مجلة الرسالة/العدد 866/خاتمة قازان
مجلة الرسالة/العدد 866/خاتمة قازان
للأستاذ عطية الشيخ
بالثارات التتار:
انتهت غزوة حمص التي شنها قازان ملك التتار على ملك مصر الناصر بن قلاوون بالفشل في ختام القرن السابع الهجري، ولم يشف صدره من المصريين ويثأر لدماء آبائه وأجداده، فاشتعل قلبه حقداً، وبات يقلب الرأي، ويستشير أمراء دولته، عله يجد منفذاً إلى بغيته، وينال مأرباً عز نيله على سالفيه، ويفتح مصر ويكفى التتار شرها، ويبيت آمناً في تبريز، حالماً باقتحام شمال إفريقية، فيرث دولة الإسلام بتمامها، ويختم الرواية التي بدأها جده جنكيز خان.
الرأي قبل الشجاعة:
كان قطلوشاه نائب قازان في مملكة التتار، وأمير أمراء الجيوش، يقف قازان عند رأيه ولا يربم عن مشورته، وقد استشاره الملك فيمن استشار فأفتى بأن يتظاهر الملك بالإسلام، ويطلب الصلح من المصريين والحلف معهم، حتى إذا أمنوا جانبه، واستناموا إلى الخديعة، واطمأنوا إلى عدوهم، وأهملوا استعدادهم أخذهم على غرة، دون أن تثور الحمية الدينية في نفوس أمتهم، متى علموا أن التتار مسلمون، ومتى تم النصر وتمكن التتار من الرقاب، فلن يهمهم أن تعلم مصر حقيقة إسلامهم، فقديماً دخل التتار بغداد بالخديعة واستدرجوا الخليفة والأعيان إلى معسكرهم، ومثلوا بهم شر تمثيل، بعد أن حسبوا أنهم ذاهبون للصلح وحفلة عرس.
الرسل الثلاثة:
في ليلة الاثنين 5 من ذي الحجة سنة 700 وصل رسل قازان الثلاثة إلى القاهرة وهم قاضي الموصل كمال الدين الشافعي ومعه رجلان أحدهما فارسي والثاني تركي، وزينت القلعة لاستقبالهم زينة تأخذ بالألباب، وأوقد فيها ألف شمعة أحالت ليلها نهاراً، وجلس الملك الناصر ومن حوله أمراءه في أبهى حلة، وأفخر لباس، ثم قام القاضي وخطب خطبة بليغة وجيزة وذكر آيات كثيرة في معنى الصلح، واتفاق كلمة المسلمين، ثم دعا للملك الناصر ابن قلاوون، ومن بعده للسلطان محمود قازان، ودعا للمسلمين والأمراء، ورفع كتاب قازان إلى ملك مصر.
كتاب غازان:
فض الملك كتاب غازان وقرأه ليلاً ولم يطلع عليه الأمراء صباحاً، إذ جمعهم مع أكثر العسكر وقرئ الكتاب عليهم، ونقتبس من مضمونه.
(بسم الله الرحمن الرحيم)، وننهي بعد إهداء السلام إليكم أن الله عز وجل جعلنا وإياكم أهل ملة واحدة، وشرفنا بدين الإسلام وأيدنا، وندبنا لإقامة منارة وسددنا، وكان بيننا وبينكم ما كان بقضاء الله وقدره. . . والآن فأنا وإياكم لم نزل على كلمة الإسلام مجتمعين، فنرجع الآن في إصلاح الرعايا، ونجتهد وإياكم على العدل في سائر القضايا، فقد أنضرت بيننا وبينكم حال البلاد وسكانها، ومنعها الخوف من القرار في أوطانها. . . ونحن نعلم أننا نُسأل عن ذلك ونحاسب عليه، وأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن جميع ما كان وما يكون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأنت تعلم أيها الملك الجليل، أنني وأنت مطالبون بالحقير والجليل، وإننا مسؤولون عما جناه أقل من وليناه، وأن مصيرنا إلى الله، وأنا معتقدون الإسلام قولاً وعملاً ونية، عاملون بفروضه في كل وصية، وقد حملنا قاضي القضاة، علامة الوقت وحجة الإسلام وبقية السلف كمال الدين أعزه الله تعالى مشافهة يعيدها على سمع الملك والعمدة عليها، فإذا عاد من الملك جواب فليسير لنا هدية الديار المصرية، لنعلم بإرسالها أن قد حصل منكم في إجابتنا للصلح صدق النية، ونهدي إليكم من بلادنا ما يليق أن نهديه إليكم، والسلام الطيب منا عليكم)
مشورة:
تشاور الملك والأمراه فيما يردون به على قازان، ثم بدا لهم قبل أن يقطعوا برأي الاستئناس برأي القاضي الفاضل رئيس وفد قازان، فقد كان رفيع المنزلة، مأمون المشورة لعلمة وفضله وزهده وورعه فقالوا له: (أنت من أكابر العلماء وخار المسلمين وتعلم ما يجب عليك من حقوق الإسلام والنصيحة للدين ونحن ما نقاتل إلا في سبيل الله، فإن كان هذا الأمر قد فعله قازان حيلة ودهاء فنخلف لك أننا لا نطلع على هذا القول أحداً من خلق الله تعالي، ورغبوه غاية الرغبة، فحلف لهم أنه لا يعلم من قازان إلا صدق النية في الصلح، وحقن الدماء، ورواج التجارة، وإصلاح الرعية ثم قال لهم (لله دره)؛ ما كان نصحه للإسلام والمسلمين: - (والمصلحة أنكم تبقون على ما أنتم عليه من الاهتمام بعدوكم، وأن تخرجوا كعادتكم إلى أطراف بلادكم مما يلي مملكة التتار، فإن كان هذا الأمر خديعة كنتم مستيقظين، وإن كان الأمر صحيحاً أتممتم الصلح، وتحقن الدماء فيما بينكم).
مؤتمر في صحراء الشرقية:
أمر السلطان جميع الأمراء أن يخرجوا في صحبته للصيد في برية الشرقية، ثم استدعى وهو في البرية قضاة المذاهب الأربعة، وتم الاتفاق على ما يجيبون به قازان، وجهز رسل التتار إلى الصالحية، وانتظر السلطان بها (فلما حضر وأمامه الأمراء، ذهلت عقول الرسل مما رأوا من حسن زي عسكر الديار المصرية بخلاف زي التتار) ولما سجي الليل أوقد السلطان شموعاً كثيرة، ومشاعل عديدة وفوانيس وأشياء كثيرة تتجاوز عن الحد جعلت البرية حمراء تتلهب نوراً وناراً. . . وبعد حديث ساعة أعطوا جواب الكتاب إلى الرسل، وخلع عليهم السلطان، وأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، وسمح لهم بالسفر.
جواب حمىّ المعىّ:
هذا بعض ما جاء في جواب سلطان مصر على كتاب قازان: (بسم الله الرحمن الرحيم) علمنا ما أشار الملك إليه، وعول في قوله وفعله عليه، فأما قول الملك قد جمعتنا وإياكم كلمة الإسلام. . . فقد تحققنا أن الملك بقي عامين يجمع الجموع، وينتصر بالتابع والمتبوع، وحشد وجمع من كل بلد، واعتضد بالنصارى والكرج والأرمن، واستنجد بكل من ركب فرساً من فصيح وألكن، ثم إنه لما رأى أنه ليس له بجيشنا قبل في المجال، عاد إلى قول الزور والمحال والخديعة والاحتيال، وتظاهر بدين الإسلام واشتهر به في الخاص والعام؛ والباطن بخلاف ذلك،. . . فان الذي جرى الظاهر دمشق، ليس فعل المسلمين ولا من هو متمسك بهذا الدين، وإن كان ما حصل عن علمك ورضاك، فوا خيبتك في دنياك وأخزاك، وإن كنت كما زعمت على دين الإسلام فاقتل الطوامين الذين فعلوا هذه الفعال، لنعلم أنك على بيضاء المحجة. . . ولما علمت جيوشنا أنكم استعنتم على قتلهم بعبدة الصلبان اجتمعوا وتأهبوا وخرجوا بعزمات محمدية، وقلوب بدرية، وجدوا السير في البلاد، ليشفوا منكم غليل الصدور، فما وسع جيشكم إلا الفرار، وما كان لهم على اللقاء صبر ولا قرار. . . وأما ما تحمله قاضي القضاة من المشافهة فأنا سمعناه وعيناه، ونحن نعلم علمه ونسكه ودينه وفضله المشهور، وزهده في دار الغرور؛ ولكن قاضي القضاة غريب عنكم، بعيد منكم، لم يطلع على بواطن قضاياكم وأموركم ولا يظهر له خفي مستوركم.
وأما ما طلبه الملك من الهدية فلسنا نبخل عليه، وإنما الواجب أن يُهدى أول من استهدى، لتقابل هديته بأضعافها ونتحقق صدق نيته، وإخلاص سريرته، ونفعل ما يكون فيه رضا الله عز وجل، ورضا رسوله في الدنيا والآخرة. . . والله تعالى الموفق للصواب).
كشف عن الصريح:
بعد نحو شهر من رسول الرسل إلى قازان، علم سلطان مصر بأن التتار بدءوا يتحركون إلى الشام، وأن بولاي قائدهم قارب الفرات، وبعد قليل بلغهم أن التتار حركوا نصارى آسيا الصغرى للهجوم معهم، وكذلك استنجدوا بالفرج فنزلوا بجزيرة أرواد تجاه طرابلس الشام، وأخذوا يستولون على المراكب الإسلامية، فأرسل سلطان مصر أسطولاً بقيادة الأمير سيف الدين المنصوري إلى جزيرة أرواد، وجيشاً برياً إلى بلاد آسيا الصغرى بقيادة الأمير بكتاش، فانتصر القائدان على الإفرنج والأمن. وعلم السلطان فسر سروراً عظيماً، ثم بعد ذلك بأيام، علموا أن قازان نفسه وصل إلى الفرات وبعث المقدمة إلى بلاد الشام بقيادة قطلو شاه وعدتها ثمانون ألفاً، وكاتب أمراء الشام للدخول في طاعته، فأسرعت قوة خفيفة من مصر إلى دمشق بقيادة بيبرس الجاشنكير ولم تكد تصلها حتى رأوا الناس يفرون أمام التتار من حلب وحماة وغيرهما، فخفت سرية إلى حماة عدتها ألف وخمسمائة فتقابلوا مع جيش تتري قرب حلب عدته أربعة آلاف (فافترق المصريون أربع فرق، وحاصروهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى أفنوهم)
إلى دمشق:
ثارت ثائرة قطلو شاه لفناء أربعة الآلاف من جيشه فهجم على حماه، واندفعت حاميتها المصرية أمامه لا تلوى على شيء حتى بلغت دمشق، والتتار في إثرها (فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف، ولم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر النواحي بالمدينة، وبات الناس في الجامع الأموي يضجون بالدعاء)
الصبح والسلطان:
طلع صباح اليوم التالي وقد وصل الجيش المصري بقيادة السلطان إلى مرج راهط من ضواحي دمشق وكذلك وصل الجيش الأصلي للتتار، والتقى الجمعان في مكان يقال له شَقْحب في سفح جبل غُباغب من ضواحي دمشق فوقف السلطان في القلب ومعه الخلفية والأمير سلاّر قائد قواد مصر، والأمير بيبرس الجاشنكير الذي سبق السلطان بالمقدمة، وقاد الميمنة الأمير قبجق وانضم إليها العربان، وقاد الميسرة الأمير بكتاش الذي هُزم الأرمن.
يا مجاهدون:
تقدم السلطان بنفسه والخلفية بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن الكريم ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة وصاح الخليفة: (يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن دين نبيكم ﷺ عن حريمكم) فبكى الناس بكاء شديداً جزعاً على الإسلام، ولم يكد يتم الخليفة كلامه حتى زحفت كراديس التتار في هجومها الخاطف كقطع الليل، وحملوا على الميمنة المصرية حملة شعواء فقتل أعيانها وولى باقيها الأدبار وفي أثرهم بولاي التتري يقتل ويأسر الفارين.
للسلاماه:
فلما رأى ذلك سلار قائد المسلمين وهو مع السلطان في القلب صاح قائلاً: (هلك والله أهل الإسلام) ثم اندفع بمفرده كالبرق الخاطف نحو التتار فتبعه الأمراء والفرسان من القلب والميسرة وسلم الجميع نفوسهم للموت، واقتحموا التتار إلى قائدهم الأعلى قطلوشاه تاركين بولاي خلفهم يطارد الميمنة المنهزمة، واستمروا في القتال بحمية فائقة حتى لجأ قطلوشاه بمن معه من التتار إلى الجبل وهو يؤمل أن بولاي عند عودته من مطاردة الميمنة المنهزمة سيوقع في المصريين، ولكن راعه أن رأى السهل والوعر يغطيهما العساكر الإسلامية (فبهت وتحير واستمر بموضعه حتى أتاه بولاي وفرقته التي كانت تطارد الميمنة المصرية) وبينا بولاي وقطلو شاه يتشاوران فيما يفعلان إذا بكوسات السلطان والبوقات المصرية قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها فلم يثبت بولاي وترك قطلوشاه وفر في نحو عشرين ألفاً من التتار متسربلاً بظلام الليل، متلفعاً بسواده.
يا خيل الله:
وبات السلطان وعساكره على ظهور الخيل، والطبول تدق، وكذلك الكوسات، حتى آب إلى الجيش على صوت الطبول من كان منهزماً من الميمنة، وأحاط المعسكر المصري بالجبل الذي حوصر فيه التتار إحاطة السوار بالمعصم والخليفة والأمراء والسلطان والأعيان يمرون بالصفوف ويتواصون بالشهادة في سبيل الله، ويتحققون بأنفسهم من يقظة العسكر، وأبعدوا أثقالهم وأوزارهم عن ميدان المعركة. وعندما أسفر الصباح وأشرفت الأرض، انقض التتار على المسلمين يبغون لأنفسهم منفرجاً ومهرباً، ويقاتلون مستيئسين، فضيق المصريون عليهم الخناق (وصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، وتناوب الأمراء القيادة أميراً بعد أمير، وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف، حتى قتل تحت بعضهم الثلاثة الخيول، وما زالوا كذلك حتى انتصف النهار، فارتد التتار إلى الجبل بعد أن قتل وجرح منهم كثير، وهم يكادون يهلكون عطشاً)، ثم علم السلطان أن التتار قد أجمعوا أمرهم على مهاجمة المصريين في السحر، ليفتحوا لأنفسهم طريقاً إلى النهر، فأوصى بأن يفرج لهم عند النزول ثم يركب الجيش أقفيتهم ويهاجمونهم من الخلف، ونزل التتار من الجبل في عماية الصباح، فلم يتعرض لهم أحد، ولما صار النهر أمامهم والمصريون خلفهم ركبهم بلاء الله من المصريين فحصدوا رءوس التتار عن أبدانهم، وطاردوهم ولم يضعوا عنهم السيف حتى أذن العصر (حتى كلت خيول التتار وضعفت نفوسهم، وألقوا أسلحتهم، واستسلموا للقتل بغير مدافعة، حتى إن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا عدة غنائم، وبلغ ما قتله الواحد من المصريين العشرين من التتار فما فوقها) وارتد قطلوشاه في قليل من جنوده إلى الفرات، ثم عاد إلى بلاده في شر حال.
أفراح وأتراح: أما سلطان مصر فقد كتب البشائر في البطائق وسرح بها الحمام إلى جميع بلاد الإسلام وأرسل الأمير بكتوت ليبشر المصريين نائباً عنه، وأقبل أهل الشام عليه مهنئين، فقصد إلى دمشق في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان، وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه على هذه المنة، (وتساقطت عبرات الناس فرحاً) ثم حضر أمير الميمنة المنهزم فقال له السلطان (بأي وجه تدخل عليَّ وتنظر في وجهي! فما زال به الأمراء حتى رضى عنه)
وأما التتار فإنه لما دخل قطلوشاه إلى همذان وعلم التتار نبأ الهزيمة (وقعت الصرخات في بلادهم وقامت النباحة في تبريز عاصمتهم شهرين على القتلى، واغتم قازان غماً عظيماً، وخرج الدم من منخريه حتى أشفى على الموت، واحتجب عن الحاشية، فإنه لم يصل إليه من جيشه إلا أقل من العشر، مع أنه كان منتخباً من خيار العساكر، ثم أمر بقتل قطلوشاه. ولما شفع فيه أمراء التتار، أوقفه أمامه، واستدعى الأعيان وأمرهم أن يبصقوا في وجهه واحداً بعد واحد حتى بصقوا جميعاً على مشهد من قازان، ثم نفاه إلى كيلان، ثم أحضر بولاي وضربه بالعصا وأهانه أشد إهانة، وفي الجملة حصل لقازان بهده الكسرة من القهر والغم ما لا مزيد عليه، ولله الحمد)
أقواس النصر:
زينت القاهرة لاستقبال الناصر وعساكره وحشد بها جميع المنغمين بالديار المصرية وتسابق الناس في الزينة ونصبوا القلاع في شوارع القاهرة (وتحسن سعر الخشب والقصب وآلات النجارة وتنادى الناس أن من استعمل صانعاً في غير الزينة فهو عدو السلطان. وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرجة، وملئت الأحواض في الشوارع بالسكر والليمون وبلغ كراء البيت الذي يمر عليه السلطان من خمسين درهماً إلى مائة، وفرشت أرض الشوارع التي سيمر فيها السلطان بالأبسطة، وكان السلطان كلما مر بزينة وقف يعاينها ليجبر خاطر فاعلها) وسار أسرى أمراء التتار بين يديه مقيدين، وقد علق في عنق كل واحد منهم رأس أمير من القتلى وأمامهم ألف فارس مصري مشرعين رماحهم في كل رمح منها رأس تتري، وخلفهم 1600 أسير من جنود التتار، في عنق كل واحد منهم رأس، وطبولهم ممزقة وأعلامهم منكسة، وكثرت التهاني في البيوت والشوارع وزاد الهرج والمرج وأهازيج الفرح والسرور (حتى كان الواحد لا يسمع كلام من هو بجانبه إلا بعد جهد).
النصر للإسلام:
ذوي عود قازان، وتصوحت زهوته، وتنكرت بشاشته، وغاضت نضارته، واستولى عليه الهم والغم، وألح عليه المرض بسبب الهزيمة، فلم يلبث إلا أياماً حتى مات مهموماً، وجلس بعده على عرش التتار أخوه (خرْ بندا) بن أرغون بن أيفا بن هولاكو خان واجتمع به أعيان ملكه، وتشاورا فيما يؤمنهم على ملكهم ويهدئ مخاوفهم، ويحقن عليهم دمائهم؛ فلم يجدوا أحسن من الدخول في الإسلام أفواجاً، وأن يعلنوا المصريين بذلك، إذ لم يبق حامياً لذمار الإسلام سواهم، فتم لهم ما أرادوا وتلقب ملكهم (غياث الدين محمداً) وكتب إلى سلطان مصر بذلك، وطلب الصلح وإخماد الفتنة، وانحسرت موجة التتار عن مصر والشام، وانكسر عودهم على عزة إسلام، وامتصتهم الديانة المحمدية دون أن ينالوا منها، وتطعمت دوحة الإسلام بشعب جديد فتي قوي كان له بعد ذلك اليد الطولي في نصرة الدين.
(وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً).
عطية الشيخ
مفتش المعارف العليا