مجلة الرسالة/العدد 861/المكانة العالمية للإسلام في هذا العصر
مجلة الرسالة/العدد 861/المكانة العالمية للإسلام في هذا العصر
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
بعد أن مرت على النوع الإنساني عشرات من القرون في حالة تنازع للبقاء، ثم لطلب السيادة وبسطة السلطان، جرياً على عادات جاهلية فرضتها الحاجات الجسدية تارة والميول الهوائية تارة أخرى. وتبعت هذه التعديات تصرفات ومجريات تعسفية، أملتها على المتغلبين الغرائز الحيوانية، والطبائع الوحشية، فأصبحت رسوماً تقليدية، لا تثير عاطفة، ولا تجرح إحساساً؛ بعد أن مر هذا كلّه على النوع الإنساني، أخذ يبدو في حيز التفكير البشري رد فعل لهذا العدوان المتأصل في النفوس، ترجمت عنه بحوث خلقية، ودراسات فلسفية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، تدل على وشك حدوث دور انتقال من هذه الحال الحيوانية التي درج عليها الأقوياء في جميع الأجيال حيال الضعفاء إلى حالة وسطى من العدل والإنصاف والرحمة؛ وكان ذلك سبباً في حدوث كتابات تدافع عن الضعفاء المقهورين، وتستدر لهم من الأقوياء المتغلبين العطف والشفقة، ولم تبخل عليهم باعتبار هذا العطف حقاً لهم يجب على سادتهم الاعتراف به.
لم تكتف هذه البحوث والدراسات بالناحية المادية لتلك الطوائف المقهورة، بل تناولت ناحيتهم الدينية والأدبية، التي يحتقرها الأقوياء ويأنفون البحث فيها، ويعتبرونها من الأضاليل الوحشية، فوجدتها لا تقل عن سواها دعوة إلى الخير، وردعاً عن الشر، ومطالبة بالإحسان والبر؛ وهي وإن كان قد أصابها التحريف فليست بأكثر من سواها التياثاً بالخرافات، ولا بأعصى منها قبولاً للإصلاح، فنشأ من كل هذه الكتابات والبحوث تلطيف لخشونة الاستعمار، فرضخ القاهرون للمقهورين بقسط من التسامح مكنهم من فتح المدارس لأبنائهم، ونشر الصحف للمطالبة بحقوقهم. واضطرت الأمم المتغلبة إلى زيادة قسطهم من الحرية فلم يلبثوا أن تطورت مطالبتهم بحقوقهم إلى ثورات مسلحة، وقلاقل متوالية، اضطرت معها أكبر الدول الاستعمارية إلى التخلي عن أكبر مستعمراتها، وتخفيف الوطأة عن سواها مراعاة لهذا التيار الجارف من الشعور بالحقوق الطبيعية. وأصبحت الأمم القوية المحافظة على الشكائم الحديدية في جهاد جهيد مع مستعمراتها، وهي تعلم أنها تحاول المحال في الإبقاء على التقاليد القديمة، وإنه سيأتي يوم وهو ليس بعيداً، ينتقل فيه سلط المغتصب إلى أهل البلاد يحكمون بلادهم بأنفسهم تسليماً بالحق الطبيعي للأمم.
وقد اشتغل من ناحية أخرى رجال من المنقبين عن المدنيات القديمة، فوجد وأن للأديان كلها أصلاً واحداً وغرضاً واحداً؛ فإما أصلها فهو التسليم بوجود خالق للوجود؛ وأما غرضها فهو العمل بما شرعه سبحانه للناس من السيرة الصالحة والأخلاق الحميدة. وأما ما وقعت فيه الأديان من تعديد الآلهة، ومن الشطط في ضروب العبادات، وصنوف الخرافات، فكلها ليست من الدين في شيء؛ ولكنها من وضع رجال الأديان حرصاً على المحافظة على سلطانهم وتسخيراً للشعوب لإرادتهم.
تحت تأثير هذين العاملين، وهما ثبوت وحدة الأديان، وتعذر الاستيلاء على الأمم الضعيفة وتسخيرها بالقوة، ارتسم في الجو العالمي حقيقتان كبريان: أولاهما وجوب إيجاد تعارف سلمي بين الشعوب المختلفة، يرمي إلى تعاون بين أجناس النوع البشري، تبطل في ظله الظليل المنافسات الاستعمارية، والمنازعات بين الشعوب القوية. أخذهما التنويه بوحدة الأديان ووجوب تطهيرها مما التصق بها من الآراء البشرية، والخباليات الشعرية لتؤدي مهمتها في رفع النفوس إلى المستوى الرفيع الذي يليق بكرامتها الفطرية.
هذان الأصلان هما أخص ما دعا إليه الإسلام منذ نحو أربعة عشر قرناً. فأما عن الزمالة الإنسانية العامة، ووجوب وجود المساواة بين الناس والتعارف بين الشعوب، فقد جاء عنه في الكتاب الكريم قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير). وقد عمل المسلمون بهذه القاعدة فلم ينساحوا في الأقطار طلباً لاستغلال الأمم، ولا رغبة في تسخيرها، ولكن لمعاونتها على النهوض، وإحكام أوامر التحاب معها. وقد برت بما وعدت ورفعتها من حالتها التعسة إلى مستوى رفيع من الثقافة والمدنية، حتى أن شعوباً كانت تستدعيها لتحل بين ظهرانينا تخلصاً من نير حكوماتها الوطنية.
وأما من الناحية الدينية فإن الكتاب الكريم قد صرح بما أكتشفه العلم في القرن التاسع عشر من أن أصل الأديان واحد وأنها ما تخالفت إلا بسبب ما أدخله إليها المتسلطون عليها، إشباعاً لشهواتهم من الحكم والسيطرة. فقال تعالى عن الإسلام: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم اليه، ألله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربِّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فأدعو (أي لوحدة الدين فأدع)، وأستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، والله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم (أي لا محاجة ولا خصومة)، الله يجمع بيننا واليه المصير). أي أنه شرع لكم من الدين ما نزل على أبيكم آدم، فإن دين الله لا يتغير، ولكن الأمم هي التي تولته فحرقته وصرفته عن أصله. فإياك أن تعدل عن هذا إلى سواه (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء).
وأبلغ مما مر في وجوب رد الأديان إلى وحدتها الأولى قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورُسُلِهِ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقاً، واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً). فقد أُمر المسلم أن يؤمن بجميع الأنبياء والرسل، وأن لا يتخير بعضهم فيؤمن بهم ويكفر بالبعض الآخر، فلا تتهم الوحدة البشرية التي يريدها الخالق لعباده، وهذا أقوى في الدلالة على هذا المبدأ في الإسلام، وهو عينه مرمى الإنسانية؛ ومردها الذي لا مصير لها غيره كما يتبينه الذين يتتبعون تطور المدركات البشرية.
وعلى هذا يكون الإسلام قد قصد بما شرعه للناس من دين عام توحيد البشرية. ووافق الطبيعة الإنسانية فيما ستؤول إليه تحت توجيه النواميس الاجتماعية؛ ويكون قد ترجم عما سيقع في مستقبل بعيد بقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).
محمد فريد وجدي