مجلة الرسالة/العدد 778/منادمة الماضي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 778/منادمة الماضي:

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 05 - 1948



زيارة لحصن الأكراد

أدب وحرب

للأستاذ أحمد رمزي بك

1 - لزيارة حصن الأكراد قصة لا بأس من إيرادها على سبيل الفكاهة كمدخل لهذا الحديث، فقد سبقتها زيارة لحصن آخر هو قلعة مدينة طرابلس. ولم يكن لدى برنامج موضوع لزيارة القلاع والحصون التي أنشأها الصليبيون أو احتلوها بالمشرق، وإنما جاءت الزيارتان وليدتي المصادفة. وإليكم ما دفع إليهما.

2 - حينما جاء الجنرال جورو الفرنسي إلى مدينة طرابلس عقب احتلال فرنسا للبلاد بعد جلاء الجيوش البريطانية عنها، استقبل في قلعتها استقبالا غريباً، فقد تلقاه جماعة من جنوده، وقد لبسوا لباس فرسان الهيكل ومقابلة الاسبتار ومعنى هذا الاستقبال مظاهرة صليبية بعد سبعمائة سنة من انتهاء هذه الحروب. وخطب الجنرال وأظهر سروره باسترجاع فرنسا لمعقل من معاقل الصليبيين. وقد عد هذا العمل من أخطاء جورو التي سجلت عليه، لأن فرنسا لم تفتح هذه البلاد بجيوشها حتى تحتفل باسترجاع حصن نزع منها. ثم إن عقلاء الفرنسيين أشاروا بخفة إلى أن هذه الحروب كانت حرباً عامة اشترك فيها الفرنسيون وغيرهم من الألمان والإنجليز. كانت نهاية الحروب خروج الصليبيين بعد هزيمتهمن فليس من الحكمة في شيء أن تلصق هذه الحروب ونتائجها بالشعب الفرنسي وحده.

3 - كان قد مضى أكثر من عشرين عاماً على هذه الحوادث حينما زرت مدينة طرابلس، فإذا بأهل المدينة يتحدثون عنها، وكأنها حصلت من أيام. لله در الجنرال جورو! لقد كان أهل طرابلس رجال رباط ومثاغرة منذ القدم، فإذا هو يذكرهم بماضيهم، وإذا هم من جديد من المرابطين المثاغرين الذين لم يفقدوا شيئاً من حماسة آبائهم وأجدادهم، وكان أن تحادثنا في موضوع مدينة طرابلس وكيف دخلتها جيوش الملك المنصور سيف الدين قلاوون وانتزعتها من أمراء الصليبيين؛ وتحمس الجمع فخرجنا إلى قلعة طرابلس، وقرأنا الكتاب التي سجلها الفاتح على باب القلعة: وكان أثر هذا الاستقبال الفرنسي أن أوجد وعياً قومياً وحماساً في قلوبنا.

4 - وأمضينا سهرة حول فتح طرابلس وسير حملتها، فإذا بالحديث يتناول قلعة الحصن أو حصن الأكراد وهي التي قامت منها الحملة التي استولت على طرابلس، وكان أن تقررت زيارتنا للحصن العتيد في يوم من أيام عام 1941 حينما كانت الحرب العالمية الثانية في أشد أدوارها وطأة: فقمنا في أكثر من ست سيارات على طريق حمص، وما كدنا نترك محطة تل كلخ حتى ظهرت لنا القلعة العظيمة بأبراجها تطل علينا من فوق رابية لا يقل ارتفاعها عن ستمائة وخمسين متراً عن سطح البحر، وهي في صمتها وعظمتها توحي إلى الناظر إليها بأنها تتحدى الأجيال. فكأن الزيارة الأولى جاءت من وحي الاستقبال الفرنسي، وأتت زيارة حصن الأكراد نتيجة لما لمسناه ورأيناه عند زيارة قلعة طرابلس: كان كل هذا بغير قصد معين.

6 - وتمت هذه الزيارة في يوم بأكمله. فقد صعدت بنا السيارات إلى قمة المرتفع، ورأينا الأراضي الخصبة التي كان يسيطر عليها أصحاب الحصن، وظهر لنا البحر من بين المرتفعات: ورأينا كيف كان أهل الحصون يتخابرون بالنيران الموقدة.

وحينما نزلنا من السيارات واتجهنا إلى باب الحصن أخذتنا الرهبة لدى قراءة ما كتب بالخط النسخ الجميل من مثال العصور المملوكية القديمة من مصر. فأخذنا نحاول القراءة، فأتى إليها من باع لكل منا بطاقة قد صورت عليها الكتابة الخالدة:

7 - بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بتجديد هذا الحصن المبارك، في دولت مولانا الملك السلطان الملك الظاهر العالم العادل المجاهد المرابط. . . ركن الدنيا والدين أبو الفتوح بيبرس قسيم أمير المؤمنين، وذلك بتاريخ يوم الثلاثاء خامس وعشرين من شعبان سنة 669

8 - لا أخفي عنكم أنها كانت وكأنها نفحة من نفحات مصر تستقبلنا. أما أنا فقد كنت سريع الخطى، أقفز ذات اليمين وذات اليسار، كنت أرى الحصن بأبوابه وأبراجه وأسواره وطبقاته وكأنه قطعة من بلادنا.

وصعدت على الدرج وقلت من هنا صعد أبو الفتوح بجنده وأمرائه، ومررت إلى الرحبة الأولى فإذا الحصن الثاني له روعة أكبر من الروعة التي يراها الإنسان للباب الأول: ومن هذا المدخل يصعد الداخل إلى مكان القيادة، فرأيت كيف أبقى الزمن آثار أقدم الحرس، وحيث موضع الرماح التي كان يحملها الديادبة كنت أراها على يمين الداخل وشماله حتى صعدنا إلى الأماكن العالية: حيث كانت حجرات الرئيس ومائدته ومكان عبادته.

9 - هذه هي النظرة الأولى لهذه الزيارة، وقد جعلتها موضوع حديثي الليلة، فلا تنتظروا مني أن أحدثكم حديث العالم في فن هندسة التحصين وعمارة القلاع قديمها وحديثها، ولا أن تسمعوا مني حديثاً في التاريخ وعلم الآثار، وإنما حديثي الليلة هو حديث رجل مرَّ بحصن من حصون القرون الوسطى فأخذته روعة المكان، وغمرته ذكريات عن بلاده وهو بعيد عنها، فإذا به ينادي هذه الحجارة القائمة، ويحدثها ويسعى إلى منادمة الماضي سعياً قد يجعل هذا المكان يبوح بسره وينطق بما كان عليه من أمجاد القرون الماضية.

10 - فالمعلومات التي أقدمها لم أحاول جمعها على طريقة علمية منطقية بالبطاقات، ولم تكن نتيجة خطة معينة، أو بحث قصدت به أن أقف بينكم اليوم لأنقله إليكم، وإنما هي نتيجة مطالعات متفرقة في أوقات متباعدة، وهذه المطالعات أثارتها زيارتي لهذا الأثر ورغبتي في إشباع نفسي منه.

11 - فهناك فريق من الناس يؤمنون بأن قيمة بعض الأشياء هي في مقدار ما تثيره في أنفسهم من انتباه أو وعي أو رغبة في الاستزادة من التعرف إليها، ثم فيها تتركه هذه الأشياء في عقولهم وأذهانهم من دوافع قد تلازمهم مدة طويلة من الزمن، وتدفعهم إلى عمل أشياء نافعة أحياناً.

12 - وإني أتشرف باني من هؤلاء الذين يؤمنون بأن التاريخ والآثار وكثيراً من محاسن هذه الدنيا، هي حية مادامت تؤثر فينا وتجعلنا نشعر بشعور معين، وتحت إيحاء هذا الشعور نقوم بإتمام عمل من الأعمال النافعة المفيدة. وأعترف بأني مدين لزيارتي حصن الأكراد بشيء كبير من هذا الإيحاء الذي لازمني مدة طويلة ونفخ في روحي حماساً، للتعرف على أشياء، والإيمان بعصور كانت في مخيلتي قاتمة يحيط بها الكثير من الضباب. فأخذت أتحين الفرص لزيادة معلوماتي عنها وشغل أوقات الفراغ في تعرف هذه الأيام والكشف عما وراء الحجب من أشياء قد تكون معلومة لأهل الاختصاص، ولكنها كانت على كل حال مجهولة لي.

13 - لابد أنكم اشتقتم إلى التعرف على هذه القلعة السورية، والتي أمضيت كل هذه المدة دون تحديد موقعها، والتحدث إليكم عنها بعد أن طال حديثي عن مقدمات هذه الزيارة. ولذا أنقل إليكم ما كتبه الأستاذ الجليل محمد كرد علي، صاحب خطط الشام إذ قال: قلعة الحصن، أو حصن الأكراد أو الكرك ولا تزال محفوظة منذ عهد الصليبيين على ما هي عليه، وهي آية في باب الهندسة العسكرية في القرون الوسطى ناطقة بلسان حالها بأن هؤلاء نزلوا الأراضي المقدسة.

14 - قال: فلننظر بعده إلى ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان فقد كتب: منذ أكثر من سبعمائة عام حصن الأكراد هو حصن منيع، حصين على الجبل الذي يقابل حمص من جهة الغرب وهو المتصل بجبل لبنان، وكان بعض أمراء الشام قد بنى في موضعه برجاً، وجعل فيه قوماً من الأكراد كطليعة بينه وبين الفرنج وأجرى لهم أرزاقاً، فخافوا على أنفسهم فجعلوا يحصنون هذا البرج إلى أن صار قلعة حصينة، منعت الفرنج من كثير من غاراتهم فنازلوه، فباعه الأكراد ونزحوا لبلادهم، وملكه الفرنج وهو في أيديهم إلى هذه الغاية (أي إلى عهد ياقوت الحموي) وبينه وبين حمص يوم واحد، ولا يستطيع صاحب حمص أن ينتزعه من أيديهم.

ثم اختلط عليه الأمر فجاء بذكر الداوية في حصن الأكراد ويقصد فئة الاسبتار أصحاب الحصن فقال عنهم: هو قوم من الفرنج يحبسون أنفسهم لقتال المسلمين ويمنعون أنفسهم عن النكاح - يقصد إيمانهم بالرهينة - ولهم أموال وسلاح ويتعاطون القوة ويعالجون السلاح ولا طاعة لأحد عليهم. انتهى كلامه.

15 - وهذا رأي لكاتب عربي قيل استعادة الحصن من أيدي الصليبيين: ويهمنا قبل الانتقال من هذا التعريف أن نصحح لياقوت؛ فأصحاب الحصن هم جماعة الاستبار لا الداوية.

16 - والاسبتار هم والداوية هم الهيكليون نسبة إلى هيكل سليمان أو المعبد وهما منظمتان صليبيتان، كان الغرض الأساسي من تأليفهما مد يد المساعدة لرواد الأراضي المقدسة الذين تنقطع مواردهم، أو يقعدهم المرض، ومن هنا تفهم كلمة ثم ألقى عليهما واجب حماية الحاج.

ثم انتهى الأمر بهما إلى أن أصبحتا قوتين عسكريتين منظمتين لمحاربة المسلمين. وقد حصلت كلتاهما على حق احتلال القلاع والحصون، وعلى حق إدارة المقاطعات وفرض الضرائب، وعلى حق عقد المعاهدات والهدنة والصلح. فأصبحت كل منظمة حكومة داخل حكومات الصليبيين، ووصل عدد المنتمين لهاتين المنظمتين إلى 15. 000 مقاتل، وكانوا على ثلاثة أصناف:

1 - الفرسان: من طبقة النبلار من مختلف شعوب أوروبا وهم الذين يتولون مناصب الشرق الكبرى.

2 - الضباط: ويمكن أن يلحق بهم أبناء الطبقات الوسطى.

3 - الكتاب: ويتولون وظائف الكتابة والأعمال الدينية الثانوية.

17 - وكان حصن الأكراد معقلا من معاقل الاسبتار: وهم الذين زادوا على أسواره وبنوا الأبراج العالية. وأهم ما بقى من آثارهم القاعة الكبرى ومسكن رئيس الفرسان. وغير ذلك. وقد تسلموا الحصن من أمير مقاطعة طرابلس لوجود الحصن على الحدود.

18 - وكانت القواعد المتبعة أن يقسم جماعة الاسبتار، أو الهيكليين على الدفاع حتى الموت، ولا يعفون من قسمهم إلا بأمر أعلا من عميد الهيئة فكانوا أهل رباط يتقربون إلى الله بقتال المسلمين بغير هوادة، وكانوا يعتبرون من مات في قتال الإسلام شهيداً، ومن عوائدهم (التي أخذوها عن المسلمين وأهل المشرق) اطعام أربعين مسكيناً لمدة أربعين يوماً، وإخراج زكاة العشر للفقراء عن جميع المحاصيل، بل فرضوا على أنفسهم إخراج رغيف عن كل عشرة أرغفة تخبز في مطاحنهم.

19 - وكانت المنافسة على أشدها بين المنظمتين، بل كانت تنتهي أحياناً إلى العداء المفتوح، وفي منطقة حصن الأكراد كانت قلاع صافيتا وطرطوس في يد الهيكليين.

20 - وللمنتظمتين تاريخ طويل في الحروب الصليبية، ويبرز اسم عميد كل منهما في كثير من الحوادث، وفي توجيه سياسة الأمارات اللاتينية. ولذا أفراد المؤرخون المؤلفات الطويلة للتحدث عنهم.

21 - ويهمنا من أمرهم ما كان لهم من السلطان في حصن الأكراد، فقد ذكر صاحب كتاب: كشفاً بأسماء من تولوا وظائف كبرى من الاسبتار بحصن الأكراد ابتداء من 1265 إلى 1267 وخصوصاً العمداء ذكر من بينهم. ' ويؤكد الكثيرون أن رفاقهم لا يزالون في أقبية الكنيسة التي كانت بالحصن.

ولقد رأيت في متحف الحصن مجموعة من الجماجم البشرية، وعليها آثار ضربات السيوف، فهل هي لقوم الاسبتار أم الجماعة من المسلمين؟ هذا ما يقف التاريخ حائراً أمامه.

(يتبع)

أحمد رمزي