مجلة الرسالة/العدد 756/معارضات القرآن
مجلة الرسالة/العدد 756/معارضات القرآن
للأستاذ علي العماري
قرأت في بعض المجلات لعالم فاضل تحت هذا العنوان، وقد تحدثت عن ابتداء المعارضات، وإنها كانت من قوم لم يكن ينتظر صدورها منهم، وإن القرشيين - وهم أرباب الفصاحة والبلاغة - لم يحاولوا المعارضة؛ لأنهم خافوا أن يقولوا فيفتضحوا، ولكن بعض المتنبئين تجرأ فعارض القرآن، وذكر الكاتب من هذه المعارضات قول مسيلمة الكذاب: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين. وقوله: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاء وغشا. ثم قال فهو في المعارضة الأولى يخاطب الضفدع كأنها مخلوق من تعالى فيريد أن يضع من أمرها، ويحط من شأنها، والضفدع مخلوق ضعيف لا يتعالى ولا يتكبر؛ فخطابه بهذا لا يطابق حاله، ومن شرط البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وهو في المعارضة الثانية لا يأتي من دقائق القدرة ما يتعالى إدراكه عن البشر كما قال تعالى في القرآن الكريم (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب).
وقد لفت ذهني في هذا الكلام آمران:
أولاً: إنه يسوق هذه المعارضات سوق القضايا المسلمة، والأمر فيه نظر - كما يقولون -.
ثانياً: إنه يزيف هذه المعارضات مستنداً إلى أمور معنوية دون النظر مطلقاً إلى الأسلوب وتهافته، فهو يرد المعارضة الأولى لأن الخطاب فيها غير مطابق لمقتضى الحال، ويرد الثانية لأن ما جاء فيها ليس من دقائق القدرة، ومع إن الأمر لا تقتصر على الناحية المعنوية بل لعل أظهر ما في هذه المعارضات من ضعف هو ركاكة الأسلوب وسخفه، مع ذلك فإن خطاب الضفدع مطابق لمقتضى الحال، لأن قوله (نقي ما تنقين) معناه ارفعي صوتك ما شئت. فإنك لا تستطيعين وراء هذا التصويت الذي يشعر بالجلبة والضوضاء والعظمة ليس وراءهم ما يمكن أن يكون لهم من أثر من تكدير الماء أو منع الشاربين. . .
هذا، وقد كنت أعتقد من زمن بعيد إن هذه المعارضات وأشباهها من افتعالات الرواة، وتفكهات أصحاب القصص، وأضاحيك السمار في المجالس والمجتمعات، وإن العرب انقطعوا عن المعارضات حقها وباطلها، ولم أكن أعتقد أن مسيلمة أو غيره من أعراب البادية ينزل إلى هذا المستوى، ويمخرق على قومه وهم فصحاء بلغاء بهذا الهراء، وكنت وما زلت أحفظ قول الجاحظ عن انقطاع العرب عن المعارضة: (ولم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، فلو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقارب وناقض) وهذا - ولا شك - نص وثيق صريح في إن شيئاً من هذه المعارضات لم يكن وصل إلى علم الجاحظ، وهو ما هو، فإذا أضفنا إلى ذلك أن كل هذه المعارضات من التهافت وضعف التأليف بحيث يستحيل صدورها من عربي بله عربي يقول فيه المرحوم مصطفى صادق الرافعي إنه أفصح من المتنبي، وذلك حيث يقول في كتابه إعجاز القرآن (وما المتنبي بأفصح عربية من العنس ولا مسيلمة) على إن مما روي للمتنبي مما قالوا إنه عارض به القرآن أقول من هذا ما يشبه أن يكون كلاماً مثل قوله (والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي إخطار، امضي على سننك، وأقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله) فأين من هذا ما يلصقونه بمسيلمة؟
وفي محفوظي مما لست أستطيع أن أحققه الآن ببعدي عن كتبي، إن مسيلمة طلب منه قومه أن يأتيهم بقرآن فقال هذا ما لا ينطق به لسان من عضل.
على أن الذي أثار دهشتي - ومن أجله كتبت هذه الكلمة - إن الرافعي عليه الرحمات، قد ساق هذه المعارضات سوق المسلمات وأخذ يشقق القول فيها ويصرفه، وجعل يعلل ضعفها وتهافتها، وذكر منها قول مسيلمة: (والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، وااللاقمات لقماً، اهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه) وقوله (والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون) وقوله (الفيل ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل) ثم قال الرافعي وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام، وسوء البصر به بمواضعهن ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه وأقول أن هذا هو الحق، وأن لنا أن نتخذ هذا القول نفسه عماداً نتكئ عليه في أفكارنا أن يصدر مثل هذا عن مسيلمة، فالمعارضة الأولى يلاحظ فيها الاستقصاء الذي لا يعرفه إلا أهل الصناعة من محترفي الكتابة، أما العربي الأول فما أظن أنه يبلغ به التتبع والاستقصاء إلى حد أن يبتدأ ببذر الزرع وينتهي بلقم الثريد، وما بقي عليه بعد ذلك إلا أن يختم عبثه بالخاتمة الطبعية لهذا الترتيب! ولا شك عندي إن هذه المعارضة دليل واضح في ذاتها على إنها من وضع فكه متطرف سخف فأجاد السخف، وليس فيها تقليد للقرآن - كما يقول الرافعي في سبب ضعفها - فإن القرآن لم يكن يسترسل هكذا في معنى واحد حتى يصل به إلى غايته، والمعارضة الثانية فيها تكرار من غير مناسبة، والكلمة الأخيرة أشبه بأن تكون موضع الفكاهة في السورة!!، وأنا لا أدري لماذا يعمد مسيلمة إلى وصف الفيل هذا الوصف الساذج، وهو ليس من الحيوانات المألوفة عند العرب، ولماذا أختار الضفدع وهو حيوان حقير صغير، وهو بعد ليس مما يشغل ذهن العربي؟ ويبدو لي إن الرافعي انساق في تيار الجاحظ فقد جاء في كتابه الحيوان عند الكلام عن الضفدع قوله: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها، حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين. . . إلخ ولكني أظن إن الجاحظ لم يقصد غير السخرية، وإنه يعلم إن ذلك من موضوعات الظرفاء فجاراهم، فأنا إذا وضعنا هذا القول بجانب قوله الذي نقلناه آنفاً خلصنا بهذه النتيجة.
من يطالع كتب الدب يجد أن المتنبئين كانوا مادة دسمة للتظرف، وكم من طرفته ألصقت بهم، وما كان يصح أن يتركوا مسيلمة دون أن يتفكهوا به، وهو أشهر متنبئ، ولعل من ذلك ما حدثوا إنه أمهر سجاح النميمة حين تزوجها بإسقاط صلاتين من الصلوات التي جاء بها محمد، كأن مسيلمة كان يؤدي هو وأتباعه وأتباع زوجته النبية الصلوات الخمس، ويتعبد شريعة الإسلام!.
ولذلك نجد المتطرفين والمتهكمين ينسبون القصة الواحدة في بعض الأحايين إلى أكثر من واحد، فهم لا يعنيهم إلا الحكاية، أما عمن صدرت فذلك أمر ثانوي.
ذلك رأيي في هذه المعارضات، وما كنت أحب أن تساق سوق القضايا المقطوع بها، سواء كانت في كتاب أو في مجلة، ولا سيما إذا جاء في جو البحث العلمي لأن ذلك يوقع في الأذهان إن ذلك أمراً قد اتفق على ثبوته، وليس حوله شبهة ولا عليه اعتراض.
علي العماري
مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان