مجلة الرسالة/العدد 94/القصص
مجلة الرسالة/العدد 94/القصص
من أساطير الإغريق
إيخو ونركيسوس
الفاتنة التي أصابها البكم، والجميل الذي عشق صورته
للأستاذ دريني خشبة
كان زيوس - كبير آلهة اليونان - يتعشق فتاة حلوة الدل، بارعة الحسن، رقيقة الشمائل، تدعى يو. وكان، برغم زوجاته الخمس أو الست، يختلف إلى حبيبته في الخلسة بعد الخلسة، يؤانسها ويسامرها، وتؤانسه وتسامره، ويبل فمه الظامئ من ثغرها الراوي، بقبلة. . . أو رشفة. . . .
وكانت أولى زوجاته (حيرا) هي التي تزعجه بما تبث حوله من الرقباء، وتنشر من الجواسيس، يحملون إليها كل حركة من حركاته. وكان هو يضيق بكل ذلك، ولكنه لا يستطيع إلا أن يداهن ويداهن. . . ويبالغ في المداهنة، لشدة شغفه بحيرا، ولأنه كان يحس في الخضوع لها لذة أولمبية لا تعدلها لذة. . . إلا لذة تدليله لحبيبته يو
وكما كانت حيرا تمكر مكرها في كل حين، كذلك قد مكر الإله مكره. . .!
أراد أن يشغلها عنه بملهاة تذهب من وقتها كل يوم بساعات يقضيها في أحلامه الغرامية بين يدي يو، ملتذا قوامها الخصب، مستمتعا بجمالها الفينان، سابحا في هذه اللجة المترعة بالمفاتن، في كل جارحة من جسمها الممشوق
وقد سنحت له الحيلة. . .
حدثها عن فتاة ناضرة الشباب، ريانة الأهاب، عذبة اللسان، وقادة الجنان، تعرف من قصص الحياة وأنباء الدنيا ما لم يتيسر بعضه للآلهة أنفسهم! وكانت حيرا، ككل الأنثيات، مولعة بالثرثرة، مشغوفة بالمعرفة، تبغض الصمت وتغرم بالكلام الطويل الموشي. وهي مع ذاك طلعة، بقدر ما هي أذن، تتكلم كثيرا، وتثرثر كثيرا، وتسمع كثيرا
وانطلقت إلى الفتاة فشغفت بها لأول لقاء، ووجدتها، كما حدث زوجها فياضة القول غزيرة القصص، تتدفق في حديثها تدفق الخمر في الكأس، حتى إذا استقرت في مكانها من الجسم، شاعت حمياها فيه، فأطربت، وأرقصت، كأنها عصرت من حديث الفتاة!
ثم جعلت تتردد عليها؛ وما تكاد الفتاة تفرغ من إحدى قصصها العجيبة حتى تأخذ في أعجب منها وأغرب، وهي بين الآونة والأخرى ما تنى تنمق حديثها بالنكات البارعة، والملح الرائعة، مرسلة المثل في مقامهن والحكمة في موضعها، في غير كلفة ولا عناء. ثم هي كانت رقيقة دقيقة، لا تمل السامع ولا ترهق الناظر. وكانت تقبل على سمارها وكأنها تختص كلا منهم بقلبها، وكأنما تلقي إلى كل منهم بقرارة نفسها، حتى ليحسبها كل له وحده، بما يحسبه تؤثره به من عطف، وتغمره من ود، وتزجي إليه من محبة. . .
وكانت حيلة صائبة من زيوس، شغل بها حيرا طويلا، ليفرغ هو إلى يو. . . فيا للآلهة!!
ولكنها شعرت من زوجها لفحة الصد، وأحست فيه انقباضا وجفوة، فوقر في نفسها أن لا بد من أمر، وأن هناك سرا إي سر؛ فآلت لتكشفن ما تغفلها فيه
وبثت عيونها، وأرسلت أرصادها، حتى استوثقت مما كان بينه وبين يو، وحتى أدركت أنه قصد إلى إلهائها بهذه القصاصة الخبيثة ليفرغ هو إلى لباناته وأوطاره!
ولا تدري ما ذنب الفتاة التي ملأت أذني حيرا سحرا، ونفثت فيهما موسيقى وألحانا؟ لقد ظلمتها زوجة الإله الأكبر، التي تحمل بالباطل لقب حامية النساء وحافظة الأجنة، حين أقسمت لتسلبنها الطلاقة والذلاقة، ثم لتسلطن على لسانها العي والحصر يشقيانها ويعذبانها!
لقد كان كل ما اتهمت الفتاة به أنها كانت سببا في تمادي زوجها في غي حبه، وإبعاده في ضلالة هواه؛ فنفثت في عقد سحرها، ثم قصدت إلى الفتاة المسكينة فبهرتها، وأرسلت عليها شواظا من غضبها، وقذفتها من رقاها المهلكة، لم تستطع بعدها أن تلجلج لسانها بكلمة واحدة تفرج بها عما في نفسها. . .
وقهقهت حيرا حين حاولت الفتاة أن تتكلم فلم تستطع؛ ثم شاءت الخبيثة أن تظهر آية أخرى من آيات غدرها، فقالت، بعد أن نفثت ثانية: (أنا أسميك إيخو؛ وأمن عليك فأطلق لسانك باللفظة المفردة ترسلينها في ذيل كل كلام تسمعين. . . اللفظة الأخيرة فحسب يا إيخو. . .)
فرددت الفتاة المسكينة: (إيخو!!)
أما يو فقد نفذت إليها حيرا وصبت عليها جام سحرها ما تحولت به إلى بقرة فاقع لونها. .
تسوء الناظرين. ولهذا حديث طويل مشج ندعه الآن، لنرى ما كان من أمر إيخو. .
دهشت الفتاة لبيانها أين ذهب، ولصوتها الجميل أين ولى، وللرخامة الفضية التي كانت تترقق فن فمها الشتيت كيف ضاعت، ولهذا السحر الدنيء كيف قضى على أولئك جميعا؟!
لقد بكر كثيرا، وتوسلت الإلهة، ولكن. . . أين الإلهة؟ لقد تصاموا جميعا، لأن حيرا هي القاضية، ولأنهم يشفقو أن تفسد أسباب السماء كما أفسدت الأرض على عرائس البحر!
وأطلقت ساقيها للريح، فيممت شطر غابة ذات ماء وذات أفياء، ثم إنها اتخذت لها مأوى في أصل سنديانة ضخمة الجذع، معروشة الفروع، وارفة الأفنان، وأقامت ثمة تجير أحزانها وتسعر أشجانها، وتقابل بين ماضيها السعيد وحاضرها الشقي، وتسكب فيما بين هذا وذاك دموعا ساخنات وعبرات غاليات!
وبينما هي سادرة في كهفها، مستغرقة فيما آل إليه أمرها، إذا بصحب يافع من الشباب اليانع يمرون ببابها، من دون أن يروها، وهم يتحدثون أحاديث الصبى، ويتسامرون سمر الفتوة، ناعمين بأشهى مناعم الحياة
وظلت ترقبهم، وتستذكر أيامها الخوالي، إذا الشمل مجتمع، والرواد محدقون، مرهفة آذانهم، شاخصة أبصارهم، فاهتزت هزة المحموم بالشجن، المروع بالشجى!
وأطلت من كناسها، فرأت الغلام الإغريقي المشهور، (نركيسوس) الذي دله الإلهة بجماله، وتام عذارى أثينا بنضارته وإشراقه. رأته يتخلف عن أصاحبه، مأخوذ بجمال نرجسة حلوة اقتطفها من غصنها المياس وفنها المياد. ثم وقف يحدق فيها بعينيه المعسولتين، اللتين لونتهما شمس الجنوب بهذه الصبغة الساحرة، وكمنت ملأها يعاسيب الفتنة، تنتثر منهما في دنيا القلوب!
والسبيل إلى الغاب ملتوية متداخلة. . . تيه يضل فيه العابر، ويباب أخضر لا يهتدي فيه السائر؛ هنا منعرج لا يصل منه الإنسان إلى أمن، وهناك منحنى لا ينتهي إلى السلام. ولقد مضى الدليل مع الصحاب، ولبث تركيسوس وحده، يضرب أخماسا لأسداس
ولم تستطع إيخو حين أبصرت به أن تفلت من هذا الشرك المنتشر حوله، تعلق بخيوطه السحرية القلوب والألباب. . . فأحبته بكل قلبها، وأرسلت في نظراتها إليه نفسها تتمرغ تحت قدميه، وتهمهم بين قدميه، كأنها خلقت له. . . لا لها! ولكن كيف السبيل إلى التعبير عن هذا الهوى الملح والحب المخامر، ولسانها في عقال إلا من المقطع الأخير، ينطلق في إثر الحديث، أو اللفظة المفردة تردفها بصياح كل صائح، وهتاف كل هاتف؟!
وراحت تقتفي أثره، من غير أن تشعر هي، ودون أن يشعر هو! وتقص خطاه وهي لا تعي ما تفعل، وهو لا يدري كذلك؛ فكان دبيبها كدبيب القطا، أو كوثب الضفادع. على أن حركة غير مقصودة أتت بها إيخو جعلته يعتقد أن أحدا من سكان الغابة يتبعه، فصاح قائلا:
(من؟. . .)
فرددت المسكينة نداءه: (من؟. . .)
فقال: (هل من أحد هنا. . .؟)
وأسل هذا السؤال في رعب خفيف، فرددت إيخو اللفظة الأخيرة: (هنا. . .)
فبهت نركيسوس، وقال، وقد خال المتكلم امرأة:
(هلمي يا فتاة. . . هلمي. . .)
فرددت إيخو اللفظة الأخيرة. . . (هلمي. . .)
فزادت حيرته، وتضاعف خباله. . وقال:
(لم لا تأتين إلي، وليس هنا أحد يرى؟ ولا إنسان يشهد؟)
فثار كامن الهوى في نفس إيخو، وملأت اللفظة الأخيرة: (يشهد؟) بكل ما تركت لها حيرا في قرارة لسانها من رنين فضي، وجرس جميل. . .)
وعاد نركيسوس يقول: (يا فتاة! ليت شعري ما يحجزك؟ أين أنت إن كنت هكذا تستحين؟ تعالي)
وكأن إيخو أدركت أن الفرصة سانحة للقاء هذا الحبيب الطارئ، فبرزت من مكمنها من غير هيبة ولا وجل، وقصدت إليه، تعرض حبها ولظى جواها عليه؛ ولما لم يكن في مكنتها أن تخاطبه، لتكشف له عما تضمر من هيام به، ومحبة له، بدا لها أن تثب إلى حيث هو فتعانقه، وتضم صدره إلى صدرها، ليبث أحدهما إلى الآخر
ولم تكد تفعل حتى جهد نركيسوس في تخليص نفسه منها، ثم انطلق في الغابة لا يلوي على شيء، كالرئم المروع والظليم المفزع. . .!! وذلك أنه لم يجرب هذه المفاجأة بالحب، ولا وقع مرة في شراك غرام، وقد ربكته إيخو حين غمرته بكل حبها، فشرق به وغص، وقال: الفرار الفرار!
وتسلط الهم على قلبها فشقه، والشجن على جسمها الناحل فأضناه، وكانت صدمة هائلة صدعت جوانب نفسها، وزادتها نكالاً على نكال، ثم تتابعت الأيام وهي ما تزداد إلا سقاما. . .
واضمحلت. . . ثم اضمحلت. . . حتى غدت. . لا شيء!!
ولا شيء هذه ليست مبالغة فيما حل بها، إذ الصحيح إنها غدت لا شيء، إلا هذا الصدى يتردد في كل واد، ويذهب إثر كل نداء
وهي إلى اليوم تأوي إلى الغيران، وتتخلف إلى الشطئان، وتنحدر مع الريح على جنبات الجبال، تنعى همها، وتندب حظها في الناديين!
وشاءت المقادير أن تنتقم لإيخو المعذبة من هذا الشاب الجميل نركيسوس، الذي حطم قلبها الغض، وقضى على نفسها المحزونة. فبينما كان في طراد عظيم، في يوم قائظ، عرج على خميلة ناضرة ملتفة الأغصان، ليشرب من الغدير الصافي الذي يترقق من تحتها. . وما كاد ينحني إلى الماء حتى رأى صورته في صفحته الساكنة، فبهره حسنها، وأخذ يرمقها بقلب مشوق ونفس هائمة، وهو لا يعلم أن الحبيب الذي تامه إن هو إلا ظله، وعروس الماء التي تبلت فؤاده إن هي إلا خياله!!
عينان كبيرتان ذواتا أهاب زانهما وطف، وجبين واسع وضاء مشرق، وخدان أسيلان كخدود دربات الأولمب، وخمل حلو نابت فوق بشرة الوجه يزيده رونقا وجمالا، وثغر حبيب كأقحوانة أوشكت تتفتح، ترف حوله بسمة ساحرة من حين إلى حين، وذقن رقيق مستدق يرتفع على عنق يوناني رائع، ثم فتنة تغمر ذلك جميعا!!
خاطبه نركيسوس، ولكن. . . وا أسفاه! إنه لا يرد إلا تمتمة، ولا يجيب غلا كما تهمم الريح!
ومد يده. . فمد الخيال يده، واستطير صاحبنا من الفرح، ظانا أن حبيبته تواق إلى ما يريد!
واقترب بفمه، يريد قبلة، فاقترب الخيال بفمه كذلك. ولكن. . . يا لخيبة الأمل! ما كاد العاشق الولهان يمس الماء بشفتيه حتى ذهب حلمه أباديد، وتكسرت منى نفسه الحيرانة، وفر الخيال في شظايا الماء. . . وتحطمت الصورة الرائعة بددا!! وخيل لنركيسوس أنها تقول وهي تهتز، قبل أن تلتم: (لا. . . لا. . . لا. . . لا. . .)
ولبث عبثا يحاول قبلة، وتتكرر الآية كلما مست الماء شفتاه. . . فانطلق مغيظا محنقا، وهام في القفار على وجهه، لا يطيب لجفنه المسهد كرى، ولا يحلو لفمه المرير عيش، لجفاء الحبيب، ونفزة آسيه العجيب!؟
نركيسوس! الذي بلبل قلوب العذارى، وسفك دموع الحسان، وضرج كبرياء الغيد بالدم، وأذل البسمات التي طالما حملتها إليه أجنحة الحب من ثغور الفاتنات. . . نركيسوس، الذي ألقى بحب إيخو في التراب، تستبيه صورته، ويتصباه خياله، ويأسره ظله؛. . . فيالنقمة كيوبيد، ويالعدالة فينوس!!
لقد طفق يختلف إلى الغدير لدى كل شروق شمس، يناجي حبيبه المعبود وأمله المنشود، فلا ينثني إلا توارت بالحجاب!
وما انفك يشكو ويتوجع ويستعطف، وما انفك الخيال يتصام ويتباكم. وإذا تحدث تمتم!!
ثم. . .
أجل فلابد من ثم هذه. . .
ثم ذوى عوده، وذبلت نضرته، وتهدم جسمه، وتحطم قلبه، وتأرجحت روحه في حدقته،. . . و. . . دنت ساعته!
ووقفت إيخو في فتن وارف، في أيكة قريبة من الغدير، تشهد الفصل الأخير، من مأساة حياتهما. . .
وسمعته يقول مخاطبا ظله: (أيها الحبيب! أجل! لقد حق لك أن تنتصر على كبريائي، وتسحق مرتي وتهدأ أعضائي. . . هاأنذا أموت أيها الحبيب. . . بقربك. . . يا عروس الماء النافر. . . أموت. . . وأحبك. . . فالوداع. . . الودا. . . ع)
وبكت إيخو. . . . ورددت هذا الصدى الحبيب: (الودا. . . ع!)
وأقبلت عرائس الماء تنوح بدورها على نركيسوس، ثم ذهبت في أرجاء الغابة تجمع الحطب لإحراق الجثة، كما جرت بذلك العادة في ذاك الزمن. . . ولكن؛ يا للعجب! لقد عادت فما وجدت غير زهرة جميلة من أزهار النرجس! انحنت على صفحة الغدير تنظر فيه إلى ظلها. . . وتذرف دمعها. . . قطرة، قطرة. . .
دريني خشبة