مجلة الرسالة/العدد 97/في الأدب الفرنسي المعاصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 97/في الأدب الفرنسي المعاصر

مجلة الرسالة - العدد 97
في الأدب الفرنسي المعاصر
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1935



رومان رولان

بقلم علي كامل

تتمة

في (النهار الجديد) (1912) وهو آخر جزء من قصة (جان كرستوف) كتب رومان رولان يقول: (إن أوربا الآن توحي للناظر كأنها في ليلة حرب). كتب ذلك قبل أن تعلن الحرب بعامين. وعندما اندلعت الحرب الشرارة الأولى عام 1914 كان رومان رولان في سويسرا. فكان بعده عن وطنه مساعداً له على أن يكون حر الرأي بعيداً عن التأثر بضروب الدعاية المختلفة التي كان يصيح بها ساسة الدول المتحاربة - ومنها فرنسا - تبريراً للحرب وحثاً للناس على خوض غمار القتال (كإنقاذ المدنية) أو (الحرب من اجل السلام الخالد) إلى غير ذلك من الأقوال

ومنذ التاسع والعشرين من أغسطس عام 1914 شرع رومان رولان يكتب سلسلة مقالات في (جريدة جنيف) بدأها بخطاب مفتوح إلى الكاتب الألماني هويتمان مستنكراً الوحشية الألمانية التي أحرقت بلدة (لوفان) البلجيكية. وقال فيه: (كثير منكم أن يبدو ذلك العنف الذي تعاملون به هذه الأمة الكبيرة النفس - يقصد بلجيكا - التي لا ذنب لها إلا الاستماتة في الدفاع عن استقلالها وعن الحق كما فعلتم أنتم الألمان عام 1813. . .! احتفظوا بهذه القسوة لنا نحن الفرنسيين أعداءكم الحقيقيين. أما أن تتحمسوا ضد ضحاياكم، ضد ذلك الشعب البلجيكي الصغير السيئ الحظ البريء. فيا له من عار!) ثم يقول: (ولم تكتفوا بان تأخذوا البلجيك الحية، فأعلنتم الحرب على الأموات، على مجد القرون، فأمطرتم (مالين) بالقنابل وأحرقتم (روبان)، وأصبحت لوفان تلاً من الرماد، لوفان بكنوزها الفنية وعلمها، لوفان المدينة المقدسة. . . . هل تحاربون الجيوش أم الفكر الإنساني؟ اقتلوا الرجال لكن احترموا الأعمال الفنية، إنها تركة الجنس البشري الذي أنتم منه والذي نحن جميعاً الأمناء عليه. إنكم حين تحطمونه كما تفعلون الآن تثبتون أنكم غير جديرين بذلك التراث العظيم).

وفي مقالته الثالثة (فوق المعركة) - التي أطلق عنوانها على مجموعة المقالات حين جمعها فيما بعد، نسمع رومان رولان يوجه اللوم الشديد إلى قادة الرأي العام والرؤساء الدينيين والمفكرين والخطباء الاشتراكيين قائلاً: (بين أيديكم ثروات حية، كنوز من البطولة، فماذا فعلتم بها؟ لقد وجهتموها إلى الصراع والموت!) ثم تراه يظهر استنكاره المرير من أن تنتقل شهوة رجال السياسة إلى رجال الفكر فتتولد بينهم العداوة (فيصبح أوكن ضد برجسون، وهويتمان ضد مترلنك، ورولان ضد هويتمان، وولز ضد برناردشو. كما يتغنى كبلنج ودانونزيو ودو رينييه وبارس ومترلنك بأغاني الحرب والقتال. بينما يطلب الفيلسوف الشيخ قندت - الذي بلغ من العمر الثانية والثمانين - بصوته المحطم من طلبة جامعة ليبنزج الاشتراك في (الحرب المقدسة))

وفي هذا المقال أيضاً صرح رولان أن اعظم هيئتين خانتا مهمتهما وظهرتا بمظهر الضعف أثناء الحرب هما (أولاً) المسيحية: أي السلطة الدينية (وثانياً) الاشتراكية. إذ أن كلا من هاتين الهيئتين من أول مبادئهما الدعوة إلى السلام العالمي والإخاء بين الشعوب. لهذا كان تأييدهما للحرب وقبولهما دخول سعيرها إنكارا لا يليق لمبادئهما السامية. (فهؤلاء الاشتراكيون الذين لم يجدوا في نفوسهم الشجاعة على الموت في سبيل عقيدتهم قد وجدوها للموت في سبيل عقيدة الآخرين)

وعندما يتكلم عن الباعث الحقيقي على الحرب يقول: (إن العدو الألد ليس خارج حدود الوطن بل هو رابض داخل كل أمة. وليس هناك أمة واحدة تملك الشجاعة لمحاربته. إنه ذلك الشبح ذو المائة راس الذي يسمى التوسع الاستعماري. تلك الإرادة في الكبرياء والتسيطر التي تريد أن تمتص كل شيء فإما الخضوع لها وإما الهدم. تلك الإرداة التي لا تحتمل مطلقاً أي عظمة ونمو خارج دائرتها)

وبعد أسبوع من معركة المارن أعلن رومان رولان فكرته العالمية (ووجوب إقامة المدينة الواسعة الممتدة الأطراف التي تزال منها المظالم وأحقاد الأمم وتجتمع فيها النفوس المتآخية الحرة في العالم أجمع) على أنه لم يكن يطلب تحقيق ذلك عن طريق العنف فهو ألد أعدائه. بل يترك للزمن تحقيقه على مهل حين تسمو النفوس عن الصغائر وتتجرد العقول مما تتعلق به الأوهام

لقد رأينا كيف أن رومان رولان في مقالاته كان متجرداً من كل خضوع لفكرة وطنية، أو التأثر بتيار الحماسة الذي كان يجرف كل الأمم المتحاربة. ولذا لم يتردد - كما رأينا - في السخرية من كل رجال الفكر والدين، لأنهم خانوا مبادئهم النبيلة في الوقت الذي كان يمكنهم فيه تأدية أكبر جانب من مهمتهم في الحياة. كما أنه لم يتردد في إظهار ألمه من تردي العلم في حمأة الأغراض، حين يدعى الأستاذ بيريه مدير المتحف وعضو أكاديمية العلوم في باريس أن البروسيين لا ينتمون إلى ينتمون إلى الجنس الآري. كذلك كان من الأسباب التي زادت عدد مهاجميه احتفاظه بعد أن أعلنت الحرب بصداقة من كان يعرفهم من الكتاب الألمان (إذ ليس حبي لوطني - كما قال - معناه أن أكره أناساً مخلصين يحبون هم كذلك أوطانهم)

كل هذه الأسباب إلى جانب التهم التي وجهت إليه قبل الحرب عن طعنه في العبقرية الفرنسية جعلت عدداً من جرائد بلاده تنشر مقتطفات محرفة من مقالاته في لتثير عليه الرأي العام. ولقد استطاعت بلوغ ذلك إلى حد كبير. فكان جواب رومان رولان على هذا أن نشر مقالاته لتثير عليه الرأي العام. ولقد استطاعت بلوغ ذلك إلى حد كبير. فكان مستقل في سبتمبر عام 1915، حتى يطلع الشعب الفرنسي بنفسه على حقيقة ما كتب ليعرف مقدار اتهامات أعدائه من الحق أو الضلال. وقد قال في مقدمة كتابه ما يأتي: (إذا باغتت الحرب شعباً عظيماً فإنه ليس فقط أن يدافع عن حدوده، بل أمامه عقله أيضاً فإنه ليس عليه فقط أن يدافع عن حدوده، بل أمامه عقله أيضاً يجب أن يحميه من الخرافات والخروج على العدل ومن السخافات. تلك الأمور التي تطلقها من عقالها المصيبة العظمى لكل شخص مهمته، فكما أن على الجيوش أن تحافظ على أرض الوطن، كذلك على رجال الفكر الدفاع عن الفكر؛ فإذا سخروه لخدمة شهوات شعبهم، فقد يستطيعون أن يكونوا آلات نافعة، ولكنهم يخاطرون بخيانة العقل الذي ليس هو أقل جزء من تراث هذا الشعب) ثم يقول في النهاية: (لقد ظللت عاماَ بأكمله غنياَ بالأعداء، والآن أقول لهم أنهم يستطيعون أن يحقدوا علي، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعلموني أن أكون حقوداَ. . . أن مهمتي أن أقول ما أعتقده عدلاً وإنسانياً) والواقع أن التهم التي أسندت إلى مقالات رومان رولان في (جريدة جنيف) لا أساس لها من الصدق، إذ خلقتها عداوة بعض الإفراد والجرائد من جهة، ومن جهة أخرى الرقابة على المطبوعات إبان الحرب التي كانت حين تحذف من مقالاته كثيراً من الفقرات التي ترى فيها تطرفاً لا يجوز نشره، تترك بذلك المجال لأعدائه لتأويل الجزء الضئيل الباقي تأويلاً سيئاً

وعلى كل حال فقد كان هذا الصراع الهائل بين رجل وأمة داعياً لأن تتسع شهرة رومان رولان بعد الحرب، وخصوصاً وقد حصل عام 1916 على جائزة نوبل للآداب، وكانت شهرته خارج فرنسا أوسع من داخل فرنسا نفسها؛ وقد قوبلت كتبه التي ظهرت بعد الحرب بشغف زائد وإقبال عظيم، فطبعت عشرات الطبعات ومن هذه الكتب: (1917) - الذي طبع عام 1914 ولم ينشر إلا عام 1919 - , ' ' (1920) - (1924) - ' (1925) ' (1926 - 1927) و (1926) (1928) - ' (1930).

ولا يزال رومان رولان يعيش في سويسرا متخذاً إياها وطناً ثانياً له، محافظاً كل المحافظة على تفكيره وآرائه التي أثارت عليه الحملات غير عابئ بها، مؤمناً بذلك الإحساس الذي دفعه إلى أن يقول أثناء الحرب رداً على متهميه في إحدى مقالاته ' إن (الوقت الذي يخصصه الرد على خصم ما إنما يعتبر كزقة من أولئك التساء، أولئك السجناء. من تلك الأسر التي تسعى ونحن في جنيف أن نمد لها أيدينا).

ويرى الناقد رينيه لالو أن هذه الصلابة الشديدة التي نجدها عند رومان رولان في التسمك برأيه والاحتفاظ بنقاء ضميره كرجل أخلاقي قد آذته إلى حد ما - كفنان، إذ أفقدت قصصه كثيراً من الليونة والطراءة. على أن هذا الإخلاص لعقيدته بين عواصف الافتراء الكاذب، وذلك الاحتمال الباسم للاضطهاد الذي بعثنه النفوس الصغيرة، وتلك السعادة في العذاب التي انعكست عليه من أبطاله بيتهوفن وتولستوي وغاندي، قد جعلت جميعاً منه أحد أعاظم قادة الفكر الأوربي الحديث الذين في أعناقهم - هم وسائر مفكري العالم - يقف مصير المجتمع الإنساني

علي كامل