مجلة الرسالة/العدد 861/أعداء ثلاثة
مجلة الرسالة/العدد 861/أعداء ثلاثة
للأستاذ محمد تيمور بك
أعداء الإنسانية كثير، وصولتها في مملكة الشر قائمة على قدم وساق، وإنها لتعبث في الأرض فساداً ما وسعها أن تعبث.
ومنذ نجمت هذه الأعداء قام في وجهها دعاة الخير، وأحلاف الفضيلة، يحدون من عدوانها على وجه الأرض، ويكفون أذاها عن الناس.
وما برحت أسماعنا تهزها أصداء الحملة على ثلاثة من هذه الأعداء، أوغلت في البغي، وأمعنت في الشر، فنهض لها قادة الأمة يشنون عليها غارة شعواء. . . تلك هي: ثالوث الفقر والجهل والمرض.
وليس ينكر أحد ما لهذا الثالوث الكريه من جسيم الخطر، فإليه مردَّ ما تعانيه الأمة من آلام شداد، وما يعتاق خطاها إلى الأمام من عقاب صعاب.
بيد أن هذه الأعداء الثلاثة على جسامة خطرها تبرز في المعسكر المادي للعيان، وتغنى في محاربتها عدَّة حازمة من وسائل الاقتصاد. فما أشبهها بالقروح الظاهرة، داؤها مكشوف، ودواؤها معروف، إذا أنت أخذت فيها بأسباب العلاج، خبيراً به، محكماً له، كان لك أن تستقبل طلائع الشفاء.
وثمة في حياتنا العامة أعداء باطنة تكمن في دخيلة النفوس، ويسري أذاها في المجتمع مسرى الدم في العروق. وهذه الأعداء المعنوية هي التي يتعذر التخلص منها إلا بجهد ورياضة ومعاناة.
ومما لا ريب فيه أن المعنويات هي الأساس في سعادة الإنسان. فكلما صلحت المعنويات أفاضت من صلاحها على الماديات.
ليست تلك المعنويات إلا الروح، وإذا قويت طاقات الروح لم تقو عقبة على أن يبقى لها سلطان.
متى توافرت للنفس عقيدة وإيمان، مضت في طريقها تشقه، حتى تروعك من أعمالها بالمعجزات.
أفي مستطاع امرئ أن يسعى في مطاولة أعداء الإنسانية في المعسكر المادي، دون أن يكون مدفوعاً إلى ذلك بعامل نفسي قوي موصول بحب الخير؟
إن العالم يدين برفاهيته، وبشمول الخيرات فيه، لقوى نفسية اتخذت من المثل العليا رائدها في الطريق، فأحبت الخير، وعملت عليه، وبذلت جهدها له، حتى بلغت ما تريد.
المعنويات إذن هي نواة الرقي الماديّ. فإذا شئنا أن نعلي من شأن الماديات في حياتنا العامة، فعلينا أولاً أن نجند قوى النفوس للتخلص من أمراض النفوس.
ويلوح لي أن أعداء الإنسانية في المعسكر النفسي ثلاثة: الحسد، والبغض، والحقد.
وإن شئت قلت: أنه عدوٌّ واحد، يتشكل في ثلاثة أطوار من حياته، يبدأ في طور الطفولة حسداً، ثم يجتاز طور الشباب بغضاً، ثم يكون في كهولته حقداً.
يمد المرء عينه إلى ما حوله فإذا هو حاسد، ولا يلبث أن يسلمه الحسد إلى إبغاض لمن يحسده، وما هي إلا أن يحقد عليه، فيطوي النفس على إيذاء له، وإيقاع به.
ذلك العدو المثلث هو حجر الزاوية في مأساة البشرية، وليس ميدانه مقصوراً على الفرد وحده، ولكنه يتعداه إلى الجماعات على اختلافها، بل أنه يتخطاها إلى الدول على تفاوتها، والى الأجناس على ما بينها من تباين.
ولكي يناهض الإنسان هذا العدو الصميم، عليه أن يواجهه في معسكره الأول، أعني نفس الفرد. فإذا انكشفت عن الفرد عداوته، لم ينبسط لها ظل في الجماعات والدول والأجناس.
ولا تحسبن النفس الواحدة من الضآلة بحيث يتيسر علاجها على كل طالب، فإن هذه النفس عالم زاخر يحتاج إلى تنظيم وتدبير وسياسة لا تقل عن تنظيم الممالك وتدبير الأمم وسياسة الدول.
متى اشتملت نفس بهذه العداوة المثلثة عانت حالة من الضعف والمرض، وهذه الحالة لا تصيب النفس بدافع الحرمان وحده، فكم من نفوس حسدت فأبغضت فحقدت، لغير مسوِّغ من حاجة ملجئة، أو ضرورة داعية.
مرجع هذه العلّة النفسية إلى بذرة الأنانية، تلك التي تجعل النفس في بوتقة من القلق والاضطراب، يهيجها ما تراه حولها من خير ينصرف دونها إلى سائر الناس. فهذه النفس لا تسكن ولا تقر إلا إن وقفت بمرصد، لتردّ عن السبيل خطوات الساعين إلى الغايات.
كيف نكافح هذا العدو المثلث؟ كيف نهوّن من بطشه إن عزّ علينا أن نستأصل شافته؟
كيف السبيل إلى أن نوفر للنفس حظها من الصحة والعافية، فيجتمع لها من القوة والثقة ما تعتصم به من شر ذلك المرض الوبيل؟
لا جدوى لمختلف العقاقير والأدواء في علاج أمراض النفوس، فالسبيل في شفائها مرهون بترويضها على إيثار الخير، وحب الغير. . .
ليس في مقدورنا أن نروض أنفسنا على الخير الشامل دفعة واحدة، فالنفس حرون، وإن النفس لأمارة بالسوء، ولابد لها من مدارجة وملاينة، حتى تأبى الجماح، وتخفض الجناح.
ليأخذ المرء بادئ بدء بحبّ أقرب الناس اليه، وفي ذلك الميدان يتسنى له أن يقنع النفس بالحدِّ من الأنانية، فيهب من يشاركهم في العيش فضل سعيه، وموفور إخلاصه. ثم يخطو بخيره درجة أخرى، فيضم إلى أهله من يجدهم من حوله أعواناً وإخواناً. ولن يستعصي عليه بعد ذلك أن ينزل عن أنانيته طوعاً لمن لا صلة بينه وبينهم إلا صلة الإنسان للإنسان.
وبذلك التدرج في ترويض النفس على التخلص من الأثرة والأنانية، تتأصل تلك النزعة الإنسانية من الحب والخير. وفي هذا كسب للبشرية عظيم!
أذكر - فيما أذكر - قصة فتى فنان الروح، كان بالريحان ولوعاً، فأراد أن يستنبت وردة مثالية لا عهد بها لأحد، فقضى أعواماً يزاول تجاربه لجمع خصائص الورود الزكية في وردته المنشودة. وكانت تصاحبه فتاة رعناء، يطوي لها قلبه على حب فوّار، فأغدق عليها عطفه، واحتمل رعونتها في مصابرة ومطاولة، وأعانه حبه لصاحبته على أن يضل ساعياً لخيرها، لا يبالي أنانية نفسه وحقها عليه. وبينما كان الفتى مسترسلاً في تجارب الورود، كانت الفتاة تفكر في حسن معاملته لها، وصبره على أذاها. فأخذت تحاسب نفسها على ما كان منها، ورجعت تتودد إلى فتاها في دماثة خلق؛ ولين جانب. . .
ويوماً جاس الفتى مغتماً، يتحسر لإخفاقه في استنبات الوردة المثالية؛ فجاءته الفتاة مترفقة به، تسأله: فيم تفكر؟
فأبتسم لها ابتسامة يأس. فقالت له، وهي تلاطفه:
ألا يكفيك أن أكون وردتك المثالية التي نجحت في خلقها خلقاً جديداً؟ فإذا أردنا أن تكون الحياة روحاً وريحاناً، فلنحرص على أن نستنبت في نفوسنا تلك الورود المثالية التي يضوع منها عطر المحبة والإخاء!
محمود تيمور