انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 83/محاولات أفلاطون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 83/محاولات أفلاطون


11 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- وفي هذا يزدري الفيلسوف البدن، فتفر منه روحه وتود أن تنعزل بنفسها

- هذا صحيح

- حسناً، ولكن بقي شيء آخر يا سمياس، أثمت عدل مطلق أم ليس له وجود؟

- لا ريب في أنه موجود

- وجمال مطلق وخير مطلق؟

- بالطبع

- ولكن هل حدث لك أن رأيت واحداً منها بعينيك؟

- يقيناً لم أره

- ألم تدركها قط بأية حاسة جثمانية أخرى؟ (ولست أتحدث عن هذه وحدها، بل كذلك عن العظمة المطلقة وعن الصحة وعن القوة وعن كُنْه كل شيء، أي حقيقة طبيعته) ألم يأتك علمها قط خلال أعضاء الجسد؟ أليس الذي يريد عقله على أن يتصور كنه الشيء الذي هو بصدد بحثه أضبط تصورٌ، إنما يسلك أخصرَ السبل التي تؤدي الى معرفة طبائعها الكثيرة؟

- يقيناً

- أما من يظفر بمعرفتها أسمى ما تكون نقاء، فهو ذلك الذي يسعى اليها واحدة واحدة، فيتناولها بالعقل وحده، دون أن يأذن للبصر او لغيره من الحواس الأخرى بالتطفل او التدخل في مشاركة العقل وهو منصرف الى التفكير، بل ينفذ بأشعة العقل ذاته، بكل صفاتها، الى ضوء ما فيها من حقائق، بعد أن يكون قد تخلص من عينيه وأذنيه، بل ومن كل جسده، الذي لا يرى فيه إلا عنصر تهويش، يعوق الروح عن إدراك المعرفة ما دام متصلاً بها - ليس أرجح الظن أن يظفر مثل هذا الرجل بمعرفة الوجود، إن كانت معرفته في مقدور البشر على الإطلاق؟ فأجاب سمياس - إن في ذلك يا سقراط لحقاً رائعاً

- أو ليس لزاماً على الفلاسفة الحق إذا هم اعتبروا ذلك كله أن يغوصوا في أفكارهم، فاذا ما التقوا تحدث بعضهم الى بعض عن تفكيرهم بمثل هذه العبارة: إنا اهتدينا الى سبيل من التأمل قمينة ان تنتهي بنا وبالجدل الى هذه النتيجة: وهي أنه مادمنا في أجسادنا وما دامت الروح ممتزجة بهذه الكتلة من الشر، فلن تبلغ شهوتنا حد الرضى، إنها لشهوة الحقيقة، ذلك لأن الجسد مصدرٌ لعناء متصل، علته هذه الحاجة الى الطعام، وهو كذلك عرضة للمرض الذي ينتابنا فيحول بيننا وبين البحث عن الحقيقة، وهو كما يقول الناس، أبداً لا يدع لنا السبيل الى تحصيل فكرة واحدة، لما يملأنا به من صنوف الحب والشهوات والمخاوف والأوهام والأهواء، وكل ضرب من ضروب الجهالة، وإلا فمن أين تأتي الحروب والمعارك والأحزاب إن لم تكن آتية من الجسد وشهوات الجسد؟ فالحروب يثيرها حب المال، والمال إنما يُجمع من أجل الجسد وخدمته، ومن جراء هذا كله يضيع الوقت الذي كان ينبغي أ، ينفق في الفلسفة، هذا ولو تهيأ للفلسفة الميل والفراغ لنفث الجسد في مجرى التأمل الشغب والاضطراب والخوف ليحول بيننا وبين رؤية الحقيقة، وقد دلت التجارب جميعاً على أنه لو كان لنا أن نظفر عن شيء ما بمعرفة خالصة لوجب أن نتخلص من الجسد، ولزم على الروح أن تشهد بجوهرها جواهر الاشياء جميعاً؛ ولست أحسبنا إلا ظافرين بما نبتغي، وهو ما نزعم أننا محبوه، وأعني به الحكمة، لا اثناء حياتنا بل بعد الموت كما تبين من الحديث. فان كانت الروح عاجزة عن تحصيل المعرفة وهي في رفقة الجسد، فالنتيجة كما يظهر أحد أمرين: إما أن تكون المعرفة ليست على الاطلاق حقيقة بالتحصيل، وإما أن تحصيلها يكون بعد الموت إن كانت جديرة به؛ فعندئذ، وعندئذ فقط، تنعزل الروح في نفسها مستقلة عن الجسد، وأحسب أننا في هذه الحياة الحاضرة نسلك أخصر السبل إلى المعرفة، لو كنا نبذل نحو الجسد أقل ما يمكن بذله من عناية وشغف، فلا نصطبغ بصيغة الجسد، بل نظل أصفياء إلى الساعة التي يشاء فيها الله نفسه ان يحل وثاقنا، فاذا ما ظهرنا من ادروان الجسد، وكنا اتقياء، وتجاذبنا مع سائر الأرواح النقية أطراف الحدث، تعرفنا أنفسنا في الأشعة الصافية التي تضيء في كل مكان، فلا ريب أن ذلك هو ضوء الحقيقة، فلن يُؤذن لشيء دنس أن يدنو مما هو طاهر، إنه لن يسع محبي الفلسفة الحقيقية، يا سمياس، إلا أن يفكروا في هذه الالفاظ وأشباهها، وأن يقولها بعض لبعض، أفأنت موافقي على ذلك؟

- يقناً يا سقراط

- ولكن أن صح هذا يا صديقي، فما أعظم الأمل إذن في أنني إذا ما بلغت غاية رحلتي، فلن يقلقني هذا الهم الشاغل الذي صادفني وإياكم في حياتنا الأولى؛ أما وقد تحددت ساعة رحيلي، فذلك ما أرْحلُ به من رجاء، ولست في ذلك فريداً، بل هكذا كل رجل يعتقد أن عقله قد تطهر

فأجاب سمياس - يقينا

- وماذا يكون التطهير غير انفصال الروح عن الجسد كما سبق لي القول، واعتياد الروح أن تجمع نفسها وتحصرها في نفسها بعدياً عن مطارح الجسد جميعاً، وانعزالها في مكانها الخاص، في هذه الحياة كما في الحياة الأخرى، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وفكاكها من أغلال البدن؟

فقال - هذا جد صحيح

- وماذا يكون ذلك الذي يُدعى الموت سوى هذا الانفصال نفسه، وتحل الروح من الجسد؟

فقال - لا شك في ذلك

والفلاسفة الحق وحدهم دون غيرهم يبحثون في انطلاق الروح ويتمنون ان يكون. اليس انفصال الروح وفكاكها من الجسد هو موضوع بحثهم الخاص؟

- هذا صحيح

- إنه لتناقض مضحك كما قلت في بادئ الأمر، أن ترى أناساً يحاولون بالدراسة أن تكون حياتهم قريبة من حالة الموت ما استطاعوا، فاذا ما ادركهم الموت أشفقوا منه

- يقيناً

- إذن يا سمياس. فما دام الفلاسفة الحق لا ينفكون يبحثون في الموت، فالموت عندهم، دون الناس جميعاً، أهون الخطوب. أنظر الى الأمر على هذا النحو: كم يبلغ منهم التناقض أن يناصبوا الجسد عداوة متصلة، وأن يتمنوا لو خلصت لهم الروح وحدها، فاذا ما أجيبوا الى ذلك، كن منهم السخط والجزع، في مكان اغتباطهم بالرحيل الى ذلك المكان، حيث يؤملون إذا ما بلغوه أن يظفروا بما قد أحبوا في الحياة (ألا وهي الحكمة)، وأن يتخلصوا في الوقت نفسه من مرافقة عدوهم. وكأين من رجل تمنى أن يذهب الى العالم الأسفل، آملاً أن يصادف هناك معشوقة دنيوية، او زوجاً، أو ولداً، ليتحدث إليهم. أبعد ذلك يشفق من الموت مضنْ هو للحكمة محب صحيح، ويعتقد كذلك أن لن تتاح له بحق إلا في العالم الاسفل؟ أليس يقابل لرحيل بالبشر؟

إنه يا صديقي لابد فاعل إن كان فيلسوفاً حقاً، لأنه سيوقن يقيناً ثابتاً أنه لا يستطيع أن يلتمس الحكمة في نقائها إلا هناك فقط، دون أي مكان آخر. وإن صح هذا، فأبلغ به من أحمق - كما سبق لي القول - إن كان يَفْرَقُ من الموت

فأجاب سمياس - لا ريب في أنه فاعل

وأنت إذا رأيت رجلاً يجزع من اقتراب الموت، كان جزعه دليلاً قاطعاً على أنه ليس محباً للحكمة، ولكنه محب للجسد، وربما كان في الوقت نفسه محباً للمال، أو القوة، أو كليهما

فأجاب - هذا جد صحيح

- إن ثمت يا سمياس لفضيلة تدعى الشجاعة. أليست هذه صفة خاصة بالفلسفة؟

- بقينا

- وكذلك الاعتدال. أليس الهدوء، وضبط النفس، وازدراء العواطف، التي يسميها الدهماء أنفيهم بالاعتدال، صفة مقصورة على أولئك الذين يحتقرون الجسد ويعيشون في الفلسفة؟

- ليس في ذلك خلاف

- وأنت إذا نظرت إلى الاعتدال والشجاعة عند سائر الناس، ألفيت بينهما، في حقيقة الأمر، تناقضاً

- وكيف ذلك يا سقراط؟

فقال - إنك عليم بأن الناس بصفة عامة ينظرون عامة إلى الموت شراً وبيلاً

فقال - هذا صحيح

(يتبع)

زكي نجيب محمود