مجلة الرسالة/العدد 94/في ربوع أمريكا الجنوبية
مجلة الرسالة/العدد 94/في ربوع أمريكا الجنوبية
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
عبر الأنديز الرائعة:
لقد كان من أحلامي التي خلتها منذ أمد بعيد خيالا بعيد المنال، أن أعبر جبال الأنديز وأمتع النظر بمشهد (أكونكاجوا) ثانية ذرى العالم علوا، وكانت تعاودني تلك الأمنية سنة بعد أخرى، حتى شاءت المقادير فحققت لي ذاك الأمل في الصيف الماضي، وكم كثرت الأراجيف وأنا على ظهر الباخرة إلى (الأرجنتين) بأن الطريق معطل ولن يمكن عبوره اليوم، وما كدت أصل بونس إيرس حتى قصدت على الفور دار للسياحة مستعلما، فقيل لي إن الطريق معطل على أثر السيول والثلوج التي اجتاحت منه أثنى عشر ميلا بقطرها ومحاطها وقناطرها، ولن يمكن عبوره في ذاك الجزء إلا على متون البغال الممضة وسط الثلوج الرهيبة مدى أسبوع، فأخذتني الدهشة، وكاد يتطرق اليأس إلي، لكني عدت فاعتزمت القيام بتلك التجربة حتى لا أحرم رؤية مجاهل الأنديز الرهيبة، وبعد لأي ما قبلت شركة السياحة أن تبيعني التذكرة، وقد اشترطت ألا تتحمل أية مسئولية إذا حدث لي حادث في الطريق، وكم سرح الخيال في تلك المجاهل بقية يوم السبت وطيلة الأحد، فكان تارة يبدو الأمر قاتما مخيفا، وطورا يضيء الأمل فتبدو الرحلة ناجحة شائقة. قصدت دار الشركة صباح الاثنين لأتسلم التذكرة، وما كاد يراني الرجل حتى صاح باسما أن قد فتح الطريق لأول مرة، وأني سأعبر المنطقة المنهارة على السيارات المريحة بدل البغال الخطرة، وذاك أول يوم يستأنف فيه السفر المأمون بعد أكثر من نصف عام، ومن العجيب أني لم أقابل ذاك النبأ بما يستحقه من الفرح والبهجة إذ كانت النفس تطمح إلى ركوب البغال وسط الثلوج فتكون مخاطرة جديرة بالتجربة. ابتعت التذكرة إلى سانتياجو ودفعت زهاء ستة عسر جنيها مصريا ثمنا لها
قمنا في الساعة السابعة صباحا بالسيارة نبرح مندوزا صوب جبال النديز وما كدنا نغادر جوانب البلدة حتى أوغلنا في سهول شبه صحراوية، يكسوها الحصى وتتخللها أعشاب وشجيرات قصيرة شائكة يابسة، وكانت تقوم جبال الأنديز أمامنا في صفحة قاتمة منفرة عريت من النبت، ولبثنا نسير صعدا على ليات أحد وديانها الغائرة الجافة حتى فاجأنا شبه سهل في وسط الجبال، به بعض الزرع والشجر الأخضر فبدا كأنه الواحة وسط الصحراء وتلك محطة (أسباياتا وهنا بدت الجبال العاتية تكسوها الثلوج المشرقة يسيل ماؤها في واد ضيق، جوانبه مشرفة عاتية مجدبة، ويجري في أسفله ماء شحيح - وهو نهر مندوزاً - وهذا ممر اسباياتا الذي سلكه الإنسان منذ حل أمريكا في العصور البائدة مخترقا به تلك الجبال، ولما جاء الأسبان اتخذوه طريقهم على متون البغال ثلاثة قرون، حتى أقيمت سكة الحديد، وقد شاهدنا قنطرة صغيرة محدبة من عمل الهنود الحمر قديما ولا يزال يسميه القوم أي طريق الأنديز) بعد ذلك أخذن السيارة تصعد في منعطفات وعرة دونها هوى سحيقة وأمامها نجاد شاهقة تجللها الثلوج الناصعة في مشهد يأخذ بالألباب، وكثيرا ما كنا نلمح على بعد جواناكو يسرع بالهروب بمجرد إحساسه بنا وهو كاللاما من فصيلة الجمال، وبعد مسيرة ست ساعات بسياراتنا وصلنا محطة: لاس فاكاس: وكنا نشاهد فلول القضبان والقناطر مهشمة أيما تهشيم
وقفنا نتظر القطار والريح عاصفة والبرد قارس زمهرير، وكنا نرى على بعد قمة بهامتها المدببة البيضاء وهي من أعلى ذرى الأنديز إذ يبلغ علوها 22136 قدما
أقبل القطار مقدمه مغطى بالثلوج كأنه يحمل وسقا من الجليد الناصع، وحللت مكاني من الدرجة الأولى وهي تقارب الدرجة الثانية عندنا، وليس بالقطار سوى درجتين، وكان قد أمضني الجوع إذ كانت الساعة الثانية بعد الظهر فلجأت فورا إلى عربة الطعام وتناولت الغداء الشهي الجيد، وكان ثمنه زهيدا لا يجاوز ثمانية قروش، وذلك من أثر الرخص الذي كنا نسمع عنه في بلاد شيلي. وفي منتصف الطعام فاجأنا منظر غريب: مجموعة من أسنان الصخر بعضها فوق بعض تتوجها صخرة كبيرة حاكت الدير على بعد، والأسنان شابهت الرهبان الصاعدين إليه، ومن ثم أطلق عليها القوم اسم ثم وقف بنا القطار في محطة (بونتادل أنكاس) ومعناها جسر الأنكا، فنزلنا سراعا نحو الجسر العجيب، فإذا به صخرة متصلة بالجوانب، تحتها واد فسيح يجري به ماء، بعضه مستمد من عيون حارة عظيمة النفع في الاستشفاء، والجسر طبيعي عظيم الاتساع، يمكن ثلاث عربات متجاورة من المرور، فعرضه تسعون قدما وعله 65 وسمكه 70 وقد عرف منذ القرن الخامس عشر وأحيط بالخرافات وأنه مقر الأبالسة في عرف الهنود الحمر، وأطلق عليه اسم أحد قواد الأنكا توباك توباكوي وقد وقفنا بعد قيام القطار نترقب قمة (أكونكا جوا) أعلى ذرى الدنيا الجديدة (23300 قدم) وأول ما تسم الإنسان هامتها في 14 يناير سنة 1897 ظهرت تشمخ باسقة في السماء ومن حولها جمهرة من الذرى الأخرى يجللها جميعا بياض الثلج الناصع، وبين فترة وأخرى كان يحلق فوق رءوسنا طائر الهائل ملك المرتفعات وأقدر الحيوانات على احتمال عصف الريح وقر البرد، وكان الثلج يسود الأرجاء كلها، اللهم إلا في بعض الشجيرات القصيرة ونبات الصبار (الكا كتاس) في شكله العجيب وكأنه اسطوانات تقوم متجاورة، ويكسوها زغب من شوك طويل، وكنا كلما تقدمنا زادت كثافة الثلج حتى أن القطار كان يجري بين جدران خانق من الجليد الناصع كاد يغطي العربات إلى نصف ارتفاعها. وفي محطة: (لاس خويفاس) دخل القطار ظلة أقيمت من الحديد المجزع تفاديا من ثقل الثلج، وهنا تعددت الربى، فكانت كأنها الهامات الشم جللها الشيب الناصع، ومن ألسنة جليدها كان يسيل لعابها في زرقة مستملحة يزينها زبد أبيض، وكم تكاثر الثلج على أسلاك غلاظ وصفائح قاسية فقوضها، وأنت ترى بقع الثلج الأبيض كمندوف القطن تملأ التجاويف الواحدة تحت الأخرى فيذيبها، وقد يجمد بعض الماء فيظهر في زوائد وأسنان بلورية، وفي الهوى الغائرة يتجمع الماء ويجري في واد ضيق، وفي كثير من البقاع كان للقطار نفق من حديد مخافة تكاثر الثلج، وفي هذا الجزء كان القطار يسير على ثلاثة قضبان، الأوسط منها مسنن لكي تستبك به تروسه خشية وعورة المنحدر. دخل بنا القطار نفق طوله ميلان تقريبا، ومن غريب المصادفات أن ارتفاعه عن سطح البحر ميلان أيضا، وهو أعلى جهات سكة الحديد، فهي هنا 10512 فوق سطح البحر وفي وسط النفق الحد الفاصل بين الأرجنتين وشيلي، وبمجرد عبور القطار بنا هذا الحد داخل النفق، سمعنا صليل أجراس تدق من تلقاء نفسها عندما يضغط القطار على أسلاكها وذلك إيذانا بتخطي الحدود. ولما أن خرج القطار من النفق إلى ضوء الشمس أشار القوم أن هاهو (الكريستو) إلى يميننا، وهو تمثال هائل للمسيح أقيم في سنة 1904 حينما أحتكم الخصمان في مشكلة الحدود إلى ملك إنجلترا إدوارد السابع، والذي توسط في حسم النزاع وعرضه للتحكيم نساء الفريقين وقساوستهم على أن تنفق نقود الحرب في تحسين الطرق على الأندييز، وبجزء من ذلك المال أقيمت سكة الحديد. ثم اكتتبوا لهذا التمثال، وقضى ملك الإنجليز بجعل الحد عند تقسيم المياه بين الدولتين، وهي هنا على علو 12800 قدم، والتمثال من البرنز القاتم صيغ من بعض المدافع الحربية القديمة التي أخذوها من الأسبان في حرب الاستقلال رمز للسلم وتحطيم أدوات الحرب، ويقوم على قاعدة من جرانيت وعلوه 26 قدما، وقد نقش على قاعدة التمثال، وتحت أقدام المسيح ما معناه:
(لقد أقسم رجال الأمتين بين يدي المسيح ألا ينقض عهد السلام بينهما، حتى ولو دكت تلك الجبال فصارت هباء). على أن التمثال كادت تكسوه الثلوج فتخفيه. أخذنا في الانخفاض من منحدر وعر، ما كان القطار ليستطيعه لولا القضبان المسننة، ومن دوننا وادي أكونكاجوا الغائر، بين محطتي كارا كولس، بورتيليو، فاجأتنا مجاميع الربى في تعقيد رهيب تتوسطها بحيرة الانكا على علو 9000 قدم، ويقولون بأن ماءها ثابت المقدار لا يزيد ولا ينقص طيلة العام وذاك ما زاد قدسيتها عند الهنود! ولن يستطيع قلم مهما أوتي من البيان والإفصاح أن يعرب عما يحسه المسافر من رهبة وجلال تتمثل في عظمتهما القدرة الإلهية التي تزرى بكل شيء، وما الوصف بمجدي شيئا، فلن يأخذ القارئ من قولي ألا قبسا ضئيلا، وعليه إذا أراد الوقوف على شيء منها أن يمتع نظره بمرآها كي يحس بما أحسست. ويقولون أن أجمل ما ترى مناظر الصخور وأروعها في العالم بين تينك المحطتين. أخذنا نمر بالمحاط الشيلية، وكلما هبطنا ندر الثلج وزادت القرى وتعددت المسايل المائية، وقد بدا هذا الجانب من الجبال أغنى بعناصر الحياة بين إنسان وحيوان ونبت وشجر من الجانب الشرقي، لأن رياح الباسفيك تدر عليه من بللها ماءا وفيرا على نقيض الجانب الآخر الشرقي. ومن الأنهار التي استرعت نظرنا (الريو بلانكو) أو النهر الأبيض، وسمي كذلك لكثرة ما يعترض ماءه من صخور يرغي فوقها فيبدو أبيض ناصعا. ثم وقفنا طويلا في محطة وعندها غيرنا القطار الضيق إلى آخر. ثم خيم المساء فحرمنا بقية الاستمتاع بجمال الطبيعة بين هذه وسنتياجو، ولقد غيرنا القطار مرة أخرى وفي محطة (لاي لاي) وهنا يرى أول قبس من مياه المحيط الهادي إلى يمين المسافر
وفي منتصف الثانية عشر مساء دخلنا سانتياجو بعد مسيرة زهاء سبع عشرة ساعة من مندوزا أو سبع وثلاثين ساعة من بونس إيرس، وكان مقدرا لعبور القارة كلها من بنيس إيرس إلى سانتياجو ثلاثون ساعة بالقطار مسافة قدرها 888 ميلا أو تزيد محمد ثابت