مجلة الرسالة/العدد 779/من تاريخ الطب الإسلامي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 779/من تاريخ الطب الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1948



لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني

سفير إيران بمصر

- 4 -

ذكرنا في حديثنا السابق محملا عن طب العرب في الجاهلية، ونبذة عن مصادر الطب الإسلامي وتأثير علوم اليونان فيه، وتحدثنا عن كيفية نقل علوم اليونان وسائر الأمم إلى العربية، وذكرنا أن المسلمين بدأوا ترجمة العلوم منذ القرون الأول الهجري أي من بدء تعرفهم عى الأمم الأخرى واتصالهم بها، وقلنا إن هذه التراجم قد تحسنت بالتدريج واتسعت دائرتها حتى بلغت ذروتها في زمن المأمون، وكان للايرانيين حينذاك نفوذ كبير في المجتمع الإسلامي، أي عندما كانت النهضة العلمية الإسلامية في أوجها، وإن عدداً كبيراً من مترجمي هذا العصر قام بإصلاح التراجم السابقة.

وفي حديثنا اليوم سنتكلم بإيجاز عن هذا العصر ثم نتحدث عن ظهور كبار الأطباء المسلمين من أصحاب الرأي والنظر وعن مطالعاتهم ودراساتهم في الأمراض والعلل وعلاجها، وفي مطالعاتهم عن أحوال المريض بجانب سريره، ونذكر نبذة عن البيمارستانات عند المسلمين.

كان المأمون مهتما بهذا الأمر لدرجة أنه كان يبعث الهدايا الثمينة لملوك الروم ويسألهم مقابل ذلك الإذن في إنفاذ بعض المختار من كتب الفلسفة والعلوم القديمة المخزونة المدخرة لديهم إليه، وكان من جملة شروط الصلح بين الخلافة الإسلامية، وامبراطورية روما الشرقية، أن يأذن امبراطور الروم للمسلمين بشراء الكتب العلمية اليونانية من البلاد التابعة له، وكانت الكتب التي تصل إلى المأمون خير الهدايا التي يبعث بها إليه الملوك.

يقول ويتينجتون في مؤلفه عن تاريخ الطب: (إن فتوح المسلمين العلمية ليست بأقل أهمية من فتوحهم للبلاد وغزوهم لها)

وقد اقتدى بالمأمون كثير من السراة الأغنياء من أهل الفضل والذوق وبذلوا جهوداً كبيرة في ترجمة الكتب العلمية ونقلها إلى العربية.

وكان من نتائج هذا الاهتمام والتشجيع أن ظهر عدد كبير من مهرة النقلة في ذلك العصر.

يذكر المؤرخون أن المأمون كان يعطي حنين بن اسحق العبادي ما يعادل وزن الكتب التي يقوم بنقلها إلى العربية ذهباً

وكان يشتغل في دار الترجمة التي كان يرأسها حنين أكثر من تسعين مترجماً ينقل الكتب، ومن مشاهيرهم ابن أخته حبيش الأعسم، وعيسى بن علي، وعلي بن يحيى، وأيوب الأبرش، وحجاج بن مطران.

وبفضل جهود هؤلاء وعلو هممهم وبصرف الأموال الكثيرة وتحري الدقة المتناهية نقلت إلى العربية كتب كثيرة نفيسة حقاً تجد في كثير من كتب التاريخ، ولاسيما في كتاب الفهرست لابن النديم، أسماءها وعناوينها بالتفصيل. غير أن كثيراً من هذه الكتب قد ضاع بسبب ما أصاب القسم الأكبر من البلاد الإسلامية في القرن السابع للهجرة من الخسائر نتيجة لحملة المغول عليها. وليس لدينا الآن من آلاف الكتب غير أسمائها؛ وربما كان هناك كتب كثيرة ضاعت وضاعت معها أسماؤها أيضاً

وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن شيوع عقيدة الأشاعرة الجامدة الشديدة التحفظ، وتغلبها على طريقة المعتزلة الحرة في البحث العلمي والديني، وعوامل كثيرة أخرى كانت قد أثرت في النهضة العلمية الإسلامية فحدَّت من تقدمها قبل حملة المغول، إلا أن هذه النهضة العلمية كانت لا تزال بعد على شيء من القوة، وكان مقام العلم والأدب لا يزال شامخاً إلى ان جاءت حملة المغول كالسيل الجارف فأصابتها بصدمة قوية فلم تقم لها بعد ذلك قائمة.

إلا أن حملة المغول هذه لم تصب العلوم الطبية بما أصابت به غيرها من العلوم من ضرر، لأن أفراد قبائل المغول على رغم بربريتها كانوا يهتمون بصحتهم وسلامة أبدانهم، لذلك فقد حفظوا كتب الطب من الإضمحلال والضَياع، كما أن حبهم الشديد للشهرة وخلود الذكر كان من الأسباب التي صانت كتب التاريخ من الضياع والفناء.

إن هذه العاطفة اعني حبهم للشهرة وخلود الذكر لم تصن كتب التاريخ من الضياع فحسب، بل كانت سبباً لتأليف كتب أخرى نفيسة في هذا الباب، مثل تاريخ جهانكشاي للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين بن فضل الله الحمداني، وتاريخ الوصاف لفضل الله الشيرازي، وتاريخ كزيده لحمد الله المستوفي القزويني، وهي كلها معتبرة من الآثار والمؤلفات التاريخية الخالدة

والخلاصة أن أكثر المؤلفات التي نقلت في عهد المأمون إلى العربية كانت تراجم متقنة تدل على دقة المترجمين وحسن قريحتهم، وأن تبويب الكتب المترجمة إلى فصول ومقالات وأبواب مع ذكر المراجع والمصادر التي نقلت عنها التراجم تدل على ذوقهم السليم.

وبعد أن تعرف المسلمون عن طريق هذه التراجم على مصادر الطب الأصلية، وبعد أن عم البحث العلمي وأنشئت البيمارستانات والمعاهد العلمية وتكونت حلقات الدرس - ولهذا بحث مهم خاص ليس الآن محله - بدأ دور استقلال الأطباء المسلمين في بحثهم وتأليفهم. وفي هذا العهد الجديد شرع هؤلاء بتدوين ما فهموه من التراجم في مؤلفات خاصة حسب ذوقهم الخاص، وأضافوا إلى ذلك كله خلاصة مطالعاتهم وتجاربهم الشخصية فكان من نتاج ذلك كتب مستقلة في الطب للمؤلفين المسلمين.

وكان لمسلمي إيران خدمات مهمة في هذا الباب أيضاً لسابقتهم وماضيهم الطويل في الطب منذ عهد الساسانيين بفضل المدارس الطبية العظيمة التي كانت في إيران ومنها مدرسة جنديسابور. لذلك فإن كثيراً من الأطباء ذوي الرأي والنظر والأساتذة الكبار والمؤلفين المشهورين كانوا من الإيرانيين ولاسيما في القسم الشرقي من البلاد الإسلامية.

أم الطب في المغرب والأندلس، فإن له بحثاً خاصاً مستقلا؛ والكلام في أحوال فلاسفة تلك البلاد وأطبائها كابن رشد وابن زهر وخلف بن العباس الزهراوي الشهير بجراح العرب وابن جلجل وابن وافد واسحق بن عمران وأحمد بن الجزار القيرواني وأضرابهم، يحتاج لبحث طويل في عدة محاضرات، ولاسيما الكلام عن أثرهم في البلاد المجاورة لأسبانيا والطلبة الذين وفدوا إلى الأندلس من سائر بلاد اوروبا للدرس والتحصيل، والكتب العربية التي نقلوها إلى اللاتينية والعبرية وغيرهما - وهذه كلها أمور ذات شأن تقتضينا أن ندرسها دراسة عميقة، ونخصها بمحاضرة أخرى إن سمح الوقت بذلك.

كان أكبر هَمِّ معظم العرب في العصور الإسلامية الأولى هو درس اللغة العربية وعلوم القرآن والشريعة، ولم يكونوا ليهتموا كثيراً بسائر العلوم.

يقول جولد زيهير المستشرق المعروف وهو من أكبر المستشرقين تضلعاً في اللغة العربية، وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي - إن عدد علماء العرب حتى في علوم القرأن والشريعة كالتفسير والحديث والفقه كان أقل من عدد العلماء من غير العرب في هذه العلوم أيضاً.

ومن الأمور التي استرعت نظر الأستاذ ادوارد براون فأشار إليها في مؤلفه (الطب الإسلامي) إن الأطباء العرب ولاسيما المسلمين منهم لم يكونوا محل ثقة العرب واعتمادهم في العلاج؛ وقلما كانوا يرجعون إليهم في ذلك. ويستشهد الأستاذ براون برواية ذكرها الجاحظ في كتاب البخلاء عن طبيب مسلم من العرب اسمه أسد بن جاني أكسد، فقال له قائل: (السنة وبئة والأمراض فاشية وأنت عالم ولك جد وخدمة، ولك بيان ومعرفة، فمن اين تأتي هذا الكساد؟ قال أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب، بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً ومرايل ويوحنا وبيرا (ويقصد الأسماء اليونانية أو السريانية أو الآرامية) وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى وأبو زكريا وأبو إبراهيم (أي كنى اليهود أو النصارى) وعلى رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود؛ ولفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جند يسابور (يقصد لسان أهل إيران). والخلاصة أن معظم الأطباء الكبار من المسلمين في عصر النهضة العلمية والاستقلال الفكري في الإسلام كانوا من الإيرانيين، وكان أطباء هذه الحقبة من أصحاب الرأي والنظر مما جازوا مرحلة التقليد والتسليم لآراء أسلافهم؛ فإنهم كانوا يبذلون غاية الجهد ويعملون رأيهم فيميزون بين الصحيح والسقيم من الآراء، ويضيفون إليها من عندهم الشيء الكثير؛ وخير مثال لهؤلاء محمد بن زكريا الرازي الذي جمع في مؤلفيه كتاب المنصوري وكتاب الحاوي كل المعارف الطبية التي كانت موجودة في زمنه من مؤلفات من سبقه من الأطباء من يونانية وغير يونانية، ونقدها نقداً علمياً يدل على علو كعبه وطول باعه وإحاطته التامة، وزاد عليها مشاهداته وتجاربه الشخصية، كما أنه ألف كتاباً في الحصبة والجدري، ولم يكن أحد من الأطباء الذين سبقوه، قد عرف أن هذين المرضين مرضان مستقلان. وله غير هذه الكتب رسائل خاصة عن تجاربه الشخصية ومطالعاته في البيمارستانات، وبجانب فراش المرضى، ورسائل أخرى في المبادئ الخلقية التي يجب على الطبيب مراعاتها والسير بموجبها بحكم الواجب، وفي هذه الرسائل أيضاً تتجلى اختباراته الشخصية بوضوح تام.

ومن مؤلفات الرازي كتاب باسم شكوك الرازي على كلام جالينوس فاضل الأطباء في الكتب التي نسبت إليه؛ ولديَّ نسخة خطبة منه يقول في مقدمتها:

(إني لأعلم أن كثيراً من الناس يستجهلوني في تأليف هذا الكتاب، وكثيراً منهم يلوموني ويعنفوني على مناقضة رجل مثل جالينوس في جلاله ومعرفته وتقدمه في جميع أجزاء الفلسفة ومكانه منها، وأجد أنا لذلك مضضاً في نفسي، إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق على منة، وأكثرهم لي منفعة؛ به أهديت، وإثره اقتفيت، ومن بحره استقيت، مما لا ينبغي أن يقابل به العبد سيده، والتلميذ أستاذه، والمنعم عليه ولي نعمته، وبودي يشهد الله أن هذه الشكوك التي أنا ذاكرها في هذا الكتاب، لم تكن في كتب هذا الرجل الخير الفاضل العظيم قدره، الجليل خطره، والعام نفعه، الباقي في الخير ذكره، لكن صناعة الفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم ولا مساهلتهم، وترك الاستقصاء عليهم، ولا الفيلسوف يحب ذلك من تلاميذه والمتعلمين منه كما قد ذكر ذلك أيضاً جالينوس في كتابه في منافع الأعضاء حيث وَّبخ الذين يكلفون أتباعهم وأشباعهم القبول منهم بلا برهان. وكان أكثر ما عزاني وسهل على أن هذا الرجل الجليل لو كان حياً حاضراً لم يلمني على تأليف هذا الكتاب، ولم يثقل ذلك عليه إيثاراً منه للحق وحباً لتقصي المباحث. إلى أن يقول: (وأما من لا منى وجهلني في استخراج هذه الشكوك والكلام فيها فإني لا أرتفع به ولا أعده فيلسوفاً إذ كان قد نبذ سنة الفلاسفة وراء ظهره، وتمسك بسنة الرعاع من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم.

هذا أرسطاطاليس يقول - اختلف الحق وفلاطن وكلاهما صديقان لنا، إلا أن الحق أصدق لنا من فلاطن. وهو يقاومه ويناقضه من أجل آرائه، فقد ناقض أرسطاطاليس في أوضح أجزاء الفلسفة بعد الهندسة الذي هو المنطق يبين غلطه في كثير من المواضع، حتى أنه يتعجب ويقول: لست أدري كيف ذهب على الحكيم هذا المعنى وهو في غاية الوضوح!

وتذكرنا هذه المقدمة بمقدمة أخرى للشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه حكمة المشرقيين وفيها ينتقد فلسفة المشائين.

والذين يتبين من مطالعة هذه المقدمة أن تحولا فكرياً عظيما كان قد طرأ على ابن سينا في أخريات أيام حياته نتيجة المطالعة والدرس، إذ نراه يبدي آراءه دون أن يتقيد بفلسفة المشائين، وبينهما حسب فلسفة اليونان ولو خالفت فلسفة المشائين، أو باينت آراءه التي كان قد أبداها الشيخ نفسه حتى ذلك التاريخ.

وبما أن النمو العقلي والفكري عند الحكماء والفلاسفة وتقدمهم في هذا الباب يشبهان إلى حد كبير تقدم الأطباء المسلمين في العلوم الطبية، أعني أن النسبة بين أطباء عصور النهضة وعهد ظهور التأليف المستقلة، وبين مترجمي الكتب الطبية في العصور الأولى من الإسلام هي نفس النسبة بين مترجمي المؤلفات الفلسفية في العصور الأولى ومترجمي كتب الفلسفة في العصور المتأخرة، أرى أن أذكر لحضاراتكم هنا هذه المقدمة القيمة.

(يتبع)