مجلة الرسالة/العدد 818/الكنيسة والدولة في ضل الشيوعية
مجلة الرسالة/العدد 818/الكنيسة والدولة في ضل الشيوعية
للأستاذ عمر حليق
اتجه رأس الحرية السوفيتية إلى المعقل الرئيسي الذي تتركز فيه المعارضة الراسخة المنظمة للفكرة الماركسية والدعوة الشيوعية والتوسع السوفيتي. هذا المعقل هو الكنيسة الكاثوليكية وهي نظام عالمي ثابت الأركان متحد الولاء في مركزية بابوية تعمل في تؤدة وخبرة ودقة طالما اشتهرت بها هذه الرهبانيات الكاثوليكية التي تحمل تراث عشرات القرون من النشاط الديني، وهو في المجتمعات الكاثوليكية مزيج من شؤون الدنيا والدين لا يقتصر على ناحية معينة في المجتمع الذي يعيش في وسطه ولكنه يسعى متعمدا لأن تكون له اليد الطولى في التوجيه الشعبي عن طريق المدارس والسنة الرأي العام والكلمة النافذة في التوجيه الحكومي في الشؤون الداخلية والخارجية بواسطة التكتل الكاثوليكي في الحياة السياسية. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية في يوم من الأيام قاصرة عن تمويل هذا النشاط المحكم لأنها - كما قلت نظام على موفور الموارد يتساند في الملمات ليسعف الأجنحة المهيضة في هيكله الضخم وهو يضم رعية تبلغ حوالي 400 مليون من مسيحي العالم
فلا غرابة أذن أن تثير محاكمة الكاردينال ميدزنتي هذه الضجة العنيفة لا في العالم الكاثوليكي فحسب، وله حوالي ثلثي الأصوات في الأمم المتحدة، بل كذلك في الثقافات التي بينها وبين الكاثوليكية في صراع تقليدي عنيف كالبورتستانتية الأنجلوسكسونية والأسكندنافية. ذلك لأن التحدي السوفيتي لا يقتصر على الكنيسة الكاثوليكية في محاربتة للقيم الدينية. وإنما هدفه هذه القيم نفسها في أي مذهب كانت، لأنها في مفهوم الشيوعية: (أفيون الشعب).
ولموسكو طرق متنوعة في صراعها في النظم الدينية. ففي التحاد السوفيتي نفسها، لم تجده الثورة الشيوعية في مستهلها (1917) صعوبة في القضاء على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فقد كانت عناصر التفكك في المجتمع القيصري تشمل الكنيسة، فضلا عن أن الكنيسة الأرثوذكسية ليست عالية وليس لها طبيعة الرسوخ والنفوذ الدولي الذي يمتع به الفاتيكان. ولما تمكنت العقيدة الماركسية في نفوس الجيل الجديد في الاتحاد السوفيتي. لم يجد (البوليت بيريد) في موسكو بأسا من أن يعاد تأليف الكنيسة الأرثوذ صوري يعالج مشاكل الجيل البائد من الأرثوذكسي الروسي بالإضافة إلى أن هذه الخطوة جاءت في مستهل التوسع السوفيتي الإقليمي مما صبغها بطابع من الدعاية لم يخف على أحد.
أما حالة الثلاثين مليونا من المسلمين في روسيا السوفيتية فغامضة يحط بها ستار من الكتمان لم يحاول الأزهر - وهو السلطة العليا في الإسلام - أن يعترف مبلغ بؤسها. فالاتصال الروحي والفكري والجغرافي مع هذه المناطق الإسلامية في القارة الروسية منقطع. وقد بعثت موسكو نماذج من المسلمين الروس إلى الحج على سبيل الدعاية ولكنها أقلعت عن ذلك. ولم يسمع للمسلمين الروسيين صوت المأساة التي ألمت ببيت المقدس. وفي تقرير نشرته جماعة من المسلمين القوقازيين المشردين في معسكرات اللاجئين الأوروبية أن النسبة الكبرى من قتلى الجيش الأحمر في معارك الشتاء الجهنمية (1943) ضد الجبار النازي كانت من مسلمي القوقاز وتركستان والمناطق السوفيتية الإسلامية الأخرى في شرقي آسيا وأوسطها. فقد قدم السوفيت زهرة الشباب الروسي المسلم طعما لآلة الحرب السوفيتية في مستهل الهجوم العنيف الذي طوح بحملة هتلر، وكانت هذه أكبر تضحية في الأنفس التي قدمها الروس في الحرب المنصرمة.
على كل حال فإن ظروف الإسلام ليست خيرا من ظروف المسيحية في منطقة النفوذ الشيوعي في أوربا وآسيا.
وتنفرد اليهودية بحرية العمل في تلك المنطقة. فاليهود وحدهم محظيو السوفيت، ولهم حرية النشاط المذهبي والسياسي (كالصهيونية) والتنقل من روسيا وشرقي أوربا إلى أي مكان شاءوا خارج ما يسميه الغربيون (الستار الحديدي). وأرقام الوكالة اليهودية لسنة 1947 تشير إلى أن 89 بالمائة من يهود فلسطين هم من السلافين.
أما الكاثوليك في الاتحاد السوفيتي نفسه فقلة ضئيلة لا تتجاوز بضعة آلاف. ولكن الصراع بين الكومنفروم (الشيوعية العالمية) والفاتيكان يزداد حد يوما عن يوم في الدول الكاثوليكية التي يسطر عليها الشيوعيون إما بالغزو المسلح أو بموجب معاهدات بوتسدام وبالطا، أما بواسطة الانقلاب الثور ي كما حدث في تشيكوسلوفاكيا والدول الكاثوليكية في المعسكر السوفيتي هي: مجموع سكانها
عدد الكاثوليك
بولندة
24 مليون
22 مليوناً
تشيكوسلوفاكيا
12 12 مليونا
12 8 ملايين
المجر - هنغاريا
9 ملويين
7 ملايين
وهناك أقليات في رومانيا وبلغاريا لا تبلغ هذه النسبة المرتفعة
والطرق العملية التي تلجأ إليها الشيوعية لمحاربة الكنيسة في هذه الدول تختلف في بعض أوجه التنفيذ؛ ولكنها تتحد في مبلغ العداء والتحدي. وهذا باعتراف ستألين حين قال في أحد خطبه:
إن الحزب (الحزب الشيوعي الروسي) لا يستطيع أن يقف على الحياد إزاء العقيدة الدينية، وأنه يشن حملة على الدين وعلى كل أنواع التحامل المذهبي، فهذه هي افضل وسيلة لتقويض النفوذ الذي يمارسه رجال الكهنوت وينصرون (الطبقات الاستغلالية).
فلم يفعل الشيعيون في بولندة ضد الكنيسة الكاثوليكية ما فعلوه في روسيا ورومانيا مثلا حيث قيد نشاط الكنيسة الكاثوليكية في التوجه الشعبي والحكومي وجردت من صلاحيات التعليم والتوجيه السياسي وجعلت دائرة حكومية مقيدة بالتعليمات شأنها شأن الدوائر الحكومية الأخرى في الناحية العملية إن لم يكن في المظهر الخارجي. ثم حملت الأهلية الكاثوليكية على اعتناق الأرثوذكسية والتخلص من الولاء للفاتيكان هذا على الأقل ما تردده مصادر الحلفاء من أنباء شرقي أوربا.
أما بولندة حي للكاثوليكية رسوخ متين في الأكثرية الساحقة من السكان. فقد أحجم النظام الشيوعي القائم هناك عن الإمعان في سياسة القمع والعنف مع الكنيسة الكاثوليكية، فقد أبقى لها بعض الحرية والنفوذ في التعليم والنشاط الاجتماعي، إلا أنه قيدها في المجال السياسي بمشروع السنة الماضية يسلخ عنها ممتلكاتها الواسعة مما جعلها تعجز عن القيام بمصاريف التعليم والمعاهد الخيرية محاولا بذلك إبعاد الشقة بينها وبين القوى الشعبية المؤازرة لها المتحمسة للدفاع عنها. وحين انتصرت القيادة الكاثوليكية العالمية في الفاتيكان الكنيسة بولندة وضع الشيوعيون العراقيل في وجه هذه المساعدة وترك هذا الجناح المهيض من العالم الكاثوليكي يعيش على تبرعات المزارعين البولنديين في بلد يوجه الاقتصاد فيه نحو الماركسية الشاملة مما يجعل مبلغ العون الشعبي للمؤسسات الحديثة شحيحا ضئيلا مما سيؤدي إلى تقليد نشاطها التقليدي.
وفي تشيكوسلوفاكيا اتخذت الكنيسة الكاثوليكية موقفا سلبيا في النظام الشيوعي الذي استولى على الحكم، ولكن كاثوليك تشيكوسلوفاكيا كما ليس خيرا من إخوانهم في بولندة.
أما في هنغاريا، فقد كان التحدي في أعنف مظاهره في بلد أكثر من ثلثي سكانه من اتباع الكاثوليكية، فقد صادرت الدولة الشيوعية أموال الكنيسة عملا بقوانين توزيع الأراضي على صغار المزارعين ولم تترك الدولة لمؤسسات الكنيسة الخيرية سوى مخصصات تافه، وحددت نسبة المعلمين من الرهبان في المدارس الأولية والثانوية التابعة للكنيسة، ومنعت التعليم الديني إجمالا في مدارس الدولة والمعاهد الأهلية. وقد حمل الكاردينال مندزنتي وكيل البابوية في بودابست لواء التحدي لهذه الإجراءات مما أدى إلى محاكمته على النحو الذي تناقلته الأنباء.
والاتهامات التي عزيت إلى الكاردينال الهنغاري أربعة:
1 - تعاونه مع الأواسط الأجنبية (الفاتيكان وسفارة أمريكا) ضد الحكومة الهنغارية.
2 - رياسته لمنظمة تسمى لقلب نظام الحكم.
3 - متاجرة بالعملة الأجنبية (لعلها المساعدة التي يتلقاها من الفاتيكان).
4 - عداوته لليهود. فالعنصر اليهودي في النظام الشيوعي القائم في هنغاري وفي كل مكان واسع النفوذ متمكن في مراكز التوجيه.
وهذه الاتهامات في حد ذاتها تظهر طبيعة الدفاع الذي تهيئه الكنيسة الكاثوليكية ضد التحدي الشيوعي.
فالفاتيكان لا يترك أجنحة المهيضة في منطقة النفوذ الشيوعي تصارع منفردة، وإنما يقدم لها المعونة المادية والمعنوية بواسطة المبعوثين الدبلوماسيين للدول الغربية في عواصم الحكومات الشيوعية. ويبدو أن الولايات المتحدة بحكم المصلحة هي رسول الفاتيكان لاتباعه في المنطقة الشيوعية.
وهذه الاتهامات كذلك تدل على أن الكنيسة الكاثوليكية في صراعها مع الشيوعية لا تقتصر على التربية الدينية، فهي ترعى منظمات سياسية دنيوية الوسائل كعصبة العمل الكاثوليكي التي أنشأها البابا بنديكت الخامس عشر قبل ثلاثين عاما، وهي شبكة من الهيئات الشعبية تجند القوى الشعبية لنصرة الكنيسة وتتكلم باسمها في الشؤون المدنية، وهي مرتبطة مع بعضها على يد الفاتيكان وإدارته المركزية في دقة وأحكام.
وقد شعرت الكنيسة الكاثوليكية بخطورة التكتل العمالي واحتكار اليساريين لهذا التكتل فشرعت تنافسهم، ففي كل مجتمع كاثوليكي نقابات للعمال الكاثوليك توحي إلى الطبقات العامة أن الكنيسة نصيرة للعمال، وان نصرتها لا تقتصر على الخلاص الروحي، بل تتناول كذلك الإنعاش المادي عن يد التنظيم العمالي وما يستلزمه من ضمانات اقتصادية واجتماعية، وهذا النشاط يكون خارج سيطرة الكنيسة المباشرة، ألا أنه يعمل بإيحائها وينال بركتها ويلبي دعوتها عند الحاجة.
أما موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود في صراعهم مع الشيوعية الدولية، فهو غامض ودقيق، فمن التهم الموجهة إلى الكاردينال الهنغاري تهمة التحريض على اليهود. وقد حوكم من قبله عدد من الرهبان الكاثوليك في بولندة ورومانيا بنفس التهمة. والعداء لليهودية العالمية يقرأ بين السطور في المنشورات والصحف الكاثوليكية، ومع ذلك فلا يتخذ هذا العداء على خطورته طابع التحدي العلني (وقضية العدوان الصهيوني على الأماكن المقدسة اقرب مثل على ذلك)، وذلك لأسباب عدة، منها أن تسرب النفوذ اليهودي إلى ألسنة الرأي العام الدولي يجعل الكنيسة الكاثوليكية تتفادى أثار غضبه، وخصوصا في الدول الانجلوسكسونية لئلا تتهم حملتها (أي الكنيسة) على الشيوعية بالعداء المذهبي والعنصري، وهو (وباء) أحاطته اليهودية العالمية بحاجز من الأشواك الفكرية، فأصبح وصمة يهدد بها في الحضارة المسيحية المعاصرة كل من حدثته نفسه بالكشف عن خفايا الأجرام اليهودي في مجاله العالمي.
وقد وجد الكاثوليك أنفسهم في العالم البروتستانتي مرغمين على إسقاط هذه الناحية اليهودية في صراعهم مع الشيوعية الدولية لئلا يمعن النفوذ اليهودي القوي في ألسنة الرأي العام في إثارة الوقيعة التقليدية بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وقد ظهرت بوادر هذه الوقيعة من جديد في تصريحات بعض القساوسة البروتستانت الأمريكان في تعليقاتهم على محاكمة الكاردينال الهنغاري، وكادت هذه النزعة تتسع لولا أن أقدمت حكومة شيوعية أخرى هي بلغاريا على اعتقال 15 قسيسا بروتستانتيا، فقضت بذلك على أحداث المستنكرين البروتستانت للضجة الكاثوليكية.
وقد استفادت القيادة العسكرية الغربية من حدة هذا الصراع الديني الشيوعية والدين لتكسب لها عونا أدبيا في البرنامج الحربي الهائل الذي يعده الآن المعسكر الغربي للمعركة الفاصلة.
(نيويورك)
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية
-