مجلة الرسالة/العدد 793/غناء الطيور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 793/غناء الطيور

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1948



بين العلم والأدب

للأستاذ ضياء الدخيلي

فتن شعراء الطبيعة بغذاء الطيور وسحروا بهديلها وزقزقتها في السحر وعند الأصيل في الأشجار المتشابكة وعلى الأنهار والسواقي حيث يمتزج خرير المياه بهديل الطيور وقد حبت الطبيعة البساتين موسيقاراً لا يكل ولا يعجز عن توقيع ألحانه العذبه، ولايفتر عن ترديد أغانيه المشجية والمطربة أحياناً؛ وقد هام أغلب الشعراء بأغاريد الطيور فتركت صدى عميقاً في نفوسهم وخلدوا في مطارحتها روائع ساحرة. وقد زاد ولوعهم بها ما جلبوا عليه من تقديس الجمال والافتتان بالتواقيع الموسيقية فكان كثير من الشعراء العباقرة يجنون إذا جمعتهم الرياض بالحمائم والطيور المغردة فيطربون لها ويهيمون إعجاباً بسحرها الأخاذ، فيهجر بعضهم المدن لينعم بقرب الطيور في الرياض المؤتلقة.

من ذلك رأينا هذه الأشعار الكثيرة في دواوين شعراء العرب وكلها افتتان بغناء الطيور، ولم يقتصر عليهم ذلك الهيام بالطبيعة وجمالها الفاتن فقد حدث مؤرخو حياة الفيلسوف الإسلامي الكبير أبى نصر الفارابي أنه عندما سافر من بغداد إلى دمشق كان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان مدة إقامته بدمشق لا يكون غالباً عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض؛ ويؤلف هناك كتبه وينتابه المشتغلون عليه، وقال في (وضات الجنات) يحكى أن الآلة التي تسمى القانون من وضعه وهو أول من ركبها هذا التركيب، وهذا يدلك على مدى افتتانه بالألحان الموسيقية، ولعل غناء الطيور أوحى له دروساً فياضة في الموسيقى.

وكما ترى فيما سنعرضه عليك أن هناك اختلافاً بين علماء الحيوان ودعاة نظرية التطور من دارون واتباعه، وبين شعراء العرب الذي نظموا في غناء الطيور وفسروه، كما ظهر لهم حسب أفكارهم إذ يرى علماء الحيوان أن الغناء هو من خصائص ذكور الطيور، وأن هذه تغرد وتغني لتجتلب الإناث بهديرها وتغريدها فالأغاريد أسلحة أدبية تصول بها الطيور في غمار معارك غرامية صخابة تعج بالتنافس بين ذكرانها، والتغالب لاقتناص زوجات يتمتعون بالقرب منها وينعمون بالاستئناس بجمالها الأنثوي.

وأتذكر أن الصحف المصرية نشرت (تصريحاً) للأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب يتحدى به الآنسة أم كلثوم قائلاً: إن الغناء في عالم الطبيعة من خصائص الذكور، ولا ريب أن الحق معه من وجهة التاريخ الطبيعي وحقائق علم الحيوان ولكن من الذي يفضل أن يسمع الغناء من رجل خشن على أن يتمتع به من فم فتاة رقيقة تفيض جمالا وفتنة، وعلى كل حال فإن علماء التاريخ الطبيعي يقررون أن الغناء ميزة للتفوق، وسلاح للغلبة واجتذاب للإناث جهز بهما ذكران الطيور، وفق نظام الكون المستهدف لإدامة الحياة، وبقاء النوع وتكثير النسل فهو من جملة المشهيات والمغريات المؤدية إلى تلك الغايات النبيلة.

وقد أخضعت نظرية التطور التي جاء بها العالم الإنجليزي دارون - غناء الطيور وهديلها لعامل الانتخاب الطبيعي. فقالوا إن خاصة الغناء الجميل التي تتحلى بها بعض الذكور من الطيور تتركها تتفوق في معارك الانتخابات التزاوجية لأجل الفوز بالإناث ويشجعها ذلك الفوز والانتصار على التناسل بكثرة. وهذا يؤدى إلى وفرة ذريتها التي تحمل خصائصها، ومن جملتها القدرة على أحداث الأصوات الجميلة الغنائية فتشيع هذه الميزة في الأجيال القادمة حسب قانون الوراثة. وإليك بعض كلمات علماء التطور.

قرأت في كتاب عن نظرية التطور تأليف العلامة الفرد والاس.

قال تحت عنوان الخصائص الجنسية المسببة بالانتخاب الطبيعي: (علاوة على تسلح الذكور بما يعدهم للنضال مع الذكور الآخرين توجد بعض الخصائص الجنسية المسببة بالانتخاب الطبيعي وذلك كالأصوات والروائح المختلفة الخاصة بالذكور التي تكون دعاء للإناث أشعاراً لهن بحضورهم، ومن الواضح أن هذه إضافات ذات قيمة في وسائط تمييز الجنسين، وزيادة على ذلك أنها إشعار بحلول فصل التزاوج. ومن الواضح أن توليد وتفريق هذه الأصوات والروائح هما ضمن نطاق قدرة الانتخاب الطبيعي، والتمييز بين الجنسين من فصائل الطيور، ولإغراء ذكرانها للإناث، وتشهيتها للفساد.

وعند ما انتشرت أفراد فصائل الطيور بصورة واسعة على وجه الأرض أصبح هذا الدعاء في غاية الأهمية لجعل التزاوج يقع بصورة مبكرة ويسرع به ما أمكن.

وهكذا قد أصبح وضوح وعلو وتميز شخصية غناء الطائر خاصة نافعة، وبالنتيجة يتحقق الانتخاب الطبيعي (أي أن الطائر الذي توجد فيه هذه الخاصة النافعة يكثر نسله فتشيع هذه الميزة الصوتية في الأجيال التالية وفق نظرية التطور والوراثة) وهذا هو الواقع خاصة بالنسبة لطائر الوقوق ومع كل الطيور التي تعيش منفردة.

ولا شك أن صنيع الغناء عمل مبهج وجالب للسرور، وربما استخدمه الطير كمنقذ للفائض الزائد من الطاقة العصبية والتهيج النفسي، على حد ما يقوم به الإنسان من الرقص والغناء، والألعاب الرياضية المسلية. وهذا التعليل لغناء الطيور يرى أن رياضة القوة الصوتية مكملة لتطور الريش الثانوي الذي ليس له أهمية أساسية في الطيران، ومتممة لزخارف الزينة والتجمل في الطيور.

ويلاحظ المؤلف الفرد روسل والاس) أن كل طيورهم البديعة الغناء بسيطة التلوين، وليس لها عرف ولا يوجد في رقابها أو ذيولها من ريش التباهي، والظهور بمظهر فاتن جذاب، في حين أن الطيور المزخرفة ذات الجمال الزاهي في الناطق الاستوائية ليس لها المقدرة على الغناء، وتلك التي تصرف طاقة كبرى لتتبرج وتزهى بالريش الجميل تطورت أصواتها تطوراً طفيفاً لا يذكر إذا قسناها بالطيور الأخرى. وخذ مثلاً لذلك الديك الرومي، والطاووس، والطائر الطنان، وطيور الجنة وهذه فصيلة من طيور غينيا الجديدة وما يجاورها من الجزائر.

وتشتهر طيور الجنة بجمال ريشها وبهاء ألوانها، ولا يمتاز ببهاء اللون وحسن الريش إلا الذكور، وريش الذكران على حسنه أملس ناعم حريري فيه براقة المعادن الصافية والخلاصة أن أغاريد الطيور وأغانيها حسب الظاهر مذكرات وإشارات ورسائل غرامية مختصرة لإشعار الأنثى بوجود الذكر ولدعوتها إلى التزاوج، وهذه القابلية للغناء تفيد الفصيلة لأنها ذات علاقة بأهم وأجل وظيفة حيوية، وهى حفظ النوع بالتناسل).

وقال العالم الطبيعي دارون في كتابه أصل الأنواع إن المنافسة بين الطيور على امتلاك الإناث أقل قسوة منها بين الحيوانات التي تعيش على الأرض؛ وكل من له إلمام بالموضوع على اعتقاد تام أن هذا التقاتل لا يبلغ منتهى القسوة والشدة إلا بين الأنواع التي تجتذب ذكورها الإناث بحسن أصواتها الغنائية.

وذكر أن بعض الطيور التي يسكن جزائر (جيانا) وطيور الجنة وغيرها من صنوف الطير قد تجتمع وتتقاتل قتالا عنيفاً ثم تخرج الذكور الفائزة في المعركة وتنشر ريشها البهي اجتذب إليها الإناث، ومن ثم تأخذ في التضاحك بشكل عجيب والإناث على كثب يرمقنها ثم تنتخب ما كان أشد جاذبية إليها.

وقال باحث آخر إن جمال ذكور الطيور بأصواتها أو ريشها يلعب دوراً عظيما في الحب النسلي، ولعل للطيور أعظم نصيب من الجمال، فلذلك قلما تتنازع ذكورها بالقتال، وإنما تعتمد في الأكثر على فتنة الإناث بجمال ريشها وألوانه الجميلة، وبعضها يعتمد على الرقص على الأرض أو في الهواء وبعضها يعتمد على الزقزقة والهديل.

وهكذا تعد الطيور على أعظم جانب من الجمال البصري والصوتي ولها ذوق عقلي في الجمال كالإنسان تقريباً، ولذلك يطرب الإنسان بزقزقة العصافير وهديل الطيور، ولكن الطيور المغنية قد تلتجئ إلى العراك للفوز بالإناث.

فقد روى العلامة دارون أن نوعاً من الطيور في الولايات المتحدة يجتمع نحو عشرين من ذكوره في بقعة حيث تتنافس بالزقزقة، وحالما تميل الأنثى لذكر تقتتل الذكور، والأضعف يحيد عن القتال، حتى إذا لم يبق إلا واحد ذهبت الأنثى معه. وقد بلغت مسألة الانتخاب عند الطيور حداً فصيا حتى أن بعضها لا يتزاوج لأن الإناث لم يرقها ذكر من الذكور التي تنافست في إغرائها وإثارة عواطفها.

وروى (جوير) أن مغازلة الطيور تستغرق وقتاً طويلاً وقد ينقضي الفصل كله ولا تنجح الذكور والإناث في إثارة الحب فلا تتزاوج.

ولبعض الطيور حب مبرح بحيث إذا فقد إلفه حزن عليه طويلاً ذكر دارون أن ذكر الببغاء وأنثاه يتعاشقان ويتلازمان طويلاً حتى إذا مات أحدهما أسف الآخر عليه أسفاً شديداً، وإذا قنص أحدهما بقى الآخر مدة طويلة ينادي نداء محزناً.

وللحمام أيضاً ألفة قوية كألفة البشر، فقد لوحظ أن زوجي حمام عادا إلى عشرتهما بعد فراق تسعة أشهر متذكراً كل منهما الآخر. وكثير من الطيور يختار إناثه الذكر الذي تحبه دون سائر الذكور من غير أن تتنازعهما الذكور بقتال.

فقد روى (أودوبون) الذي قضى ردحاً من الزمن في أحراج الولايات المتحدة يدرس طبائع الطيور أن الأنثى لا تقبل على أي ذكر يعرض لها بل تتئذ جداً في اختيار عريسها وتراقب منازلة كل ذكر حتى يروق لها واحد فتذهب معه. وكل ذلك يدلك على أن للطيور ذوقاً حاداً في تمييز الجمال والإعجاب والانفعال به كما أن لها قوة غريبة في التفنن بالمغازلة.

وهذا الذوق العجيب الذي يضاهي ذوق الإنسان هو علة ارتقاء الجمال الصوتي والنظري في الطيور كما علله دارون بسنة الانتخاب الطبيعي والتناسلي إذ الذكر الأجمل شكلاً أو صوتاً ينجح في المزاوجة، والأقل جمالاً يفشل، ذاك يكون له نسل وهذا ينقطع نسله، وبفعل ناموس الوراثة تتجه السلالة إلى إنتاج الأجمل.

قال دارون ولا شك أحد ممن لا حظوا أنواع الطير حال أسرها واعتزالها مركزها الطبيعي المطلق فإنها تفضل بعض الأفراد على بعض، فإن السير (ر. هيرون) قد وصف كيف أن طاووساً مزرقشاً قد اجتذب إليه كل الإناث وتفرد بها.

وإنه وإن كان لا يتسنى لي الإفاضة في هذا الموضوع فإني على يقين بأن الإنسان إذا استطاع أن يحسن في وقت قصير أنواع (البنتام) وهو ضرب من الدجاج الداجن - بحيث يجعلها بديعة الألوان رشيقة الصور فلست أرى مانعاً يحول دون القول بأن إناثه إذا انتخبت خلال آلاف من الأجيال أشجى الذكور صوتاً وأحسنها شكلاً وفاق ما يلوح منها من معاني الجمال فقد يحتمل أن يحدث فيها تأثيرات من التغاير ذات بال.

غير أن دائرة المعارف البريطانية تجعل من أسباب الغناء رغبة الطائر أن يشعر باقي الطيور بوجوده في المنطقة التي يغرد فيها وبذلك لا يقرب إليه ما يزاحمه على ما فيها من المواد الغذائية (راجع تفصيل ذلك في مادة

وهذا حديث يطول، إنما الذي وددت أن أقرره رأي علماء الحيوان في تعليل تغريد الطيور بأنه لأغراء الإناث وجلبها إلى السفاد ودعوتها إليه وأنه إعلان بمجيء فصل التزاوج وإن الأغاريد مغازلات غرامية، وإذا كانت أغاني الطيور أحابيل لصيد الإناث ووسائل إغراء وإقناع في غمار معارك غرامية كما بين دارون ووالاس وإخوانهما من علماء الحيوان وأفادا أن هديل الطيور شباك صيد ينصبها الهياج الجنسي فلا تلم عشاق الشعراء إذا تهيجوا وأصباهم الحمام بهديله لأنه ضرب على وترهم الحساس ونطق بلغة قلوبهم الولهى فأثارهم وهيج إحساسهم وإن لم يعرفوا كيف تسلطت تلك الأغاريد عليهم.

قال بعض الأعراب أنشده اسحق الموصلي.

ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت

تغنت بصوت أعجمي فهيجت ... من الوجد ما كانت ضلوعي أجنت فلو قطرت عين امرئ من صبابة ... دماً قطرت عيني دماً فألمت

فما سكنت حتى أويت لصوتها ... وقلت ترى هذي الحمامة جنت؟

ولي زفرات لو يدمن قتلنني=بشوق إلى نأي التي قد تولت

(البقية في العدد القادم)

ضياء الدخيلي