مجلة الرسالة/العدد 788/دراسات تحليلية:
مجلة الرسالة/العدد 788/دراسات تحليلية:
ذو النون المصري
للأستاذ عبد الموجود عبد الحفيظ
بين ضفاف النيل ورمال الصحراء في بلدة أخيم بمديرية جرجا من أعمال صعيد مصر، ولد أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري سنة 180 بعد الهجرة، وكان أبوه نوبيا جئ به من بلاد النوبة رقيقا ثم اعتق. ونشأ ذو النون تهب عليه نسائم النيل الرطبة، وتلفح وجهه رياح الصحراء الجافة، كلاهما تحمل أسرارا غامضة وتوحي بعظمة الكون وخالقه، وبين قوم محدودي المعارف ضيق أفق التفكير، قضي أيام صباه.
فلما شب عن الطوق اتسعت مداركه، ضاقت نفسه الكبيرة بهذا الجو الخانف المحدود، فلم يجد سوى الخرائب المصرية يطوف بينها من بلدة إلى أخرى يدرس رموزها ويحاول حلها والوصول إلى أسرها - وقد كان هذه الطواف المحدود عاملا من عوامل حبه التنقل بين بلدان العالم الإسلامي سعيا وراء بحثه عن الحقيقة ودراسته الصوفيه - ولما لم يجد بين هذه الخرائب ما يشفى عليل نفسه، راح ينشد الهداية في جوانب الصحراء الواسعة عله يصل إلى طلبته من المعرفة والعلم. وفيما هو في حيرته، سمع بسعدون الصوفي المصري، فذهب إليه وسمع منه فسحره بحديثه وأشرب قلبه محبته؛ فلقد وجد بعد العناء والتعب بغية نفسه وأمله المفقود، وتتلمذ عليه، ودرس الصوفية على يديه، وسرعان ما أعجب الأستاذ بفصاحة تلميذه فقربه إليه وآثره بصحبته. وبجانب توفره على دراسة الصوفية كان يدرس الطب والكيمياء وعلوم السحر.
وذات يوم عاد إلى أخيم فوصلها ليلا وسمع دفوفا تضربومشاهد قوما يلهون، فسأل ما هذا؟ فقيل له عرس. ثم سار قليلا فسمع نواحا ورأى نسوة يندبن، فسأل ما هذا فقيل له فلان مات. فقال: أعضي أولئك فما شكروا، وابتلى هؤلاء فما صبروا. لله على ألا أبيت بهذا البلد. وانطلق لا يلوى على شئ، ترفعه رابية ويخفضه واد، هائما ينشد المعرفة ويبغي الوصول، حتى بلغ بيت الله الحرام وزار القبر الشريف، ثم تابع سيره إلى دمشق وزار كثيرا من النساك المقيمين في جنوب إنطاكيا، وسألهم وسمع منهم. قال (زرت في لبنان رجلا نحيفا ضعيفا يصلي. فسلمت فرد السلام وما زال في ركوع وسجود حتى صلى العصر، ثم جلس ولم يتكلم، فطلبت منه أن يدعو لي فقال: آنسك الله بقربه. فطلبت منه المزيد، فقال: من آنسه الله بقربه أعطاه أربعا. عزا من غير عشيرة، وعلما من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنسا بغير جماعة. ثم شهق فلم يفق إلا بعد ثلاث وأنا منتظر، فما أفاق فال: انصرف عني بسلام. فقلت أوصني قال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلا).
عاد إلى مصر وقد روى ظمأه، وأخذ ينادي بتعالميه بين قوم ران الجهل على قلوبهم وعميت بصائرهم فم يفقهون قولا - وكان أول من تكلم عن علوم المنازلات، فأنكر عليه أهل مصر هذا واتهموه بالزندقة والخروج عن الدين لأنه لم يكن لهم بهذا العلم عهد، فقالوا أحدث علما لم تتكلم فيه الصحابة - فاضطهدوه وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، فبعث إلى عامله على مصر فأرسله أليه، فألقى به في السجن، ولكن أصدقاءه وتلاميذه طلبوا له العفو من الخليفة وما زالوا به حتى أخرجه من السجن، وجمع العلماء ليناظروه. وتحدث أبو الفيض وتحدث العلماء فما زال كلامه يعلو وكلامهم يهبط حتى صمتوا جميعا وتحدث وحده. ثم وعظ الخليفة، فبكى بكاء مرا وندم على سجنه وقال: إذا كان هذا زنديقا فما في الأرض مسلم. ورده مكرماً. فدوى اسمه في الآفاق وأقبل عليه الناس من كل صوب وحدب يلتمسون العلم عنده ويطلبون الرشاد على يديه.
وكان يعلم تلاميذه التوبة ويلقنهم كبح جماح جماع النفس والإقلاع عن الغواية. وقد كان يفرق بين توبة الإنابة التي ترجع إلى خشية العقاب والخوف منه، وبين توبة الاستحياء التي تستند إلى الاستحياء من رحمة اله سبحانه وتعالى. وكان يقول التوبة ثلاث: (توبة العوام وهي عن المعاصي، وتوبة الخواص وهي التوبة عن الإهمال، وتوبة المعرفة وهي التوبة التي تعنى الإعراض عن كل شئ سوى الله).
ومن تعالميه عن الروح أن النفس هي العقبة الكأداء في سبيل الكمال الروحي لأنها خاضعة لرغبات النفع الذاتي، ولذلك وجب على المتطلع الى الله أن يحارب نزواتها ويتغلب عليها. ولما سئل عن الحجب الموجودة بين الله والروح هو أعظمها أثرا في إخفاء رءية الحقيقة قال: (أخفى الحجاب وأشده رؤية النفس وتدبيرها).
ويقول إنه يمكن عن طريق كبح جماع النفس تخليص الروح من العقبات النفسية وإعادتها إلى أصلها الأول من الطهارة والنقاوة فتعود إلى اتصالها بالله.
فالعودةإلى الله لا بد من تطهير النفس من الشرور وكبح جماحها عن الرغبات ومن أية صلة أخرى غير الصلة بالذات العلية ومن تعاليمه في ذلك: (لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة).
وذل النفس ضروري للروح التي تأمل في أنس الله والقربمنه، فكلما ازداد العارف في إذلال نفسه وإخضاعها ازداد قربا من الله، فيقول (وما أعز الله عبداً بعز، أعز له من أن يدله على ذل نفسه) لأن المريد عندما يبصر القوة السماوية وتتملكه عظمة خالق السماوات والأرض يدرك كم هو ضئيل بالنسبة لهذه القوى فيمتلئ تواضعا. . . . وفي ذلك يقول ذو النون (من أراد التواضع فليوجه نفسه إلى عظمة الله تعالى فإنها تذوب وتصفو. ومن نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته وجبروته).
وكانت المعرفة أهم الموضوعات من تعاليمه، فهو أول الصوفيين الذين تعرضوا للكلام عنها. ومن تعاليمه في المعرفة أن المعرفة بالله ثلاث، أولاها معرفة التوحيد التي هي ملك المؤمنين جميعا. وثانيتها معرفة الحجة والبيان وهذه هي معرفة الفلاسفة وعلماء الدين. وثالثتهما معرفة صفات الله وهي معرفة أولياء الله الذين يتأملون الله بقلوبهم فيكشف لهم عما لا يكشفه للآخرين فيقول: (علامة العارف ثلاث: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولا يعتقد باطنا من العلم ما ينقض عليه ظاهرا من الحلم ولا يحمله كثرة نعم الله عليه، وكرامته على هتك أسرار محارم الله تعالى).
والمعرفة تقود إلى الحيرة، ولكنها حيرة على نوعين: حيرة العامة وتؤدى بأصحابها إلى الزندقة والضلال، وحيرة الخاصة وهي تسبب عن الاكتشاف، فهي الحيرة التي تدوم وتبقى. في ذلك يقول (التفكير في ذات الله تعالى جهل، والإشارة إليه شرك، وحقيقة المعرفة حيرة).
وكما أن المعرفة تؤدى إلى الحيرة فهي كذلك سبيل الاتحاد بالذات العلية، وفي ذلك قال: (إن الله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب أعينهم وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا من غير جنون، وتبلدوا من غير وعي ولا بكم، وإنهم لهم البلغاء الفصحاء العارفون بالله وبرسوله، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت، وجالت فكرهم بين سرايا حجب الجبروت واستظلوا تحت راواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحب النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلى حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقدموا من غدير الحكمة، وركبوا في سفينة العطية وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا الرياض الراحة ومعدن العزة والكرامة).
وتحدث ذو النون عن أسفاره التي كان فيها ينشد سبل الخلاص من شوائب الحياة وأكدارها قال: (لقد حصلت في أول أسفاري علما يرضى الخاصة والعامة، وحصلت في ثانيها علما يرضى الخاصة دون العامة، وفي ثالث أسفاري حصلت من العلم ما لم ترض به لا الخاصة ولا العامة، فغدوت شريدا طريدا. لقد حصلت من العلم في المرة الأولى التوبة وهي مقبولة لدى الخاصة والعامة على حد سواء وفي المرة الثانية وصلت إلى التوكل على الله ومعاملته ومحبته وهي شئون تتقبلها الخاصة ولا تتفهمها العامة، وفي المرة الثالثة وصلت إلى الحقيقة التي تسمو على العلم والعقل فأعرضها عنها ولم يتفهماها).
لقد كان ذو النون في بادئ الأمر متنسكا ينشد الوحدة ويبتغي العزلة، ليدرب نفسه على كبح رغباتها حتى تغلب عليها، فسار في طريق التوبة والتطهر حتى من الله عليها بهبة المعرفة فأصبح في آخر الأمر صوفيا عارفا بالله. وقد وافاه الأجل بمدينة الجيزة سنة 245 للهجرة. ومما يروى عن جنازته أن كان الطير تتجمع في السماء وتظلل نعشه. وأنه بعد وفاته ظهر على قبره مكتوب: ذو النون حبيب الله، من الشوق قتل الله.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحفيظ