مجلة الرسالة/العدد 97/محاورات أفلاطون
مجلة الرسالة/العدد 97/محاورات أفلاطون
22 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قال سقراط: كفى يا سيبيس حديثاً عن هارمونيا؛ آلهتكم الطيبة، فما أحسبها قد أغلظت معنا الصنيع، ولكن ماذا أقول لكادموس الطيب، وكيف أسترضيه؟
قال سيبيس: أظنك واجداً سبيلا إلى استرضائه، فلست أرتاب في أنك رددت حديث الانسجام بطريقة لم أكن أتوقعها قط. فقد أيقنت حينما تقدم سمياس باعتراضه أن ليس إلى أجابته من سبيل، فأدهشني لذلك أن أرى قوله يخور فلا يثبت أمام هجمتك الأولى، وليس بعيداً أن يلاقي الآخر، الذي تدعوه كالدوس مصيراً كهذا المصير
فقال سقراط: لا يا صديقي العزيز، فما ينبغي أن نزهي خشاة أن تنطلق من عين خبيثة هذه الكلمة التي أوشك أن أنطق بها، فلنا أن ندع الأمر بين أيدي من هم في عليين، حتى أدنو، على طريقة هومر، فاختبر ما يتوقد في عبارتك من حماسة، وخلاصة اعتراضك باختصار هي ما يأتي: انك تريد أن يقام لك الدليل على أن الروح باقية خالدة، وتظن أن الفيلسوف الذي يطمئن إلى الموت إنما يركن إلى طمأنينة فارغة حمقاء، إذا هو ظن أنه سيكون في العالم السفلي أوفر جزاء ممن سلك في حياته سبيلا أخرى، ما لم يستطيع أن يدلل على ذلك، وأنت تزعم أن إثبات ما للروح من قوة وألوهية، واثبات وجودها السابق لوجودنا في هيئة البشر، لا يقتضي بالضرورة خلودها. فإذا سلمنا بأن الروح قد عمرت طويلاً، وأنها في حالتها الأولى علمت وعملت شيئاً كثيراً، فليس هذا الاعتبار دليلاً على خلودها، وقد يكون حلولها في الصورة البشرية ضرباً من الموت الذي هو ابتداء الانحلال، وقد تنتهي آخر الأمر إلى ما يسمى بالموت، بعد أن تفرغ من عناء الحياة. وسواء أكانت الروح تحل في الجسد مرة واحدة فقط أم مرات عدة، فذلك، كما قد تقول، يخفف من مخاوف الأفراد شيئاً، فليس يخلو إنسان من الشعور الطبيعي، فإن لم يكن لديه عن خلود الروح علم وبرهان حق له أن يخاف. ذلك ما أحسبك قائلة يا سيبيس، وهو ما أعيده عامداً، حتى لا يفلت منا شيء منه، ولكي نستطيع إن شئت أن تضيف إليه أو تحذف منه شيئاً
فقال سيبيس: ولكن، فيما أرى الآن، لا أجد ما أضيفه أو ما أحذفه. إنك عبرت عما أريد
فسكت سقراط هنيهة، وبدا عليه كأنما غاص في تأمله، وأخيراً قال: إن هذا المبحث الذي أثرته يا سيبيس لذو خطر عظيم، فهو يتضمن موضوع النسل والفساد برمته، وذلك ما أود، إن شئتم بعين على حل إشكالكم
فقال سيبيس: لشد ما أرغب في أن أنصت لما تقول
قال سقراط: إذن فهاك حديثي يا سيبيس: لقد كنت في صباي شديد الرغبة في معرفة ما يسمى بالعلم الطبيعي من أبواب الفلسفة، فقد ظننت أن له أغراضا سامية، إذ هو العلم الذي يبحث في علل الأشياء، فينئنا لماذا وجد الشيء، وفيم خلقه وفناؤه، وكنت لا أنى أقلق نفسي بالنظر في مسائل كهذه: هل يرجع الناس؟ أيكون العنصر الذي نفكر به هو الدم أم الهواء أم النار؟ أم قد لا يكون شيئاً من هذا القبيل؟ - فربما كان المخ هو القوة التي تبتدع أحاسيس السمع والبصر والشم، وقد تنشأ عن هذه الأحاسيس الذاكرة والرأي، وعلى الذاكرة والرأي قد يبني العلم، ولكن إذا وقفت فيهما الحركة وأدركهما السكون؛ وبعدئذ مضيت أختبر انحلال الأحاسيس، وأتناول بالبحث أشياء الأرض والسماء، واستخدمت أخيراً أنني عاجز كل العجز عن هذه المباحث، وعلى ذلك سأقيم لك الدليل قاطعاً.
فقد فتنت بها إلى درجة عميت معها عيناي أن ترى الأشياء التي كنت أحسبني، ويحسبني الناس، عالماً بها علم اليقين؛ وقد أنسيت ما كنت ظننته من قبل بديهياً لا يحتاج إلى دليل، وهو أن نمو الإنسان نتيجة الأكل والشرب، لأنه بهضم الطعام يجتمع لحم إلى وعظم إلى عظم، وحيثما تجمعت عناصر متجانسة كبر الجرم الضئيل، وعظم الإنسان الصغير. ألم يكن ذلك رأياً معقولاً؟
قال سيبيس: نعم أظن ذلك
حسناً، دعني أنبئك شيئاً آخر، فقد مر بي زمن كنت فيه أحسب أني أفهم معنى الأكبر والأصغر فهما جيداً، فإذا أبصرت رجلاً ضخماً واقفاً إلى جانب رجل ضئيل، توهمت أن أحدهما أطول من الآخر قيد رأس، أو أن حصاناً كان يلوح لي أنه أكبر من حصان أخر، بل أوضح من ذلك أنني كنت فيما يظهر أحسب العشرة تزيد على الثمانية باثنين، وان ذراعين أكبر من ذراع واحدة، لأن الاثنين ضعف الواحد
قال سيبيس: وماذا أنت اليوم قائل في مثل هذه الأمور؟ - فأجاب: كان ينبغي أن أنأى بنفسي بعيداً عن توهم أنني اعلم إليه سبباً؛ حقاً كان ذلك ينبغي، فلست أستطيع أن أقنع نفسي بأننا لو أضفنا واحداً إلى واحد صار الواحد الذي جاءته الإضافة اثنين، أو أن الوحدتين مضافتين معاَ تساويان بسبب الإضافة أثنين، فلست بمسيغ كيف أنه إذا انفصلت إحداهما عن الأخرى كانت واحداَ لا أثنين، ثم إذا تلاقيا، فقد يكون مجرد التقارب بينهما سبباً في أن تصبحا اثنتين: هذا ولست أفهم كيف تكون قسمة الواحد سبيلاً للحصول على اثنين، لأنه عندئذ تكون النتيجة الواحدة ناتجة من سببين متباينين - ففي المثال الأول نشأ اثنان من جمع واحد إلى واحد وتقاربهما، وفي الثاني كان السبب هو انفصال واحد من واحد وطرحه منه ولست مقتنعاً بعد ذلك بأنني أفهم لماذا يتولد الواحد، أو أي شيء آخر، ولماذا نزول، بل ولماذا يكون إطلاقاً. إنني لن أسلم بهذا قط وإني لأتمثل في ذهني فكرة مهوشة عن طريقة أخرى
ثم استمعت إلى رجل كان عنده كتاب أناكسجوراس، كما قال، وطالع فيه أن العقل هو المصرف والعلة لكل شيء، ولشد ما اغتبطت لذكر هذا الذي كان باعثاً على الإعجاب. وقلت لنفسي: إذا كان العقل هو المسير فإنه سيسير بكل شيء إلى الصورة المثلى، ويضع كل شيء أحسن موضع، وزعمت أن من يرغب من الناس في استكشاف علة تولد أي شيء أو زواله أو وجوده، فعليه أن يرى كيف تكون الصورة المثلى لذلك الشيء من حيث وجوده وسعيه وعمله، لذلك كان لزاماً على المرء ألا يضع نصب عينه إلا الحالة المثلى بالنسبة إلى نفسه وإلى الناس، ثم عليه بعد ذلك أن يعلم الأسوأ أيضاً، فالأمثل والأسوأ يحويهما علم واحد. وسرني ما ظننت أي واجد في اناكسجوراس من يعلمني ما وردت أن أعلم من أسباب الوجود، وخيل إلى أنه منبئي أول الأمر عن الأرض أمسطحة هي أم كروية، وأنه باسط لي بعد ذلك علة هذا وضرورته، وأنه معلمي طبيعة الأمثل ومظهري على أن الأمثل إنما هو هذا، فإن زعم أن الأرض قائمة في المركز شرح كيف أن هذا هو الوضع الأمثل، وكنت سأقتنع به ولو بين لي ذلك، وما كنت لأقتضيه غير ذلك سبباً، وحسبت أنني قد التمسه بعد ذلك فأسائله عن الشمس والقمر والنجوم، فيشرح لي سرعتها المقارنة، ونكوسها ومختلف حالاتها، وكيف أنها تتجه بميولها المتعددة، القابلة منها والفاعلة نحو الأمثل دائماً، وما كنت أتصور أنه إذا ما تحدث عن العقل باعتباره مصرفاً لها، يعلل وجودها على هيئتها الراهنة بغير علة أن هذه هي الصورة المثلى، وظننت أنه بعد أن يفرغ من الشرح المفصل لعلة كل منها وعلتها جميعاً، سيمضي يبين لي الحالة المثلى لكل منها والأسوأ، فتلوثها مسرعاً ما استطعت إلى السرعة سبيلا، وقد رجوت آمالاً لم أكن لأبيعها بكثير.
(يتبع)
زكي نجيب محمود