مجلة الرسالة/العدد 778/في تاريخنا الحديث:
مجلة الرسالة/العدد 778/في تاريخنا الحديث:
مواقف حاسمة. . .
(لمؤرخ معاصر)
في سجل الثورة المقدسة صفحات مشرفة من المجاهدة والتضامن، والمفاداة. . يجدر بالقوم أن يرجعوا إليها، وأن يقفوا عندها يتأملون ماضيهم، ويتدبرون حاضرهم، ويرسمون مستقبلهم: ليربطوا حلقات جهادهم الموصول.
كانت مصر يومئذ تمتحن بنار الثورة، وكانت الطريق واضحة، والأهداف واحدة، فلم يكن أبالسة الاستعمار (وسماسرته) قد جعلوا من كراسي الحكم أصناماً بعد. .
وأراد اللورد كيرزون أن ينال من وطنية المصريين، وأن يغمز ثورتنا أمام العالم. . . وكانت جهودهم في لوزان وفرساي قد أثمرت، وأقفل سدنة السلام وحراس العدالة أبواب مؤتمر الصلح في وجه مصر - هذا، ولم يكن المداد الذي سطرت به أنشودة الدكتور ويلسون قد جف. . تلك الأنشودة الجميلة، بذات الألحان الأربعة عشر التي كانت الأفيون الذي خدر الرأي العام في الشرق مدة الحرب الأولى. فلما وضعت هذه أوزارها ظن المصريون أن حقوقهم ستكون موضوع الاعتبار. . وإن هي إلا معركة فقهية بيننا وبين الإنجليز. . ولكن القوم نازلونا بسلاح غير شريف، وحملوا أعضاء مؤتمر الصلح على إهانة العدالة؛ وأذاعت (دار الحماية) في مصر اعتراف ويلسون بالحماية البريطانية على مصر. . ولم يفت ذلك في أعضاء المصريين، ولم يزد الهار المقدسة إلا اشتعالا، وبذل الأعمام أموالهم وارواحهم في تطهير الأرض الحرام من برابرة الغرب، وعصابات الاستعمار.
وأعلنت الأقدار هزيمة القوة فصرح اللورد كيرزون أن ثورة مصر إن هي إلا حركة معلولة يرتجلها الغوغاء. . . ولو قد كانت هذه الحركة جديدة لاشترك فيها الموظفون وهم صفوة الامة وأرشد عناصرها، وفي هذا السبيل أثنى على المظفين أجمل الثناء لأنهم لم ينقطعوا عن أعمالهم أثناء الثورة التي اجتاحت البلاد.
وحاجَّنا السير وليم برونيت فادعى أن الأقباط لم يستجيبوا لدعاة الإضراب، وأشاع الثناء على الموظفين، والإشادة بحسن سلوكهم.
ولكن مصر لم تشرب العسل المسموم، وإنما أكرهت الأنجليز على ابتلاع آرائهم، ووضع ألسنتهم في جيوبهم. . وكان رد البلاد عليهم حاسماً رائعاً:
فأما الأقباط فأكذبوا ادعاء الغاصبين، وخرج القسيسون والرهبان إلى المساجد، وخطب القمص سرجيوس في الأزهر، وفتحت الكنائس للشيوخ والعلماء، ومشى مشيخة الأزهر يحملون بساط الرحمة في جنازات الشهداء، وخفقت الأعلام ذوات الصليب والهلال، وتواصف الناس مقالات سينوت بك حنا (الوطنية ديننا، والاستقلال حياتنا)، وكانت ترانيم القوم قصيدة الشيخ إبراهيم سليمان:
الشيخ والقسيس قسيسان ... وإن تشأ فقل: هما شيخان.!!
كانت سياسة الاستعمار تريد تسليط البلد على نفسه، وكانت ترمي إلى تشتيت قوته، وتوجيه ثيار الثورة في غير مجراه. . . ولكن مصر المتحدة لطمت هذه السياسة لطمه اليمة، وعرفت كيف ترد سهام الإنجليز إليهم. . لم يكن في مصر مسلمون وأقباط، وإنما كان فيها مصريون: مصريون لهم صوت واحد يدوي بالاستقلال (وأن الوطن للجميع، والدين للديان).
وأما الموظفون فقد جاء ردهم على مزاعم الإنجليز مفحماً، وجاء في أهرام أول إبريل سنة 1919 تحت عنوان المسألة المصرية في مجلس النواب (أن العناصر الأكثر رزانة من السكان لا تستحسن هذه المظاهرات). فأسرع هذا وأمثاله بالموظفين إلى الإصرار على دحض مزاعم المستعمرين، وإسقاط حجتهم أمام العالم، وكان الإضراب هو الرد البليغ الذي لا رد سواه. وكتبت أهرام 2 إبريل سنة 1919 تحت عنوان شعور الموظفين (أنهم لاحظوا ان بعضهم أخطأ في فهم شعورهم في الأحوال الحاضرة فقرروا الإضراب عن العمل غداً (الخميس) ويوم السبت المقبل في جميع الوزارات والمصالح) وعلى هذا يكون بدء الإضراب يوم الخميس الثالث من إبريل، وعلى هذا جرى المنشور الحكومي الذي أذيع على الصحف في أول مايو سنة 1919 عندما أرادت الحكومة أن تؤاخذ الموظفين فتقطع رواتبهم أيام الإضراب؛ فقد حدد منشور (الحقانية) أيام الإضراب وقدرها سبعة عشر يوماً من 3 إلى 5 إبريل ثم من 9 إلى 22 منه.
ويقول عبد الرحمن بك الرافعي: إن الإضراب بدأ بالفعل يوم الأربعاء 2 إبريل ولكنه صار عاما يوم الخميس 3 إبريل.
ويبدو أن الحركة قد بدأت قبل هذا. ولعل الموظفين لم ينتظموا أعمالهم من أواخر مارس بعد أن تناقلت شركات البرق خاب اللورد كيرزن الذي أراد به أن يسعى بالمصريين بين أنفهم حتى يكفيه بعضهم شر بعض. . . ولكن الحركة من تأخذ سبيلها إلى أسماع العالم إلا في هذا التاريخ ريثما اجتمع كبار الموظفين لتحديد الإضراب وتنظيمه، وكتابة العرائض، والموافقة عليها، ورفعها إلى عظمة السلطان وإبلاغها الحكومة البريطانية. وكان للحركة قادة من أمثال عبد الرحمن فهمي، وأمين الرافعي، ومحمود سليمان باشا، وعبد الله سليمان أباظه، وكان من زعماء الموظفين على ماهر بك (صاحب المقام الرفيع) وحلمي عيسى بك (باشا) وزكي العرابي أفندي (باشا) وإبراهيم دسوقي أباظه أفندي (باشا) وأحمد شرف الدين أفندي (بك) والأستاذ عاطف بركات، والأستاذ حسن نشأت.
وكان للحركة معاقل سرية كان من أهمها منزل الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه، وعبد الهادي الجندي، ومراد الشريعي. . . وفي هذا الجو تألق اسم البطل الشهيد أحمد ماهر، ومحمود فهمي النقراشي، وظهر الخطيب المتدفق شكري كيرشاه.
وفي يوم الأربعاء 9 إبريل صدر الأمر رقم 26 لدولة رشدي باشا بتأليف وزارته الرابعة، وكانت حركة الموظفين قد بدأت بعد استقالة وزارته الثالثة، وكانت استقالته هذه من المواقف الكريمة التي أيدت وجهة النظر المصرية، وكان السيرونجت قد طلب إلى رشدي باشا أن يؤجل البت في استقالته حتى يتصل بحكومته في لندن لإقناعها بالسماح له ولعدلي باشا بالسفر إلى أوربة، ولكنه أصر على أن يسمح بالسفر لكل من يشاء من المصريين. . وقبلت الحكومة البريطانية سفر الوزيرين دون أعضاء الوفد فاعتبر هذا رشدي باشا رفضاً لمطالب الوزارة الوطنية، وأصر على استقالته. . . فلما ألف وزارته الرابعة ظن أن الموظفين سيعاونونه، ويعودون إلى أعمالهم. . . مادام الإضراب قد أعلن وأدى نتيجته؛ وكان المنشور السلطاني قد أذيع في يوم الثلاثاء 8 إبريل بعودة النظام ورفع الحجر على سفر المصريين وإطلاق سراح زغلول، وصدقي، ومحمد محمود، وحمد الباسل.
ولكن الموظفين أصروا على الاستمرار في إضرابهم وألفوا لجنة من مندوبي الوزارات والمصالح من سبعة وخمسين عضوا.
وفي 10 إبريل اجتمعت اللجنة بوزارة الحقانية فشرطت للعودة شروطا فيها كثير من التعنت، ورفعوا بهذه الشروط قراراً إلى رشدي باشا. ويستدعي رئيس الوزراء زعماء الموظفين فيجيبون دعوته إلا علي بك ماهر، وفي هذا الاجتماع كرر الوزير للموظفين طلب فض الإضراب ولكنهم أصروا على موقفهم، واشترطوا أن تعتزل الوزارة الحكم. . . تلك الوزارة التي أيدت الثورة وكانت في الجبهة الشعبية من يوم تأليفها.
وفي يوم الثلاثاء 15 إبريل طلعت الصحف ببيان آخر من رشدي باشا يدعو فيه الموظفين إلى العودة، ويلقي عليهم مسؤولية الاستمرار في الإضراب. . . ونشرت جريدة المقطم يوم 18 إبريل سنة 1919 أن رشدي باشا استدعى بعض أعضاء لجنة الموظفين، وناقشهم طويلا، وبين لهم خطر الموقف، وانفض الاجتماع دون الوصول إلى قرار نهائي.
ويقف رشدي باشا موقفاً كريماً فيقبل اعتزال الحكم إن كان ذلك رغبة الموظفين، وأطلع الوزراء رؤساء الموظفين على نص كتاب الاستقالة قبل أن يرفعوه إلى عظمة السلطان. . وتتوالى الحوادث بسرعة فيجتمع بعض أعضاء لجنة الموظفين ويقررون العودة. كان ذلك يوم 21 إبريل؛ وفي اليوم الثاني أذاع الجنرال أللنبى منشوراً يقضي باعتبار كل موظف مستقيلا إذا لم يعد إلى عمله
وأذيع المنشور في الصحف - الأهرام 23 4 1919 وفي
نفس هذا العدد تكذيب بتوقيع محمد عاطف بركات ومحمد
زكي الإبراشي: (لا صحة لما جاء في بعض المنشورات من
أن اللجنة العليا للموظفين قد قررت الاستمرار في الإضراب.
. .
إن حركة إضراب الموظفين عام 19 كانت حركة رائعة موفقة لولا أنهم تمادوا فيها بعد زوال أسبابها.
إنها قصة رائعة لم يحسنوا ختامها. . . وحسبك أنها انتهت بسقوط وزارة رشدي وكان سقوطها خسارة كبيرة. . . وفي نفس اليوم الذي عادوا فيه كان اعتراف ويلسون بالحماية الإنجليزية على مصر نتناقله شركات البرق في العالم.
ولقد صحب هذه الحركة مواقف غاية في النبل والشجاعة، والإيثار. . . فمن ذلك أن الإنجليز طلبوا إلى الوزارة اعتقال زعماء الحركة ونفيهم فأبت الوزارة هذا، وردت على الإنجليز بأن (رؤساء الإضراب هم زهرة الشبيبة المصرية فلا نقبل أن يهابوا، ولا نستطيع تحمل مسئولية اعتقالهم، وإذا بدا لقوة أجنبية أن تعتقلهم فسنكون نحن (الوزراء) أول الثائرين. . .)
والذين سمعوا بأيام الحماية، وعهود المستشارين والإشراف، واستئثارهم بالحكم والنفوذ يعرفون إلى أي حد كان رشدي باشا رجلا فذا ومثلا نادراً في الشجاعة والاستبسال، ويعرفون إلى أي حد ظلم الموظفون الرجل، وحرموا حكومته من العون والتأييد. . .
وأراد الإنجليز أن يأخذوا الموظفين بإضرابهم فجاء في أهرام الخميس الأول من مايو سنة 1919 منشور الحقانية بعنوان (موظفوا الحكومة أيام إضرابهم عن العمل): تقرر مبدئيا قطع مرتب مدة الإضراب وقدرها سبعة عشر يوما من 3 إلى 5 إبريل ثم من 9 إلى 22 منه - من جميع الموظفين والمستخدمين الوطنيين مع حفظ الحق في إبداء المعارضات. أما إعانة المرتب فتصرف كاملة طبقاً للتعليمات الخاصة بها)
وقبل الموظفون ذلك، ولكنهم طالبوا ألا يعامل صغار الموظفين بذلك. . . ويثور هؤلاء ويأبون أن يكونوا أقل من رؤسائهم بذلا وتضحية حتى يقنعهم الرؤساء بقطع الرواتب عن نصف مدة الإضراب.
هذه صفحة من تاريخ اليقظة المصرية نفض من عليها غبار الليالي. وكم من سجل الثورة المقدسة من صفحات يجدر بالمصريين أن يرجعوا إليها، وأن يقفوا عندها. . . ليتأملوا ماضيهم، حتى يتدبروا حاضرهم، ويرسموا مستقبلهم. . . ويربطوا حلقات جهادهم الموصول. . .
(مؤرخ)