مجلة الرسالة/العدد 788/الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ
مجلة الرسالة/العدد 788/الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ
للدكتور جواد علي
سكرتير المجمع العلمي العراقي
(بقية المنشور في العدد الماضي)
أما ذهب (المادية البيولوجية) فقد دعا أصحابه إلى تطبيق القوانين البيولوجية مثل نظرية داروين وما يتعلق بها على التاريخ وعلى المجمعات البشرية باعتبار أنها نوع من الكائنات الحية وأنها خاضعة للقوانين العامة التي تخضع لها كل الموجودات. فبحثوا في التاريخ البشري على أنه وجه من أوجه النشوء والارتقاء وبقاء ما هو أصلح وبحثوا عن الوراثة عند الأمم، كما فعل (فريدريك فون هلولد) في بحثه عن التاريخ الثقافي وتطوره من أقدم عصوره حتى الآن. و (دورنك (1833 - 1921م) وهو من الفلاسفة الذين لاقوا معارضة قوية بسبب آرائهم العنيدة في المادة ونكران الروح.
فعند هذا الفيلسوف (الإيجابي) أن (الشيء الحقيقي) هو الأشياء المرئية فقط، وعلى ما تظهر للإنسان، وأن الأشياء كلها واحدة، وأنها هي الواقع أو الحقيقة، ومن عدا ذلك فسخافات. وإن ما يسمى بالروح ليس إلا أسطورة وأن (الحس) أو (الشعور) طاقة من طاقات المادة، ولا توجد فوق (المادة) أي أمور أخرى؛ وأن الطبيعة نفسها تشعر وتفكر بالشكل الذي عناء من المادة، ولهذا يجب دراسة التاريخ على هذا الأساس. فرفض بهذه النظرية المذاهب المعروفة القائلة بما وراء الطبيعة والمذهب الرومانطيقي كذلك.
ومن هؤلاء أيضا (أوتوسيك في كتابه عن تدهور العالم القديم و (كومبلوبثر) في مؤلفاته عن الاجتماع. و (هوستن ستيوارت شامبرلين) في كتابه المشهور عن أسس القرن التاسع عشر. وقد بحث هذا في التاريخ متأثرا برأي أصحاب نظرية النشوء والارتقاء، ففرق بين الشعوب (المبدعة) وهي الشعوب المبتكرة على رأيه، وبين الشعوب المتمدنة والتي لم تفعل في نظره غير ذلك. وبنى تاريخه على أساس عنصري فمجد الآرية والشعوب الآرية وغنى بتفوق الأمم الأوربية على سائر أمم العالم.
ومن أصحاب هذه النظرية (فولتمن) وهو طبيب ومؤرخ وعالم من علماء علم الاجتماع.
طبق نظرية (داروين) على التاريخ وعلم الاجتماع وخرج بتأثير هذه النظرية على أن الشعوب غير متساوية في الكفايات وأن الشعوب الشمالية هي الشعوب المنتجة والمبتكرة في هذا العالم. وكذلك (نوفيزو) ووقد حاول هؤلاء مندفعين بالنظرية الداروينية ربما شاهدوه من تقدم عظيم في أوربا وتأخر في الشرق إلى تطبيق هذه النظرية على التاريخ وفي السياسة.
وقد بحث في هذا الموضوع وبصورة أوضح وأعمق جماعة من أصحاب المذهب (الواحدي) القائل بائن أصل كل الأشياء واحد وهو (المادة) أو (الروح)، ومن هؤلاء (أوستوالد) (1853 - 1932م) وهو أستاذ من أساتذة الكيمياء حاول تطبيق مبدأ (الطاقة) حتى على العلوم الاجتماعية، فألف في الثقافة وفي علم الاجتماع؛ والعالم (كولد شايد) صاحب نظرية (الاقتصاد البشرية) وقد بحث في (المادية) على أنها طاقة من الطاقات التي يتأثر بها التطور البشري.
إن أصحاب هذه النظرية وإن كانوا قد تأثروا بنظرية (داروين) وبالآراء المادية إلى حد كبير؛ غير أنهم لم ينكروا عموماً وجود (الروح). وقد فسروا (الروح) تفسيراً يلائم النظريات الطبيعية، كما أنهم فسروا تأثير القوة الموجدة أو (الله) تفسيراً لا يدعو إلى مذهب الإلحاد أو نكران الخالق نكراناً باتاً
والمذهب الآخر من المذاهب المادية في تفسير التاريخ هو مذهب (المادية الاقتصادية) أو (الوجهة المادية في تفسير التاريخ) فكل العوامل المادية المؤثرة في التاريخ البشري هي ذات طابع اقتصادي، وهذه العوامل الاقتصادية تؤثر في حياة الأفراد والجماعات والحكومات. وحتى في العلوم والأديان. وما الحياة الإنسانية والمظاهر الثقافية على رأي هؤلاء سوى مظهر من مظاهر التقلبات اقتصادي، فالتاريخ إذن هو تاريخ اقتصادي، والعامل الاقتصادي إذن هو العامل إذن هو العامل الفعال تغيير مجرى التاريخ وتكوين التاريخ.
ويلتقيبهذا المذهب التاريخي مذهب آخر يقالله (المذهب الإثباتي في التاريخ) وهو قريب من المذهب المادي وإن ظهر لنا أن المبادئ مختلفة تمام الاختلاف. ومن رجال هذا المذهب الفيلسوف الفرنسي (أوكست كونت) يرى أكثر رجال هذا المذهب أن التاريخ البشري مر في مراحل حتى بلغ هذه المرحلة الأخيرة، وإن من الممكن تمييز ثلاث مراحل مهمة مرت بها هذه البشرية وهي:
1 - مرحلة إرجاع كل الأشياء إلى أسباب وعوامل روحية وقوى غير منظورة مثل السحر والقوى الخارقة والآلهة والقوى التي لا يمكن رؤيتها.
2 - مرحلة ما وراء الطبيعة (. أو مرحلة الأفكار المجردة، وترجع فيها الأسباب والمسببات والوجود وما يحدث إلى عامل مؤثر.
3 - المرحلة الثالثة وهي مرحلة (الفكر الإيجابي) وفي هذه المرحلة بدأ الإنسان يفكر في ترك البحث في العلل النهائية غير المنظورة إلى البحث بالطرق الإيجابية وفق الطرق الطبيعية وقوانين التجارب العلمية.
وقد تطورت أكثر العلوم وسارت سيراً إيجابيا إلا العلوم التي تبحث عن المجتمع والمجتمعات البشرية فإنها لا تزال في حاجة إلى إيجاد قوانين ودساتير الطبيعة يتمكن بواسطتها عالم الاجتماع أو التاريخ من الحصول في النهاية على نتائج إيجابية ثابتة.
وقد وجدت آراء (كونت) رواجاً كبيراً بين الجماهير. وإن لم يكن ذلك التأثير مباشراً بل كان بواسطة كتابات الكتاب الآخرين أمثال (جون ستيوارت دميل) و (هوربرت سبنسر) و (هنري توماسي بكل) و (إميل ليثريه) و (هنري نين) وغيرهم. لقد وجه هؤلاء أنظار قرائهم إلى دراسة العلوم الاجتماعية وحالات الشعوب والتاريخ الثقافي وما إلى ذلك وساعدوا على نشر آرائه ولا سيما (بسكل) في كتابه القيم الذي ظهر بين سنة 1857 - 1861 وهو (تاريخ المدينة في أنكلترة).
وقد أشارت إلى ضرورة دراسة نفسيات الجماعات والعوامل الروحية التي تؤثر في التطور الثقافي، ولابد لمعرفة ذلك من الاستعانة بالإحصائيات التي تتعلق بالجماعات، وبواسطة هذه الدراسات التي تستند على الطريق التجريبية نتمكن من رفع (التاريخ) إلى درجة (علم) من العلوم. أما الاستعانة بالحوادث الفردية وبالوقائع المدونة فإن ذلك لا يرفع من التاريخ شيئاً، ولا يمكن أن يصل به إلى منزلة العلوم.
وقد تطرق هذا البحث بحث الاستعانة بالإحصائيات لتكوين (علم التاريخ الناطق) عالم فرنسي هو (هنري نوردو) في كتابه الذي ظهر سنة 1888 وعنوانه التاريخ والمؤرخون حيث نادى بموجب تدوين التاريخ على صورة أرقام وإحصائيات ناطقة تتكلم للناس بصراحة وبدون خجل، مثل المعادلات الرياضية أو الكيماوية. أما وصف الحوادث وتدوينها على رأيه فذلك من وظائف الآداب.
ومن الذين نحوا منحى (كونت) في ألمانيا المؤرخ الألماني (كارل لامبرشت) الذي سار على أكثر الأسس التي وضعها ذلك الفيلسوف الفرنسي وطبقها في التاريخ الاجتماعي. وقد أشاد بالقيم التاريخية للجماعات وبأنها هي الموجهة للتاريخ متجاهلا بذلك (عامل الفرد) في التاريخ وتأثير الأفراد في الجماعات. وقد أدى ذلك إلى احتدام النزاع بين المؤرخين في موضوع مهم جداً: هل التاريخ من صنع الأفراد أم من صنع الجماعات؟ وأيهما أقوى أثرا في سير الحوادث البشرية؛ فكان من تأثير ذلك ظهور رسالة في موضوع (أهمية الشخصية في التاريخ بالنظر إلى مقدمة بلوشي في التاريخ اليونان).
وقد اصطدم (لامبرشت) بأكثر المؤرخين من أتباع طريقة المؤرخ (رانكه) في تدوين التاريخ.
غير أن هنالك جماعة سارو على نهج آخر في تفسير التاريخ البشري هو نهج الفيلسوف الشهير (كانت) ومثل هؤلاء (فيشته) و (شلنك) و (هيكل) غير أن أعظم ممثل لنظرية (كانت) في التاريخ هو المؤرخ الشهير (ليويولدفون رانكه) الذي اهتمعلى الأخص بالبحث في (نظرية الفكرة) وأهمية الدولة والفرد. وقد انتقلت آراؤه إلى تلاميذه ومريديه.
ومن أهم النقاط التي بحثت فيها مدرسة (رانكه) هي كيفية اشتراك الشعوب العالمية كلها في تكوين (التاريخ) والحرية والجماعة وعلاقة الفرد بالحكومة، وكيف أمكن الجمع بين الحرية والإرادة الحرة للأفراد، وتكوين التاريخ العالمي. وحكم الضرورة الذي أجبر الإنسان على تقييد حريته طائعا مختاراً لئلا يقع في كفاح لا نهاية له، فاضطر إلى تكوين الحكومات والخضوع لأحكامها مع ما في ذلك من تضييق للحريات. فضمن بذلك من جهة أخرى أكبر قسط ممكن من الحرية للأفراد. وقد جاءت هذه الآراء في شعر الشاعر (شلر) كما جاءت في نظرية (هيكل) عن تطور العالم في نظريته عن تطور الـ أو (الفكرة) حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العهد الثالث وهو (العصر المسيحي الجرماني).
على أن هذا المذهب في التاريخ يقابله مذهب آخر هو المذهب التجريبي الانطباعي في التاريخ ومذهب (الموسوعيين). و (الإنسانيين).
جواد علي