مجلة الرسالة/العدد 788/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 788/رسالة الفن
(الاتجاهات الفنية الحديثة)
للأستاذ محمد بك ناجي
يشاء الله لنا أن نعيش ليختبرنا بهذه الأوقات كي نستحق مصيرا أجل وأعظم. لهذا حشدنا جميع فوانا في خدمة غرض نبيل، وانبعثت همتنا للكفاح في جميع الجبهات في نفس الوقت. فلنزد من هذه القوى، ولنضاعف وثباتنا، فليس في حوزة الغرد أكثر ما تجمع له من الوسائل. ولقد ظلت الروح أبدا مكرسة للنصر.
انظروا إلى الحرب الأخيرة وتساءلوا عما إذا كان جنود الأمم المتحدة قد تجردوا من تذوق الجمال الذي كان يسري في مظاهر فنهم مبدينتا القاهرة. لكي يكلل السلاح بالنصر لا يكفي صوت المدفع وحده؛ فإن الحلفاء قد عبئوا مصوريهم ومتاليهم ليعبروا عن حيويتهم. قد دعيت مصر الاشتراك في معرض البندقية الدولي للفنون الجميلة، وهو حلبة سبق أوربية يضرب كل فيها بسهمه. ومصر ساهمت بجرأة بدورها في هذا المضمار، حقاً أنها وصلت إلى الصفوف الأولى وهي تلهث؛ ولكنها أقرت مكانتها في مجمع الأمم. وأنا لنتقدم بشكرنا إلى إيطاليا صانعة السلام الذي يوفق عن طريق الفن بين المصالح المتضاربة المتباينة.
في البندقية، المدينة الغناء، والتقت جميع الأمم. وقد ظفرنا بمثل هذا الامتياز أثناء الحرب؛ وبعدها احتفظت به القاهرة فأمست عاصمة الفنون في الشرق الأوسط، وظلت حريصة على هذا التقليد ومن أجل هذا ستخطي إيطاليا التي تنزلنا اليوم بجناحها الفخم بنفس حقوق الضيافة في قصر المعارض بالقاهرة، في العام القادم.
وقد شئت أن أحدثكم عن مدينة أوربية باهرة بقول البعض آسفا إن الشيخوخة قد دبت فيها - ومعرض البندقية يقدم إلينا صورة جلية. قد تثير أسباب الكوارث قلق المؤرخين؛ ولكن العلوم الزاخرة، والحرية الوافرة، والفردية الواسعة، ثم الكبرياء، والرغبة العابثة في خلق عالم مجرد من الطبيعة لا تقلقنا، ولكن فضيلة التواضع التي تنقص الفنان هي الباعثة على انحلال فنه.
وأمعنا في التدقيق، إليكم المراحل التي اجتازها الفن المعروف بتصوير (المرئيات)
تتضمن أولى هذه المراحل إبراز صورة المرئيات مباشرة بطريقة ساذجة. أما الثاني فتقتبس العناصر الطبيعية لإبداع الطبيعة من جديد. وتطمح الثالثة إلى تكوين عالم لا يمكن تصوره مستقلا عن عالمنا المعقول.
والرأي عندنا أنه يمكن أن نحدد بين قطبين ما ينتاب عالم الفنون من الاضطراب البالغ: أولهما المحسوس وهو نقطة ارتكاز الفن التصويري أو المرئي، والآخر المجرد ويثير في النفس برموزه وإشاراته المعاني والارتسامات.
وتطرف الفن المعاصر وجموحه شبيه بتحرير الفرد من الأوضاع القائمة. والنشاط الروحي الرفيع لا يقبل بطبيعته أي مبرر؛ إذ هو حادث مستقل لا يخضع لسواه أو يمكن استخدامه كأداة. إزاء هذه الانقلابات الطارئة على الفن بفعل التفكير الفلسفي المتضارب، وما تقده لنا مذاهب مثل: (وما فوق الطبيعة) (الميتافيزيقة)، (والتجريدية)، (وما فوق المحسوس) (سيررلست)، (ولاستبطانية)؛ لا يعدو واجبنا غير الإلمام بهذه التيارات التي تعتبر أكثر من أن تكون فنية: أما الأخذ بها والجري عليها فمتروك للأذواق والميول. ولا يخفى أن حب البشرية والدين والتقاليد والوطن ليست موضوع ما يعرف (بالفن الدولي) وهذه العوامل المذكورة التي خلقت للإنسان أجمل تراث ما تزال تفعل فعلها في بعث نهضة الشرق. ولسوف يظل الشرق للجميع مستودعا روحيا زاخراً ليعالج مرة أخرى هذه الوثنية يسمى عالم الفن للتحرر منها.
هذا ما يلقيه علينا معرض البندقية من الدروس، وإنا لجد عارفين له بالجميل.
محمد ناجي