مجلة الرسالة/العدد 866/صور من الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 866/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1950



خيانة امرأة

- 2 -

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا قارئي:

هذا صاحبي انضم على أشجانه حيناً من الزمان، يكتم الأسى جوانحه ويدفن الضنى بين ضلوعه حتى أثقله الهم وأرهقه الوجد، فجاء ينثر عبرات قلبه بين يديك علك تسمع فيها أنات روحه الحزينة أو تحس وجيب فؤده الكسير، فتلقحك حرقة اللوعة أو تهزك سفعات الضيق، فتهديه آلة الرأي الذي عزب عن فكره وتبصره بالصواب الذي ند عن عقله. فهل تعينه رأي منك فيه العقل والصواب؟

كامل

قال لي صاحبي (. . . وانطوت الأيام فإذا أنا إلى جانب فتاتي القاهرية - مرة أخرى - أبثها لواعج الهوى، وأشكو إليها حرق الغرام: ثم ما لبث أن سميت على خطبتها فتزوجتها. ووقف أبي إلى جواري ليلة الزفاف - وقف كارهاً، وهو ينفضني بنظرات فيها الألم والحسرة، فاضطراب قلبي وتزعزعت سكينتي، ورحت أنظر إلى وجه أبي في خلسة وقد كسته غلالة من الهم والضيق، فما راعني، إلا عبرات حائرة في عينيه ما استطاع أن يكفكفها، فانفلتت من بين محجريه. . . انفلتت لتهوى على كبدي كأنها جمرات متقدة يتلظى وهجها فتنفث في الحيرة والقلق، وتستل البشر من قلبي وتستلب الفرح من فؤادي. واستحالت حالي - في لمحة واحدة - فبدأ لي هذا المهرجان كأنه ينضم على جماعة من السخفاء يسخرون من غفلتي وحماقتي، وتراءت لي تلك الأنوار كأنها تسطع حوالي لتكشف للناس عن غباوتي وجهلي. وخيل إلى أنني صنعت هذه البهجة الفوارة لينعم بها أخلاط من الناس، ولأظل أنا وأبي في منأى عنها، يعاني هو سفعات أفكاره المضطربة وأقاس أنا عنت الخاطرة السوداء التي أرثتها في نفسي عبرات انتقلت غضباً من بين محجري أبي الشيخ.

انطوى الليل إلا أقله وأنا في شرفة الدار يضطرّب خيالي بصورة أبي الباكي الحزين، وغلى جانبي زوجتي الحبيبة أبسم لها في ذهول وأعانقها في فتور؛ لا أكاد أسمع صدحات الموسيقى وهي ترن في أرجاء المكان فتعمه بالنشوة والمرح، ولا أطرب للصوت الملائكي الرقيق وهو يشدو بأغنية سماوية تهتز لها القلوب وتضطرب الأفئدة، ولا أشعر بالهوى العليل وهو يرف حوالينا ندياً يبعث في الناس النشاط والقوة، ولا أكاد أحس بالسعادة التي كان يصبوا إليها قلبي منذ زمان بعيد وهي الآن بين يدي لا تدفعني إليها نزعات الهوى ولا تجذبني إليها نزوات الشباب.

وأحر كبدي إن صورة أبي ما تبرح تتشبث بخيالي. . . صورة أبي وهو يتوارى في ناحية من المكان وعلى وجهه غلالة من الهم والضيق وفي محجريه عبرات حائرة لا يستطيع أن يكفكفها فتنفلت من بينهما غضباً.

ورأيت أبي لأول مرة في حياتي - حزيناً يطحنه الأسى ويضنيه الكمد، ولأول مرة في حياتي أحسست بالهم العارم يتدفق في قلبي ليعصف بمرحي. . . مرح الشباب العابث الطروب.

واعجباً! أفكان أبي الشيخ يرى بعيني تجاربه أن من تحت قدمي هاوية سحيقة أوشك أن أنزلق فأتدرى فيها فلا يمسكني إلا القرار.

وفي بكرة النهار أسرعت إلى أبي عسى أن أستجلي بعض خلجات ضميره، غير أني علمت أنه برح الدار عند صلاة الفجر إلى. . . إلى القرية، فانكفأت إلى حجرتي. . .

وتعاقبت الأيام تطوى وساوس نفسي وتمحو ظنون روحي وغلى جانبي زوجتي تنفذ إلى طوايا قلبي في رفه، وتمهد لي أسباب السكينة بعقل سليم وترعى حاجات داري بيد صناع. واطمأنت خواطري إليها أجد فيها مثابة وأمناً واستشعر في كنفها الراحة والهدوء، غير أنها لم تستطع - يوماً - أن تكشف عن الصورة التي تشبثت بخيالي حيناً من الدهر. . . صورة أبي الباكي الحزين.

ومرت سنتات ثم أشرقت البهجة في داري وفي قلبي حين اجتليت النور من جبين ابني الأول، وسطعت الفرحة في روحي وفي روح زوجتي حين رفت علينا أول نسمات الطفل تملأ الحياة أملاً وسعادة ودفعتني فرحتي، فكتبت إلى أبي (. . . بالأمس أشرقت في داري طلعة جديدة فامتلأ قلبي بالراحة، وأفعم فؤادي بالسعادة، وتألقت روحي بالفرح؛ وإني لأرنو إليه فأرى فيه سمات من سماتك ولمحات من صورتك. ولقد عقدت العزم أن أسميه باسمك عله يكون طالع سعد لنا. ليته يظفر بلمسات بنانك الرفيق أو بدعوات من قلبك الطاهر فتشمله البركة ويكتنفه اليمن. . .!).

وقرأ أبي كلامي فشمر يهيئ نفسه للسفر وقد نسى أنني تمردت - يوماً - على نصيحته وامتهنت رأيه وعققت أبوته، فجاء هو وأخوتي ومن بين أيديهم البهجة والاستبشار ومن خلفهم الهدايا.

بالقلب الأبي! إن فيك الرقة التي لا تحمل الحفيظة، وفيك الحنان الذي لا ينطوي على الضغينة؛ وفيك الرحمة التي لا يشوبها الغل

أما أنت يا بني، فقد كنت لأبيك بشير يمن وسعاد، فأنت قد محوت - بابتسامة واحدة منك - كل ما كان بين أبي وبني، وخلقت منا - بنظرة واحدة - أباً وابناً جديدين: أبا فيه العطف والحنان! وابنا فيه الطاعة والإخلاص. فما أسعدني بك؛ يا بني!

وانطوت سبع سنوات، ثم استحالت حال الزوجة الحبيبة على حين فجاءة، فهي تنطوي عني في غير سبب، وتهمل شأني في غير نزاع، وتشتغل عني في غير خصام. وتدفق الشك في قلبي هيناً مرة وعنيفاً مرة، فما كان للمرأة أن تغير خصالها إلا أن تسيطر على عقلها فكرة أو تشغل بالها حادثة! ورحت أدفع الشك عني حين خيل إلى أن أولادنا الأربعة يملئون فراغ قلبها وفراغ يومها

وغبرت أياماً أدفع ظن سوء عن نفسي، غير أني رأيتها تسرف في الزينة وتفرط في الأنفاق. أفكانت تسرف في الزينة خشية أن تصفعها الشيخوخة الباكرة فتعصف بنضارتها وتعبث بروائها وهي ما تنفك تنغمر في شواغل الدار والولد والزوج؟ أفكانت تفرط في الأنفاق لتسد حاجات الدار وإن الغلاء ليصفع الموظف صفعات عنيفة قاسية توشك أن تلصق يده بالتراب؟

ورجعت إلى الدار - ذات مرة - قبل معادي فلم أجدها لقد خرجت المرأة وحدها. . . خرجت إلى الشارع، إلى الذئب. ووقفت ارقب الطريق فرايتها مقبلة تستحث الخطئ. ورحت أناقشها في رفق وأجادلها في عنف فتفلست الفتاة. . . فقلت في نفسي (. . . إن الفتاة إذا تفلسفت في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانها فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي، ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. إن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .)

وارتابت نفسي في كل حركات الزوجة، وبدا لي تاريخها القديم، يوم أن كانت فتاة في دار أبيها تنعم بالحرية التي يزينها الشيطان وتطمئن إلى النزعات التي تزوقها الحضارة، لا تخش. الرقيب ولا تخاف السيد، تنفلت من الدار وحدها لتلقى فتاها أنا لدى الأصيل أو بعد مغرب الشمس، نستمتع معاً بالخلوة ونسعد بالنزهة، أفكنت حقاً فتاها الأوحد أو كنت رفيقاً بين رفاق وصاحباً بين صحاب، تغفله فتوحي إليه بأشياء وأشياء وهو في عمى عن خداعها ومكرها؟ لعلها اليوم حنت إلى صاحب قديم!

ووسوس لي الشيطان أن أرقبها من بعد، غير أني لم أستطع فما كان لي أن أفعل وأنا موظف حكومي أبكر إلى الديوان فلا أستطيع أن أبرحه إلا أن يأذن لي الرئيس، ورئيسي رجل غليظ الكبد جافي الطبع فيه الصلف والكبر.

ومرض رئيسي - يوماً - فتغفلت رفاقي في المكتب وتسللت من الديوان. . . تسللت لأجد زوجتي في داري تجلس إلى رجل غريب على سريري في حجرة نومي. . .

وأفزعني المنظر فصرخت من أعماق قلبي (آه! إن المرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه).

وخرجت من الدار وقد ضاقت الأرض عليّ بما رحبت وضاقت على نفسي؛ لا أجد متنفساً إلا أن أحمل همي بين جوانحي لا أتحدث به إلى أحد، ومن أمامي أولادي أخاف أن أذيقهم مرارة اليتم ولذع الضياع.

والآن - يا صاحبي - ها أنا أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي. وبين أحبائي الأعزاء، أولادي. لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي أبداً تذكرني بغباوتي وحمقي. فماذا ترى، يا صاحبي!

وسكت الرجل وإن سمات الأسى لتضطرم في أغوار قلبه فتعبث بشبابه وتغض من نضارته فماذا ترى، يا قارئي، ماذا ترى؟ كامل محمود حبيب