مجلة الرسالة/العدد 83/بين القاهرة وطوس من طوس إلى طهران
مجلة الرسالة/العدد 83/بين القاهرة وطوس من طوس إلى طهران
9 - بين القاهرة وطوس من طوس إلى طهران
للدكتور عبد الوهاب عزام
برحنا المشهد عائدين إلى طهران والساعة عشر إلا ربعا من صباح يوم الاثنين سادس رجب (15 أكتوبر) فمررنا بقرية اسمها قدمكاه (موضع القدم) وقد ذكرتها في سيرنا من نيسابور إلى مشهد وأرجأت الكلام عنها إلى الاياب إذ لم نعرج عليها في الذهاب. وقفت السيارة فنزلنا وملنا ذات اليسار فدخلنا ساحة بين جدارين فيها طاقات لا ابواب لها بناها بعض السلاطين ليأوى إليها المسافرون. ثم صعدنا إلى مستوى ينحدر منه مجرى ماء. فانتهينا إلى شجرات عادية بجانبها حجرة كبيرة. ولقينا قيم المكان فقال أنا كشيش قدمكاه. قلنا يا صاح أن الكشيش رجل الكنيسة وانت رجل مسلم، فقال أنا خادم القدم المبارك.
ولجنا الباب فرأينا على يسارنا بنية فيها حجر بركاني اسود فيه اثر قدم. قال دليلنا هذا قدم الامام على الرضا، ثم خرج بنا إلى حجرة أخرى في وسطها بركة صغيرة مستديرة بها ماء صاف يشف عن سمكات صغيرات يجلن بين سطحه والقاع. قال هذه عين الامام الرضا فاشربوا. فغسلنا أيدينا داعين منشدين:
(وعين الرضا عن كل عيب كليلة)
نزلنا سائرين غلى الجادة فشربن الشاري وقوفاً واستأنفنا المسير إلى نيسابور. ونزلنا في الخيام التي ضربت لنا من قبل عند قبر الخيام فاسترحنا وطعمنا.
خرجنا من نيسابور والساعة ثلاث بعد الظهر، فوردنا سبزاور ستا إلا ثلثا، فأوينا إلى النزل الذي وصفته من قبل، وبعد العشاء اجتمع بعضنا في حجرة الأستاذ العلامة كوبر علي زاده محمد فؤاد مندوب الحكومة التركية، وجاء مغنون من أهل القرية فغنوا من رباعيات الخيام وغيرها ضاربين على التار (آلة تشبه العود) فطربنا لهذا الغناء وهذا المجلس الذي جلس فيه علماء من أمر شتى دون ترتيب ولا تكلف، بعضهم على السررُ والآخرون على الأرض، فأخذنا نوقع بأيدينا على نغمات التار.
ولا أنسى الأستاذ كريستنسون الدانمركي وقد مد رجليه وأمسك عود الدخان (البيبة) بفمه ونشط للصفق على أنغام الموسيقى.
برحنا سبزاور والساعة تسع ونصف، فبلغنا داوَر زَن بعد ساعة ونصف ونزلنا بها منز الأول فاسترحنا وتغدينا. ثم فارقناها والساعة واحدة ونصف نؤم شاهرود، وكان بردها لا يزال عالقا بي، فقلت لأصحابي: سأترك في شاهرود الغلة التي أخذتها منها. قال الأديب رشيد الياسمي: إن الله يأمركم أن تؤدون الأمانات الى أهلها. وبعد ساعة وقفنا على قرية اسمها عباس أباد فجاء شبان يعرضون علينا من صنعة القرية مسابح وأزراراً وأشياء أخرى مصنوعة من حجر ازرق ضارب إلى السواد فاشترينا منها للذكرى.
ثم سرنا فمررنا بزيدر فنزلنا به ربع ساعة فشربنا الشاي عند شجيرات وقناة هناك، وأسرعنا المسير ليتسنى لنا أن نعرج إلى بسطام فنزور أبا يزيد قبل الغروب، فعطبت سيارتنا على مقربة شاهرود، وذهبت فضلة الوقت في إصلاحها فاضطررنا أن نعدل عن بسطام إلى شاهرود فوردناها بعد المغرب ونزلنا في دارين داخل البلد استُبدلتا بالدار التي بظاهر البلد بعد الذي أصابنا من بردها في الطريق إلى المشهد. وبكرت أنا والأستاذ عبد الحميد العبادي والأديب أحمد الصراف آملين أن نزور بسطام ونرجع قبل أن يتأهب أصحابنا للسفر، فما زلنا ننتظر سيارتنا حتى فقدنا الرجاء في زيادة أبي يزيد فسرنا مع الركب آسفين مرسلين للشيخ الصوفي تحيتنا على البعد
سرنا عن شاهرود والساعة سبع ونصف من صباح الأربعاء مزمعين أن نبلغ طهران عشية اليوم. وبين شاهرود وطهران أربعمائة كيل وثلاثة. وردنا دامغان بعد ساعة، فرأينا أن نتلبث بها لنرى بعض مشاهدها ولم تكن وقفنا بها في ذهابنا إلى المشهد،
كانت دامفان مدينة فومس، وهي اليوم من ولاية طبرستان وتبعد 64 كيلاً من استراباد، جنوبي جبال ألبرز. على حدود العراق العجمي وخراسان. ويقال إنها في موضع مدينة هِكتمبيليس إحدى المدن العظيمة في مملكة الأشكانيين القديمة، وأن إسكندر المقدوني أدرك دار الثالث قتيلاً على مقربة منها.
قال ياقوت راوياً عن مسعر بن مهلهل: (الدامغان مدينة كثيرة الفواكه. وفاكهتها نهاية. والرياح لا تنقطع بها ليلاً ونهاراً. وبها مقسم للماء كسروى عجيب يخرج ماؤه من مغارة في الجبل ثم ينقسم إذا انحدر عنه على مائة وعشرين قسماً لمائة وعشرين رستاقاً لا يزيد قسم على صاحبه، ولا يمكن تأليفه على غير هذه القسمة.
وهو مستطرف جداً ما رأيت في سائر البلدان مثله ولا شاهدت أحسن منه) قال ياقوت: (قلت أنا جئت إلى هذه المدينة في سنة 613 مجتازاً بها إلى خراسان، ولم ار فيها شيئاً مما ذكره لأني لم أقم بها)
وأنا اقول قول ياقوت، وأزيد أن مقسم هذه المياه تهدم إبان الغارة الافغانية فيما يقال
وإلى الشمال الشرقي من المدينة، ينبوع عظيم يسمى جشمئه على (ينبوع علي) يزوره الناس، ويزعمون أنه يفيض على حجر به أثر من حافر فرس الرسول صلوات الله عليه. وقد بني حوله فتح علي شاه 1217
وقال ياقوت: (وبينها وبين كرد كوه قلعة الملاحدة يوم واحد، والواقف بالدامغان يراها في وسط الجبال)
سألنا عن الآثار الساسانية التي بدامغان فقيل لنا إنها بعيدة عن البلد، وطرقها غير معبدة، وهي ليست ذات خطر. ثم هُدينا إلى بناء اسلامي قديم، فدخلنا إلى فناء فيه قبور لاطئة بالارض، ينتهي غلى حجرة كبيرة وسطها قبر كبير سياج من الخشب، وعليه كتابة قديمة كثيرة، وإلى يسار الداخل قبر صغير لا سياج له، فأما الضريح فقيل إنه لأحد أبناء الأئمة العلويين، وأما الذي إلى يسار الداخل، فقيل إنه لشاهرخ، ورأينا حجرة أخرى مغلقة كتب عليها: أمر بعمارة هذا البناء شاهرخ. وقد ظننت أنه شاهرخ بن تيورلنك، وعجبت كيف دفن هنا وقد مات في الري. ثم تذكرت شاهرخ حفيد الملك نادرشاه، الذي أسره آقا محمد القاجاري في دامغان، وما زال يعذبه ليسلم إليه حزائن جده نادرشاه حتى مات سنة 1211، فقلت هذا قبر الأمير الضرير المنكود الطالع
بلغنا سمنان والساعة إحدى عشرة وربع فنزلنا منزلنا الأول في المصنع الذي بظاهر البلد. وقلت للأستاذ العبادي لا يفوتنا اليوم أن نرى مسجد الجمعة في سمنان. فقلنا للأديب سيف آزاد صاحب مجلة (إيران باستان) فرفقنا وصحنا في الطريق أحد ضباط الشرطة، ودخلنا من باب كبير تزينه نقوش وتمثيل وكتابة فيها اسم ناصر الدين شاه الى طريق على جانبيها أبنية للجند وخرجنا من باب آخر فسرنا في شارع مشجر وأزقة ضيقة، ثم ترجلنا وتركنا السيارة وتخللن الطرق حتى انتهينا الى مسجد صغير جميل، قرأنا فيما عليه من كتابة اسم الشاه طهماسب الصفوي
ثم ذهبنا الى مسجد الجمعة وهو قديم عظيم، وأقدم ما فيه منارته، وهي فيما يظهر بقية مسجد كبير بناه السلاجقة ثم هدمه التتار فأقيم المسجد الحاضر على جانب من عرصته. ثم زاد فيه إيواناً كبيراً أحد وزراء السلطان شاهرخ بن تيمور سنة 828
وخرجنا من مسجد الجمعة فمشينا في سوق طويلة مسقوفة تنبئ بعظم المدينة في الماضي، وقد أنشدني الأديب سيف آزاد في مسجد سمنان بيتاً معناه
(وا أسفا على المسجد الذي في سنمنان، إنه يوسف في السجن)
اجتمعنا على الغداء في سمنان، ونحن نعلم أن الركب سيتفرق في طهران فلا يجتمع، فتكلم بعض الوافدين شاكراً حكومة إيران، والموظفين الذين رافقونا في مسيرنا إلى طوس وإيابنا، وأجاب السيد ابتهاج والأديب رشيد الياسمي معربين عن سرورهم وافتخارهم بمصاحبة الضيوف الخ، وأرسلنا برقية إلى وزير المعارف نبلغه والحكومة الايرانية شكرنا. وكان الوزير قد تخلف في المشهد هو والوزراء الآخرون، ليصحبوا جلالة الشاه في سفره إلى جرجان. . .
ركبنا السيارات والساعة اثنان وربع بعد الظهر، فجد بنا المسير حتى نزلنا في فيروز كوه فاسترحنا وشربنا الشاي في مطعم هناك. ثم ركبنا فما زلنا في فيروز كوه (جبل فيروز) قممه وشعابه ووديانه حتى عيل الصبر، وأظلم الليل ورهقنا الاعياء. ثم دخلنا طهران والساعة ثمانية من المساء فأوينا إلى الفندق بشق الأنفس
(يتبع)
عبد الوهاب عزام