مجلة الرسالة/العدد 788/من ذكرياتي في بلاد انوبة:
مجلة الرسالة/العدد 788/من ذكرياتي في بلاد انوبة:
11 - من ذكرياتي في بلاد انوبة:
إصبع الإنجليز في النوبة
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
قد يثير هذا العنوان العجب والدهشة في بعض النفوس التي لا تعرف شيئا عن منطقة النوبة، وربما يدفع بعضها إلى التساؤل الملح: وما صلة الإنجليز ببلاد النوبة؟ وأين مكان هذا الإصبع في تلك البلاد التي ليس فيها موضع لأجنبي؟!
والواقع أن الغفلة مستولية على كثير من ساستنا الذين لا ينطرون إلا إلى مواقع أقدامهم، ولا يجشمون أنفسهم عناء التفكير فيما هو أبعد من ذلك، ولا مشقة اليقظة والانتباه لما يراد بوادي النيل كله، وما يكون دائما وراء الأنباء الذائعة، والأخبار الطائرة، ولا يعرفه في الغالب كثير من الناس:
غفل بعض الساسة المصريين عن واجبهم الوطني، حينما جعلوا من بعض بلادهم، وأعني منطقة النوبة منفى للموظفين، واحكموا عقد هذه العقدة النفسية الأليمة، حتى أن الموظف ليتولاه العجب العاجب حينما ينزل بهذه البلاد، فلا يرى بها جديدا في أية ناحية من النواحي، وأن كل شر سمع به لا أثر له على الإطلاق، وربما يجد العكس، كشهرة هذه المنطقة بالحشرات السامة، والأفاعي القاتلة. . . . و. . . مما لم نجد فيه خلاف ما نعرف في مختلف بلدان القطر، بل في كثير من بلاد الريف ما هو أجدر بحمل هذه الشهرة، وأولى بذيوع هذا الصيت عنه؟! ومما زاد الطين بلة، أن كثيرا من أولى الأمر يهملون شان هذه المنطقة سنوات فتظل مشروعاتها مهملة، في زوايا النسيان، مما كان له أكبر الأثر في كراهية الناس لهذه المنطقة التي تعتبر من أهم المناطق المصرية الكبيرة.
وإذا كانت السياسة البريطانية قد نجحت في شئ، فإن نجاحها في تعمد إهمال منطقة النوبة، وحمل الحكومات المصرية على هذا الإهمال - فاق كل نجاح. . . إهمال جعلها كمنطقة طبيعية خادمة خاملة، لا حياة فيها ولا حركة نشاط، حتى ليعتقد المار بها طريقة من مصر إلى السودان، أو العكس، أنه منطقة قبور، يدفن فيها الأحياء بدل أن يدفن الأموات، وكم من موت خير من حياة كلها الجدب والألم، والشقاء المسر، والعناء المميت، وأنها فاصل طبيعي بين السودان ومصر!.
وكأنما أرادت السياسة البريطانية بذلك أن نلقى في روع كل مشاهد لهذه المنطقة هذا الشعور الباطني العجيب، وأن تتخذ من هذا دليل على الفصل بين شقي الوادي، جنوبه وشماله، مصره وسودانه وأن تجعل ذلك حجة لها على تحقيق ما تبغي، وإنقاذ ما تريد، وهي دائما تبنى آمالها وأمانيها الكواذب على الخواء، وتنسج العنكبوت ثم تمضي في طريقها الفاسد لتجعل من الظلم عدلا، ومن الباطل حقا، ومن الوهم واقعا محسوسا، ولكن هذا وإن جاز في شريعة الماضي، وقد سيطرت الغفلة على العقول، ورانت على القلوب، فلن يجوز في شريعة القرن الحاضر، وقد انتبهت الأذهان، وتفتحت العيون، واستيقظت القلوب، ونضج الوعي القومي، حتى أصبح الابن يشارك أباه في السياسة، ويعاونه على أداء الواجب، ويتقدمه إذا دعا الداعي ميدان الجهاد والنضال لا يعرف الوهن والضعف إلى نفسه سبيلا، وهو بما يلاقي من الهول والشدة، والحبس والتشريد، جد سيد وفخور!
ولئن غفل هذا الفريق المصري عن نبات هذه الدولة العجوز الشمطاء، اللعوب، ذات الناب الأزرق الاستعماري، الأصيل في المنكر والدس، والخداع والرياء، فلقد فهم الشعب على بكرة أبيه الآن حقيقة الموقف، وأدراك ما يساق إليه. . .
وفي بلاد النوبة مشروعات كثيرة نفذت بالفعل وآتت ثمارها أطيب ما تكون، وكان لها في نفوس النوبيين جميعا أجمل الأثر وهناك مشروعات كثيرة تنتظر التنفيذ والعقيدة السائدة أن كل مشروع يكون نصيبه الإهمال والنسيان، لا بد وأن يكون للإنجليز إصبع في وقفه وإهماله، لأنهم لا يريدون رفاهية هذه البلاد، ولا خيرها، لأنهم آخر من يستفيدون منها، ولأن القلب النوبي بكره الإنجليز كراهية تملك عليه نفسه من جميع نواحيها، ويدرك تمام الإدراك أن الانجليز عدو بلاده رقم (1) وأنه خطر ليس بعده خطر، وأنه شر في كل مكان يحل به، والسر في ذلك يجهله كثير من المصريين، والقليلون يعلمون أن الانجليز في وقت ما، حينما اشتدت بالنوبيين الأزمات، وضاقت بهم سبل العيش، بسبب التعلية الأخيرة. . . انتهز هؤلاء الإنجليز الأوغاد، عن طريق أذنابهم - الفرصة، وحاولوا اجتذاب قلوب النوبيين إليهم، وربطهم بعجلة الإمبراطورية بحجة صلتهم الوثيقة بأهل السودان، فأن مديرية دنقلة بأسرها تعتبر منطقة نوبية صحيحة من قديم الزمان، ولعب الذهب، وأعشى بربقه العيون، وامتدت الآمال والأماني الخوالب، ولكن قلوب النوبيين لم تتحرك لهذا البريق، وعيونهم لم يعشها هذا اللمعان، وكان الجواب المفحم أنهم حراس النيل من فوق هذا القمم الشوامخ، التي تشبه عزة نفوسهم، ونيل أخلاقهم على الرغم من ضيق ذات اليد، والمبيت على الطوى في أغلب الأحيان.
وتلقى الإنجليز هذا الدرس القاسي، وعلموا أن الذهب ليس هو كل شئ، وإن سياستهم لم يكتب لها النجاح على طول الخط ولهذا أدركوا وطنية هؤلاء. . . الوطنية الحقة، التي لا يتم عنها كلام منمق معسول، ولا عبارات خلابة، ولا أحاديث مستفيضة ولا خطب حماسية، ولا مقالات تفيض بها أنهار الصحف والمجلات، وإنما هو شئ أسمى من هذا وأجل هو العمل والصبر والجلد، والإخلاص، وحب مصر والمصريين، واحترام القانون إلى حد يثير الدهشة والعجب، ويكفي أنه قد ينقضي العام بأسره دون أن تقع جناية في بلاد النوبة كلها على الرغم من امتدادها خمسين وثلاثمائة كيلو متر (فأين تجد هذه الوطنية الصادقة، والهدوء الجميل؟
لقد كان الإنجليز يريدون النوبيين على تشجيع الحركة الانفعالية عن مصر، التي أهملت أمرهم، ونسيتهم في قفارهم وصحاريهم) وبذل الإنجليز الوعود الخلابة لإحالة منطقة النوبة إلى جنة تجري من تحتها الأنهار، وأنفاذ جميع المشروعات الممكنة وغير الممكنة لتكون هذه البلاد حافلة بالثمار الناضجة، والزهور اليانعة. يتدفق على أهلها الخير من كل حدب وصوت، ولكنهم بحمد الله باءوا بالفشل، وكان نصيبهم الخذلان الأليم. . . ومن عجب أن أمر هذه المحاولة لم يكتب له الفضيحة كما يجب. وإنما ظل سرا لا يعرفه إلا القليلون من المصريين، لأن النوبيين لا يرون فيما فعلوا حكومة يستحون عليها المدح أو الثناء، بل هو الواجب الذي لا شكر عليه.
ومما يؤسف له أن كثيرا من الأخطاء تقع كل عام في الوزارات. . . الأخطاء الوطنية التي يحزن لها قلب الغيور فمن ذلك ما حدث معنا عام 1946 بخصوص استمارات السفر إلى عنيبة، وجهل الموظف المختص بأمر هذه الاستمارات، وهل تكون من حق موظف عنيبة أم لا، وطال الأخذ والرد بيننا، وأخيرا صرف لنا استمارات إلى الشلال فحسب، لأنه يعتقد أن الشلال نهاية اقتصاصه، وأننا ملزمون أن نأخذ الاستمارات الباقية من منطقة قنا التعليمية، إذا كان في وسعها هي الأخرى أن تصرف استمارات أبعد من الشلال.
وإذا اغتفرنا لهذا الموظف هذه الغلطة، فهل نغتفر لموظف آخر بالوزارة نفسها غلطة أفظع وأعنف؟ لقد ذهب أحد الزملاء بعد تعيينه إلى وزارة المعارف ليأخذ استمارات سفره إلى عنيبة أيضا، وما كان أشد عجبه عند ما فاجأه الموظف المختص بطلب تقديم ترخيص للموافقة عليه من الجهات المختصة في مصلحة الحدود. فقال: لماذا؟ فأجاب الموظف: لأن عنيبة خارج الحدود المصرية، فلا بد من جواز السفر إليها؟!
وبهت الزميل، وحاول أن يفهم الموظف حقيقة الأمر، وأن عنيبة ليست خارج الحدود، ولكنه نظر إليه شذرا في شئ من التعالم المقيت، فلم يجد الزميل بدا من الرضوخ لما أراد، وقدم الطلب المراد، وأخذ مجراه، وانتقل من مكتب إلى مكتب، دون أن يفطن أحد إلى هذا الخطأ، حتى وصل إلى يد أحد الرؤساء بالوزارة، وكان رجلا ذكيا يعرف الكثير من عنيبة، فأمسك بالطلب، وأطال النظر فيه، وبدا الاستياء على وجهه، ثم نادى الموظف الذي أشار به، وافهمه حقيقة الأمر، وأتحفه بقسط كبير من اللوم والتعنيف، فما يجدر بموظف أن يجهل حقيقة عمله، وإن جهل حقيقة بلاده!
وأرمنا بلدة في بلاد النوبة بين توشكي وأبي سمبل، وحدث أن أرسل إليها أحد موظفي وزارة الصحة بعض الأوراق، الخاصة بطبيب المركز أي مركز عنيبة، بيد أن هذا الموظف كتب على الظرف (السودان) فذهبت الأوراق إلى السودان، ثم ردت إلى الوزارة مرة أخرى بعد ما كتب عليها موظف الحكومية السودانية أن هذه البلدة ليست في السودان وإنما هي في منطقة النوبة التابعة للحكومة المصرية واتبع هذه العبارة بمجموعة من علامات التعجب والاستفهام، التي معناها أننا معشر المصريين لا نعرف بلادنا).
هذه الأخطاء التي أسميها أخطاء وطنية، تقع في شتى الوزارات، ومختلف دور الحكومة كل عام، وهي إن أحزنت الوطني الغيور، فإنما بطرب لها المستعمر الغاصب. . . لأنه يرضيه أن يرى كل مصري منصرفا عن خير بلاده، ومصلحة أمته إلى لذاذاته ومسراته، ويسره جهل الموظفين بما لا يصح أن يجهلوه ويزيد في سعادته أن يرى القلق باديا في وجوه الموظفين في بلاد النوبة، ولهذا يتألم الإنجليز لعمران هذه المنطقة بالغ الألم، ويسوئهم أن تتجه الحكومة المصرية بالإصلاحات الشاملة في هذه البلاد، وبخاصة في هذه الأيام، لأن إصلاح منطقة النوبة يصل ما بين الإنجليز على اتساعها، ولكن الله سيحبط مسعاهم حينما تخاطبهم باللغة التي يفهمونها، وإن غدا لناظره قريب.
عبد الحفيظ أبو السعود