مجلة الرسالة/العدد 876/الشعر المصري في مائة عام:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 876/الشعر المصري في مائة عام:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 04 - 1950



علي الليثي

للأستاذ محمد سيد كيلاني

1822 - 1896

- 3 -

ولليثي قصيدة نظمها في حادثة قمر النيل المشهورة واستقالة وزارة رياض باشا. وهي لا تقل عن تلك التي تحدثنا عنه في صدق العاطفة وقوة الإحساس. ومطلعها:

العيد وافي وحسن الحال منتظم ... والأمن عم وكل الناس قد نعموا

وإنجاب عن مصر ليل مد غيهبه ... تنميق واش بنصح صبحه حكم

يا طالما قد سعي الساعون وارتقبوا ... شق العصا وزفير الغيظ محتدم

لولا الأناة ولولا الحزم لابتهجت ... نفوسهم وعرى التدبير تنقصم

كل له غرض فيما ينقعه ... والألمعي يرى ما ضعه الكلم

ماذا عليهم إذا ما سيد كرما ... أغضى وأرضى رعاياه وسرهم

هكذا بدأ الليثي قصيدته، فهو في هذه الأبيات فرح مبتهج لحلول الأمن والطمأنينة بعد فترة من الخوف والهلع سادت بين المصريين قبيل حادثة قصر النيل، ويشير إلى دسائس العنصر الجركسي وبخاصة عثمان رفقي باشا وسعيهم في الإيقاع بين الخديو والعرابيين. وينوه بحلم الخديو وعفوه. وهو في هذا غير متكلف ولا متصنع بل أنه ليرسل القول من أعماق فؤاده.

ومنها:

الصفح والعفو أولى ما يزول به ... داعي التنافر والأحوال تلتئم

هذا فتى الحلم توفيق الزمان بدا ... من حلمه ما انثنت عن حلمه الأمم

فهل رأيت مليكاً في شبيبته ... قد سهل الصعب حتى كاد يتهم

سمح الخليقة رحب الصدر ذو أدب ... لم يعمل السيف فيما يعمل القلم

حرصاً على العدل لم يعجل ببادرة ... عند الحفيظة حيث الغير ينتق وليس في هذه الأبيات من المعاني سوى مدح الخديوي بالحلم وقد أطنب في هذا كما ترى ولعل السر في ذلك هو الفرح الذي طغى على المصريين حين تخلصوا من وزارة رياض وظفروا بوزارة شريف التي عملت على إرضاء الشعب بانتهاج خطة الإصلاح. فلا عجب إذا اندفع الليثي يشيد بحلم الخديوي ويطيل في الإشادة.

ومنها:

لما رأى جنده من شبهة عرضت ... قد عارضوا واتقوا بالحزم واحتزموا

يوم العروبة إذ شوال منتصف ... راموا انتصافا وكاد السلم ينحسم

أجاب سؤلهم وهو الجدير به ... فقابلوه بحسن الحمد واحترموا

وقبلوا سدة سادت بأخمصه ... في موقف تتقيه العرب والعجم

وعاضهم من رياض غرس أنعمه ... وهيئة في نظام الملك قد خدموا

وفي هذه الأبيات ترى الشاعر يقف في صفوف العرابيين فيصف ثورتهم وهجومهم على قصر النيل بأنها شبهة لهم ويدافع عنهم بقوله (راموا انتصافاً). فهو يقرر بأنهم كانوا مظلومين مغبونين، وأنهم قاموا لإزالة ما هو واقع بهم من الجور والطغيان

ولا شك في أن الشاعر قد أغضب الخديوي في هذه الأبيات التي كشف فيها عن موقفه من الحركة العرابية. وتتجلى عاطفة الليثي بصورة أوضح في هذه الأبيات:

وهب لجندك ما قد كان وارعهم ... بعين أروع سيما طبعه الكرم

هب أنهم أخطئوا لم يستخف بهم ... خوف به ثورة الأحشاء تضطرم

فكان ما كان من أمر مغبته ... والحمد لله لم يلمم بها ألم

رفقاً وعطفاً وبالصفح الجميل أعد ... عادات بر لهم في عودها عشم

فهم لملوك أنصار وهم عدد ... عند الوغى ومثار النقع مرتكم

وهم سيوفك في يوم يفر به ... قلب الجبان وموج الحرب يلتطم

وهم دروع رعاياك الذين لهم ... في وصف معناك ما تعنو له الأمم

حاشاك مولاي أن تصغي لذي غرض ... لديه سيان من يحيى وينعدم

لن تجد شاعراً واحداً دافع عن العرابيين في هذا الموقف غير الليثي. وهو يظهر في هذه الأبيات في الثوب الوطني المخلص الذي يفيض حباً لبلاده وغيرة على وطنه. فهو يخاطب الخديوي محاولاً التهوين من شأن تلك الحادثة الخطيرة، مجتهداً في التقليل من قيمتها.

ويذكره في نفس الوقت بأن الجيش هو درعه الوحيد الذي يلجأ إليه عند الشدائد والخطوب. فلا بد من العطف على رجال الجيش والإحسان إليهم وعدم الالتفات إلى الوشايات التي كان يسعى الجراكسة بها في حق المصريين. وهذه من غير شك وقفة مشرفة من وقفات الليثي انفرد بها دون سواه من شعراء عصره.

وقد مدح الليثي الخديوي توفيق في أغسطس من عام 1883 م بقصيدة مطلعها:

ساعد الجد والمراد تيسر ... وصفاء الزمان كالصبح أسفر

ثم بنا ننتشق حدائق أنس ... روحها بالذي يسرك نور

ننتهز فرصة فليل الأماني ... بعد يأس قد استنار وأقمر

وفي هذه الأبيات يبدو الشاعر فرحاً مسروراً، متغنياً بالصفاء الذي جاء بعد الكدر، والرخاء الذي أعقب الضيق، وانبثاق نور الأماني بعد انقشاع ظلمات اليأس. وذلك على أثر تحسن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية عقيب الاحتلال. وقد تغنى شعراء كثيرون بما أصاب البلاد من الرخاء. والليثي أحد هؤلاء الذين نسوا الاستقلال المفقود وألهاهم الصفاء والرخاء عن تحكم البريطانيين في مرافق البلاد. ثم قال:

شنف السمع واطرب الجمع وانثر ... من بديع المقال حبات جوهر

وانعت الحالة التي أنت يفها ... ناعم البال بالسرور مؤزر

في زمان حلا كرشف رضاب ... من حبيب بغير وعد تيسر

أو مدام أدارها بدر تم ... من رأى شمسها فلا يتكدر

فالتواني حليفه العجز فانشط ... للتهاني عساك بالأنس تظفر

نشأ الليثي في مجالس اللهو والسرور، وطبع على حياة المرح والطرب بين المغنيين والمغنيات، فلذلك تراه يكثر في شعره من ذكر العبارات والصور التي يستمدها من هذا الجو المرح الطروب كتشنيف السمع، وإطراب الجمع، ورشف رضاب الحبيب، وشرب المدام، وذكر النديم، وأخي السمر ومجالس الأنس ووقت الصفاء، إلى غير ذلك مما توحيه إليه بيئته التي عاش فيها وقد أثرت هذه البيئة في شعره وخياله وأفكاره ومعانيه، وطبعته بطابع خاص انظر إليه حين يقول: حديثه بين أرباب النهى سمر ... يعزوه للمجد منقول ومعقول

أوحين يقول:

فاسمح فديتك فالأوقات آنسة ... والحظ اقبل بالإسعاد طالعه

أوحين يقول:

بها تزف الأماني في مواكبها ... لكل راج ويرعاها أخو السمر

والأنس دار بأقداح السرور وقد ... حيي الرعية واستملى أخا النظر

تجده يذكر (السمر) و (الأنس) و (أقداح السرور) وهذا من غير شك وليد الوسط الذي درج فيه

وكانت مجالس الأنس والسرور تعقد في الحدائق بين الأزهار والرياحين والجداول والطيور والأشجار. وقد أثرت هذه المناظر في خيال الليثي فأكثر من التغني بها في شعره، ومثال ذلك قوله:

والدهر وافي بما كنا نؤمله ... والروض غنت كما تهوى سواجعه

طافت جداوله بالدوح ساقية ... كأنه طفلها تحنو فترضعه

تشدو على عودها الورقا كائن لها ... إلفا يردد شكواه تراجعه

وبلبل الأيك أبدى لحنه طرباً ... فرنح الغصن حتى قام راكعه

وللنسيم بهاتيك الربا أرب ... إن مر يحلو ونفح الطيب ضائعه

فهذه الصور التي جاء بها هنا قد أخذها من الواقع الذي يحيط به في حدائقه الخاصة وبساتينه، وفي حدائق إسماعيل ومتنزهاته ورياضه، وفي حدائق الأمراء والكبراء الذين كان يغشى دورهم. وقد أعجبني من هذه الأبيات قوله:

طافت جداوله بالدوح ساقية ... كأنه طفلها تحنو عليه فترضعه

فتشبيه الجدول حين يسقى الدوح بأم ترضع طفلها يحمل صورة شعرية جميلة تجعلنا نعطف على تلك الأم وذلك الطفل.

وللشاعر قصيدة في رثاء عبد الله فكري مطلعها:

نذم المنايا وهي في النقد أعدل ... غداة انتقت مولى به الفضل يكمل

تخطت أناساً من كثير نعدهم ... وغالت وحيداً من قليل يحصل ونحن بني الدنيا نباين فعلها ... فلا تنتقى حراً عليه يعول

كأن المنايا في انتقاها خبيرة ... بكسب النفوس العاليات تعجل

وليس في الأبيات معنى جديد، بل هي بعض المعاني القديمة التي سبق إليها منذ قرون، لم يحسن أدائها، ولم يوفق إلى صياغتها في أسلوب جيد ولا في عبارة قوية. وقد شاع بين شعراء هذا الدور افتتاح قصائد الرثاء بمثل هذه الديباجة التي يذمون فيها المنايا ويتحدثون عن خبرتها في انتقاء الأخيار والأفاضل

ثم قال:

فّتم لها من منتقى الدر حلية ... بها العالم العلوي أنساً يهلل

وتم نظام العقد وازينت به ... نحور يدور الحور وهو مفصل

وكل بعبد الله فكري مهم ... ينافس فيه غيره حيث ينزل

فما شغلته عن شهود مليكه ... ومن كان عند الله لا يتحول

دعاه بشير القرب أن جد للقا ... لتحظى بما قد كنت ترجو وتأمل

فأهداه طيب الروح وارتاح للبقا ... ومن يطلب الأعلى له النفس يبذل

وحل مقاماً لا يحيا بمثله ... سوى مهتد يرعى الكمال ويعدل

في هذه الأبيات انتقل الليثي عن الدنيا إلى الآخرة وشاهد عبد الله فكري وقد التفت حوله حور العين وتنافسن في القرب منه والظفر بوصاله. وهذا عبث وهراء. وفضلاً عن ذلك عباراته جاءت في منتهى الضعف والسقم. وما أثقل قوله (نحور بدور الحور). ومن مظاهر إفلاسه اللغوي قوله (فتم لها من منتقى الدر حلية) وقوله في البيت الثاني (وتم نظام العقد) فكرر الفعل (تم) في بيتين متتاليين. وكذلك قوله (انتقت مولى) و (فلا تنتقي) و (كأن المنايا في انتقاها) و (فتم لها من منتقى فكأن اللغة وقد نضب معينها وضاعت مترادفاتها فلم يجد أمامه غير فعل واحد هو (انتقى) وقد اتخذ هذه الأبيات مقدمة مهد بها لانتقاله إلى وصف مناقب عبد الله فكري التي استحق بها هذا النعيم المقيم فقال:

غراس مساعيه جناه تنعما ... ومن ماء رحماه يعل ويتهل

لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا

لقد كان ذا بر عطوفا مهذبا ... سجاياه صفو القطر بل عي أمثل رقيق حواشي الطبع سهل محبب ... إلى كل قلب حيث كان مبجل

كريم السجايا لا الدنايا تشينه ... عظيم المزايا إذ يقول ويفعل

شمائله لو قسمت في زماننا ... على الناس لازدانوا بها وتجملوا

وهذه كلها من المعاني التافهة التي يحوم حولها الشعراء في مثل هذا المقام، ولا نحتاج إلى القول بأنها متكلفة مصطنعة.

ولن تجد الشاعر مهما بلغ به من الضعف مشقة في سرد مثل هذه النعوت. والذين رثوا عبد الله فكري اشتركوا في هذه المعاني فمنهم من أوجز ومنهم من أسهب. ومثال ذلك قول حفني ناصف:

باللطف واللين والدين الرصين له ... مقام سبق عليه قط ما غلبا

ما روح النفس بالدنيا مفاكهة ... إلا قضى من فروض الدين ما وجبا

قضى الحياة ونصر الدين دبدنه ... لا ينثني رهباً عنه ولا رغبا

وكان مغرى بفعل الخير يحسب في ... إسدائه أنه قد أدرك الأربا

وقد أطال الليثي على غير جدوى، وأتى بالمعنى القليل في لفظ كثير. فالمعنى الذي في قوله (رقيق حواشي الطبع. . .) هو عينه الذي في قوله (كريم السجايا. . .) وقول الليثي:

لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا

قريب جداً من قول حفني ناصف:

يا للطف واللين والدين الرصين له ... مقام سبق عليه قط ما غلبا

وعبارة حفني ناصف وهي (مقام سبق عليه قط ما غلبا. . .) أقوى بكثير من عبارة الليثي (بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا. . .)

ثم انتقل الليثي بعد ذلك إلى الإشادة بمكانة عبد الله في عالم الأدب فقال:

فقدنا محياه ولكن بيننا ... بديع مزاياه بها نتمثل

فكم من أدب غض وحسن ترسل ... لآياته عبد الحميد يذلل

فما الفاضل القاضي إذا جاش صدره ... وأبدع في معنى عليه يفضل

ومهما صبا الصابي وأبدى بدائعاً ... فإن ضجيج الحور منه لأكمل

وما أبن هلال حيثما حل بدره ... وأطلق مر الفكر إلا مكبل هكذا أمضى الليثي في غير تحفظ ولا احتراس يزري بعبد الحميد الكاتب، والقاضي الفاضل، وأبي إسحاق الصابئ، وأبي هلال الصابئ وهو من اجهل الناس بهؤلاء الكتاب. ولولا ضيق في خياله وضعف في تفكيره لما جاء بهذا اللغو الذي لا خير فيه. وأفضل منه قول مصطفى نجيب.

أقمت من الآداب نهجاً مسدداً ... قويماً فكل في الرثاء أديب

قلنا إن الليثي أزرى ببعض القدماء؛ أما حفني ناصف فقد كان اعقل بكثير من الليثي، فلم يحط من شأن القدماء، إنما حط من شأن معاصريه. والفكرتان تقومان على السلبية أي نفي وجود الأمثال والأشباه، ولم يزد الليثي على هذه الأبيات فاكتفى بالسلبية. أما حفني ناصف فكان كما سترى فيما بعد سلبياً وإيجابياً إلى حد بعيد. ولم يصدق لا في سلبيته ولا في إيجابيته.

وقال:

مدى من فقدناه عزيز مناله ... وآثاره فينا تضوع وتنقل

فلو أنصفتنا أنفس علقت بنا ... لحامت على نعش به البحر يحمل

يا لهف الخلان حيث فقدنه ... ويا لهف الأقران ماذا تحملوا

ويا لهف الآداب بعد عميدها ... ويا لهف الكتاب إن عن معضل

ويا لهف الإيناس من بعد نأيه ... ويا لهف الجلاس إن غص محفل

فو يا لهف مثلى وهو أولى تلهفاً ... على فقد من كنا به نتجمل

هكذا ندب الليثي عبد الله فكري وناح لموته ورثى لحال هؤلاء الذين فجعوا به من الخلان والأقران كما رثي لحال الآداب والكتاب والإيناس والجلاس. ولا يظهر على هذه الأبيات شعور داخلي مبعثه الأسى والحزن، بل ظهر عليها التكلف والتصنع. وكرر الفعل (فقد) فقال (مدى من فقدناه.) و (حيث فقدته) و (على فقد.) وهذا يدل كما ذكرنا سابقاً على خلو جعبته من المترادفات.

وقال:

خليلي الذي قد كان أدرى بخلتي ... وبدر أعنى الحادثات ويحمل

والليثي في هذا البيت يقول غير الواقع. ذلك لأنه كان أقرب الناس إلى الخديوين إسماعيل وتوفيق. وكانت داره كعبة يحج إليها أصحاب الحاجات. فهو الذي درأ الحادثات وحملها وجمع بين (خليل) و (خله) و (أدري) و (يدرأ) وهذا مما يوجب الثقل على اللسان والأذن. ثم قال:

نأى عن محبيه وأقسم جازماً ... بأن لا يؤوب الدهر ما طاب منزل

وأقسم كل من أخلاه موقناً ... بأنا إلى لقياه شوقاً سنرحل

كلانا بصدق بر عند يمينه ... وبالرغم ما قلنا وقال المكمل

وهذا لغر وعبث. يقول بأن عبد الله فكري أقسم ألا يعود ما صفا له العيش في الجنة. وأقسم خلانه على اللحاق به شوقاً إليه.

ويقول إن كليهما صادق في يمينه. وهذا هراء لا طائل وراءه.

وقال:

ولولا أمين المكرمات الذي إلى ... مخايله سر الأبوة ينقل

فتى المجد والعلياء والصدق والحيا ... وأوفى أمين يرتجي ويؤمل

يشم شذا المرحوم منه ويجتلي ... بغرته اليمن الذي يتهلل

لذبنا أسى مما عرانا من النوى ... ونحنا كما ناح الهديل المبتل

وفي هذه الأبيات انتقل الشاعر من البكاء على عبد الله فكري إلى التحدث عن أبنه. ولم يوفق إلى معنى جديد ولا إلى صورة لطيفة بل هوى إلى الحضيض. وقوله (يشم شذا المرحوم) من تعابير الدهماء. وقال:

عزاء عزاء أيها الشهم واحتسب ... وأيقن بأن الله ما شاء يفعل

تجلد ولا تبد التضجر والأسى ... فانك ممن للمعالي يؤهل

فمثلك من يسلي سواه إذا جنت ... عليه الليالي واعتراه التغول

ومثلك من يرعى شئون مراعه ... ويسعى لعان قلبه يتململ

وأنت بحمد الله أول عارف ... بأن الكريم الحر لا يتزلزل

فلو أن شخصاً أمياً أراد أن يعزي آخر لما عزاه بأقل من هذه العبارات. ومن المدهش أن يصل الليثي في أسلوبه إلى مستوى الأميين وأن ينحط في عباراته إلى درجة سحيقة من الضعف والركة. وما قوله (وأنت بحمد الله أول عارف) إلا مما يجري على ألسنة الدهماء.

وقد أسرف في هذه السوقية فقال:

فكن ثابتاً عالي العزائم مقبلا ... على شأنك الحالي عداك التنزل

فإن مصاباً حل قد حل وانقضى ... ونحن بما يأتي نسام ونشغل

فقوله (إن مصاباً حل قد حل وانقضى) من تراكيب العامة ثم انتقل من التعزية إلى التحدث عن رجال الفقيد في الجنة وما يتمتع به من حور عين وخمر وغير ذلك. قال:

ومن بان عنا في الفراديس ناعم ... بظل ظليل دوحه ينهدل

يغازل ولداناً وحوراً على صفا ... وفي حسنها من لطفه يتغزل

وليس مما يستحسن أن يقال في حفلة تأبين (يغازل ولداناً وحوراً. . الخ) ولكن هكذا كانت عادة الشعراء في هذا الدور. فقال أحمد عبد الغني:

فالحور والولدان قد فرحوا به ... واستقبلوه بالسرور وتاهوا

غير أن عبارة (قد فرحوا به) أخف بكثير من عبارة (يغازل) ولم يتعرض حفني ناصف لذكر الحور والولدان. بل اكتفى بقوله:

في جيرة الله في دار النعيم ومن ... يحلل بها بلغ الغايات أو كربا

وإلى هنا نترك الليثي.

محمد سيد كيلاني