انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 818/شعراء معاصرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 818/شعراء معاصرون

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 03 - 1949



العاطفة الدينية في شعر محرم

للشيخ محمد رجب البيوتي

- 1 -

منذ انتقل إلى جوار ربه الشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد محرم وأنا أشعر بحماس يدفعني إلى الكتابة عن عاطفته الدينية، فقد قرأت الكثير من روائعه المبدعة، فلمست فيها روحا حية متوثبة، وكان للنغم الساحر الذي تردده قيثارة الشاعر روعة عجيبة، فهو يرتفع بالقارئ إلى أفق رحب فسيح ترفرف فيه أجنحة الفضيلة والعزة، ويذكره بما كان للأمة العربية في عهدها الغابر من مجد باذخ قامت دعائمه على البسالة والكرامة فيحرك العاطفة ويوقظ الشعور. . .

والحق أن دراسة محرم رحمة الله من ألزم اللوازم في عصر ماجن ما جن مستهتر، فقد عصفت برءوس بعض الشعراء قي الشرق والغرب فوازع خبيثة تدفعهم إلى الفوضى الخليقة والتحلل الإباحي، زاعمين أن الشاعر الحق هو الذي ينساب وراء غرائزه وميوله، وأن العبقرية توقع صاحبها في مزالق مريبة، بل إن منهم من يتعمد الوقوع في البغي ليكون أحد هؤلاء العباقرة المتحللين!! وكم جر الاستعمار الغاشم على أبناء الشرق فضائحه ومخازيه، فزين له الخبيث، وبغض إليهم الحسن الجميل!.

نشأ الشاعر في بيت ريفي متدين فقد كان والده حريصا على تثقيفه وتهذيبه، فأحظر له في دور الطفولة من قام بإرشاده وتوجيهه فحفظ القرآن الكريم ودرس النحو والعروض واللغة، وأكب على استظهار النصوص الأدبية، ففتحت أكمام شاعريته الغضة، وبدأ يتغنى بمقطوعات بدائية تبنى عن ملكة واستعداد، وقد اتجه بنوع خاص إلى الثقافة الدينية فقرأ الحديث الشريف، وطالع السيرة المطهرة ودرس التاريخ الإسلامي المجيد، ثم عكف على قراءة الصحف والمجلات فألم إلماما مفيدا بسياسة أمته ووطنه، وشاهد في معية صباه ما يدبره المستعمرون من مكايد خاتلة للعالم الإسلامي، فتأوه لمصباح الفادح، وأطلق لشاعريته العنان فتغنى بمجد الإسلام وحث على استرجاع ما فقده الشرق من عظمة شاهقة وجاه عريض.

وإذا كنا نعتبر محرماً شاعر العاطفة الدينية في عصره دون منازع فأننا نتخذ منه دليلا يبطل ما زعمه الأصمعي من أن الشعر في جملته نكد صعب لا يسهل إلا في الشر، وتلك دعوى زائفة وجدت مكانها في العقول فحولت أنظار الشعراء عن الدعوة إلى المثل العليا، والتمدح بالأخلاق الدينية الرفيعة، وأنت تطالع الدواوين الشعرية فتجد ما قيل في المجون والخلاعة أضعاف ما قيل في التصوف والاحتشام وبديهي أن الشاعر المتمكن المطبوع يستطيع أن ينظم - بقوة إتقان - في شتى الأغراض التي تأخذ بمجامع قلبه، وتسيطر على خوالج نفسه، سواء كانت تتجه إلى الخير أو الشر، فالمدار على إذن قوة الشاعر وموهبته، ومن يستطيع نظم الرقائق الفاتنة في الليل الدامس، لا يعجزه أن يرسم الصور الساحرة للصباح الضئ، وهاهو ذا محرم قد أندفع وراء عاطفته اندفاعاً حميداً، فجاء شعره نموذجاً حسناً للشعر المثالي الرصين.

ونحن حين نشيد باتجاه محرم وجهة الخلق والدين، ولا نعني بذلك أنه عقد في ديوانه فصولا خاصة بالدعوة الإسلامية، ولكننا نؤكد أن عاطفته الدينية قد ارتسمت بوضوح في شتى الأغراض الشعرية التي تحدث عنها الشاعر الكبير، فأنت تقرأ مدائحه ومرائية واجتماعياته وسياساته فتجد كل بيت ينطق بإيمان قائله، ويحدد الهدف الخلقي الذي يدعو إليه في حرارة وإذا رزق الشاعر إيماناً فلابد أن يترسم في مرآة شعوه، فهو إذا جال في إحدى سبحانه سيطرت عليه عاطفته المخلصة فوجهته أكمل توجيه حتى يصل إلى المرفأ الأمين.

وكنت سألت من أثق بهم من خلطاء محرم ورفقائه عن حياته وأخلاقه فسررت بما عملت من مروءته ونبله، حيث كان يبذل ما يملك - على ضآلته - في معونة المستعين، كما يحافظ على فرائض العبادة من صلاة وصيام. ثم هو إلى ذلك صفوح متسامح لا يؤاخذ مسيئاً بنقيصة، ولا يميل إلى الجدال والثرثرة في غير طائل. ويمكننا أن نقول إنه اتخذ كتاب الله إما ما يأتمر بأوامره، ويجيد عن نواهيه، وإنه ليعلن ذلك في صراحة إذ يقول:

أقول لصاحبيّ - وعاهدني - ... كتاب الله بينكما وبيني

فكونا صادقين ولا تخونا ... فإن لنا لإحدى الحسنين ولست ببائع نفسي وديني ... ولو أتيت ملك المشرقين

لهذا سلطة ولتلك أخرى ... فما بالي وبال السلطتين

سأملأ هذه الغبراء مجداً ... وأترك أهلها صغر اليدين

على التاريخ بعد الموت حقي ... وعند الله يوم الدين ديني

وقد أباح الشاعر لنفسه أن يتمدح بمروءته وتقواه، ولسنا نؤاخذه على ذلك فقد نشأ في عهد إباحي، وجد فيه من يتشدقون بآثامهم المخزية ويجاهرون بفضائحهم المندية، فإذا ألم بهم داع إلى الحق لووا رءوسهم ساخرين!! فلا مناص من أن يجاهر المهذب العف بشمائله، ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولقد صور الشاعر أخلاقه، وشرح عواطفه تشريحا صادقا حين:

من أيادي الله أني لم أخن ... عهد الأوفى أروم المغنما

راودتني عصبة عن حقه ... فأبى العرق الكريم المنتمى

عفة تقذف بي عن همة ... تقذف النسر وترمي المزرما

لا أرى الغدر وأن جشمني ... صرف دهر ظالم ما جشيما

مرحبا بالبؤس في أسبابه ... عفة البأس عن أن يأنما

ما يريد الدهر من مستبسل ... ما يهول الخطب إلا اقتحما

وسنوجز الحديث إيجازا، فنترك كلام الشاعر عن نفسه ونميل بشي من التحليل إلى بعض الأغراض التي جال في حلباتها جولات موفقه. وفي رأي أن قصائد محرم السياسية والاجتماعية والتاريخية تكفي الباحث المنصف في تكوين رأي صادق في عاطفته الإسلامية، ونبدأ بالحديث عن سياساته فنقول:

- 2 -

كان للخلافة العثمانية في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن ظل ينبسط على الدول العربية المتجاورة، ولئن تغلغل النفوذ النفوذ الاستعماري في شتى بقاع الشرق حقبا متوالية، فقد كان أبناء هذه الدول ينظرون إلى الخليفة العثمانية نظرة عالية، فيرون طاعته فرضا أكيداً يوحيه الإسلام وتملية العقيدة، ورغم ما أشتهر به عبد الحميد من العسف والجور والخروج عن شرعة الأنصاف فقد لهجة بمدحه كثيرا من الأدباء والشعراء، إذ كانوا يصرفون النظر عن شخصه ويرون الخليفة فكرة رمزية تقيم العدل وتجدد معالم الدين، وقد تفانى محرم - جربا وراء عاطفته الدينية - في محبة الأتراك فمنح خلفائهم الود وهاجم أعدائهم بقذائفه الصائبة. وأنت تقرأ مديحه في السلطان العثماني فتجده ينظر إليه من نافذة العقيدة، فيذكره بمركزه الديني ومقامه الإسلامي ثم يدلف إلى تقديم نصائحه التقليدية فيحث على الوحدة القومية، وينادي بالجامعة الإسلامية، وكان للمعارك الحربية التي خاضها الجيش العثماني صدى تردد في نفس الشاعر، فسجل الوقائع اليونانية، وندد بمن يهددون (الرجل المريض) بالثورات الداخلية والفتن الخارجية، وقد اعتمد الشاعر على خياله البعيد، فبالغ في مديح الجنود الأتراك مبالغة تدعو إلى العجب، وكأنه أراد أن يقوى الروح المعنوية في الشعوب الإسلامية فجوف الحقائق تجويفا يناقضه الواقع، وهو بلا شك مشكور لغيرته وحميته، وإلا فهل كان الجيش التركي في رمقه الأخيرة كما قال فيه؟

لهم كل يوم غارة تصبح العدى ... وأخرى تضئ الليل والليل فاحم

إذا نفروا لم ينفروا عن شمالها ... ولم يصحروا عن سيلها وهو عارم

بنوها الألى لا يرهبون بها الردى ... إذا اهتزمت في حافتيها الزمازم

إذا أقدموا لم يثنهم عن مغارهم ... غداة الوغى أهوالها والمآزم

معمون فيها مخولون إذا اعتزوا ... نمتهم قريش في الحفاظ وهاشم

أولئك أبطال الخلافة تحتمي ... بأسيافهم أن داهمتها العظائم

هم المانعوها أن يقسم فيئها ... وأن تستبي بيضاتها والمحارم

هم الناس لا ما تنكر العين من قذى ... وتوشك أن تنشق منه الحيازم

وما الملك إلا ما أطالت وأثلت ... طوال العوالي والرقاق والصوارم

ولقد ظل الشاعر على إخلاصه للدولة العثمانية، يمجد في أعلامها ويسهب في الثناء على مواقفها، وينذر الثوار الداخلين فيذكرهم بمسئوليتهم الفادحة أمام الله إذ يشعلون الفوضى بلا موجب، ويوقدون الفتنة في ربوع مضطربة تعصف بها الرياح الهوج.

وكم كان الألم لاذعاً في نفس محرم حين طوى بساط الخلافة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقد أفزعه اضطهاد الكماليين لرجل الفقه والتشريع، ونقا إليه ما ارتكبوه من غلو فاحش، حيث وأدوا العاطفة الدينية في وقت أصبح فيه القابض على دينية كالقابض على الجمر. وأذكر أنه نظم في سقوط الخلافة ملحمة طويلة طبعت وحدها في كتاب مستقل، وكان يهمني أن أستشهد ببعض أبياتها الدامغة، لولا ضياعها من يدي. ولا أدل على حماس الشاعر للأتراك العثمانيين من قصيدته المؤثرة في رثاء والده، فقد نسى مصابه الشخصي، وغالبته العاطفة الدينية فترك الأنين والدموع وأندفع إلى الحديث القائم العثمانيين والإنجليز، ولك أن تقدر معي شعور مسلم غيور، هاجت عاطفته الدينية فأنسته ما وقع فيه من أسى قاتل، وحزن مرير.

هذا وسياسات محرم تتسم بطابعها الإسلامي فمدائحه في العزيز حث وتذكير بالآداب الخلقية، ورجوع بالأمة إلى ماضيها المجيدة؛ وقصائده في الحرب العالمية الأولى تنديد بالحضارة الغربية المتوحشة، وتصوير صادق للمسارح الدولية التي تراق فيها الدماء وتتناثر عليها الأشلاء. هذا إلى مقارنة معتدلة بالحضارة الإسلامية في عهدها الزاهر، وكيف كانت مناراً شع على العالم بضوئه الوهاج. وحين قامت الحرب الطرابلسية الإيطالية صرخ محرم صرخات مؤرقة، ولم يشأ أن يقصر شعره البربرية الإيطالية المتوحشة، فيكتفي برسم الفضائع الدامية التي أرتكبها المحتلون بالشعب الأعزل المستكين، بل غمره شعوره الديني في طوفان جارف صخاب، فتمثل البيت الحرام يرتجف رعبا بمكة، ويثرب ذات القبر الطهور تولول جازعة؛ استصرخ الغر الميامين من أبطال الإسلام، فتساءل عن علي بن أبي طالب، وتطلع على خيل الله يقدمها صاحب اللواء، وتذكر ابن الخطاب في فتوحاته الشاسعة وحن إلى المقاديم من فهر ومضر وقريش، أسمعه يقول:

أين ابن عم رسو الله يطفئها ... حرباً على كبدي من نارها شرر

أين اللواء وخيل الله يبعثها ... عمرو ويقدم في آثارها عمرو

أين المقاديم من فهر ومن مضر ... ومن قريش وأين السادة الغرر

أين الملائكة الأبرار يقدمهم ... جبريل يستبق الهيجا ويبتدر

أين الوقائع تهتز العروش لها ... رُعباً وتنتفض التيجان والسرر

أين القياصر مقهورين لا صلفا ... نآى بجانبهم عنا ولا صعر

أيطرب البيت أم تبكي جوانبه ... حزنا ويقول فيه الركن والحجر ويح الحجيج إذا حانت مناسكهم ... ماذا يرى طائف منهم ومعتبرو

أين الحماة وقد ضاعت محارمنا ... أين الكفاة وأين الذادة الغير

وهكذا كان التذكير بالماضي سلاحا سلا بائرا في قبضة الشاعر، والحق انه آتى أكله وأثمر في حينه فوثقت الأمم العربية بماضيها المجيد، بعد أن حاول الاستعمار الغاشم أن يبرزه في صورة نكراء.

وطبيعي أن يكون ندب الماضي االبهيج مقروناً بالتحسر على الحاضر الأليم؛ فالصورة الجميلة المشرقة لا تكمل لها أسباب الروعة إلا إذا قرنت بصورة دميمة بشعة، وحالة الشعوب الإسلامية قد بلغت من الهوان مبلغا يستدر الدموع، فكانت الشكوى من انحطاط الشرق ميدانا فسيحا تحول فيه الأقدام حتى ليجوز لنا أن نعتبره عنصراً هاماً من عناصر الشعر الحية في نهضتنا الحديثة. ومعلوم أن الشعور بالنقص هو الدافع الأول إلى الكمال والتقدم، فلا مناص إذن من الاعتراف بالواقع الأليم. وكم تضرع محرم إلى ربه راجيا أن يأخذ بيد أمته إلى طريق البر، وكم سهر الليالي الطويلة يتألم فيما خيم عليها من غواش حالكة؟ وكم وقف بين اليأس والأمل لا يدري أي يبتسم الدهر للشرق أم تكون الأخرى فيضل الكابوس الأوربي جاثما فوق صدور المسلمين؟ عواطف مشتجرة متناحرة خلقتها الروح المتوثبة في نفس الشاعر فصيرته في حيرة من أمره إذ يقول.

تفاقمت الخطوب فلا رجاء ... وأخلفت الظنون فلا وثوق

تطالعنا السنون مروعات ... ونحن إلى أهلتها نتوق

يمر العهد بعد العهد شراً ... فأين الخير والسعد الأنيق

نوائب روّع التنزيل منها ... وضج القبر والبيت العتيق

بنا من ضارب الحدثان مالا ... يطيق مضاءه العضب الذليق

كأن جراحه في كل قلب ... شفاء للمنية أو شدوق

رويد البوم والغربان فينا ... أما يغني النعيب ولا النعيق

وردنا للنواعب لو عمينا ... وسدت من مسامعنا الخروق

أمض قلوبنا داء دخيل ... وهمّ في جوانحنا لصيق

وجف الريق حتى ود قوم ... لو أن السم في اللهوات ريق وبرح بالترائب مستطير ... يعاوده التميز والشهيق

ولولا هذه الصيحات المدوية ما أستيقظ أهل الكهف في: الشرق. ولن ألفت القارئ إلى ما في الأبيات السالفة من سلاسة وعذوبة فهي يتم عما يترقرق فيها من جمال فاتن، وتشهد لقائها المطبوع بالجودة والافتنان.

ولقد كان الشاعر دارساً لدينه دراسة مستفيضة، ولم ينجح به هواء - وهو المسلم الغيور - إلى المغالاة والتعصب، بل كان يضع الأمور في نصابها وضعاً صحيحاً، فحين بذر (السيرغورست) بذور الشقائق بين المسلمين والأقباط، أدرك محرم مراميه الدنيئة، فهب يدعوا إلى التسامح الديني ويذكر العنصرين المتناصرين لمبادئ الإنجيل والقران، ويشيد بعظمة المسيح ومحمد، ويرجع القهقري إلى التاريخ المصري القديم فيصور مجد الفراعنة الزاهر، ويستشهد بالأهرام الشاهقة، والمعابد الماثلة، ويعرض لما كان بين عمر والمقوقس من عهود، ثم يهدف إلى المطامع الأوربية وما بيته الإنجليز لمصر من شر يعصف بالعزة ويمحق الكرامة. وقديما كان التسامح والتواد منهج القادة من المفكرين والمصلحين وبهذه الروح السامية تكشفت خبائث المحتلين وافتضح الثعلب الإنجليزي الماكر فأطرق برأسه إلى الأرض حين أبصر الهلال والصليب يتعانقان في محبة وسلام.

(البقية في العدد القادم)

محمد رحيب البيومي