مجلة الرسالة/العدد 708/الأساطير الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 708/الأساطير الإسلامية
للدكتور جواد علي
من الموضوعات الجديرة بالعناية موضوع: (الأساطير الإسلامية وأثرها على العقلية الأوربية)، وهي أساطير عربية جاهلية اختلطت بعناصر أعجمية في العصور الإسلامية التي امتزجت فيها ثقافات مختلفة متنوعة.
ولما بحث العالم الإسباني (ميكول آسين في (الكوميدية الإلهية) للشاعر الإيطالي الشهير (دانتي) تطرق إلى ذكر العناصر التي أخذ منها هذا الأديب (الفلورنسي) الكبير تلك الصورة البديعة التي رسمها من أوربية وشرقية، وقد أضطر إلى التعرض للقصص الإسلامية التي كانت قد شاعت في إيطاليا أيام هذا الشاعر، فقسمها إلى أقسام وفصول مثل الأساطير الأوربية التي أخذت من (معراج الرسول)، والقصص التي أخذت من أوصاف الجنة؛ وبحث في القصص المختلفة المعروفة مثل أصحاب الكهف والخضر وقصة (بولوقيا) والرحلات المخيفة إلى البحار، وقصص الحيتان البحرية التي تظهر في البحر على صورة جزر عائمة.
وقد بحث مستشرقون آخرون في تأثير القصص الإسلامية في القصص الأوربية، وفي أثر الأساطير العربية في أساطير أوربا في القرون الوسطى، وفي كيفية انتقاها إلى أوربا. وعلى بعض هذه القصص طابع إسلامي واضح، وعلى بعضها أثر التكيف الجديد الذي طرأ عليها في المحيط الأوربي الذي حلت به.
ومن الأساطير الأوربية القديمة قصص مغامرات البحارة ومخاطرات البحار وعجائب البحار وعجائب المخلوقات في هذه المحيطات الشاسعة، وهي قريبة من القصص العربية الواردة في كتاب عجائب المخلوقات، وفي الكتب المؤلفة في حياة الحيوان، وفي كتب السياح العرب الذين دونوا ما شاهدوه في تلك البحار. ومن أمثال هذه الأساطير الأوربية القديمة من الأساطير العربية قصة رحلة (هارولد النرويجي)، ورحلة (كورم الدانماركي) ورحلة (مالدوين الكلتي) ورحلة (أبناء كونال درك أو كورا)، ورحلة (سانت برندن) وهي رحلة حج بحرية مشهورة جداً لراهب ايرلندي وقد جمع فيها عدة قصص لرهبان آخرين مثل وو وومجموعة الرهبان (الأرموريكن) وقد انتشرت في القرن العاش للميلاد بين المسلمين كثير من القصص البحرية، ويعود ذلك على توسع الحركة التجارية في خليج البصرة، وبين سواحل البلاد العربية، وسواحل الهند والصين وإفريقية الشرقية، وقد تفرعت منها قصص عديدة، منها ما دون في الكتب ومنها ما ذكر عرضاً بصورة مختصرة أو مبتورة. ومن هذه القصص قصة البحث عن الخضر، وقصة رحلات السندباد البحري وقصة الجزيرة الخضراء وقصص الحيتان.
وقد قارن المستشرق الهولندي (دي كويه) بين قصة (سانت برندن)، وهي من القصص الايرلندية وبين رحلة السندباد البحري، وبعض قصص بحرية ذكرها الشريف الإدريسي، وقصة (بولوقيا)
اختار (سانت برندن) الذهاب إلى قلعة نائية لم تكن مأهولة في جزيرة لم تعرف إنساناً من قبل، ولشد ما تملكه العجب حينما وجد مائدة غنية بأنواع الأطعمة والأشربة فأكل منها وشبع وأطعم أصحابه ولم يؤثر ما أكلوه على كمية الطعام.
وفي قصة (بلوقيا) التي رواها (عبد الله بن سلام) وهو يهودي اعتنق الإسلام تشابه مع قصة (سانت برندن)، فبلوقيا وهو حبر يهودي، وكان والده (أوشيا) من أحبار اليهود وإعيائهم أراد البحث عن (محمد) وأمته، فطاف بلاد الشام حتى بلغ جزيرة من جزائر البحر، فإذا هو بحيات كأمثال الإبل عظما كلمهن ثم مر بشجر كثير وبعالم غريب يشبه ذلك العالم الذي مر به ذلك الراهب.
وقصة (بلوقيا) هذه التي قصها الثعالبي استناداً على رواية (أبي بكر بن عبد الله الحزدقي) بإسناده عن عبد الله بن سلام هي قصة، وإن كانت مطبعة بطابع إسلامي إلا أنها من القصص الإسرائيلية البحت. ولأبن سلام قصص أخرى تحمل نفس الطابع، ويحشره العلماء وأصحاب الحديث لهذا السبب في تلك المجموعة التي اشتغلت في إدخال (الإسرائيليات) إلى المسلمين بصورة حديث عن الرسول أو موعظة من المواعظ.
ووجد هذا الراهب في جزيرة من الجزر أشجاراً فاقتطع من أغصانها مقداراً وأوقد ناراً ليصنع طعاماً، فلما تأججت النار تحركت تلك الجزيرة العظيمة وأخذت تموج، فرمى الراهب وأصدقاؤه بأنفسهم في اليم طلبا للنجاة؛ إذ لم تكن تلك الجزيرة سوى سمكة عظيمة من نوع الحيتان البحرية.
ويرى بعض المستشرقين مثل (دي كوية) وو ' أن هذه الجزيرة تشبه الجزيرة الأولى التي وصل إليها (السندباد البحري) وأصدقاؤه وقصة السندباد من القصص العربية المعروفة ولعلها النموذج الأصلي لقصة (روبنسن كروسو).
ونجد مثل هذه القصص في الكتب الدينية القديمة مثل: (التلمود) وهو بعد التوراة عند اليهود وعليه عندهم العمل في الأحكام الفقهية. ومثل (الأفستا) كتاب الفرس المجوس. وقد انتشرت أمثال هذه القصص بين العجائز والأطفال ولا زالت معروفة حتى اليوم.
وزعم نفر من المستشرقين أن قصة (سانت برندن)، والقصص المشابهة لها هي من القصص الايرلندية القديمة، وقد عرفها الشرق عن طريق الصليبيين أو عن طريق أسبانيا؛ ودليلهم على ذلك أن سمكة (الحوت) التي وصفت بالكبر والضخامة لا تعيش في مياه الشرق.
وهذا الرأي لا يستند بالطبع إلى دليل ملموس، ولا يعقل انتقال هذه القصة من ايرلندا إلى الشرق. وهناك أدلة علمية واضحة تنفي انتقالها من ايرلندا. فالجاحظ الكاتب البصري وقد عاش في نهاية القرن الثامن للميلاد إلى ما بعد منتصف القرن التاسع (781 - 869 م) يصف قصص البحارة عن الحيات البحرية فيقول: (فقد زعم هؤلاء أنهم ربما قربوا إلى بعض جزائر البحر وفيها الغاض والأدوية واللحاقيق وأنهم في بعض ذلك أوقدوا ناراً عظيمة فلما وصلت إلى ظهر السرطان ساح بهم وبكل ما عليه من النبات حتى لم ينج منهم إلا الشريد).
ويظهر من كتاب الحيوان أن مثل هذه الأساطير كانت معروفة في العراق، وعلى الأخص في البصرة في أيام الجاحظ، وربما كانت معروفة قبل عصر الجاحظ، وأن قصة (السندباد البحري) التي شاعت بين الناس في القرن العاشر وما بعده أخذت من هذه القصص البحرية. وقد تطرق الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) إلى ذكر الحيتان.
أما الجزيرة الثانية من مجموعة الجزر التي زارها القديس فهي جزيرة نائية كانت مأهولة بالطيور المتكلمة وكانت أرواحها من طبيعة أرواح الملائكة. وفي قصة (بلوقيا) مثل هذه الطيور. فلما سأل (بلوقيا) أحدها قال (أما من طيور الجنة، وأن الله قد بعثني إلى آدم بهذه المائدة لما هبط من الجنة، وإني كنت معه حين لقي حواء وأباح الله له الأكل؛ وأنا ههنا من لدن ذلك الوقت، فكل غريب وعابر سبيل من عباد الله الصالحين يمر بها يأكل منها وأنا أمين الله عليها إلى يوم القيامة. فقال بلوقيا ولا تتغير ولا تنقص؟ فقال طعام الجنة لا يتغير ولا ينقص. قال بلوقيا فآكل منها؟ قال كل، فأكل حاجته، ثم قال له أيها الطائر وهل معك أحد؟ فقال معي أبو العباس يأتيني. فقال ومن أبو العباس قال الخضر عليه السلام، فلما ذكر الخضر وإذا به قد أقبل وعليه ثياب بيض فما خطا خطوة إلا نبت الحشيش تحت قدميه. ثم قال غمض عينيك فغمضهما، ثم قال له افتح عينيك ففتحهما فإذا هو جالس عند أمه، فسألها من جاء بي إليك؟ قالت طير أبيض يطير بك بين السماء والأرض فوضعك قدامي).
وتشبه هذه الطيور الطيور المذكورة في قصة: (سانت مكاريوس) وقد ورد في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ذكر الطيور البيضاء، وقد فسرها المفسرون بأنها الملائكة. وهو تفسير يتفق مع مذهب الأوربيين في تصوير الملائكة على أنها على صورة طيور بيضاء ذات جناحين طويلين.
ووجد (القديس) في جزيرة رهباناً كانوا يقتاتون بخبز الجنة لا يعرفون الهرم ولا يصل إليهم المرض، وكانوا لا يتكلمون وفي قصة (ذي القرنين) وقصة (جزيرة الحكماء). شبه كبير بهذه القصة. أما (العنب) العجيب الذي عثر عليه القديس في الجزيرة فله أصل في الحديث المنسوب إلى الرسول إذ يروى أن جماعة سألوا الرسول عن الكرم وهل ينبت في الجنة، فأيد الرسول وجوده فيها، وأبان لهم أن الحبة الواحدة لتكفي الرجل وعائلته. وهو يمثل على كل حال رأي الناس في العنب وهو رأي يشابه رأي الأوربيين في عنب جزيرة القديس.
وفي الأدب العربي عدد لا يحصى من هذا النوع من القصص وقد جمع قسماً منها الثعالبي في كتابه (قصص الأنبياء) وتجد طائفة أخرى في تفسير الخازن، وأكثرها من صنع من أسلم من اليهود مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب أبن منبه وإضرابهم. وروى بعضها عن عبد الله بن عباس.
وتعرف هذه القصص عند المسلمين (بالإسرائيليات). والظاهر أنها عرفت عند المسيحيين كذلك إما عن طريق الكتب الدينية والتفاسير الموضوعة على هذه الكتب، وإما عن طريق اليهود الذين انتقلوا إلى أوربا في عصر الإمبراطورية الرومانية. غير أن وجود العناصر الإسلامية فيها يشعر أنها انتقلت بعد ظهور الإسلام، ولعل ذلك حدث بعد اختلاط الأوربيين بالعرب في الأندلس وفي إيطاليا وفي بلاد الشام وفلسطين، وبعد وقوفهم على كتب الأدب العربية ولا سيما كتب القصص منها، وفيها طائفة كبيرة تلائم العقلية الأوربية والذوق الديني الذي كان يتحكم في نفوس أوربا في القرون الوسطى حيث كان الحكم البابوي هو الحكم السائد، والثقافة الدينية هي الثقافة السائدة، وفي هذه القصص لون من ألوان هذه الثقافة.
جواد علي