مجلة الرسالة/العدد 876/مكافحة الأمية بين الكبار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 876/مكافحة الأمية بين الكبار

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 04 - 1950



أوجه النقص في النظام الحاضر وأوجه الإصلاح المرتقبة

للأستاذ هاشم عساف

تعنى وزارة المعارف في الوقت الحاضر، وعلى رأسها العالم الجليل، معالي الدكتور طه حسين بك، ببحث أنظمة التعليم في البلاد، ومن بينها بغير شك التعليم الأولي ومكافحة الأمية.

ولما كنت وثيق الصلة بموضوع تعليم الكبار بوصفي مديراً لأحد المراكز الثقافية التابعة لمؤسسة الثقافة الشعبية، فإني أبادر إلى الإدلاء، فيما يلي، ببعض الملاحظات والمقترحات عساها تلقى بعض الاعتبار لدى ولاة الأمور عند النظر في هذا الموضوع الخطير

1 - الواقع أن جميع من ينطبق عليهم قانون مكافحة الأمية، هم من الفقراء الذين لم تساعدهم ظروفهم في السنين الأولى من حياتهم على الالتحاق بالمدارس الأولية، وهي بالمجان، إما لجهل والديهم بقيمة التعليم، أو لحاجتهم إليهم في اكتساب القليل من القروش لمعاونتهم في معاشهم، أو لفقد عائليهم واضطرارهم إلى كسب قوتهم مبكرين. وحسبنا لإدراك ما هم فيه من فقر أن نعلم أنهم لم يكونوا ليستطيعوا، إبان طفولتهم، الاستغناء عن ساعات يقضونها كل يوم في المدارس الأولية؛ فكيف بهم الآن وقد أصبحوا يافعين، وقويت سواعدهم على العمل، واشتدت حاجتهم لكسب القوت؟

2 - المعروف حتى الآن أن الجهات الرسمية مازالت تنظر إلى مكافحة الأمية من معناها الضيق. أي أنها تقصرها على معرة القراءة والكتابة، وتجعل ذلك غاية لا وسيلة؛ فالطالب في هذه السن، وحالته المادية كما ذرت، غالباً ما يكون مرهقاً بالعمال والكد في سبيل العيش لنفسه ولمن يعول، فلن تجديه المدة التي يقضيها في التعليم نفعاً سواء أطالت أم قصرت، والتعليم على هذه الصورة المعهودة من الجفاف، وهو إذ يذهب إلى المدرسة يذهب مرغماً بحكم القانون، ولكنه يتمنى أن يترك وشأنه ليستغل هذا الوقت في اكتساب قرش أكثر له ولعياله بدلا من ضياعه سدى في شيء يراه كمالياً بالنسبة لحالته. وكأني به يحدث نفسه فيقول: (ما هي الفائدة التي سوف تعود على من تعلم القراءة والكتابة؟ أهي في قراءة الكتب والجرائد والمجلات؟ أم هي في تحرير الرسائل وإمساك الدفاتر؟. إ غنى عن ذلك جميعاً. . إنني في حاجة إلى ما يقيم الأولاد ويغني من الجوع. . الأجدر بكم أيها الحكام أن تتركوا الأميين أحرارا ليكدحوا في هذه السويعات، ويبتغوا من فضل الله لعلهم يرزقون.

3 - لهذا عمد هؤلاء الأفراد إلى التهرب بشتى الوسائل والحيل من الانتظام في مدارس مكافحة الأمية، بل لقد تحملوا بعض الغرامات ولكنهم لم يعدلوا عن رأيهم في هذا النوع من التعليم، وتمادوا في العصيان حتى اضطر القائمون بالأمر إلى تغطية الموقف بوسائل ليس هنا مجال سردها، ولكن أقل ما يقال عنها أنها بعيدة كل البعد عما قصد إليه القانون. وإن كانت هذه الوسائل قد أكسبت النظام مسحة ظاهرة من النجاح، فإن حقيقة الأمر أن المظهر يخالف المخبر على خط مستقيم. ولو أعطى هؤلاء السادة حرية في القول وسئلوا عما في دخيلة أنفسهم لأجابوا بغير تردد أن هذا النظام فاشل ولم يؤد رسالته.

4 - إن المفروض، على رغم ما في نظام المكافحة الحالي من عيوب، أن يتناقص عدد الأمين عاما بعد عام ولو بنسبة ضئيلة؛ ولكن الحقيقة المؤلمة، أن عدد الأميين، على عكس ذلك، يزداد زيادة مطردة بما يضاف إلى قائمتهم في كل عام من أشخاص تعدت سنهم حد الإلزام، ولما يستطيعوا، لسبب أو لأكثر، تعلم القراءة والكتابة!. . هؤلاء هم معاول الهدم في مكافحة الأمية، ولن يستطيع أي نظام بالغاً ما بلغ من دقة وأحكام، أن يصل إلى الغاية المرجوة، ما دام هذا النبع يغذي بغيضة الذي لا ينفد جحافل الأميين!

5 - إن الآراء الحديثة قد توسعت في تعريف الأمية توسعاً كبيراً حتى صارت هذه الكلمة تطلق على الجهل بأي نوع من أنواع العلوم والفنون أو الصناعات. فإلى جانب الأمية الأبجدية أو الهجائية، توجد هناك أميات اجتماعية وسياسية وصحية وفنية ومهنية وهكذا. . ويعتبر على هذا القياس أمياً كل من كانت به جهالة للعلم في أي ناحية من نواحيه المعروفة. وكلما كثر هؤلاء الأشخاص في أمة من الأمم، قيل إن الأمية من نوع كذا تتفشى بين أفرادها ووجب على أولى الأمر مكافحتها.

6 - على ضوء هذا المعنى يجب أن تعالج المكافحة. واغلب الظن أن هذا هو الاتجاه الذي تتجه إليه هيئة اليونسكو في الوقت الحاضر. فلقد قامت هذه الهيئة بجهود جبارة لمكافحة الأميات مجتمعة في وادي (ماريبال) بجزيرة (هاييتي) إحدى جزر الهند الغربية أتت بأحسن النتائج وأطيب الثمرات.

ونحن في مصر، ما أكثر هذه الأميات في بلادنا! فإذا أريد الإصلاح حقا، وإذا أريد أن يكون الإصلاح شاملاً، وإذا أريد أن تكون المكافحة مجدية، فليكن نصب أعيننا وضع ضمان لكسب القوت. . ولن يتأتى ذلك إلا إذا كوفحت هذه الأميات، وبينها الأمية الهجائية، مجتمعة في آن واحد. وتوضيحاً لذلك أقول:

إذا علم الرجل الأمي، وهو فقير طبعاً، أنه حينما يذهب لمدارس المكافحة، يتعلم إلى جانب القراءة والكتابة، صناعة أو حرفة، تفتح له أبواب الرزق الحلال، وتقيه شر العوز؛ وإذا علم أنه سوف يتلقى دروساً مبسطة في الدين والأخلاق والصحة والاجتماع مثلاً، لترفع من شأنه كإنسان، وتجعله مواطناً صالحاً نافعاً لنفسه ولأهله ولوطنه. . إذا علم كل ذلك، أقبل برغبة صادقة، بل بشغف ونهم، على تعلم القراءة ولكتابة، ولأصبحت القراءة عنده والحالة هذه وسيلة يستعين بها على تفهم واستيعاب ما يلقى إليه من دروس.

ومتى استقر هذا الرأي في الأذهان، ورؤى الأخذ به، فإني أرى، قبل البدء في تنفيذه، العمل على تحقيق ما يأتي:

(1) تعديل نظام التعليم الأولي تعديلاً جامعاً بحيث لا يتأنى لأي شخص أن يفلت منه في نهاية المدة وهو على ما كان عليه من الأمية الهجائية. .

(2) تعديل قانون مكافحة الأمية بحيث يشتمل على الدراسات الآنف ذكرها.

(3) جعل مدة الدراسة في المكافحة ثلاث سنوات بدلاً من سنتين حتى يصير الطالب في نهايتها ملماً في القراءة والكتابة متقناً للصناعة التي تخيرها.

(4) جعل سن المكافحة تبدأ من السادسة عشرة، وأن يتمشى قانون التعليم الإلزامي مع هذا التحديد.

(5) جعل مناهج الدراسة مرنة بحيث تتفق والبيئات وحاجات البلاد.

(6) السير بالتدريج في تطبيق القاعدة الجديدة بحيث تبدأ أولاً في المدن الكبيرة، وعواصم المديريات، ثم تنتقل إلى المدن الصغيرة فالقرى.

(7) أن تتكفل الحكومة بجميع الخامات والأدوات اللازمة للعمل.

(8) صرف أجور الطلاب عن إنتاجهم بالورش على سبيل التشجيع.

(9) تقديم واجبات خفيفة لهم أثناء الدراسة أسوة بتلاميذ المدارس الأولية.

(10) إعطاء شهادات لهم في نهاية الدراسة، غير ملزمة للحكومة بشيء، كي تساعدهم في البحث عن عمل.

7 - هذا النوع من التعليم يختلف اختلافاً بينيا عن تعليم الصغار الذي تقوم به مراقبة التعليم الأولي أو المراقبات الأخرى بالوزارة. ولقد عينت به الدول الراقية عناية كبيرة، فخصصت له دراسات ومناهج معينة، وحتمت الإلمام بها على الأشخاص الذين سيوكل إليهم أمر تعليم الكبار.

والهيئة الوحيدة في مصر الآن التي تمارس هذا التعليم، واكتسب رجالها خبرة ومراناً في هذه الناحية، ولقد جاء في المرسوم الملكي الخاص بإنشائها ما يلي:

(العمل على نشر الثقافة العامة بين أفراد الشعب) كما جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع إنشائها (. وهي في هذا تهدف إلى تعليم الكبار وتثقيفهم.) وفي موضع آخر (. بل ترمي إلى أن يمتد نشاطها إلى سائر المدن ويتغلغل بقدر الإمكان إلى صميم الريف. كما تهدف إلى توجيه من يشاء توجيهاً مهنياً مثمراً.).

وما دامت هذه هي مهمة مؤسسة الثقافة الشعبية، وتلك هي أغراضها، وذلك هو عملها، فلماذا يوكل أمر تعليم الكبار القراءة والكتابة إلى غيرها؟ ولماذا تتعدد الأيدي التي تعالج هذا الموضوع فتتوزع الجهود وتذهب جفاه

ألا يجدر بأولى الأمر أن يعملوا على توحيد الجهود وتركيزها في إدارة واحدة، تقوم بالإشراف على هذا النوع من التعليم في شتى نواحيه حتى يؤتي الثمرة المطلوبة؟

إن الصالح العام، وكل الظروف، فنية كانت أو إدارية، تقتضي أن تكون مكافحة الأميات المختلفة، هي المهمة الرئيسية لهذه المؤسسة. ويجب أن يدور على هذا المحور كل نشاطها. أما مهمة تزويد القارئين فعلاً بالثقافة العامة فينبغي أن تكون في المحل الثاني.

وعندي أنه متى أخذت الحكومة بهذا الرأي، وبدأت المعاهد والمراكز الثقافية في العمل على النحو المقترح، فأخرجت للبلاد بعد ثلاث سنوات عدداً لا يتجاوز الألف في جميع أنحاء القطر من أفراد يجيدون القراءة والكتابة، ويتقنون صناعة ما، ثم يلمون بنبذة من تاريخ بلادهم، ولمحة عن المسائل الصحية والاجتماعية الضرورية، وجملة من مبادئ الدين والأخلاق لكان. . . ذلك العدد مع ضآلته، نواة صالحة ستزداد على مر الأيام، لخلق مجتمع ناهض قوي، مزود بكافة الأسلحة التي تعينه على رفع مستواه، وإبراء نفسه بنفسه من أعدائه الثلاثة وهي الفقر والجهل والمرض. والله ولي التوفيق

هاشم عساف

مدير مركز سوهاج الثقافي