انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 816/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 816/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 02 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

تحية قلبية وأخرى قلمية:

أتلقى من حين إلى آخر كثيراً من الكتب التي يهديها إلىَّ أدباء تربطني ببعضهم صلات ود وصداقة، ولا يربطني بأكثرهم شيء من صلات الود والصداقة، وكذلك الأمر فيما يختص برسائل القراء. ومما يؤسف له أن الذين يخرجون الكتب في هذه الأيام من الكثرة بحيث لا يستطيع الذين يكتبون النقد وهم قلة، أن يتتبعوهم فيما يكتبون وأن يتحدثوا عن مؤلفاتهم ناقدين أو عارضين! وليت الأمر يقف بهم عند هذا الحد، وهو التفضل بإهداء الكتب والاكتفاء بتقبل الشكر. . . كلا ولكنهم يطلبون إلى الناقد - عن طريق التلويح أو التصريح - أن يكتب عن الأثر الأدبي الذي أخرج، وأن يثني على الجهد الفني الذي بذل، لقاء ما قدموا إليه من ثمرات القرائح وما خلعوا عليه من أثواب المديح والإطراء! ويحار الناقد ماذا يقرأ وماذا يدع إن وقته لأضيق مما يقدر الذين بعثوا إليه بكتبهم راجين أن يشير إليها من قريب أو من بعيد، وإنه ليلقي من كتبهم ما قرأها كثيراً من العنت والإرهاق وإن منها ليذهب فيها الوقت والجهد بلا فائدة ترجي ولا غناء!.

والدهشة بعد ذلك في تلقي العتاب إذا ما تحدث عن كتاب فلان وأغفل كتاب علان؛ الدهشة التي تصاحبها الحيرة في الاعتذار لمن يهدون إليه كتبهم فلا يكتب عنها فيتبعون. . . ماذا يقول لهم وكيف يعتذر إليهم؟ أيقول لهم إنه لم يجد من وقته متسعاً للكتابة، أم يعتذر إليهم عن غثاثة الإنتاج وضآلة الجهد وتفاهة المادة؟ أمران كما يقولون أحلاهما مر. وليت الكتاب من أصدقاء يقدرون ويخففون من وقعها على النفس والشعور.

أما أنا فقد آليت على نفسي ألا أكتب عن أي أثر أدبي إلا إذا لمست فيه للأدب وفائدة للقراء. وحسب كتاب لم يتحقق فيه هذا الأمل المرجو أن أقدم الشكر على إهدائه، وحسب صاحبه تحية أقدمها إليه من قلبي. أما الكتاب الذي يضيف إلى رصيد القارئ ثروة فكرية جديدة فلن أتردد في أن أقدم إلى صاحبه التحية من قلمي!

هذه كلمة من مؤلفات الأدباء أنتقل بعدها إلى رسائل القراء. إن بعضها يردد واحدة لا تكاد تتغير وهي الشكوى من إهمال (الرسالة) لكثير مما يرسل إليها من إنتاج أدبي لا ذن لأصحابه إلا بعدهم عن الشهرة وذيوع الاسم! أما بعضها الآخر فيحمل إلىَّ مقالات وقصائد مصحوبة برجاء مرسليها أن أدفع بها إلى المطبعة لتأخذ طريقها إلى صفحات (الرسالة) وأيدي القراء، لأن ذوقي المتواضع من شأنه - في رأيهم - أن يستجيب لأمثال هذه الوثبات الفكرية والتهويمات الروحية!

إن ردى على هؤلاء الذين يحتكمون إلى ذوقي ويطلبون وساطتي، هو أنني لا أملك لهم غير الشكر والإعجاب، ولكن إعجابي لن يغني من (الرسالة) شيئاً. . . أن المرجع الأول والأخير هو ذوق الأستاذ العميد واعجاب الأستاذ العميد وانه فيما أعلم لا يوصد بابه ولا يغلق قلبه في وجه الذين تلوح له منهم بوادر نبوغ أو نفحات ذكاء أو اكتمال أداة! أما الشاكون من إهمال إنتاجهم فيستطيعون أن يجدوا الجواب على شكواهم في هذه الكلمات، وليثقفوا من أن عميد (الرسالة) لا يتردد في نشر ما يستحق أن ينشر، ولا في تقديمه على غيره إذا كان يستأهل التقديم

والدليل على ذلك قصيدة هذا العدد، فإن صاحبها الناشئ لم يعرفه أحد ولم يقرأ له فيما أظن أحد. .

رأي في السير ريالزم:

يسألني قارئ فاضل من قراء (الرسالة) عن رأيي في مذهب (السيرريالزم) عقب أن أتيت على ذكره في الكلمة التي تناولت فيها بالنقد كتاب (خلف اللثام) وهل يقدر لهذا المذهب الجديد الذي غزا ميدان التصوير والأدب في فرنسا وبعض البلاد الأوربية أن تشيع تعاليمه وتسيغه الأذواق ويستجيب له الفنانون هنا كما استجاب له بعضهم هناك؟

إن رأيي الذي أومن به ولا أحيد عنه أن مذهب (السير ريالزم) شعوذة فنية لا أكثر ولا أقل سواء في ميدان التصوير أم في ميدان الأدب إن الفن الذي لا تخرج منه بغير (اللخبطة) لا يعد فناً! وأي فن هذا الذي لا يبعث في نفسك وحسك شعوراً بالجمال ولا تذوقاً لألوانه ومعانيه؟ أي فن هذا الذي لا تلمس فيه أثراً للربط بين فكرة وفكرة ولا بين مقدمة ونتيجة في أدب الكاتب ولا تناسياً بين بُعد وبُعد ولا بين زاوية وزاوية في لوحة الرسام؟!.

(لخبطة) ولا شيء غير (اللخبطة). . . وحسبك أن تقرأ كتاباً لأندريه جيد وآخر لأندريه بريتون، وأن تشاهد لوحة من لوحات دى لاكروا وأخرى من لوحات بيكاسو إن جيد يمثل الوضوح والصدق والجمال، فهو قريب إلى عقلك قريب إلى قلبك، قريب إلى ذوقك؛ لأن أدبه وليد وشائج قوية من صلة الفن بالحياة. . . أما بيتون فهو هناك فيما وراء الواقع، أو فيما وراء العقل والقلب والذوق أو وراء الشطحات الفكرية التي تلغي كل صلة بين الفن والحياة!

بريتون في الأدب وبيكاسو في التصوير، وكلاهما عميد المذهب السريالي في فنه. . . أما بيكاسو فكان فنانا عظيماً يرفع من فنه الخصوم قبل الأصدقاء ولكن انحرافه في أواخر أيامه إلى هذه الشعوذة السريالية أفقده من كانوا يكبرون فنه ويشيدون بنبوغه وعبقريته! إن الفارق بين لوحة من لوحات دي لاكروا وأخرى من لوحات بيكاسو، هو الفارق بين فن يهز فيك مواطن الإحساس بالجمال وفن يهز مواطن الإحساس بالنفور. . .

إنك تستطيع هناك أن تخرج بشتى المعاني ولكنك لا تستطيع هنا أن تخرج بشيء!

هذا هو رأي في المذهب السريالي، وأؤكد للأديب الفاضل أن هذا المذهب الجديد لا يشق طريقه في فرنسا وهي موطنه الأول بسهولة ويسر لأن خصومه الكثيرين يهاجمونه في عنف لا هوادة فيه ويرمون أصحابه بالدجل والخروج على كل مألوف من أوضاع الفن وإذا كان بعض الكتاب والفنانين قد انحرفوا إلى هذا المذهب واندفعوا في تيار الدعوة إليه فإنه على التحقيق انحراف إلى حين واندفاع إلى حين. . . ذلك لأن الساخطين عليه لا يقاس إليهم الراضون عنه، سواء في مجال الكثرة العددية أو في مجال الطاقة الفكرية أو في مجال الشهرة والتفوق وغلبة الآراء والأحكام. ولا أعتقد أن مثل هذا الشذوذ في محيط الأدب والفن يمكن أن يكتب له البقاء هنا إلا إذا كتب له البقاء هناك، وهذا أمر يشك في وقوعه إذا ما احتكمنا إلى العقل الذي يزن النتائج على ضوء المقدمات!

حول مسابقة المصور للقصة القصيرة:

لم أكن أعرف أنني محتاج إلى دروس في فن القصة حتى قدر لي أن أطلع على كلمة في (البريد الأدبي) وجهها إلى الأديب حسن صادق حمدان في عدد (الرسالة) الماضي!

لقد رأى الأديب (العالم) أن يعقب على كلمتي التي نقدت فيها رأيا لمجلة المصور عن فن القصة القصيرة، ولقد جاء في تعقيبه أنني انحرفت عن الصواب حين قلت إن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت؛ انحرفت عن الصواب لأن مجلة المصور لم تشترط أن تكون القصص المتسابقة من النوع التحليلي. . لو راجع الأديب المعقب نفسه ورجع إلى ما كتبت لعلم أنني كنت أنقد رأياً ينادي بأن المفاجأة في ختام القصة تعد أهم أركانها على الطلاق ومعنى هذا أنني كنت أعترض على رأي يغلب عليه التعميم حيث يجب التخصيص، لأن هناك فناً قصصياً يخرج عن دائرة هذا الحكم الذي لا يفرق بين قصة موضوعية وأخرى تحليلية، هذا هو ما قصدت إليه في مجال التعقيب على رأي لا صلة له بما اشترطه (المصور) للمسابقة من تحديد النسبة العددية لكلمات القصة بستمائة كلمة، وإذن لا أكون قد انحرفت عن الصواب، ولكن الأديب المعقب هو الذي انحرف عن الفهم!

وأؤكد له مرة أخرى أن القصة الطويلة هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص، وطاقة القصاص، وأن الجهد الذي يبذل فيها لا يمكن أن يقاس إليه نظيره في القصة القصيرة. ولقد قدمت له الرأي في شيء من التفصيل وبقي أن أقدم إليه الدليل: إن الأستاذ توفيق الحكيم بكتب (لأخبار اليوم) قصة تمثيلية قصيرة كل شهرين تحتل صفحة واحدة لا تزيد عليها إلا في القليل النادر ويمكنه أن يرجع إليه ليسأله عن الوقت والجهد اللذين يبذلهما في كتابة مثل هذه القصة إنه لا يتفق في كتابتها إذا ما نضجت الفكرة في ذهنه أكثر من بضع ساعات. . . هذا في تمثيلية قصيرة من فصل واحد، فهل يدري الأديب المعقب كم بذل توفيق الحكيم من وقته في وضع مسرحيته الجديدة (أوديب الملك) لقد أنفق من وقته وجهده أربع سنوات لا بضع ساعات!! ثم يظن أن العناء الذي لقيه محمود تيمور في كتابة قصة قصيرة مثل (خلف اللثام) يعادل ما لقيه من عناء في كتابة قصة ضخمة مثل (سلوى في مهب الريح) وإذا أراد أن يحكم على الطاقة الفنية عند توفيق الحكيم فهل تنكشف له هذه الطاقة من مسرحية تحتل صفحة من (أخبار اليوم) كما تنكشف له من (أهل الكهف) و (بجماليون) و (شهرزاد) و (سليمان الحكيم) و (أوديب الملك)؟! وهل تنكشف له الطاقة الفنية عند تيمور من قصة قصيرة كما تنكشف له من (نداء المجهول) و (حواء الخالدة) و (سلوى)؟! وبعد ذلك يقول في تعقيبه: (إن كاتب القصة القصيرة يلاقي دفعة واحدة جميع الصعاب التي كانت متفرقة في القصة الطويلة)!. . أي صعاب يا أٍستاذ؟ إن حي دي موبسان في مجال القصة القصيرة خير بكثير من أونوريه دي بلزاك؛ ولكن أنفاسه تتقطع إذا ما حاول أن يجري معه في حلبة القصة الطويلة. . . هناك حيث رفعت بلزك طاقته الفنية إلى مرتبة أعظم قصاص في تاريخ الأدب الفرنسي إن القصاص العظيم أشبه بالجواد الأصيل. . . ذلك الذي لا تتضح طاقته على العدو إلا في رحاب المسافات الطويلة!

هذه كلمة لا أعتقد أنها تشق على فهم الأديب المعقب، وارجوا ألا تشق على إفهام غيره من المعقبين!

الفن عندنا وعندهم:

وقفت في (الأهرام) منذ أسبوعين عند صورة رائعة المغزى بعيدة الدلالة، تستحق من كل ذي عينين أن يقف عندها طويلا ليخصها بفيض من إكباره وإعجابه. . . أما تلك الصورة الفريدة فقد أشارت إليها الصحيفة الكبرى بهذه الكلمات:

(يقوم الممثل الكبير سيرلورنس أوليفييه مع زوجته فيفيان لي بتمثيل مسرحيتهما الجديدة (مدرسة الإشاعات) على مسرح (نيوثييتر) بلندن. وقد بلغ تهافت الجمهور على مشاهدة هذه المسرحية أن حجز جانب كبير من الأماكن مقدماً لعدة أسابيع؛ ويرى في الصورة جمع كبير وقد افترشوا الأرض لقضاء ليلتهم أمام مدخل المسرح ليتمكنوا من حجز أماكنهم عند فتح شبابيك التذاكر في الصباح).

أناس يفترشون الأرض وفي بيوتهم الفراش الوثير، ويتحملون مرارة الانتظار وما كان أغناهم عن الانتظار، ويضحون بالوقت وما أحوجهم إلى كل دقيقة يفندوها وتعود عليهم بما يشتهون ولكنه دعاء الفن. . . يلقي منهم آذاناً مصغية، وقلوباً متلهفة، ونفوساً تنشد متعة الذوق والفكر والروح.

عندهم فنانون عشقوا الفن وأخلصوا له. وعندنا مهرجون أجادوا التهريج ونبغوا فيه. . . وعنهم جمهور يستهويه كل جليل من الأمور وكل رفيع من الفنون وعندنا جمهور بليد الذوق متحجر العاطفة، يقضي ليله ونهاره متسكعاً في الطرقات أو متثائباً على القهوات! عندهم الوقت يوزعونه بين العمل المثمر حين يناديهم الواجب، وبين الكتب المفيدة حين تدعوهم المعرفة، وبين ملاعب التمثيل حين يشوقهم التحليق في سماء كل معنى جميل؛ وعندنا الوقت نضيق بطوله؛ لأنه فراغ وهباء: العمل في إخلادنا استخفاف بالتبعة وانحراف عن الجادة، والكتب في أيدنا مجلات تدغدغ الغرائز بالصور العارية والأفكار العارية، والترويح عن النفس في رأينا ميل إلى كل تسلية تافهة وكل لهو رخيص! هذا هو الفن عندنا وعندهم. . . وإذا كنت قد دفعت إلى شيء من الاستطراد فإن الحديث في مجال الفن يغري به ويدعو إليه وحسب المسرح هناك هذا الامتلاء، وحسبه هنا هذا الخواء!

شهداء المثل العليا:

قرأت بتأثر بالغ تلك الفصول التي كتبها في (المصور) القائمقام الشهيد فهيم بيومي قبل أن يودع مثله العليا في الطريق إلى الله. . . فصول كتبها بمداد قلمه ثم ختمها بدماء قلبه، وعلى صفحات (المصور) وفوق ثرى الأرض المقدسة ترك البطل الشهيد وصيته لأصحاب المثل العليا: سطورها من وقدات الفداء ونبل التضحية، وألفاظها من لفحات الجهاد وصدق البطولة، ومعانيها من وثبات وحرارة الأيمان!

فهيم بيومي ومن قبله أحمد عبد العزيز ومن بعدها أبطال وأبطال. . . وفي سبيل الله والوطن دماء فجرها القدر عيوناً لتسقي بها رمال الصحراء! لقد كانوا أصحاب مثل عليا في سبيل مثلهم عاشوا على الأرض وفي سبيلها صعدوا إلى السماء: أرواحهم على أيديهم وأنظارهم إلى الأفق البعيد، وهمساتهم في رحاب المجد أشواق. . . ولقد مضوا إلى غير رجعة، وبقيت منهم الذكرى تعبق في آفاقنا بأرج الحب، وتعطر مآقينا بدموع الوفاء، وتملأ تاريخنا برنين الخلود! يا رحمة الله لكم يا أبطال!. . لقد كان شاعرنا ينطق بلسانكم حين قال:

أخي إن جرى في ثراها دمي ... وأطبقت فوق حصاها اليدا

ففتش على مهجة حرة ... أبت أن يمر عليها العدا

وقبل شهيداً على أرضها ... دعا باسمها الله واستشهدا

أنور المعداوي