مجلة الرسالة/العدد 708/عدوان على مصر!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 708/عدوان على مصر!

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 01 - 1947



للأستاذ علي الطنطاوي

(جل الأمر عن المجاملة والهزل، فدعونا نتكلم بصراحة وجد.

.)

يعرض في مصر الآن فلم اسمه (لبنان في الجامعة)، تظهر فيه الجامعة أولا ببنائها وقبتها حتى لا يبقى عند أحد شك أنها الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول التي في الجيزة، وأن الذي يأتي من الوصف إنما هو لها، هي، بعينها وأذنها لا لجامعة غيرها وأنها ليست قصة جامعة خيالية، حتى إذا وثق صاحب الفلم من أنك عرفتها وحققتها، ساق لك مشاهدها، وعرض عليك صورها، فلم تر فيها مظهر علم، ولا دلائل تهذيب، لم تر إلا الاختلاط الشائن واللهو المحرم، والغرام والغناء، كأن هذا كل ما في الجامعة، وكأنها أنشئت لمثله: يجيئها الطالب اللبناني فيستقبله طاب مصري، يأبى واضع الفلم إلا أن يجعله مغفلا كأنه ثالث المضحكين لوريل وهاردي، وأن يسميه (سونه). . . فلا يمر على التقائه به ثلاث دقائق فقط حتى يعرف به الطلاب فيهتفوا له، ويقودوه رأساً لا إلى بهو المحاضرات ولا إلى المكتبة، بل إلى البركة، مع أنه جاء في وقت الدرس لا في وقت اللعب فترى في بركة الجامعة الطلاب والطالبات بالأجساد العارية، والعورات البادية، ثم تبصرهم يعمدون إلى طالبة لابسة ثيابها الكاملة فيحلونها فيلقونها في الماء، فإذا خرجت كالقطة المبللة حفا بها ضاحكين عابثين، وتمضي المشاهد على هذا النمط لا تظهر غرفة الدرس إلا مرة واحدة، يدخلها عم الطالب اللبناني وهو في الرواية (المضحك) المعروف بشارة وكيم فيقطع على الأستاذ محاضرته، ويفسد عليه درسه، ويسخر منه، ويستخرج ابن أخيه بلا أذن، لأن عاشقته. . . تطلبه. . .

ويعرض (الفلم) بيت الطلبة الذي أنشأته الحكومة المصرية بأموالها لإيواء الغرباء من الطلاب، فطمأن بذلك آباؤهم في الشام والعراق والحجاز ونجد والمغرب واليمن، لأنهم غدوا فيه بأمانة هذه الحكومة فما يخشى المرض على أجسامهم، ولا الفساد على أخلاقهم، فلا يجعل بيت الطلبة إلا (ماخورا) فظيعاً. . وترى اللبناني يدخله فيسقط في حفرة ك إخوانه حفروها له، فينزلون عليه بجماعتهم فينضوون عنه ثيابه كلها إلا ما يستر العورة الكبرى ولا يكاد، وتجئ طالبة، طالبة في بيت الطالبة - هل تسمعون أيها القراء؟ تقبل عليه فيستحي هو يخجل، ولا تخجل هي ولا تستحي، وتجره من يده فتلبسه من ثيابها. . فيستنوق الجمل، ويتأنث الرجل، ثم يجلسان على مائدة الشراب والغزل، والطلاب ينظرون، ولا يكتفي واضع الفلم بهذا كله حتى يجئ ب (سونة)، فيقفه عليهما وقفة أبله، فيقول للّبناني: هذه خطيبتي فكيف تأخذها مني؟ ثم يضحك ويولي عنه كأن الأمر لا يعنيه، وكأن هذا الفلم قد تعمد فيه أن يكون لعنة على الرجولة والشرف ومصر وجامعتها معاً، وعدوانا على أولئك جميعا. . .

وما هذا الذي ذكرت إلا مثالا مما في هذا (الفلم) فهل يبلغ أعداؤنا منا أكثر من هذا؟ وماذا يقول الناس غدا عن الجامعة المصرية وعن دار طلبتها إذا عرض هذا (الفلم) في بلاد العرب ورآه أهلها الذين يعدون مصر كعبة الثقافة ومورد العلوم؟ هل يرسلون أبناءهم إليها؟ أم يقولون إن هذه هي حقيقة الجامعة ولولا ذلك ما صورها مصريون في هذا الفلم المصري، ولما سمحت حكومة مصر بعرضه، ولما سكتت عنه إدارة الجامعة فلم تطلب منعه، ولم تقاض أهله، ولم تحرك من أجله ساكنا؟

وهذا الفلم مثال مما جرنا إليه تركنا ديننا وأخلاقنا، وتقليدنا الغربيين في رذائلهم وحدها، وحسباننا أن هذا هو التمدن وهذى هي الحضارة. وإذا كان هذا الفلم قد سبق الزمان فصور الجامعة بهذه الصورة المزورة، فإنه سيأتي علينا يوم تكون هذه هي الصورة الحقيقة للجامعة وللمستشفى وللمكتب وللدائرة وللمخزن وللشارع وللترام، ويكون كل مكان يلتقي فيه الرجل بالمرأة ملهى من الملاهي، ولم لا؟ واللذة مطلوبة، والرغبة موجودة، وما ثمة حجاب يمنع العين، ولا قانون يكف الجوارح، ولا دين يزع النفس، ولا شهامة تلجم الشهوات، لم لا؟ ونار الشهوة الكامنة في كل نفس، تؤججها هذه المجلات الصورة، وهذه الأفلام الداعرة؟

أو ليس من العجيب أنك تدخل في القاهرة السينما التي تعرض الفلم الإفرنجي فترى له فكرة وموضوعا وهدفا، وربما رأيت فيها الفلم العلمي أو التاريخي الذي يمر كله فلا تسمع فيه كلمة غرام، ولا ترى فيه قبلة. وتدخل لترى الأفلام المصرية فتجدها كلها إلا النادر منها، سخيفة النسج، مضطربة الموضوع، عمادها العرى والخلاعة والتخنث ورقص البطن؟

أو ليس أعجب منه أن تكون المجلات الفرنسية أعف في الجملة من مجلاتنا التي لا يخلوا أكثرها من صور الأفخاذ والسيقان والبطون والنهود، تسابقت في ذلك حتى بلغت الوقاحة ببعضها أن نشرت صور نساء عاريات لا يسترهن قليل ولا كثير؟

أو ليس أعجب من هذا كله، أني ذهبت مساء الخميس الماضي إلى مجلس يجتمع فيه عادة فريق من أكابر رجال التأليف والتعليم في مصر، فتكلمنا في هذا الموضوع، فإذا أكثر الحاضرين بين غافل عن هذا الداء لا يبصره، أو متهاون به لا يكبره، أو راض به لا ينكره، وإذا هم جميعا يتسلون في ساعة الخطر ويلهون يوم الجد، ويرددون هذه الكلمات الحلوة (حرية الرأي) و (ضرورات الفن) و (مقتضيات العصر)، والنار مشتعلة في البلد؟!

يا أيها السادة المبجلون:

فكروا قليلا فإنكم قادة الرأي فينا، فلا تكونوا تبعا للعامة من أهل أوربا، فما يفلح قوم قادتهم تبع للعوام من أعدائهم، فكروا بعقولهم التي في رؤوسكم لا بعقول أصحاب الوجوه الشقر، تروا أن الحريات كلها، والفنون جميعا، والحضارة من أساسها، إنما كانت لتزداد بها الأمم قوة، والناس إنسانية؛ فإذا أساء قوم استعمالها وأخذوها من ذنبها فجاءت في أيديهم مقلوبة منكسة حتى تبدل وضعها وضاعت فائدتها، وصارت للأمة ضعفا لا قوة، وأعادت الناس إلى البهيمية لم ترتق بهم في سلم الإنسانية، فقد وجب في شرعية العقل وجوبا درء ضررها، ودفع أذاها، وإلا كانت كالسيف يأخذه الأحمق الغرير، فيجرح به نفسه، وما كان السيف إلا ليرد به العادي ويذاد به عن الحمى، وما أظن أن على ظهر الأرض عاقلاً واحداً، يرضى أن يضحي بأخلاق أمته وعفافها، من أجل مقالة فيها كلام جميل، أو قصة فيها وصف رائع، أو صورة فيها فن بارع، وإن الأمم تعيش من غير أدب مكشوف، وفن عار، ولكنها لا تعيش بلا أخلاق،

وأنا أحب الأدب، وأقدس الحرية، ولكني أفضل أن نبقى مقيدة ألسنتنا وأقلامنا بقيد الإسلام والأخلاق، على أن نهلك ونحن أحرار نقول ما نشاء، فمن هو الذي يخالف في هذا من القراء؟ لقد صارت المجلات تخاطب الشهوات بالصور العارية، بعد أن كانت تخاطب العقول بالعلم الحق، والقلوب بالأدب السامي، وهبط الأدباء إلى درك السفلة من القراء بعد أن كان عمل الأديب رفع القراء إلى العلاء، وانقلبت الجامعات مسرح ظباء وموعد لقاء بعد أن كانت دار العلم والتقى والصلاح، وغدت السينما عندنا (تهريجاً) فاجرا، بعد أن كانت السينما عند الناس درسا وعبرة وفناً، وأوشكت هذه (الحرية. . .) وهذه (الحضارة. . .) أن تكون تعديا لحدود الشرع، وهدما لأركان الخلق، ودعوة إلى الفسوق، لا عمل لها إلا هذا، ولا ثمرة لها غيره.

أفيرضى عقلاء مصر أن تظل على هذا الطريق؟

يا أهل مصر! إن هذه المجلات، وهذه الأفلام، عدوان على مصر وعلى الفضيلة والعروبة والإسلام، فإذا أنتم لم تقاطعوها وتقتلوها، فمزقوا كتب الدين والأدب والتاريخ، لأن كل صفحة منها تمجيد للعرض، وامتداح للنخوة.

يا أهل مصر!

لقد جرب أجدادنا العمل بالقرآن فكانوا سادة الدنيا لكها، فجربوا أنتم مخالفته وانظروا ماذا تكونون!!

القاهرة

علي الطنطاوي