مجلة الرسالة/العدد 861/في ذكرى مولد الرسول
مجلة الرسالة/العدد 861/في ذكرى مولد الرسول
على جبل النور
قضى الصادق الأمين محمد بن عبد الله خمساً وعشرين سنة في شعاب مكة وبطاحها يتيماً فقيراً ثم راعياً صغيراً، ثم تاجراً أجيراً، فلم ينعم بدفء الفراش كمن له أم، ولم يجلس أمام المعلم كمن له مال؛ وإنما تولى الله تأديبه وتهذيبه، لأنه أراد لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده وسلطانه أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقرأنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع للعقول، وكلمته أعلق بالأفئدة، فكمله بالخلق العظيم والحياء الوقور والصبر المطمئن واللسان الصادق والذمة الوثيقة والقلب الشجاع، ثم طهره من أرجاس الوثنية وأوزار الجاهلية، فلم يشرب الخمر، ولم يأكل الربا، ولم يلعب الميسر، ولم يشهد اللهو، ولم يعن وجهه لصنم.
ثم شاء الله لمصطفاه أن ينعم بسكينة القلب ورفاه العيش خمس عشرة سنة أخرى بعد ذلك في ظلال زوجه الغنية الوفية خديجة بنت خويلد استعداداً لأعباء الرسالة وكاره الدعوة ومجاهدة الشرك. وكان النبي الكريم في هذه الفترة الهادئة السعيدة يؤثر الوحدة ويطيل السكوت ويديم التفكير: يفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في أمر قريش والعرب، ويسأل نفسه: من الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، ودبر أمر هذه العوالم، ونظم سير الكواكب؟ فتجيبه: إله آخر غير اللات والعزى ومناة، لا يحل في بشر، ولا يتمثل في حجر، ولا يتحيز في مكان. فيفكر محمد ويطيل التفكير، ويبحث النبي ويعمق البحث، ويتعبد المتحنث ويكثر التعبد. فإذا جاء شهر رمضان من كل سنة، هجر المهاد اللين، وفارق الزوجة الحنون، وتزود الزاد اليسير، ثم صعد إلى جبل حرّاء على 1500 متر من شمال مكة، ليستعين بالصوم والاعتكاف على استجلاء الحقيقة. وهنالك على قمة الجبل المخروطي الشاهق، وفي صمته الملهم الرائع، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق. فإذا جنه الليل أرسل نظره وفكره في أشعة القمر أو في أضواء النجوم، يستطلع المجهول، ويستجلي الغامض، ويرقب انبثاق النور عن الخالق، وانكشاف الستور عن الحق. حتى إذا أجهده التفكير وأرهقته الحيرة، آوى إلى الغار الموحش النابي فيستلقي على صخره سويعات ثم يستيقظ قبل أن تغور النجوم، فيتعبد ويتجه بروحه اللطيف الصافي إلى الملأ الأعلى، حتى يتهيأ بطول الرياضة والعبادة والخلوة إلى تبليغ الرسالة، فرأى في الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان من السنة الحادية والأربعين من مولده صلوات الله عليه وهو نائم في الغار أن رجلاً جاءه بنمط من ديباج فيه كتاب وقال له: أقرأ. فأحس كأن الرجل يخنقه ثم يرسله ويقول له: أقرأ. فقال: ما أقرأ. فعاد إليه بمثل ما صنع وقال له أقرأ. فقال له: ماذا أقرأ؟ خشية أن يعود إليه بمثل ما فعل. فقال له: (أقرأ بأسم ربّك الذي خلق؛ خلق الإنسان منن علق؛ أقرأ وربُّك الأكرم؛ الذي علّم بالقلم؛ علّم الإنسان ما لم يعلم) فقرأها وانصرف الرجل عنه وقد نقشت في لوح قلبه.
وما لبث أن هبَّ من نومه فزعاً مذعوراً يدير بصره في الأرض، ويجيل طرفه في السماء. ثم تمثل له في اليقظة ما رآه في المنام فأدركه الخوف على نفسه فأنطلق مسرعاً إلى السكن الذي يسكن إليه، وإلى الصدر الذي يحنو عليه، فتلقته خديجة بالنظر المشفق والقلب العطوف، فقال لها وهو ينتفض كأن به مساً من الحمى، زملوني فزملته، حتى إذا ذهب عنه الروع وعاودته السكينة، نظر إلى زوجه نظر اللائذ العائذ وقال لها، يا خديجة، مالي؟ وحدثها بالذي رأى، فطمأنته وقالت له: (أبشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمّة. والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
وفتر الوحي مدة جزع لها محمد وقلقت خديجة، ثم نزل على قلبه الروح الأمين بقول الله تعالى: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر) فقام بأعباء الرسالة والتبليغ ثلاث سنين في طي الخفاء، حتى أوحى الله إليه: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، وأنذر عشيرتك الأقربين) فعالن بالدعوة قريشاً وسفه أحلامها وعاب أصنامها، فكاشفوه بالعداء، وقصدوه بالإيذاء، وهو يتقي كيدهم بجنة صبره وعدة إيمانه، ومن وراءه عمه أبوطالب يذود عنه ويحميه، وزوجه السيدة خديجة تواسيه وتقويه. ولكن قريشاً أنذروا أبا طالب لئن لم يكف أبن أخيه عما هو فيه ليقاتِلَنَّهُ هو وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فلما أعاد أبو طالب قولهم على سمع الرسول أجابه ذلك الجواب الذي خيَّس أنف الشيطان، وغيّر وجه الزمان، وحسم الأمر بين التوحيد والشرك، قال: والله يا عمُّ، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونَهُ) فلم يسع العم النبيل إلا أن يقول له: (أذهب يا أبن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيءٍ تكرهه أبداً).
عند ذلك تألبت على الرسول عناصر الشرك جمعاء، فأصيب في بدنه، وأتهم عقله، وأوذي في أهله، وعذِّب في صحبه. ثم فجعه الموتُ في عمِّه الشهم وزوجه المخلصة في يومين متقاربين من ألسنة العاشرة للرسالة، فأشتدَّ عليهما حزنه، وحرج بعدهما في مكة مقامه، فخرج منها إلى الطائف يدعو ثقيفاً إلى الله فأغروا به صبيانهم وسفهاءهم فقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه، فلجأ إلى بستان يعصمه منهم، وتفيء شجرة من شجر الكرم وهو يدعو الله ويقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربّي. إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي).
ولما نبت قفار مكة على الغراس الإلهي انتوى الرسول الهجرة بالمسلمين إلى المدينة، وقد أسلم فيها جماعة من الأوس والخزرج، فأحس المشركون منه هذا العزم فائتمروا به ليقتلوه. ولكنه خرج ليلة اجتماعهم على قتله هو وصديقه أبو بكر إلى طيبة، تكلؤهما عين لا تغفو وقوة لا يقام لها بسبيل. وهنالك تجلّت في الرسول مواهب الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس، فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثر باللسان، وقهر باليد. وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل. فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة؛ كان رسولاً في الدين، وعلماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب. وبهذه المواهب التي نشأت في محمد بالفطرة، وانتقلت إلى أصحابه بالقدوة، أصبح الإسلام الذي بدأ بخديجة وعلى وأبي بكر وزيد، دين الناس ودنيا العالم؛ يقف به في آخر الغرب عقبة بن نافع على شاطئ المحيط الأطلسي ويقول وقد خوض جواده في الماء: (اللهم ربَّ محمد! لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك. اللهم أشهد) ويتجه به إلى آخر الشرق قتيبة الباهلي، ويأبى إلا أن يوغل في بلاد الصين، فيقول له أحد أصحابه محذراً: (لقد أوغلت في بلاد الترك يا قتيبة والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر) فيجيبه قتيبة: (بثقتي بنصر الله توغلت.
وإذا انقضت المدة، لم تنفع العدة) فيرد عليه المشفق المحذر: (أسلك سبيلك حيث شئت، فهذا عزم لا يقله إلا الله).
فليت شعري يا علماء الإسلام ويا زعماء العرب، ماذا في نفوسنا وأيدينا من دين محمد وأخلاق محمد وتراث محمد؟ ألسنا نعيش اليوم مسلمين من غير إيمان، ومستقلين من غير سلطان، ومتحالفين من غير ألفة؟ وهل كان ذلك يكون لو اتخذنا من أحكام الله منهاجاً ومن وصايا رسوله علاجاً ومن حياة السابقين الأولين قدوةً؟
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام وطغيان الحكام وسلطان الجهالة. فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!
أحمد حسن الزيات