مجلة الرسالة/العدد 866/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (5):
مجلة الرسالة/العدد 866/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (5):
مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال الدسوقي
ما زلنا هنا في ابن رشد لم نفارق أرسطو، فابن رشد صورة من أر سطو، أو قل: هو الصورة الإسلامية لأر سطو. وكم ذا لأر سطا ليس في فلسفات العصر الوسيط من صور! فان الفيلسوف الذي أتينا على دراسة فصل من علم واحد من مذهبه في مقالاتنا السابقة قد كان مارداً جباراً جثم بسطوته وسلطاته على الفكر الإنساني حتى مطلع النهضة الأوربية الحديثة: عكف الشراح على مذهبه يدرسونه ويفسرونه ويصنفون كتبه، وأقبل عليه رجال الدين والمفكرون من مسيحيين ومسلمين ويهود يؤيدون بع عقائدهم، فنشأت الفلسفات المسيحية الإسلامية واليهودية على الترتيب. وبقدر ما كان أر سطو يبدو لرجال هذه الأديان لأول وهلة مادياً وملحداً تحرم دراسة فلسفته، لا يلبث هؤلاء الجامدون المتزمتون أن ينبذوا الحبال الأفلاطوني إلى ما في مذهب أر سطو من منطق وانسجام وتوافق، فيحل أر سطو من التفكير إذن أرفع محل.
وهكذا ترى أن أفلاطون وأر سطو كانا قطبي التفكير في كل فلسفة دينية، وأن مثالية هذا وروحيته، ثم واقعية ذاك وماديته، كانت بمثابة قرني الإحراج لا يذهب المفكرون إلى أحدهما غلا ليرتدوا إلى الآخر. ولن تجد بين مفكري العصور الوسطى وفلاسفة الأديان إلا من هو أفلاطوني أو أرسطي أو موفق بين الاثنين ويتفاوت فهم رجال العصور الوسطى لفلسفة كلا الرجلين ومدى نفوذهم إلى حقيقتها. وكثيراً ما أدخل الإسلاميون عناصر غريبة على فلسفة أحدهما أو الآخر، أو أساءوا له ونسبوا إليه ما لم يقل به ولكن ابن رشد يمتاز من بين الإسلاميين جميعاً بأنه خير من فهم أر سطو وشرحه ونقله إلى الغرب حتى ليسمونه الشارح الأعظم لأنه هو الذي لعب أخطر دور في ربط الثقافة الإنسانية وإكمال دائرة الفكر البشري يرد التراث اليوناني إلى أوربا الوسطى قبيل نهضتها؛ فإن شروحه لكتب أر سطو قد نقلت إلى اللاتينية وهي حينئذ لغة العلم والجامعات. وتولى نشرها ودراستها وإذاعتها خصوصاً فلاسفة اليهود.
وتعلمون أن الفلسفة إذ نشأت في بلاد اليونان بمعناها الحقيقي، وما كانت تشتمل عليه بلاد اليونان إذ ذاك من أوضاع جغرافية واسعة تشمل هذا الجانب من البحر المتوسط كله تقريباً قد ورثها الشرق المسيحي بعد إذا استقرت الديانة المسيحية، فالشرق الإسلامي بعد إذ اتسعت رقعة الحضارة الإسلامية. وتعلمون كذلك أن رقي الفلسفة في كل من الشرقيين إنما كان صدى للتوسع الجغرافي والرقي الحضاري، وما يتبع ذلك من تشجيع للعلم والثقافة وحث على ترجمة التراث اليوناني بما اشتمل عليه من حكمة وطب وفن وفلسفة، فكانت الفلسفة تخضب وتزهر حيث توجد البيئة الصالحة للنمو والازدهار، وحيث يكون التشجيع والمثوبة من جانب ذوي السلطان، فإذا أصاب هؤلاء عقم التفكير وضيق الأفق وجل سخطهم على الفلسفة وإيذاؤهم للفلاسفة، كان على الفلسفة إذن أن تهاجر وتنزح. وكما أن الدولة الأموية العربية حين غلبها العباسيون وشتتوا أصحابهم قد هاجرت إلى الأندلس، كذلك كانت هجرة روحية أخرى للفسلفة الإسلامية إثر اضطهادها وتكفير أصحابها في الشرق العربي، وعلى أنقاض حضارة المشرق الثقافية إذن قامت حضارة أدبية وسياسية وفلسفية في المغرب، وبمعنى أدق في الأندلس، هي، مهما يكن من أمرها صورة مصغرة من حضارة الشرق، ولكنها متشابهة من ناحية وبسمات وخصائص مميزة من ناحية أخرى.
كانت متشابهة من حيث أنها قد اعتمدت في أساسها على ما كان ينقل أهل تلك البلاد من علوم الشرق سواء بالرحلة إليه والتعلم على أشهر علمائه وبجمع تراثه ونقله ونسخه ثم الشروع في التفلسف يعد مرحلة التمهيد والدرس هذه. وآية ذلك تدرج فلاسفة الغرب في تقديرهم لأر سطو متأخرين كما يمثلهم ابن باجة فابن طفيل فابن رشد، كتدرج فلاسفة الشرق الكندي والفارابي وابن سينا، إلا أنه يجب أن نقول إن ابن رشد كان أكثر فلاسفة المشرق والمغرب معرفة بأر سطو وفهماً وتقديراً له، وذلك لأن البيئة الأندلسية قد خلت من خلاقات الشرق وجدله وعقمه كما يظهر في أشعاره وموشحاته ذاتها في ميزان الأدب، فجاءت فلسفة ابن رشد أرسططالية خالصة من ناحية، ودينية عقلية من ناحية أخرى، وذلك هو الجانب المزدوج الذي يجب أن تنظروا لابن رشد من خلاله، فهو من ناحية ينشر ويلخص ويشرح الكثير من كتب أر سطو والفلاسفة المشائين من أتباعه وغيرهم من الأطباء والمتكلمين. . . الخ كما تجدون في ثبت كتبه التي ورد ذكرها بمقدمة كتابه الذي تدرسونه، ومن ناحية أخرى يكتب في علم التوحيد والعقائد؛ أو ما يسميه فلاسفة المسلمين علم الكلام، رسائل وكتباً كهذا الكتاب الذي تدرسونه.
على أن التقدير الذي يحظى به ابن رشد لدى مؤرخي الفلسفة القربيين ربما كان أكثر منه عند مؤرخينا. فهم ينظرون إليه كما قلت بوصفه همزة الوصل ونقطة التحول التي عن طريقها تم انتقال الفلسفة إلى أوربا ثانية على يد فلاسفة المسلمين. واليهود ولعله بهذا وحده يمكن أن يكون للفلسفة الإسلامية مكانها بوصفها حلقة ضرورية في تاريخ الفلسفة المتصل، وللعرب شأنهم بوصفهم حملة هذه المشاعل ونقله هذا التراث، والأمناء على نتاج هذا الفكر الإنساني أخذوه عن مصادره الأولى وتعدوه بالتخير والإنتاج حتى أوصلوه إلى أهله كاملاً غير منقوص، وحسب الفلسفة من فلسفات العصر الوسيط أن تقوم بهذا الدور، فان بعضها لم يبلغه - لكي تعد ذات رسالة، والفضل هنا إذن لابن رشد.
لقد كتب اثنان من كبار الفلاسفة الفرنسيين المستشرقين كتابين هامين كبيرين في ابن رشد (وهم يسمونه ويجعلون له مذهباً يسمونه أحدهما ليون جوتليه والآخر إرنست رينان تناوله موتك في كتابه عن فلاسفة اليهود والعرب، والبارون كارادي فو في كتابه مفكروا الإسلام وإن لم يفرد له كتاباً خاصاً فيما بعد كما فعل بالغزالي وابن سينا، وكذلك الفيلسوف الهولندي دي بور في تاريخه لفلسفة الإسلام. وفي هذه المراجع وكتابات كثيرين من المستشرقين الألمان خصوصاً ودوائر المعارف الإسلامية وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان وغيرها نلمس التقدير الكبير الذي يتمتع به ابن رشد عند هؤلاء المؤرخين والمنصفين مبلغهم من العلم به وبفلسفته ضئيل ومن هذه المؤلفات ما هو مترجم إلى العربية تستطيع أن ترجع إليه ككتاب العلامة دي بور المشار إليه، ترجمة الأستاذ الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة مدرس الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب ترجمة علمية دقيقة مزودة بالتعليقات والمراجع كذلك تجدون مادة ابن رشد في إحدى مجلدات دائرة المعارف الإسلامية التي ظهرت ترجمتها العربية فعلا للأستاذ عبد الحميد يونس وزملائه الثلاثة.
أما المؤلفات العربية في ابن رشد فأهمها: كتاب في مجموعة أعلام الإسلام (العدد 11 فبراير 1945) التي تنشرها لجنة الترجمة دائرة المعارف الإسلامية السابقة الذكر عند عيسى الحلبي - هذا الكتاب هو: أبن رشد الفيلسوف للأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بالأزهر، وهو على سهولته وتبسيطه كتاب واف بحياة الفيلسوف وعصره ومذهبه، ولابد أن ترجعوا إليه وتعولوا على ما جاء فيه من دراسة هي مزيج مهضوم في عقل صاحبه من مختلف الآراء العربية والغربية لابن رشد ومذهبه. ففيه مادة صالحة طيبة. أرجعوا كذلك إلى كتاب قديم للأستاذ فرح أنطون عن، ابن رشد ومذهبه. ففيه مادة صالحة طيبة وافية بالغرض، وكذلك باب ابن رشد من كتاب فلاسفة الإسلام للأستاذ محمد لطفي جمعه المحامي.
سوف يعفيكم الكتاب المطلوب إليكم دراسته من تعرف ابن رشد في دوره الأهم الذي أتحدث عنه حتى الآن؛ وكما يفهمه المؤرخون الأوربيون، لأنه يعالج فلسفة إسلامية خالصة موضوعها التوحيد أو علم الكلام، وهو ما كان ابن رشد يصطنعه للرد على الغزالي وأضرابه ممن كفروا فلاسفة المشرق كابن سينا في قولهم بأن الله يعلم الكليات دون الجزئيات وغير ذلك من المسائل الدينية التي كانت محل خلاف. ومن هذه الردود ما جعله ابن رشد مباشراً يتناول فيه قول الخصم ثم يتولى إدحاضه ككتاب تهافت التهافت الذي رد فيه على (تهافت الفلاسفة) للغزالي، ومنها ما هو غير مباشر تظهر فيه براعة ابن رشد في عرض عقائد الملة وأمور الدين عرضاً لا تتنافى فيه الفلسفة والدين كهذا الكتاب. وفي عناوين هذه الكتب ذاتها دليل على ما نريد أن نبين من طبيعتها. ففي المجموعة التي بين أيديكم كتابان: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - وهو كتاب قيم له أهميته ودلالته من حيث ما يعرض له - وهو كفيل بأن يرد إلى الصواب أولئك الذين يخشون تعارض الفلسفة والدين، إذ هو يقنعهم أن لا تعارض، بل محبة وتقارب. ولا يخرج القارئ منه إلا وقد آمن أن الفلسفة فرض واجب كبقية الفروض. فرض عين لا فرض كفاية. والكتاب الثاني في (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة). وفيه يعرض الفيلسوف وقد بين من أمر توافق الفلسفة والدين في الكتاب السابق ما بين - يعرض لمناقشة مختلف المناهج التي بها تقوم الأدلة الصحيحة على كثير من عقائدنا الدينية الإسلامية كوجود الله وتوحيده وبقية صفاته الثبوتية والسلبية: تلك التي تنسب له صفات إيجابية كالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، والتي تنفي عنه صفات سلبية كالجهل والعجز والصمم والعمى والبكم. . . ثم مشكلة إرسال الرسل أو النبوة والتدليل على معقوليتها؛ وأخيراً مشكلة العالم الآخر التي تقوم بها الأديان.
وقبل أن نشرع منذ المقال التالي في تحليل هذا الكتاب لابن رشد، أريدك أن تلم بتاريخ حياته إلماماً كافيا، تعرف معه تاريخ مولده ووفاته والقرن الذي عاش فيه من التاريخيين الهجري والميلادي، ثم مكانة قرطبة التي ولد فيها وتفلسف وما تقلبت فيه من عز وذل والتاريخ العام لدولة الأندلس وما تعاقب عليها من الحكام - منذ فتحها عبد الرحمن الداخل الأموي (38هـ) - من أمويين فمرابطين فموحدين - وخصائص كل عصر من حيث الاهتمام بالعلم وتشجيع الأدب والفلسفة - وأخيراً حياة الفيلسوف ونشأته ودراسته ومصنفاته والجانب المزدوج في مهمته الفلسفية الذي عرض فيه للحكمة الأرسطية والشريعة الإسلامية فأحسن التوفيق بينهما،
وإلى الملتقى في حديثنا التالي.
كمال دسوقي