مجلة الرسالة/العدد 818/على رمال أحد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 818/على رمال أحد

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 03 - 1949



الفدائية الأولى

للسيد عمر الخطيب

(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المج الكبرى ورسمت حدود عالم إسلامي واسع).

- 1 -

خرج محمد يستقبل وفد (يثرب) وقد بدت على وجهه متاعب ما يكابد من عنت وأذى، ومعاندة واستهتار، من هذه العصبة الفاجرة من قريش، التي ألبت عليه القبائل، وأغرت به الصبيان والسفهاء، ودفعت إلى هجوه الشعراء، ينعتونه تارة بالكاهن والساحر، وطورا بالمجنون والشاعر، وهو صابر على أذاهم راض بقضاء الله فيه، يتسع قلبه الكبير لهذه المكاره كلها، وتطوى نفسه العظيمة هذا العبث الذميم، فهو يمشي على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا أسمعه السفهاء شتما والصبيان رجما رفع يده إلى السماء وقال (ربي أهد قومي فإنهم لا يعلمون).

وحين لمح () الوفد اليثربي الكبير، أختفت من وجه سحابة الألم، واستقبله باسما مرحبا، وجلس يحدثه عن عودته، ويبين له مبادئ رسالته، ويحثه على الصبر والشجاعة والتضحية، ويعلن لهم أن شريعته لا ترضى بالظلم والعبودية، ولا تقر الشرك والأوثان، وتنفر من البغي والعدوان. . . فإذا بالوفد يخشع، وبالعيون تدمع، وبالقلوب تجب، وبالنفوس تصفوا، وبالأرواح تصفق، فيتقدم الوفد اليثربي من الرسول مصافحا معاهدا، يبايعه على أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يأمر بالمعروف، ويسعى في الخير، ويدعو الله ويضحي في سبيله بالمال والنفس. . .

وتقدمت من رسول الله إذ ذاك امرأة رزان، تمشي استحياء، ويكسوا محياها خفر المؤمنة التقية، وصبر الأم الحنون، وجلال من تملكت الخشية قلبه، وبسالة من باع في سبيل الله روحه. . . تقدمت تعاهد محمداً إلى الأيمان والتضحية والأقدام. . . فبارك صلى عليه وسلم عهدها، ودعا لها، وأمرها أن تكون رسولا إلى لداتها وأترابها، تدعوهن إلى الأيمان، وتغدوهن بلبان الإسلام، حتى تجلى نفوسهن، وتطهر قلوبهن، وتسمو مكانتهن، وينلن حقوقهن. . .

- 2 -

بينا (أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية) تنتقل من دار إلى دار، مبشرة الإسلام، داعية إليه نساء العرب، تمحضهن النصيحة، وتزف إليهن البشرى، وتحثهن على الخير والمعروف. . . وإذا بصوت النفير ينساب من جوانب المدينة، ويصل إلى أذنها ضئيلا خافتا، فيفزع فؤادها، ويهز جوانب نفسها فتخف مسرعة إلى بيتها، لتعرف الخبر من أهلها فإذا بها تفاجأ برهط من الصحابة مقبلين، وقد لبسوا دروعهم، وتقلدوا سلاحهم، فعلمت (أم عمارة) أنها الحرب، فانبلجت أسارير جبينها، واستيقظت مشاعر فؤادها. . . وأغذت السير حتى دخلت دارها، فألفت ابنيها وزوجها يجلون سيوفهم، ويصلحون لأماتهم، ويسرجون جيادهم، فانفجرت ثناياها عن ابتسامة الرضى والفرح، وأقبلت على أبنيها لتعانقهما وتقبلهما قبلت الوداع. . . وهنا صاح بها هاتف من ضميرها الحي المؤمن أن أذهبي يا أم عمارة مع الرسول في غزوته، تضمدين الجرحى، وتعدين السقاء، وتصلحين من شأن المجاهدين. . فلم تشعر إلا وقد انصرفت عن ابنيها، وراحت تعدو نحو المجد، لتلقى إلى الرسول بدخيلة نفسها، وأمينة فؤادها، لعله يسمح لها فتنال الشهادة في سبيل الله؛ وتضع في بناء الإسلام لبنة المرأة الشهيدة (والفدائية الأولى). . .

أذن الرسول الله لأم عمارة بالخروج لغزوة (أحد) مع زوجها وابنيها، فرجعت فرحة جذلة، يرقص فؤادها طربا، وتزغرد روحها سرورا، وأعدت للخروج عدته، فجمعت العصائب، وأصلحت المراشف، وخرجت تمني النفس بالشهادة، وترنو إلى الجنة، وترقب من وراء هذا النقع الثائر النصر المبين.

- 3 -

شمرت الحرب عن ساقها، وحمى الوطيس، واحمرت الأحداق، ولم يمض غير قليل حتى التحم الفريقان: جيش محمد وجيش أبي سفيان، فجلجلت المساء بالتكبير، وصدق فرسان الإسلام الحملة، وأعملوا في رقاب المشركين السيوف، وثبتوا ثباتا انخلعت له قلوب أعدائهم، وتزلزلت قواهم، ووهنت عزائمهم وإذا بهم يلوذون بالفرار، أمام هذه الوثبات الجبارة من هذه الأسود المؤمنة. وظن المرابطون على الجبل أن المعركة قد انتهت، فانصرفوا إلى الغنائم، وكانت هذه فرصة لجيش قريش، فكر راجعا وعزم على أن يمحو الإسلام، ويبطش بمحمد، واستمات المشركون في الهجوم، وعللوا أنفسهم بالحياة بعد الموت، وبالنصر بعد الاندحار. . .

رأت أم عمارة كتيبة من الأبطال المغاوير الثابتين حول محمد يردون عنه، ويقاتلون دونه، وقد آلوا أن يفدوه بأرواحهم، ويموتوا أمامهم عن أمامه عن أخرهم، فثارت فيه حميت الإسلام، وأيقنت أنها ساعات فاصلة في تاريخ هذا الدين، وتمثلت أمامه الجنة الوارفة الظلال بسبيلها ونعيمها وخلودها، ورأت أن ليس بينها وبين الجنة وما أعد الله فيها للشهداء إلا أن تجود بهذه الروح، وتهرب من هذه الدنيا. . . وذهبت تطوف بخيالها في جوانب هذا العالم المنشود، وتمتع الروح بهذه الأماني العذبة، والآمال العطرة. . . ولم يردها إلى الواقع التي هي فيه إلا صياح القريب ترامي إلى أذنها، وصوت قوي يقول (دلوني على محمد لا نجوت إن نجا). فنظرت أم عمارة فإذا (بابن قميئة) يعدو والسيف بيده قاصدا رسول الله، فأظلمت الدنيا في وجهها، وربت ربوة شديدة، وزأرت زئير اللبؤة ديس عرينها، وانتضت حسامها البتار، وأقبلت تعترض طريق أبن قميئة. . . وتستقبل ضرباته بصدرها وكتفيها، حتى ردت هذا الوحش الهائج عن محمد، وأكرهته على الفرار حتى ليقول الرسول صلوات الله عليه (ما ألتفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).

ورأت أم عمارة ابنها، وفي ذراعه جرح ينزف الدم فأقبلت نحوه تعصب جرحه وتضمده، ثم تحفز إلى العمل، وتلقى عليه دروس الصبر والبطولة فتقول: (قم يا بني فضارب القوم وجاهد في سبيل الله. . .) فيقوم الفتى الباسل، ترب الشجاعة، ولدة الإقدام، ويمشي نحو سيف ملقى بجانبه، ليعاود الكر والفر، ويقاتل في سبيل الله، وهنا تند من رسول الله نظرة فيرى هذا المشهد المؤثر فيمتلئ قلبه إكبارا وحبا ويقول: (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟) ويلتفت عن يمينه فيرى رجلا مقبلا يخب في سيره، ويلتفت يمنه ويسره فيقول الرسول: (يا أم عمارة هذا الذي ضرب ابنك) وما إن سمعت أم عمارة نداء الرسول حتى أهتز كيانها، ووثب جنانها، وأسرعت تعترض طريقه، وقد آلت أن تثأر لابنها ولإخوانه الذين جرحوا واستشهدوا في سبيل الإسلام، ثم شهرت في وجه سيفها وضربت به ساقه وصدره، فوقع قتيلا يتخبط بدمه. . .

ورأى رسول الله هذه البطلة تثار لابنها، وتقتص من جرحه فتملكه إعجاب شديد، وأبتسم حتى بدت نواجذه وقال لها: (استقدمت يا أم عمارة، الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك من عدوك واراك ثأرك بعينك).

ولم تكد أم عمارة تجهز على فريستها، وتمسح حد سيفها، وتلقى به في غمده، حتى سمعت تصايحاً، ولمحت غباراً، ونظرت فإذا بها ترى ثلة من مشركي قريش، قادمين نحو محمد، وفي عيونهم حنق وشر يريدون قتل الرسول واستئصال المدافعين عنه فتحسست مقبض سيفها، ثم سلته من غمده وعلمت أن حديثه لم ينته، وأن لسانه لم يسكت، وانه مازال به شوق إلى الدم، وشغف بأعناق المشركين فاستلته وصاحت (الله أكبر الله أكبر) وهمت أن تعدو نحوهم. . . لتؤدبهم مرة أخرى، وترجع برأس قائدهم الطاغية، فرأى رسول الله رجلا مولياً ومعه ترس فصاح به: (ألقي ترسك إلى من تقاتل). فألقى الرجل ترسه وتناولته أم عمارة ونهدت إلى المشركين، وهنا أقبل عليها فاستقبلت ضربته بالترس، وأهوت بضربة قوية على عرقوب فرسه فوقع على ظهره، يفحص بقدميه: وخشي الرسول أن ينهض هذا العاثر فيقتل أم عمارة فصاح يأبنها (يا أبن أم عمارة، أمك أمك فعاونها) فانتضى الفتى سيفه وتقدم من الفارس العاثر وعاون أمه في القضاء عليه ولم يتركاه إلا جثة هامدة. . .

- 4 -

انصرف (ابن قميئة) إلى صحبة بعد أن ردته أم عمارة خاسئا ذليلا، يحمسهم، ويقسم عليهم باللات والعزى، أن يقتلوا محمداً ويستأصلوا دعوته، ويبيدوا صحابته، وينصروا آلتهم. . . ومازال بهم حتى أثار حفائظهم، وأذكى قلوبهم وأحمى دمائهم فقاموا يقصدون محمداً. . .

ورأت أم عمارة أبن قميئة مقبلا قد عاد ثانية مع أصحابه بعد أن ردته على أعقابه خاسراً، فعلمت أنه قد بيت أمراً وأراد شراً فلم تجزع ولم تجبن، بل تطلعت نحو السماء، تستلهم العون والقوة؛ وتقدمت تدافع عن الرسول، فتجندل الفرسان، وتصرع الشجعان، وتتلقى الضربات ثابتة الجنان، صابرة راضية مطمئنة حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا، ولم ترجع إلا ومرفوعة الهامة، موفورة الكرامة، قد ردت مع إخوانها عدوان المشركين ودافعت عن قائدها العظيم. . . والرسول الأمين. . .

ورأى رسول الله الدماء تتدفق من جراحها فصاح بابنها (أمك أمك. اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وقلان. . .) وسمعت أم عمارة رسول الله يثني عليها هذا الثناء ويطري عملها ويبارك جهادها، فطابت نفسها، وقرت عينها وقالت (يا رسول الله، ادع الله أن نرافقك في الجنة) ثم تركت لدموعها الحديث. وهنا رفع محمد يديه إلى السماء وقد اخضلت لحيته بالدموع وقال: (اللهم أجعلهم رفاقي في الجنة) فقالت أم عمارة: (ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد هذا الدعاء) ثم ألقت رأسها في حجر ابنها، ونامت متأثرة بجراحها، فخورة بجهادها، وقد اطمئن ضميرها، وقر فؤادها. . . ثم أرخى الليل جناحه، وغمر المدينة بظلام وسكون. . .

- 5 -

نظرت (أم عمارة) وكان لا يزال رأسها في حجر أبنها فرأت الشمس ساطعة، والنهار مشرقا، وسمعت المنادي يدعو إلى الجهاد والناس يسرعون في الاستعداد، والمدينة في حركة دائبة، وعمل مستمر فعاودها الحنين للقتال، وصاح بها هاتف من ضميرها مرة أخرى يقول: (إلى حم راء الأسد يا أم عمارة. . . إلى الثأر من المشركين إلى أعداء كلمة الله. . . ورفع منار الإسلام) فهبت واقفة وأرادت أن تخطو إلى الأمام لتحمل سيفها وتهاجر إلى الله وتجاهد في سبيله، ولكنها عجزت عن المسير، وأقعدتها الجروح الدامية فمكثت تبكي وتندب حظها العاثر، وتعلل النفس بالجهاد القريب تحت راية محمد، وانصرف أهلها يضمدون جروحها، ويخفون عنها، حتى اقبل الليل. . . فنامت دامية الجسد حسيرة الفؤاد. . .

القاهرة

عمر الخطيب

(فتى الفيحاء)