مجلة الرسالة/العدد 965/المسرح والسينما

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 965/المسرح والسينما

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1951



المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية

الأستاذ زكي طليمات

في العدد الفائت من الرسالة، عقب الأستاذ علي متولي صلاح، على فصل لي نشرته هذه المجلة تحت هذا العنوان، وهو بحث أقمت فيه موازنة عابرة بين مذهبين دوارين من مذاهب الأدب والفن (وهما مذهبا الأدب والفن) أو الفن والأدب، في برجهما العاجي، ثم الأدب والفن وقد عالجا ما يستبد بتفكير الناس في فترة عصيبة من فترات الزمن.

أتيت هذا لأخلص إلى تسجيل وجهة نظري في هذه القضية التي ما زال رحابها يتسع للمتناقض من الأحكام وللمتعارض من وجهات النظر، ابتغاء أن أمهد لإخراجي مسرحية (دنشواي الحمراء) التي قدمتها (فرقة المسرح المصري الحديث) وهي مسرحية من صميم (الأدب الملتزم) الذي يستأثر بنفوس الجمهور في هذه الآونة.

وقد حرصت ألا أتعرض لمناقشة ما يسوقه كل فريق في المنافحة عن كل من هذين المذهبين، إرادة أن أنفذ إلى ما أردت من ذلك الفضل، وبغية أن أقول، ولكن بطريق غير مباشر، أن ليس هناك أدب للأدب، وأدب لغير الأدب، وإنما هناك أدب رفيع وفن رفيع، وأدب رخيص وفن تافه، وذلك باعتبار أن الأدب أو الفن إنما هو هزة وانفعال. ومأتى التجويد فيهما والابتداع إنما يرجع إلى امتلاء الأديب أو الفنان بما هزه في أصلابه وامتلاءت به أوصاله، ثم إلى قدرته على معالجة هذا معالجة إنسانية سليمة وطريفة في وسائل أدائها.

وقد جاء تعقيب الأستاذ صلاح على ما ذكرت ذا شعبتين، ويكاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول يدور حول هذه القضية. والقسم الآخر يعالج موضوعا جديدا إذ يدور حول موقف المسرح المصري من هذين المذهبين.

وحرصا على أن يفيدا القارئ، ودفعا للبس وتقويما للانحراف أعقب بدوري على ما كتبه الأستاذ صلاح، ولكن في إيجاز.

(1) الموازنة التي أقمتها حول الأدب والفن في مذهبيهما المتعارضين ما زالت قائمة. وليست من فضول القول كما يزعم الأستاذ صلاح، لأنها تعالج أسلوبين من أساليب التعب في جوهره، وذلك من حيث الباعث والحافز. ولم تكتب فيه الغلبة لأحدهما حتى الآن، بدليل أنه ما برح هناك كتاب يعالجون الآداب (من أبراجهم العالية) ويأتون بالجيد والطريف مما يقرأه الناس ويتأثرون به. وموقف النقاد من هذه القضية كموقفهم من (الشعر) بعد أن استشرت النزعة المادية في مرافق الحياة الاجتماعية، وطغت هذه النزعة على المعنويات والروحانيات فمنهم من يزعم أن (الشعر) أصبح لونا من الترف والفضول، ومنهم من يرى غير هذا، ويؤكد أن الشعر لن يموت بحكم أنه تعبير إنساني يزاوج بين موسيقى المعاني وموسيقى الألفاظ، والكائن الإنساني يستهويه الإيقاع بفطرته وسليقته.

وتباين وجهات النظر إلى الشعر، كما هو الحال في تباين وجهات النظر إلى الأدب والفن في قضيتهما هذه، كل هذا كما يلوح لي، مرجعه إلى التقدم الآلي والصناعي، وإلى إعلاء الماديات على المعنويات، ثم إلى عامل السرعة، وكل هذا من خصائص القرن الحاضر، ومن عوامل الزمن الذي نعيش فيه. ولكن هذه العوامل لم تستطع بعد أن تحول الأدب والفن إلى نظريات اقتصادية ومقايسات ميكانيكية أو صور بدائية مبتسرة.

ولو أردنا أن نسوق ما يقرره أنصار مذهب (الأدب للأدب) تحبيذا لمذهبهم وانتقاصا للمذهب الذي يكافح عنه الأستاذ صلاح لراجع نفسه كثيرا قبل أن يحاول دفع حججهم بالتي هي أحسن وأفحم، ولخلص معي إلى الأدب أو الفن في نتاجه، لا يمكن أن نقسمه إلا من حيث الجودة والرداءة، ومن حيث السمو والإسفاف ومن حيث الزوال والخلود.

2 - (مذهب الوجودية) الذي أقحمه الأستاذ صلاح (الأدب الملتزم) ليس مما يصح اتخاذه برهانا على أن نظرية الأدب للأدب قد ماتت وعفت آثارها بانقضاء القرن الماضي، لأن هذه (الوجودية إنما هي أسلوب في التفكير، وليست حافزا أو باعثا من البواعث على الابتداع الأدبي أو الفني، ولا مصدرا من مصادر الاستلهام التي تدافع الأديب أو الفنان إلى الخلق. ومعلوم أن الباعث بأني فبل التفكير؛ وإن شئت فقل إنه الشرارة التي يضطرم معها الذهن ويضيء ليعمل، ونحن في قضيتنا هذه قضية الأدب للأدب والالتزام، إنما نعالج الباعث والحافز ومصدر الإلهام ولا نعالج أساليب الفكر.

وفوق هذا فإن هذه (الوجودية) تمتد أطرافها إلى نظريات فلسفية قائمة، ولفتات اجتماعية لا تخلو من الشذوذ، لأنها قامت على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية الأوربية بتأثير الحرب الكبرى الماضية وما زالت تفتقر إلى الأرض الصلبة التي تقف عليها. وقد تزول (الوجودية) إذا زالت أسباب قيامها، باعتبار أن الحياة ليست كلها شقاء وجحيما وألما، وأن الوجود يتجدد ويقيم شرعة التوازن بين طرفيه: السعادة والشقاء، والفرح والحزن. وقد تزول هذه (الوجودية) كما زالت قبلها (الدادية) و (السريالية) وكلها من أساليب حياة الفكر. .

قد يزول كل هذا، ويبقى النضال قائما بين مذهبي (الأدب للأدب) و (الأدب الملتزم) لأنه نضال يعالج الأدب في جوهره من حيث بواعثه واستلهاماته، وليس يعالج الأدب من ناحية التيارات الفلسفية التي تنجم نجوم الأزياء وتسوده حقبة من الزمن ثم تمضى.

ويتضح مما أجملت ذكره عن الوجودية، أن الأستاذ صلاح قد التبس عليه إذ جعل (الوجودية) من دعائم (الأدب الملتزم) إذ لو صح هذا لقضى على الأدب إلا يكتب ألا في الناحية القاتمة من الحياة، ولا يسجل إلا يسجل إلا التشاؤم وفقدان الأمل، وألا يوحي إلا بما يشعر الكائن الإنساني بزيادة تبعاته أمام نفسه، ويتعدد التزاماته أمام الجميع.

وقد يكون هذا عند (بول سارتر) صاحب هذا المذهب ومن نهج نهجه بعد أن أقر في أذهانهم، بتأثير الظروف التي تحيط بهم، وبسحر المنظار الذي يركب عيونهم، أن الحياة إنما هي سلسلة من التبعات الثقال، وأن الكائن الإنساني، وهو العنصر الأولى في الوجود، لابد أن يناضل عن كيانه وأن ينازل هذه التبعات في حرب سافرة. ولا بأس أن ينكر المستقبل، ولا بأس أن يأخذ بمذهب (القدرية) إلى أبعد حدوده، باعتبار أن الإنسان مسئول عما يفعله وليس (للجبر) دخل في سلوكه.

هذه وجهة نظره، ولكنها ليست وجهة نظر (الأدب الملتزم) في كل ما يعالجه من شؤون الحياة

أما القسم الآخر من تعقيب الأستاذ صلاح فينصب ظاهره على المسرح المصري عامة، ويهدف باطنه إلى النيل من (فرقة المسرح الوطني الحديث) وكأن هذه الفرقة الحديثة العهد بالحياة مسئولة عن المسرح المصري في حياته السابقة وفي انحراف رسالة الفرق المختلفة العاملة عما يجب أن تكون عليه في معالجة ما يشغل أذهان الناس!!

وهذا القسم كسابقه يبتسم بالجور والإقساط كما يعوزه التقصي والاستقراء، لأن المسرح المصري - كما هو معلوم لكل متتبع مراحل تطوره إلا الأستاذ صلاح بالطبع - كان في اكثر مسرحياته المحلية يتناول مشاكل حياة الاجتماع في مصر، وفي القليل من مسرحياته لتنبيه الوعي القومي، وذلك في نطاق ما بين يديه من وسائل، وفي حدود الحرية التي يجيزها الرقيب الحكومي، وما دبجته الأقلام المصرية في هذا، بين ما هو مقتبس ومؤلف بل ومترجم، فيم الحجة على ما نقرره.

وإذا صح ما يزعمه الأستاذ صلاح من أن المسرح المصري قد قصر عن إدراك هذا الشأو، فاللوم لا يقع على أصحاب الفرق والممثلين، وإنما ينصب بكليته على من يكتبون للمسرح رواية وتوجيها ونقدا. وأسأل نفسي أين كان الأستاذ المعقب (والتعقيب كالنقد سهل وميسور، والإنشاء صعب وعسير) أين كان. . . وهذه أول مرة نطالع له كلاما على المسرح؟؟

ثم يأتي نصيب (فرقة المسرح المصري الحديث) من لوم الأستاذ المعقب ومن تقريعه، فإذا يؤكد ما قررته من أن الأستاذ ركب من التجني ومن الإقساط ما ركب. .

وآية هذا أنه ما أن هبت مصر هبتها القائمة حتى قطعت الفرقة الحديثة ما بينها وبين ما كانت تقدمه في عامها الأول من المسرحيات العالمية المترجمة، وقدمت مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحمراء) وهما من وضع أقلام مصرية حاذفة أحست النبض الذي يدق في قلب كل مصري فجاءت كل مسرحية منهما تعكس في مشاهدها صورا ورؤى مما يعمر رؤوسنا في هذه الفترة العصيبة من حياة مصر.

قدمت الفرقة الحديثة هاتين المسرحيتين وقد استجابت إلى ما يصح أن يطالعه الجمهور فوق المسرح، ولما يمض على حياتها أكثر من عام وربع عام. هذا في حين أن فرقة مصرية أخرى تحظى بإعانة وزارة الشئون الاجتماعية ورعايتها، لم تقدم شيئا من هذا، بل قدمت قديما من مترجمات ومقتبسات مما خفت مؤنته الفنية والأدبية من الأدب الفرنسي والإنجليزي، ومما لا يتجاوب مع ما يستبد بنفوس الجمهور في كثير أو قليل، وذلك بين مسرحي الأوبرا الملكية وحديقة الأزبكية!

وقع هذا وأمره معلوم، ولكن الأستاذ المعقب المحاسب لم يتعرض له في شيء. وأترك للقارئ أن يرد على الأستاذ المعقب بما يراه. وأعود إلى مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحمراء) فأقول أن هاتين المسرحيتين لم تروقا للأستاذ المعقب، ولا وضعا ولا معنى، ويزعم أنهما لا تحققان الأغراض القومية التي نوهنا بذكرها في مختلف المناسبات، ثم يحلو له بعد هذا أن يتهكم. ولماذا؟ وفيم التهكم؟

يزف الأستاذ المعقب كلاما إن دل على شيء فعلى أنه لم يحسن تفقه هاتين المسرحيتين. وهذا مما يؤسف له! أو هو علم وتفقه ولكنه يعتسف النقد اعتسافا ليطلع برأي يخالف آراء من شاهدوا هاتين المسرحيتين الطريفتين، وتفضلوا بالكتابة عنهما في مختلف الصحف، وهذه محنة! أو هو هذا وذاك. ويزيد أن اطلاعه في الأدب المسرحي الغربي ليس على الوجه الكامل، بدليل أنه ينتقص قدر مؤلف مسرحية (دنشواي الحمراء) لأنها لم تجمع بين دفتيها فوق ما جمعت من مواطن النضال والفداء، مواقف العمال والجنود والحكومة ومن إليهم. . وكأن المسرحية في نظره ملحمة من الملاحم، يجب أن تحيط بكل كبيرة وصغيرة وشاردة وواردة، مما يصح أن يجري في محيطها.

وفي هذا نمسك عن الكلام ولا نتهكم ولا نسخر، وأدع تفنيد مزاعمه تفنيدا مسهبا لمؤلفي المسرحيتين. .

واكتفي بأن أقول للأستاذ صلاح ما قاله غيري في مثل ما نحن فيه (شيئا من الرفق ليجمل النقد، وكثيرا من العدل ليستقيم الميزان)

زكي طليمات