مجلة الرسالة/العدد 756/التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود
مجلة الرسالة/العدد 756/التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
للتاريخ حكم يجري في الحاضر والمستقبل كما يجري في الماضي فلا يحزن المسلمون إذا رأوا اليهود يجاوزونهم الآن على إحسانهم إساءة، وعلى إنصافهم ظلماً وعدواناً، فقديماً أحسن المسلمون إلى اليهود فأساءوا إليهم، وعرضوا عليهم أن يعيشوا في وطنهم العربي إخواناً لهم، فرفضوا هذا العرض الكريم، وأبوا إلا أن تكون جاهلية يمرحون فيها وينهبون، فكان جزاؤهم للطرد من هذا الوطن، وسيطردون إن شاء الله من وطننا بفلسطين، ويجازيهم الله على بغيهم الجديد، كما جازاهم على بغيهم القديم. ولو تدبر اليهود حكم التاريخ لخففوا من غلوائهم، وخافوا حكم الله والتاريخ فيهم، ولكنهم قوم أعماهم حب النفس، فلا ينظرون إلى المستقبل، ولا تنفع فيهم عظة ولا عبرة، وهذا هو الذي جلب عليهم بغض الشعوب، وأوقعهم في كل ما وقعوا فيه من النكبات.
استولى الروم على بيت المقدس قبيل الميلاد المسيحي، وطردوا اليهود منه، فلجأ فريق منهم إلى بلاد العرب، ونزلوا بجوارهم في يثرب وغيرها من بلادهم، فنزلوا بينهم في أكرم منزل، وعاشوا بينهم في خسير جوار، وكان العرب في جاهليتهم دون اليهود علماً بشئون الحياة، فأستغل اليهود جهلهم، وأخذوا يقرضونهم الأموال بالربا الفاحش، حتى صاروا أغنى أهل الحجاز وامتلكوا أخصب أرضه بيثرب وغيرها.
وقد كان العرب في جاهليتهم يعيشون في حروب دائمة لا تنقطع فشاركوهم اليهود في تلك الحروب، وانغمسوا معهم في تلك الجاهلية الآثمة، واقسموا على أنفسهم فيها، كما أنقسم العرب على أنفسهم فلم يحاولوا أن يقوموا بينهم بصلح، أو يقضوا على شرور تلك الجاهلية، لأنهم لا بهمهم في هذه الدنيا إلا جمع المال، ولا يهمهم شيء من هداية الشعوب إلى ما ينفعهم في دنياهم أو أخراهم.
وكان أهل المدينة من العرب واليهود منقسمين قبل الإسلام إلى قسمين: أولهما عرب الخزرج ومعهم بنو قينقاع وبنو النضير من اليهود، وثانيهما عرب الأوس ومعهم بنو قريظة من اليهود وكان بين الفريقين حروب دائمة لا تنقطع، وكان آخرها حرب بعاث، وقد وقع قبل الهجرة بخمس سنين.
فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة أراد أن يجمع بين أهل هذا الوطن من مسلمين ويهود، وكان العرب من الأوس والخزرج قد اجتمعوا على الإسلام، وبقي اليهود على دينهم فلم يسلموا، فتركهم المسلمون أحراراً في دينهم، ولم يكرهوهم على أن يدينوا بالإسلام مثلهم.
فعقد النبي ﷺ معاهدة بين المسلمين واليهود، كانت أول معاهدة فرقت بين الدين والوطن منذ الخليقة، وجعلت الدين لله يحاسب عليه يوم الحساب، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وجعلت الوطن لجميع الناس، يستوون في حقوقه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، فلا عصبية ولا قومية ولا غيرهما مما يفرق بين الناس في الأرض، ويثير الحروب والعداوات بينهم.
وهذه سنة جديدة في السياسة لم يكن للناس عهد بها قبل الإسلام، جاءت بأصلين عظيمين جديدين في هذه الحياة: حرية الاعتقاد، والمساواة بين الناس في الوطن. فلم يكن قبل الإسلام أصل من هذين الأصلين، بل كان أهل الأديان في حروب دائمة على الدين، وكانت الشعوب في حروب دائمة على استعباد بعضهم لبعض، فأبطل الإسلام الحروب الأولى، ونادى بها صرخة مدوية في الأرض (لا إكراه في الدين) وأبطل الحروب الثانية أيضاً، وجعل هدفه هداية الناس لا استعبادهم.
فلم يسع اليهود إلا أن يوافقوا في الظاهر على هذه المعاهدة الكريمة، حتى لا تظهر نيتهم الخبيثة لأهل هذا الوطن الذي آواهم وأكرمهم، وحتى لا يظهروا بمظهر الكارهين لدينهم، وهو يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ويرفض عبادة الأصنام كما يرفضون، ثم أخذوا يكيدون في الباطن لأهل هذا الدين الذين لا ذنب لهم عندهم إلا أنهم نهضوا من جاهليتهم، ورفضوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى، لأن اليهود لا يهمهم شيء من هذا، وإنما يهمهم استغلال من يؤويهم في وطنه، ويرضيهم كل الرضا أن يبقى جاهلاً يعبد الأصنام، إذا كان هذا مما يمكنهم من استغلاله. . .
فأخذ اليهود يعملون على إثارة العداوة القديمة بين الأوس والخزرج، ليتفرق جمعهم، ويتركوا هذا الدين الذي جمع بينهم. ومما عملوه في ذلك أن شاس بن قيس اليهودي مر على نفر من الأوس والخزرج قد جمعهم مجلس واحد، ترفرف عليهم فيه أعلام المحبة والإخاء، وتظهر عليهم فيه آيات الإخلاص والولاء، فغاظه هذا المظهر الكريم، وقال: قد اجتمع ملأ قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. ثم أمر فتى من اليهود أن يعمد إليهم فيجلس معهم، ويذكر يوم بعاث وما كان قبله من حروبهم، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيها من الأشعار، ففعل الفتى ما أمره به شاس، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه. إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة السلاح السلاح. ثم خرجوا إلى تلك الحرة، فبلغ النبي ﷺ ما فعلوه، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فلما وصل إليهم قال لهم: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وأستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟ فبكى القوم عند سماع هذه الكلمات، وعانق بعضهم بعضا، ورجعوا إلى ألفتهم واتحادهم.
فلما يئس اليهود من التفريق بين المسلمين انقلبوا إلى من بقي على الشرك من أهل المدينة، وكان أكثرهم من المنافقين الذين يخفون الشرك ويظهرون الإسلام، فحالفوهم على المسلمين. ثم أخذوا يؤلبون القبائل العربية على حربهم، وسعوا إلى قريش فحالفوها عليهم، ولم يتورعوا في عداوتهم للإسلام عن تزيين الشرك وعبادة الأصنام لهذه القبائل، وتفضيل هذا على الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ولم يهمهم أن يخرجوا بهذا على دينهم لأن القومية عندهم أهم من الدين، وأنر الدنيا عندهم أهم من أمر الآخرة، فلا يهمهم أن يبيعوا دينهم في دنياهم، وسعادة الآخرة في سعادة الدنيا، لأنهم الشعب المختار بين الشعوب، ولا قيمة في هذه الدنيا لغيرهم.
وكانت سياسة جهل وغباء من أولئك اليهود، وكانت تدبيرات ظالمة باغية بازاء ما أراده الإسلام من العدل والإنصاف فجازاهم الله على هذا شر جزاء، ونصر حق الإسلام على باطلهم، ورفع ما يدعو إليه من العدل والإخاء والمساواة على ما يدعون إليه من الظلم والعداء والتفريق، فذهب كل ما سوله الجهل لهم في القضاء على الإسلام أدراج الرياح، وفشلت سياستهم الباغية الجاحدة المفرقة، ولم ينفعهم أولئك المنافقون الذين آثروا حلفهم على حلف المسلمين، ولو كانوا عقلاء لعلموا أن المنافق لا يبقى على حلف، ولا يفي بعهد، ولا يقدر على نصر، لأنه كاذب في دينه ضعيف في نفسه، فلا ينفع ولا يضر، وشر الرجال من يصل إلى هذا العجز، ويكون هذا حاله في الضعف.
لقد أراد يهود المدينة أن تبقى في جاهليتها ليستغلوا أهلها، ورفضوا أن تكون وطناً لهم وللمسلمين، فأبى الله إلا أن تكون وطناً للمسلمين وحدهم، وأن يحرم منها أولئك اليهود الغرباء، فنفوا منها إلى أذرعات وغيرها، وسيعيد التاريخ حكمه فيهم، وسنبين فيما يأتي كيف يكون هذا الحكم.
عبد المتعال الصعيدي