مجلة الرسالة/العدد 788/بعد الامتحان. . .!
مجلة الرسالة/العدد 788/بعد الامتحان. . .!
للأديب الطاهر أحمد مكي
ماذا أصنع؟، وإلى أين أتجه؟ وفي أي المعاهد أنتسب؟، ومن أي الثقافات أرتوي؟. . . أسئلة حائرة تتراقص على لساني، وخواطر قلقة تتماوج في جناني، وآمال واسعة يضيق بها صدري، ويعجز عنها بياني؟
أنا أريد المعهد الذي يربى الروح وينشئ البدن، ويساير الحياة، ويراعي تطور الزمن،. . . وأنا أفتش عن الأستاذ الذي بوجه ولا يستأثر، ويرشد ولا يقيد، ويرسم المنهج، ويحدد الهدف، ولا يدخل في التفاصيل، ولا يتمسك بالجزئيات، ليجعل شخصه فوق الأشخاص، وعقله سيد العقول، ورأيه أكمل الآراء!. . .
قالوا أمامك بليع اللغة، بها نشأت العربية، وفي أحضانها ترعرعت، وعلى هدى منها تطورت، ولعلك واجد هناك ما يرضى ذوقك وفنك، ويشبع رغبتك وهويتك، ويصمد بك في معارج من السمو البلاغي، تتيح لك لذة لا تعدلها لذة، ومتاعا لا يعدله متاع!. .
واسترجعت نفسي، واستأنيت فكري، ولم أصدق ما قالوا فأنا أعرف بالأزهر، وألصق بشيوخه، وأخبر بمناهجه، وأعلم بطلابه، وهم جميعا ليسوا في شئ مما يصفون، وإن بدت ظواهرهم لماعة خداعة. . .
فكلية اللغة قالوا لها يوما، كوني على العربية حارسا ولها رائداً، ثم باركوها بالعناية، وغذوها بالرعاية، وحبوها بالجاه، وعززوها بالإيثار، وجعلوها مطمح الأنظار، واستخلصوا لها من الطلاب أنجبهم وأمكنهم، واعزرهم ثقافة وعلما. . ومضت عجلة الحياة مندفعة إلى الأمام، مسرعة الخطا، فأصاب التطور والتقدم شتى مرافق مصر، ولكن كلية اللغة لم تؤت ثمارها، ولم تبلغ أكلها، ولم تحقق أمل الناس فيها، فتوارت عن الأنظار.
ذلك لأن المشرفين عليها بالأمس واليوم، جعلوا من عقول بنيها آلات لرصد الآراء، ومذكرات لتدوين الحواشي، وسجلات لحفظ الهوامش، وحفظة على كتب الأوائل، غثها وسمينها، خبيثها وطيبها. . . ثم قالوا لهم، حدودكم فلا تتخطوها، وتلك آراؤهم تناقشوها، فوجد الطلاب أنفسهم مضطرين لدراسة قواعد لا تتمشى مع الذوق، ولا تستقيم مع المنطق، ولا تنهض على أسس سليمة من الفكر الصحيح والنظر السليم، والرأي الثاقب، والبحث العميق، وتصطدم مع واقع الحياة اصطداما مرا، ثم وجدوا أنفسهم مسيرين في إضفاء القداسة على أشخاص المؤلفين، لا ينقص لهم رأي، ولا تنقض لهم قاعدة، مع أنهم بشر أيا كانوا، يخطئون ويصيبون على السواء فكان الإيمان المطلق، وما اكثر ما يجنى الانقياد الأعمى على حقائق الأشياء!
وأنا حين أعرف لهذا المعهد بمثل هذه الصراحة، لا يمنعني غل في النفس أو مرض في الرأي، أن أعترف أن فيما يدرس هناك، كتبا لها قيمتها واعتبارها، ولها مكانها في عالم البلاغة والأدب، ويرجى منها كبير فضل لو أتيح لها المدرس الصالح!.
ولكن، أين هو المدرس الصالح؟. . وقد أفقدت السياسة الأزهر صوابه، فاضطربت فيه مقاييس الأخلاق وموازين الرجال وجعلت منه مجالا فسيحا لنمرة العصبية، وشحناء الحزبية، فعلا أناس مكانهم في الحضيض، وفات الركب آخرون كانت النصفة تقضي، أن يكونوا في مقدمة الصفوف، ولا يرجى من تافه علا نفع، ولا من عزيز امتهن فائدة!. . . والعربية في كلا الحالين هي الخاسرة، والطلاب هم الضحايا!!
وإذا كانت الصراحة رائدى، فأنا أجد في نفسي الشجاعة لأقول: أن هيئة التدريس في كلية اللغة أجمالا، لا تتناسب وجلال المعهد وعظمة رسالته، وما يرجو له المخلصون من بقاء ودوام. ولست أعرف فيما أذكر من كليات مصر والعالم، أن هيئة تدريس جامعية، لا يجيد أساتذتها أكثر من لغتهم التي ولدوا بها، غير كلية اللغة، وتلك تقيصة ما كنت أحب أن يوصموا بها، في عالم أضحى كتلة واحدة، وتلاشت فيه الحدود والحواجز، لم يعد في طوع شخص مثقف، أن يستقل فيه بفكره وآرائه، بعيدة عن مؤثرات الفكر وتياراته العالمية!. .
وتستطيع أن تلمح أثر هذا التقصير واضحا، في متابعة ما يؤلف من كتب، وما يصدر من صحف، وما ينشر من بحوث وما يدرو من مناقشات، هل تحس لهم كلمة، هل تسمع لهم رأيا؟ سؤال ما أظنه يحتاج إلى جواب!
كان في وسع الأزهر أن يتلافى هذا النقص، وأن يدفع عن نفسه، هذه المعرة، لو مد يده إلى الأدباء والمفكرين، ممن بنوا مجدهم العلمي على أسس متينة، وبجهاد مضن، وما عليه من بأس، فكل جامعات العالم تسد نقصها، لما تجد من أساتذة متخصصين أني وجدوا. والعالم لا وطن له، والحقيقة واحدة وإن تعددت المذاهب والأجناس والأوطان! ولكن. . لأمر ما، رفض شيوخنا أن يعترفوا بالنقص ولغيرهم بالفضل، فآثروا السكوت والعزلة، وضربوا حول أنفسهم حاجزا حصينا، وأقاموا دون العالم سدا عالياً، لا ينفذ منه شعاع الفكر الحديث؛ وال يخترفه صدى المعرفة الحقة، لا يتقدمون ولا يتطورون، ولا يؤثرون ولا يتأثرون. . . وتلك طلائع الموت وبشائر الانحلال!
وهمس في أذني آخرون، يستحثونني في اللحاق بدار العلوم ويسبون لها من المزايا والفضائل ما عرفت وما لم اعرف، ومن يدري فقد لا أعرفه أبداً، لأنه ليس هناك، وإنما هو وليد التعصب الأصم، والخيال المغرض!. .
قالوا إنها مهذبة منظمة، مرتبة منسقة، سخية في المال، شهية في الطعام، لن تجد في دراستها تعبا ولا نصبا، ولا رهقا ولا وصبا، ووجدتني أدير ظهري مرة أخرى، فأنا عارف بما هناك.
قد تكون دار العلوم جميلة المبنى، لطيفة الموقع، نظيفة المظهر، لامعة البناء، فاخرة الرياش، ولكنها وا أسفاه أيضا! أزهرية التفكير، جامدة الشعور، لا تربى دراستها فنا، ول تعلى ذوقا، ولا ترهف حسا، ولا تنمي خيالاً، وإنما تنتج مدرسا صالحاً طيعاً، لحفظ القانون، ويجيد قواعد التربية، ويطبق منشورات الوزارة، ويحسن حفظ النظام في صفوف التلاميذ!. . .
لن أذهب إلى الأزهر، لأني سأكون أكثر من أستاذي علما، وأوسع ثقافة ومعرفة، فأنا أجيد لغة، وفي طريقي لإجادةالثانية، وهو لا يعرف إلا واحدة؛ وأنا ألم بالحركة الفكرية الحاضرة، ممثلة في الصحافة والإذاعة والمحاضرة، وهو ليس على شئ من ذاك. . . ولن أذهب إلى دار العلوم، لأنها مصنع مدرسين، وأنا لا أريد أن أصبح مدرسا ناجحا، بقدر ما أحرص على أن أكون مفكر حرا، ولا أحرص على شئ أكثر من حرصي على المعرفة الطليقة، التي لا تتأثر بالمذاهب والأشخاص، قدر تأثرها بالمنطق والإقناع!. .
ولا يعنيني من الحياة، إلا أن أعيش مع أولئك الخالدين من عباقرة الإنسانية في مختلف فنونها، مصورين ومثالين ونحاتين وأدباء وشعراء وموسيقين، ممن أعلوا من قيمة الإنسان وقدره وجعلوه جديرا بما أكرمه من الخالق من مزايا وصفات!. . .
بقيت كلية الآداب. . . وهي ثرية مترفة، نافعة مرهفة، تتأفف من أمثالي، من الغلابى في دنيا الجاه والمال، الفقراء في عالم المادة والسلطان، فهي تقيم الحواجز، وتصنع العقبات. ولعلها ثائبة إلى رشدها يوما. . عافاه الله!
وبعد. . . فأين أكمل تعليمي، وفي أي مهد تستقر روحي، وعلى أي أساس أحتفظ نهجي؟. .
أنا حائر. . . فهل عند أحد من جواب؟!
الطاهر أحمد مكي