انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 793/طرائف من العصر المملوكي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 793/طرائف من العصر المملوكي:

مجلة الرسالة - العدد 793
طرائف من العصر المملوكي:
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1948



العلاقات الإخوانية وصلتها بالأدب

للأستاذ محمود رزق سليم

نزعة الأدب في نفس الأديب المطبوع، أشبه شئ بالغريزة الإنسانية. فهي قوة كامنة فيها، تتحرك من تلقاء نفسها، وتقوم بعملها الحيوي في حياة الأديب. فتقرأ وتستقرئ وتطلع وتتصفح، وتختزن وتقرن، وتمزج ثم تلد وتصور وتلون، وتهب لأجنتها ما تشاء لها مقدرتها من أسباب القوة والبقاء. ثم تدفع بنتاجها إلى اللسان فينفثه سحراً حلالا، أو إلى القلم فيبعثه زهراً وضيئاً، ترى من خلاله حياة نابضة، وروحاً متحركة، تلعب دورها، وتؤثر أثرها.

والغريزة بحاجة إلى التربية والتهذيب والتثقيف، حتى توجه إلى خير السبل لإسعاد المرء وإسعاد مجتمعه. ولا يبعد عنها في ذلك، نزعة الأدب، فهي بحاجة إلى أن تتعهدها يد التربية والتهذيب والتثقيف، وإلى أن يسلك بها مسالك ثقافية خاصة، حتى تفره وتحذق، ويتسع أمامها المدى ويرحب أفقها، ويلطف حسها ويدق إدراكها. وكلما كان الأديب أكثر من غيره ثقافة، اتسع رحابه، وسما إنجابه، وأشرق وأمتع فنه.

غير أن النزعة الأدبية، مهما كانت طاغية باغية، ثائرة فائرة، يقظة ساهرة، قد يصيبها العثور ويغشيها الفتور، فيخبو زندها، ويكبو جوادها، ويتطامن إنتاجها، وتقل الروعة في فنها. حتى تتاح لها منشطات تنهض راكدها، وتنبه راقدها. وتثير فيها من جديد مظاهر الحياة الصحيحة والحركة. ولعل هذه الناحية أقوى وجوه الشبه بينها وبين الغريزة، إذ لولا ما يعرض للغريزة من مثيرات ودوافع، لعانت ألواناً من الكبت، قد تفضي بها إلى الموت.

وتتشبث النزعة الأدبية - ككل كائن حي - بأسباب بقائها. وقد درجت الطبيعة على أن تبذل لها بين الحين والحين، من أسباب البقاء ما يذكى فيها عوامل الأمل والرجاء. وحينذاك تندفع في طريقها جادة نشيطة مجاهدة مجالدة، حتى تؤدي رسالتها في الحياة.

وقد درجنا، ونحن ندرس تاريخ الأدب العربي، على أن نسمع بين الآن والآن، بضروب من التشجيع - أو قل بألوان من أسباب البقاء - تتاح للنزعات الأدبية؛ فمن عطية أمير، إلى منحة وزير، إلى ثقافة حافلة إلى آذان صاغية وقلوب واعية، إلى حوافز من صداقات ومودعات، إلى غير ذلك.

والعلاقات الإنسانية كانت وما تزال، ذات أثر بعيد المدى، في حياة النزعات الأدبية. فالأديب لا يعيش في الدنيا وحيداً. حتى ولو آثر العزلة، فجميع ما حوله ومن حوله، ذو أثر فعال في حياته واتجاهاته، وعواطفه وانفعالاته. ومن أوثق هذه العلاقات، العلاقات الإخوانية.

ونعني بالعلاقات الإخوانية، صلات الود ووشائج الصداقة بين الأنداد والنظراء. وهى من العوامل الدائمة المشتركة بين كل العصور الأدبية، ومن مسعرات نزعاتها، وحافزات روحها، وموجهاتها. وهى بتأثيرها في الناحية الأدبية، بحاجة إلى دراسة مستقلة خاصة مستفيضة، تتلمسها في كل عصورها، وتبرز آثارها في كل عصر منها، وتوازن بين آثارها في عصر وعصر، وتوازن بين آثارها وآثار غيرها من العوامل.

ولعل العلاقات الإخوانية أقوى أثراً في النزعات الأدبية، وأبعد توجيهاً لها في العصر المملوكي، بالقياس إلى غيرها من عوامل النهوض الأدبي فيه. ففي العصر المذكور قلت عوامل التشجيع وأسباب الحفز الأدبي، في جملتها، بالنسبة إلى ما سبقه من العصور. واتجه الكثير منها إلى الحركة العلمية البحتة، فجذب بضبعها ومد في بقائها، وهيأ لها أسباب الحياة والنمو. أما الحركة الأدبية فقد نالها منها صبابة يسيرة، وثمالة متوارية، لا تبعث نشوة ولا تهز عطفاً. لقد صوحت عوامل التشجيع الأدبي، ويبس عودها وذبل زهرها، وأصبحت لا تبهر عيناً. فلا نوق هرم، أو عصافير بنى جفنة، ولا دنانير هشام أو بدر الرشيد، ولا مجالس المأمون أو محافل المتوكل، ولا أريحية بني حمدان أو ذهب العبيديين، بمغرية جنان شاعر، أو مجرية لسان ناثر في هذا العصر.

وككل كائن حي، أخذت النزعات الأدبية فيه، تتلمس لنفسها أسباباً أخرى من أسباب البقاء. فصادفتها العلاقات الإخوانية، فاتخذت منها إلى الحياة سبباً، وإلى البقاء وسيلة. وتشبثت بها أو اصطنعتها أداة لمعالجة عملها وإبراز فنها. والفن هنا قد تنقصه الدقة ويخطئه العمق، ولكن لا تنقصه الصراحة ولا يجافيه الصدق. إذ هو نتيجة علاقات قلبية، ورجع مودات نفسية، لا حاجة بها إلى الزيف والتلفيق.

وقد ظللت الكثيرين من أدباء العصر المملوكي رايات المودة والصحبة الحسنة، فعاشوا إخواناً متحابين في الأدب، يسعد أحدهم الآخر كما يسعد الغريب الغريب. وقد نوهنا في بعض مقالاتنا السابقة بشيء من هذه العلاقات، وآثارها، كعلاقات السبعة الشهب. وصحبة الجزار والوراق.

وقد روى صاحب فوات الوفيات أن الأديب كمال الدين بن العديم كان إذا قدم مصر يلازمه أبو الحسين الجزار. حتى كانت هذه الملازمة مثاراً لتندر بعض أهل العصر عليهما، فقال، وفيه تورية:

يا ابن العديم عدمت كل فضيلة ... وغدوت تحمل راية الأدبار

ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها ... نفس تلذ بصحبة الجزار

وبهذه الصحبة فتح الأدباء مغالق أبواب أدبية واسعة، ما بين منثور ومنظوم. وأكثر الشعراء من التهاني والتعازي، والتشوق والحنين، والمعاتبة. وتقارضوا الثناء، وأفاضوا في المعارضات والمطارحات والمساءلات، وجدوا في المماجنة والمفاكهة والملاغزة والمحاجاة، ونهضوا للإجازة والاستدعاء، إلى غير ذلك.

والحق أن الشعر - بخاصة - قد ظنت به حينذاك الظنون، وأرجف الناس من حوله. حتى إن بعض أهله أوجس خيفة، فنعوا عليه، وندبوا أنفسهم، وشكوا كساده، وفضلوا عليه الحرف الدنيا. وهذا أبو الحسين الجزار المصري الشاعر، يقول - وقد هجر الشعر والتكسب به، واحترف الجزارة:

كيف لا أشكر الجزارة ماع ... شت حفاظاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيـ ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

ولعل أبلغ رد عليه، وهو رد يؤيدنا في أن الشعر ربح في هذا العصر حياة فيها صراحة وصدق، قول ابن الوردي:

قالوا لقد كسد القريض فقلت بل ... عاشت ضراغمه ومات ضباعه

الآن طاب سماعه وتقطعت ... أطماعه وتعززت صناعه

نقول إن العلاقات الإخوانية كانت خير معين للشعراء على إبراز شاعريتهم دون زيف، وإظهار فنهم دون تلفيق. فكان صدى لنفوسهم ومرآة لحوادثهم. وقد حدث صاحب مسالك الأبصار عن أبى الحسين الجزار المصري السابق ذكره، فقال: (حكى أن السراج الوراق وأبا الحسين الجزار، خرجا في عهد صباهما، والشباب أعقد حباهما، يريدان النزهة. فوجدا غلاماً زامراً، يتمنى منه اللقاء ويجتمع فيه الغصن والورقاء. يتلفت بصفحة القمر المنير. ويطرب كأنما زمره مما أوتى آل داود من المزامير. فلفتاه إليهما لأمر. وظنا أنه ستلينه لهما الخمر. فأتيا به دير شعران وصعدا إليه. فوجدا راهباً يصدع حبه الفؤاد. ويطلع قمره ولا شئ أحسن منه في ذلك السواد. فزاد سرورهما بحصول الزامر والراهب. وأيقنا ببلوغ المآرب. فلما حميت فيهما سورة الحميا. وظن كل منهما أنه قد حصل له فراشه وتهيا. فطن الزامر والراهب لمرادهما، فتركاهما ومضيا قبل التمام، وتركاهما وكل واحد منهما يشكو ضجيعاً لا ينام. فقال السراج:

في فخناً لم يقع الطائر ... لا راهب الدير ولا الزامر

فقال أبو الحسين الجزار:

فسعدنا ليس له أول ... ونحسنا ليس له آخر

فقال السراج:

فالقلب في إثرهما هائم

فقال الجزار مكملا:

والقلب من أجلهما حائر)

وفى هذه القصة ما يصور حياة هذين الماجنين، وهما مثل لغيرهما أو لكثير غيرهما من أدباء العصر.

ويقرب من هذه الحادثة ما رواه صاحب قوات الوفيات قال:

(حكى أن نور الدين على بن سعيد المغربي صاحب المرقص والمطرب، مر مع جماعة من الأدباء بالديار المصرية، ومنهم أبو الحسين الجزار، فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة، وقد هب الهواء فكشف ثيابه عنه. فقال أبو الحسين الجزار، قفوا لينظم كل واحد منا في هذا شيئاً. فما لبثوا حتى قال نور الدين على بن سعيد:

الريح أقود ما تكون لأنها ... تبدى خبايا الردف والأعكان

وتميل بالأغصان عند هبوبها ... حتى تقبل أوجه الغدران

فلذلك العشاق يتخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان فقال السراج الوراق:

ما أعلم أن أحداً منا يأتي بمثل هذا. سيروا بنا.)

نقول: وهذه مطارحة لم تتم أدوارها، ومباراة لم تبلغ مداها وقد نظم الصاحب فخر الدين بن مكناس قصيدة طريفة فكاهية، داعب بها صديقه الأديب الشيخ بدر الدين البشتكي، ووصفه فيها يوم (أنس الهمايل)، وكان الشيخ بدر الدين في اليوم المذكور قد وضع الثور من الساقية ودار بها، فقال ابن مكناس:

دورة البدر في سواقى الهمايل ... تركت أدمع العيون هوامل

آه من للرياض ثور أديب ... مظهر من كلامه سحر بابل

فاق سعياً على بنى عجل في الجو ... د وأغنى عن الولي الهاطل

وقد مزج ابن مكناس في أبياته بين ألفاظ الرياض والري والماء، وألفاظ الأدب والشعر مزجاً لطيفاً، واستعار من إحداها للأخرى، ووصف الرياض خلال ذلك، وما فيها من أزهار وأغصان، مع توريات جميلة، وتلميحات بارعة، تناسب الموضوع فمن أبياته يخاطب صديقه:

يا سعيداً أثرى من النظم والنث ... ر فأنسى الورى زمان الفاضل

قد سقيت الرياض ياشيخ بالدو ... ر فها غصنها من السكر مائل

وقوله:

وغداً بالظلال كل أديب ... في هجير الرمضا بفضلك قائل

وبروحي عيون نرجس روض ... تفتح العين بالندى وتغازل

أنت شنفتها بشعرك زهراً ... وبعثت المياه فيها خلاخل

وقوله:

أنت لو لم تكن بحار علوم ... ما جرت في الرياض منك جداول

أنت عندي أجل قدراً من الثو ... ر - وقد درت - للوجود الحامل

وغدا الفن بين لفظك والرو ... ض على الحالتين عندك بأقل

ومن الإخوانيات ما تبادله صفى الدين الحلي، وجمال الدين بن نباته، من شعر تعاتبا فيه وتقارضا الثناء، فلقد أرسل صفى الدين إلى صديقه قصيدة في هذا المعنى، قال في مطلعها: من لصب أدنى البعاد وفاته ... إذ عداه وصل الحبيب وفاته

فاته من لفا الأحبة عيش ... كان يخشى قبل الوفاة فواته

كان ثبتاً قبل التفرق لكن ... زعزعت روعة الفراق ثباته

ومنها يقول:

كنت مستنصراً بأسياف صبري ... فنبت بعد فرقة ابن نباتة

فاضل ألف الفصاحة والعـ ... لم وضمت آراؤه أشتاته

رَبُّ شعر لم يتبع ما روى الغا ... وون لكن بالفضل يهدى غواته الخ

وقد أجابه ابن نباته بقصيدة طللية في المعنى، ومن البحر والروي، قال في مطلعها شاكياً متغزلا في رقة:

ما لظبي الحمي إليه التفاته ... بعد ما كدر المشيب حياته

لهج بالهوى وإن نفرت أيـ ... دي الليالي غزاله ومهاته

كلما قيل قد سلا عن فتاة ... عاده الحب فاستجد فتاته

ومنها:

بأبي فاتر اللحاظ غرير ... رام تشبيهه الغزال ففاته

صائل الحسن إن رنا وتثنى ... سل أسيافه وهز قناته

ومنها يخاطبه:

يا مفيد الورى لآلئ بحر ... يعرف الذوق عذبه وفراته

وصل العبيد من قريضك بر ... سر أحبابه وساء عداته. . الخ

وعلى ذكر ابن نباتة نقول إنه كان قد وقع بينه وبين صديقه صلاح الدين الصفدي جفاء، ولعل ذلك بسبب سرقات الصفدي الشعرية من ابن نباتة، والتي جمعها ابن نباتة في كتابه (خبز الشعير). فتعاتبا عتاباً شعرياً قاسياً، وقد ضمن كل منها قصيدته إعجازاً من معلقة امرئ القيس، وسلكاها في نظمها مع توافق في المعاني، حتى لكأنها أصيلة فيه.

قال الصفدي:

أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل

وترمى على طول المدى متجنياً ... بسهميك في أعشار قلب مقتل فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... على بأنواع الهموم ليبتلى. الخ

فقال ابن نباتة متقبلا صافحاً:

فطمت ولائي ثم أقبلت عاتباً ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل

فأحييت وداً كان كالرسم عافياً ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

تعفى رياح العذر منك رقومه لما نسجتها من جنوب وشمائل الخ

وقد بعث الصفدي بعد حين إلى ابن نباتة يستجيزه رواية آثاره الأدبية، فأجازه ابن نباتة وكتب له (إجازة) بعبارة أدبية هي نموذج لنثر هذا العصر.

ومن يقرأ كتاب (الحان السواجع) للصفدي، يجد فيه نماذج عدة للإخوانيات الشعرية في عصره. ودواوين الشعراء فيه ملأى بهذا الضرب الشعري.

ومما يذكر أن الصحبة كانت قد عقدت أواصرها بين ناصر الدين بن البارزي أحد كتاب العصر البارزين، وابن حجة الحموي الشاعر الكاتب الناقد. وبوحي من ابن البارزي نظم ابن حجة بديعته في مدح الرسول عليه السلام. وأبرز في أبياتها ألواناً عدة من البديع، وعارض بها بديعيتي عز الدين الموصلي والصفي الحلي. وكان كلما نظم بيتاً قرأه على صديقه ابن البارزي حتى يصير صالحاً. ولما أنتي ابن حجة من نظم بديعيته، شرحها ووازن بينها وبين بديعيتي الموصلي والحلى، دارساً أنواع البديع مستشهداً عليها بكلام المتقدمين من نثر ونظم موازناً بينها أيضاً، مبيناً مذهب البعض في البديع، متكلما عن شعراء عصره وأدبائه ومذاهبهم فيه أيضاً، وهكذا ترى أن ابن حجة قد ألف كتاباً ممتعاً فيه علم وأدب وتاريخ ونقد، وهو (خزانة الأدب).

وبعد فلعلنا بهذا الحديث الموجز، وبهذه الحوادث المقتضبة ألمعنا إلى الدور الهام الذي أدته العلاقات الإخوانية على مسرح الأدب في العصر المملوكي.

(الإسكندرية)

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية