مجلة الرسالة/العدد 816/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 816/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 816
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 02 - 1949



للأستاذ عباس خضر

قضية أدب وفن:

يذكر القراء ما كتبته عن تغزل الهائمة أماني فريد في الدكتور إبراهيم ناجي، والعكس. . . وكان اهتمامي بالكتابة في هذا الموضوع لأني وجدته أمراً جديداً يستحق الوقوف عنده ولاشك أن تغزل امرأة برجل معين على صفحات منشورة قفزة جريئة بالغة الجرأة، يتهيبها الرجل فضلا عن المرأة والمرأة الشاعرة نفسها لا تزال تردد في خطوة تسبق تلك القفزة، وهي أن تتغزل غزلا غير محدد كما يفعل الرجل.

وقد حفزني على العودة إلى هذا الموضوع ما تلقيته من الرسائل وما سمعته من الأحاديث تعقيباً عليه وصدى له، وكلها تعبر عن الارتياح إلى ما كتبت عدا رسالة واحدة حوت لومي عليه، وهي من الهائمة أماني فريد تقول في أولها: (إني لجد خجلة من أن أرى كاتباً وأديباً لا يستطيع أن يفرق بين العلاقات الأدبية بين الشعراء وغيرها من العلاقات التافهة العابرة). وكنت أحسبها خجلة لغير هذا فإذا هي خجلة بالنيابة عني. . . وبعد كلام آخر لا يفيد في الموضوع تختم رسالتها بقولها: (والعجيب إن الرجل المصري لازال يحقد على المرأة إذا رآها استطاعت أن تبزه وتنتج ما لا يستطيع هو. . . فرفقاً يا سيدي وكن في أحكامك متوخياً العدل حتى لاتسم كتاباتك بسمة النقد الجائر. . كنت انتظر أن اسمع منك ومن غيرك من النقاد الأفاضل كلمة مدح وتشجيع لا قدح وأقباط للهمم).

وأترك جانباً مسألة حقد الرجل على المرأة وبزها له، لننظر هل أنا ظلمتها، وهل ما صنعته هي يستحق المدح والتشجيع؟ قد يستحق غزلها في الدكتور ناجي مدحه وتشجيعه، وقد فعل كيلا بكيل. . . ولست أدري علام المدح والتشجيع، أعلى (العلاقات الأدبية بين الشعراء)، أم على قيمة الإنتاج؟

أما (العلاقات) وكما بدت في مجلة (العالم العربي) فقد استنكرها من حدثوني ومن كتبوا إلى. كتب الشاعر النابغ الأستاذ إبراهيم محمد نجا: (وقد ارتاحت نفسي إلى حديثك عن الملهمة (فلانة)، والدكتور (عمر بن أبي ربيعه)، ذلك الحديث الذي تشيع فيه السخرية التي تبعث الألم وتورث الإشفاق، وقد كنت أحب يا أخي الفاضل أن تصرح بأن هذه الأبيات المنسوبة - إلى تلك الهائمة - ليست من صنعها، وإنما هي من صنع صاحبها المتيم، يعرف ذلك كل من قرأ شعر الطبيب الشاعر، ويعرف ذلك أيضاً كل من عرف هذه الهائمة، وعرف (مقدرتها) على نظم الشعر) ويقول الأديب صبري حسن علوان بكلية العلوم: (وماذا تريد أماني من الأماني؟ أأن تكون ليلى القرن العشرين، حتى يكثر في حبها المجانين. . . أم أن تناجي. . وليس إلا أن تناجي. . . أم أنها رأت الجرائد والمجلات لا تنشر إلا كل غريب جديد فبالغت في الأغراب والتجديد. . .؟)

أما من حيث الإنتاج نفسه، فأنا لم أعرف الهائمة ولم أعرف (مقدرتها) على نظم الشعر ولكني أعرف الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي (خليفة عمر بن أبي ربيعه) وأعرف شعره، وأزعم أني أجد في الأبيات المنسوبة إلى الهائمة. وننظر في الأبيات من ناحية أخرى، وهي ناحية الصدق في التعبير، تقول:

تعال إلى القلب بعد العذاب ... فقد مر عمري وولى سدى

يناديك قلبي هوى واشتياقاً ... فما لك لست تجيب الندا

فإذا فرضنا أنها كانت في عذاب قبل الدكتور ناجي، وأن عمرها ذهب سدى قبل الهيام به، وأن قلبها يناديه ويهواه ويشتاقه، فهل هو لا يجيب الندا؟ ما أظن ذلك وتقول:

أبيت على لهفة للقاء ... ولكن أخاف حديث العدا

فكم ليلة يا قرير الجفون ... تركت جفوني بها سهدا

ولنفرض أيضاً أنها باتت تتلهف على لقائه، فهل تخاف حديث العدا من تنشر هوى قلبها العالم العربي. . .؟ وهل من مقتضيات (العلاقات الأدبية بين الشعراء) أن يبيت الشاعر قرير الجفون الشاعرة يستبد بها السهد ليالي كثيرة؟

ونتابع البحث عن صدق التعبير فنرجع إلى الأبيات التي نشرت للهائمة في (البلاغ)

وجاء فيها هذا البيت:

أراني شقياً حزيناً ... فيا نفس أين الرجاء

وكان ينبغي لتكون صادقة التعبير أن تقول إنها (شقية) أما (الشقي) فهو غيرها. . .

وأنا أعلم أنه لا يرضيها أن تحلل (أبياتها) على ذلك النحو ولكن كيف رضيت أن تقولها؟ أو تظن أنها لا تشتمل على ما يثقل التبعة؟ هي مسكينة على كل حال ولكنا بازاء باب جديد في الأدب ترى أنه لا يفضي بنا إلى خير، ولو أنا وجدنا وراء هذا (السلوك الأدبي) فناً أصيلا لكان من المحتمل أن نجد مجالا للإغضاء أو العزاء.

والقضية قضية أدب وفن أكثر مسلك اجتماعي؛ فليس لمعترض أن يدفع بالحرية لأدبية التي تخول لكل أديب أن يعبر عن نفسه في صراحة وصدق، فالوقائع في قضيتنا غير مبنية على الصدق في التعبير كما بينت، ولك أن تلمح ما يدل ذلك عليه من عدم الأصالة، أما الصراحة فهي مفتعلة لجذب الأنظار وهذا كله مع غض النظر عن تفاهة المقول وانعدام الجودة فيه.

شاعرة خضرة:

ولعل (حقد الرجل المصري على المرأة التي تبزه) لا يمنع أن نقضي لحظة مع الآنسة (ط. ع) في عالم الخيال. وهذه الآنسة تمثل طرف النقيض الثاني. . وقد استرعى انتباهي ما تنشره (البلاغ) لها من قطع شعرية تصور حياة فتاة غريبة في هذا العصر المتبرج الصاخب، هي فتاة تصور نفسها ونوازعها في شعرها تقول في قطعة بعنوان (الغد).

يقولون في الغد يأتي الهناء ... ترى أين ذاك الغد المنتظر

أيقبل بعد الشقاء النعيم ... كما يقبل الصحو بعد المطر؟

إذا كان هذا نظام القضاء ... أصبحت أسعد من في البشر

ولكنني قد رأيت الزمان ... أصم السريرة أعمى البصر

إلى أن تقول:

فيا رب رد طمأنينتي ... على، وصن هذا الخفر

فإني البريئة في عالم ... كثير الغواية جم الخطر

فهذه فتاة تتشوف غدها حذرة حائرة لم يمنعها الخفر من صدق التعبير عن مشاعرها صانها الله وأدامها الخفر.

وتقص علينا قصة رمزية مبينة بعنوان (عقل وقلب) تتخيل فيها أن القلب يستغيث بها من سطوة العقل ويقول:

يا ويح للقاسي ... أسمعت أندادي

وتهكم الناس ... في خارج الوادي مغرورة قالوا ... تحيا على الآل

مسرورة خالوا ... من شقوة الآل

يا ضيعة العمر ... في ذلك السجن

محبوسة الفكر ... في ميعة السن

ثم تقول

أأطيع ذا القلبا ... وأجيب إحساسي

وأجرب الحبا ... وأعيش كالناس

ويكاد القلب يبلغ بحجته، ولكنها تعتصم من رغباته، وتقول:

ورجعت أدراجي ... أتجانب الناسا

في برجي العاجي ... أتذوق الكاسا

كأس من الطهر ... وهناءة البال

والفن والشعر في ... برجي العاجي

وتصر على التشبث بالشعر غاية ومثلاً، وتقول:

هل يأخذ القبر ... مني سوى جسمي

والصيت والشعر ... لن يتركا اسمي

سأصير شاعرة ... من قادة الفكر

أنا لست ساخرة ... يا قلب من يدري

وأهم ما في هذا الشعر إن به روحاً، والشاعرة موفقة في تصويره تصويراً يبرزه حياً، وإن كان في حاجة إلى مزيد من العناية من حيث إخضاع التعبير ويتحقق ذلك بالتأمل في المأثور وكثرة المعالجة. والفتاة الآنسة وإن كانت في أول الطريق إلا أنها على الجادة، تهديها إلى الغاية موهبة صادقة مخلصة. فهنا يا آنسة ن. من يدري. . .

القياس في اللغة:

أتيت في الأسبوع الماضي على ملخص مضغوط لمحاضرة الدكتور أحمد أمين بك (مدرسة القياس في اللغة) التي ألقاها في مؤتمر المجمع اللغوي ودعا فيها إلى الاجتهاد في اللغة وأذكر الآن أن الأعضاء الذين عقبوا على المحاضرة بالمناقشة أجمعوا على الإشادة بها وإن كانوا قد خالفوه في بعض أجزائها وخاصة من الناحية التاريخية وقد عبر الدكتور أحمد زكي بك عن ذلك فقال إن التعليق على المحاضرة بتصحيح هنا وتخطيء هناك لا يؤثر في غايتها وإنما تهمنا هذه الغاية. وقال الدكتور طه حسين بك: ليس علينا خطر من أن نبيح لأنفسنا ما أباحه العرب لأنفسهم من قديم الزمن، ولا نزاع إن المحاضرة لا تمثل اعتدال الدكتور أحمد أمين بك فقط ولكنها كذلك تمثله محافظا في تجديده وقد تليت النتائج الخمس التي ذكرتها في الأسبوع الماضي فوافق المؤتمر على الأربع الأولى، ودارت مناقشة في النتيجة الخامسة التي تتضمن جواز ارتجال كلمات جديدة فقال الدكتور عبد الوهاب عزام بك: يجب أن يقتصر وضعنا للكلمات على ما نحتاج إليه فقط. وقال (المرحوم) الجارم بك: أريد ضابطاً لهذا الأمر. فقال الدكتور طه: الضابط هو أصول للغة العربية في قبول الألفاظ الأجنبية. وسأل الشيخ عبد القادر المغربي: هل الارتجال يضر سلامة اللغة فلو اخترع أحد لعبة وارتجل لها كلمة مثل (دمخ) فهل يجيزها المجمع أولا يجيزها؟

ثم رأى أن يتخذ في هذا الموضوع قرار عام هذا نصه:

(الأخذ بمبدأ القياس في اللغة على نحو ما أقره المجمع سلفاً من قواعد وجواز الاجتهاد فيها متى توافرت شروطه كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد أمين بك في محاضرته (مدرسة القياس في اللغة).

عباس خضر