن أربابها عز عليهم ألا يجاوروا بيوتاً أخرى كانت منافسة لهم في التسابق إلى دواوين الحكومة فغفلوا عن تجارتهم وزراعتهم المعقولة المشروعة وتعلقوا بالتافهات من خدمة أرباب الحكم فما استفادوا بقديمهم ولا أحسنوا يلقف حديثهم. وأكثر ما يكون هذا الخلق ظهوراً الآن في سكان العواصم مثل الآستانة والقاهرة ودمشق وحلب فترى كثيرين من أهلها كالحلمة الطفيلية ينتظرون نقل أحدهم أو استقالته أو موته حتى يخلفوه في مكانه.

إن أقوال المستر روزفلت حرية بأن يجعلها أهل هذه البلاد رائداً بين أيدي أعمالهم ومهمازاً لهم في أقولهم وأفعالهم. إن انصراف وجوه الناس كلهم نحو التوظف قد عطل في بلادنا القوى المعنوية والمادية وغادر القوم كإعجاز نخل خاوية تركوا موارد الثروة الحقيقية وراحوا زرافات يطرقون أبواب الحكومة وما هي بمغنية رعاياها كلهم وهم هم مادة حياتها وبغناها تغنى وبشقائهم تشقى.

لا يتعلم المتعلم منا من أهل الطبقة العالية والمتوسطة والدنيا إلا ليكون ضابطاً أو قائمقاماً أو موظفاً في الأقلام أو من رجال القضاء وقليل جداً من يريدون أن يتعلموا ليستعدوا لإنجاح تجارتهم وزراعتهم وصناعتهم ولاسيما من أهل الإسلام الذين حصروا آمالهم في الحكومة في كل دور من أدوارهم ولذلك قلما رأينا ابن تاجر منا علمه أبوه على الأسلوب الجديد حتى يكون كتجار الإفرنج بتعليمه وتجاربه ويعود عليه القرش قرشين بدل أن يعود قرشه ببارة.

طف مخازن القاهرة والآستانة وأزمير وسلانيك والإسكندرية وبيروت واسأل عن تراجم أربابها وأجناسها فهل ترى فيهم إلا إفرنجاً وغير مسلمين من أهل البلاد.

وإذا وقع لك أن صادفت تاجراً مسلماً فيكون في الأكثر غريباً عن تلك المدينة أو أنه أحوج إلى التعلم في عمله من أصغر تاجر من أولئك التجار أرباب الأموال الطائلة والمعارف الواسعة.

تجول في القرى وافحص المزارع هل تجد لمسلم وطني مزرعة نجحت بسعيه كما نجحت مستعمرات الألمان في فلسطين والفرنسويين في البقاع ومستعمرات الطليان والرو والأرمن في مصر وإذا رأيت مسلماً أخصبت تربته على سبيل الاتفاق فابحث عن السبب تراه اهتدى إلى استخدام أناس ممن تربوا على غير طريقته وعرفوا في الأمور الدنيوية من أين تؤكل الكتف.

وابحث عن صناعات البلاد هل تراها كل يوم إلا ترجع القهقرى لأن أربابها جمدوا على ما تعلموه من آبائهم ولم تحدثهم أنفسهم في تقليد الراقين من صناع الأيدي ولأنك لا تجد في الألف منهم واحداً يعرف ما يقتضي لنجاحه من الأسباب وأي الطرق سلكها الغربيون حتى بزوا بمصنوعاتهم مصنوعاتنا ويوشكوا أن يقضوا عليها قضاءً أبدياً.

كل هذا نتيجة الكسل والاعتماد على الحكومة في الرزق والبلاد لا ترتقي إلا بالمسلمين في المملكة العثمانية لأنهم الجمهور الأعظم من السكان ومنهم جلُّ رجال القضاء والإدارة وأرباب الأملاك والأراضي ولا سبيل إلى ارتقائها إلا إذا ارتقوا هم أنفسهم إن لم يكن أكثر من مواطنيهم فلا أقل من أن يكونوا على مستواهم. ونظن هذا التصريح جارحاً ولكن هي الحقيقة لا تدليس فيها ولا دهان.

إن كل ما كان الموظفون يجمعونه من دماء الأمة لم يثمر لهم الثمرة الجنية لأنه مال حرام أتاهم من غير طرقه المشروعة من كد واقتصاد فلم نر ثروة تسلسلت في أعقاب الموظفين إلى جيلين إلا نادراً وكثيراً ما كان يفتقر الموظفون في حياتهم لولا رواتب التقاعد رأيت أعظم الموظفين في السنة التي يضطرون فيها إلى ترك وظائفهم الفارغة أيديهم من مال يعتاشون به ولو كانت مشاهراتهم تعد بعشرات الليرات.

هذا من حيث المال أما عن سلب حرية الموظفين فحدث ما شئت أن تحدث ولولا أن العادة تسهل الأشياء لقضي على أكثر الموظفين في سن الكهولة لكثرة ما يلقون من عنت رؤسائهم وتضييق وجداناتهم وكم من ذكاء ذهب سدى لأن صاحبه لم يستعمله بل حصره في دائرة ضيقة من عمل أصبح له شيئاً معروفاً في بضعة أشهر وقضى عمره وهو يبيض ويسود أو يحاسب في موضوع لا يكاد يتعداه.

إن التوظف عمل من أعمال الناس لا يصح أن يترك وإلا فمن يدير شؤون البلاد ولكن لا يجب التهالك عليه كما نراه يتزايد اليوم بعد اليوم فالأم التي كانت تفرح ابنها فيما غبر وتقول له إن شاء الله أراك باشا ينبغي لها أن تربيه مع أبيه على أن يكون بعد اليوم ممتازاً في حرفة من الحرف أو صناعة من الصناعات فقد جربت الأمة ورأت من إفلاسها ما لا ينكره عاقل لأنه لم يتعلم منها أحد إلا ليكون من المستخدمين. كأن خيرات الأرض والسماء لا تغدق إلا على من ينصب نفسه وجسمه للجري على إرادة غيره لينال بزعمه رزقاً هنياً ليناً.

إنا والله مع احترامنا لكل موظف أمين يخدم الأمة بصدق ويقبض راتبه بعرق جبينه لنفضل عليه من يتجر السماد لتعمر به الأرض ومن يخرج الحجارة من المقالع ويعتمد على خالقه وعمله في معاشه على فرد ينسى كل شيءٍ ويتجرد عن كل شيءٍ ليقال عنه أنه موظف.

نزل مصر بعض المتعلمين من السوريين منذ عهد الخديوي إسمعيل وقبله وأخذوا بما فيهم من النشاط والقوة والمعرفة يتولون الوظائف وينافسون فيها المصريين في بلدهم فبقيت أرزاقهم محدودة ولم يخرجوا عن كونهم مستخدمين يصرفون في آخر شهرهم كل ما قبضوه في أوله. ولما صعبت الحكومة المصرية وصول غير المصري إلى تولي الوظائف بالقانون الذي سنته على عهد الوزارة الرياضية حول السوريون وجلهم مسيحيون وجهتهم إلى التجارة والزراعة فمإذا كان من إثر ذلك عليهم؟

كان منه أن أصبحوا يتكلمون على عملهم وكدهم ويبتاعون الأطيان البائرة في القطر المصري فيعمرونها بنشاط ومعرفة ويتجرون بمصنوعات البلاد ومصنوعات أوربا ويتوفرون على تنمية أموالهم بطرق اقتصادية حتى لم يمض عقد أو عقدان من السنين إلا وقد أصبح أبناء سورية النازلون في مصر أغنياء بعد الحاجة موسعاً عليهم غب الضيق يملكون القصور الباذخة ويتمتعون بالعيش الخضال حتى قدر أحد العارفين ثروة السوريين في مصر بخمسين مليون جنيه أي بعشر مجموع ثروة مصر. ولو ظلوا راضين كلهم بالدون من المعاش لما جمعوا واحداً في المئة من هذه الثروة الطائلة ولا يكون ما يجمعونه إلا من التقتير والشح وكذلك فعل المسيحيون في البلاد العثمانية لما قطعوا آمالهم من الحكومة فباتت أعمال المعاش المهمة كما تقدم بأيديهم ودرت عليهم أخلاف السعادة ولو قلدهم سائر العثمانيين في هذه الخطة الشريفة لخلصنا من الإشكال الذي لم تبلغه أمة من الأمم في سالف القرون والأجيال.

قال الجاحظ في رسالته مدح التجار وذم عمل السلطان: وهذا الكلام لا ينجم من حشوة أباع السلطان فأما عليتهم ومصاصهم وذو البصائر والتمييز منهم ومن فيقة الفطنة وأرهقه التأديب وأرهبه طول التفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب فعرف العواقب وأحكم التفضيل وينطق (؟) غوامض التحصيل فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم ويحكمون لهم بسلامة الدين وطيب الطعمة ويعلمون أنهم أورع الناس أبداً وأهنأهم عيشاً وآمنهم سرباً لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم يرغب إليهم أهل الحاجات وينزع إليهم متلمسو البياعات لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم ولا تستعبدهم الضرع لمعاملاتهم وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه وقاربه بخدمته فإن أولئك لباسهم الذلة وشعارهم الملق وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة قد لبسها الرعب وألفها الذل وصحبها ترقب الاحتياج فهم مع هذا في تكدير وتنغيص خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب وتغيير الدول واعتراض حلول المحن فإن هي حلت بهم وكثيراً ما تحل فناهيك بهم محرومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله وبين ما قد نال الوفاء عنه والدعة وسلم من البوائق مع كثيرة الإثراء وقضاء اللذات من غير منة لأحد ولا منة يعتد بها وكم بين من هو نعم المفضلين خلي وبين من قد استرقه المعروف واستعبده الطمع ولزمه ثقل الصنيعة وطوق عنقه الامتنان واسترهن بتحمل الشكر الخ.