مجلة الرسالة/العدد 708/مصر هي السودان
مجلة الرسالة/العدد 708/مصر هي السودان
للأستاذ محمود محمد شاكر
دخلت المسألة المصرية السودانية في ساعة حاسمة لابد فيها من العمل والتسديد والحزمة والتصميم، وأصبح لزاماً على أهل الرأي ورجال السياسة أن ينزعوا الخوف من قلوبهم ويطرحوا التردد جانباً، ويقبلوا على المعركة مستبسلين لا يخافون. وقد صار أمر مصر والسودان إلى مصير ليس في تاريخ مصر والسودان أسوأ منه، فكل نكول عن أداء الواجب وعن التنبيه والتحذير خيانة لوادي النيل لا يغتفرها لنا آباؤنا ولا أحفادنا من بعدنا. وإذا أضعنا اليوم حق مصر والسودان علينا، فقد ضاع كل ما ترجوه بلاد العرب والمسلمين من أطراف الصين إلى أقاصي المغرب الأقصى، وإذا الفرصة السانحة قد أفلتتْ من يد هذه الأمم إلى غير رجعة. فمسألة مصر والسودان ليست إذن مسألة مفردة برأسها بل هي أمّ المسائل العربية والشرقية جميعاً، وموقفنا حيالها هو المحكُّ لكل ما يرجوه الشرق ويؤمل.
بيد أن مسألة مصر والسودان قد أصابها من البلبلة على مر السنين الطوال ما يخشى معه أن يدع للعدو منفذاً يدسس منه إلى إحداث الفرقة والتنابذ، وقد بدا شيء من آثارهما في العهد الأخير بعد أن استطاعت الدولة الخداعية أن تستميل قلوب نفر من أهل المطامع ورجال السوء في السودان وغير السودان. فلا بد إذن أن نبدأ ونعيد في بيان الحقيقة التي لا تطمس نورها الأكاذيب الملفقة، ولا يطفئ رونقها طول الإهمال والترْك. وآنا لنأسف أن قد مضى على كبار ساستنا زمان وهم يظنون أن علاج المسألة المصرية مفصولة عن السودان هو الطرق إلى نيل الحق عن غاصب وادي النيل، فأصبح الناس وإذا هم يرون ضلال الساسة الغابرين في بتر قضية وادي النيل وشطرها إلى شطرين سموهما باسم المسألة المصرية والمسألة السودانية. ولو هم عملوا منذ ولاهم الله سياسة هذه الأمة، على أن القضية واحدة، وتجزئتها مفسدة للجزأين كليهما، لسار تاريخ مصر والسودان غير هذا السير الخبيث الذي ساقتنا بريطانيا في سراديبه المضللة المظلمة.
إن الجزء المسمى بمصر من هذا النيل المنحدر من منابعه إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، جزء يسير من مجرى هذا النيل، وهو واقع في صحراء جرداء لولا هذا الجزء من النيل لاتصلت رمال الجانب الشرقي والجانب الغربي من الصحراء وتصافحت على مسيله. وهذا الجزء الخصب بمد النيل، خط ضيق محصور أكثره بين الجبال والرمال، ولا يرجو أهله منه خيراً إلا باسم النيل وبماء النيل وبركة النيل. فإذا حبس النيل ماءه أو منع بركته، أو وجد على الجزء الجنوبي منه (وهو السودان) من يحبس ماءه ويمنع بركته، انقلبت هذه الأرض المصرية نقمة على أهله وشراً وبلاءً. والتاريخ يحدث منذ قديم الأزمان بأنه ما امتنع ماء النيل أو قل إلا حدثت في مصر المجاعات والقحط التي أهلكت الحرث والنسل، حتى اضطر أهل مصر في كثير من أزمان القحط أن يأكل الرجل لحم أخيه وولده من شدة المتربة التي حاقت بهذا البلد الخصيب. فالنيل هو كل شيء في بلدٍ لا تمطره السماء إلا غب، وليس فيه ما يغني أهله عن أن يجعلوا مادة حياتهم وأرزاقهم مما تخرجه الأرض التي يكدحون في زراعتها كدحاً شديداً، والتي لا تنفع فيها زراعة إلا إذا استوفت حظها من ماء هذا النيل.
وقديماً قامت في هذا الجزء الأدنى من النيل أمم وحضارات لا تزال آثارها باقية إلى هذا اليوم، وكان أولى بقيام هذه الأمم والحضارات الجزء الأعلى وهو السودان، لولا أن أهل الزمن الماضي فروا من وقدات الشمس المحرقة في السودان إلى هذا الجزء الأدنى فأقاموا الحضارات على حفافيه، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا وهم مطمئنون إلى أن الجزء الأعلى ليس في دولة قائمة يمكنها أن ترد هذا النيل عن مجراه إلى قرارة هذا الوادي الذي سمي (مصر). ولو كان هناك شيء مثل ذلك لرأينا، كما رأينا في شأن الوجه القبلي والبحري، رجالا ينصبون أنفسهم لضم الشمال إلى الجنوب وتوحيدهما حتى لا يكون في الأرض الواحدة دول منقسمة يناوئ بعضها بعضاً، فلا تقوم لواحدة منهما قائمة، ولا يكون لواحدة منهما مجد أو حضارة أو تاريخ. وبذلك بقي النيل الأعلى (السودان) في سلم دائمة، إذ لم تكن فيه دولة مناوئة، وبقيت صلته بمصر كصلة أي بلد من بلاد الدنيا يكون في أرضها جزء متروك لم يعمر بالهجرة أو الاستصلاح والاستثمار. وهذا الترك لا يدل على اقتطاع هذا الجزء، بل على أن الحاجة لم تدفع بعدُ إلى استصلاحه أو استثماره. هذا هو التاريخ القديم في العلاقة بين جزئي النيل (مصر والسودان).
ومضى التاريخ على هذا إلى أن جاء العصر الأخير، فقام شمال النيل (مصر) ليضم الجنوب (السودان)، كما قام الشمال من أمريكا لضم الجنوب إليه، وكما قام جزء من بريطانيا نفسها ليضم إليه بلاد الغال وأرض أسكتلندة. ولو بقي شمال أمريكا منفصلاً عن جنوبه، وبقيت بلاد الغال وبلاد أسكتلندة على أحوالها التي كانت عليها منذ قرون، لما كان في الدنيا شيء يسمى الولايات المتحدة، ولا شيء يسمى بريطانيا، وإذن فضم السودان إلى مصر بالحرب لا يمكن أن يسمى (فتحاً) بل هو ضم فحسب فلذلك يخطئ بعض الساسة الذين يحتجون في المسألة المصرية السودانية بهذا الشيء السخيف الذي يسمونه (حق الفتح). وكل ما هنالك هو أن هذا الجزء المتروك من أرض مصر أو أرض السودان - كما تشاء - كان لابد في ضمه من بعض الحرب حتى تستقر الحال ويستتب النظام، كما حدث في كل بلاد العالم منذ أقدم عصور التاريخ، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهذا شيء بديهي لا يحتاج إلى زيادة.
ويتبع هذا الخطأ في الاحتجاج بحق الفتح خطأ آخر أقبح منه، وهو احتجاج من , بما أنفقت الأرض الشمالية على الأرض الجنوبية من الأموال، وهذا أيضاً فاسد كل الفساد. فكل داق أنفقته مصر في السودان هو حق السودان على مصر، كحق أي قرية في أرض مصر، وكحق كل شارع أو مديرية. فينبغي إذن أن ننفي من احتجاجنا كل شيء يسمى نفقات أنفقت في السودام، فإن كل ذلك هو حق السودان الذي إذا قصرنا في أدائه وجب عليه أن يطالبنا به بالكلام أو بالسيف أو بكليهما. ومن المؤلم أن يكون هذا الأسلوب الذي جرى ولا يزال يجري على ألسنة بعض الساسة، هو خديعة بريطانية قديمة لم نزل ننزلق في مداحضها ونزل، حتى كادت تكون نكبة عقلية ألمت بهؤلاء الساسة.
فلابد إذن من وضع هذه الحجج حيث ينبغي أن توضع في زوايا الإهمال، وأن ينظر الساسة إلى الحق الطبيعي الذي يجب لمصر على السودان، والذي يجب للسودان على مصر، وأنا أقدم فأقول إن حق السودان على مصر هو الأصل، وهو الحق الأعظم، وهو الحق الذي لا يمكن مصر مهما بلغت من قوة ومجد وحضارة أن تتنصَل أو تتبرأ، فإذا فعلت، فذاك هلاكها وضياعها في هذا العصر وإلى الأبد البعيد.
إن السودان كما كان قديماً، وكما هو الآن، هو حياة الأرض التي تسمى باسم (مصر)، فزراعتها وتجارتها ومالها وأهلها وتاريخها وحضارتها، كل ذلك فضل أتى به النيل. والنيل فيما بعد أسواره إلى منابعه واقع في الأرض التي تسمى السودان، فإذا أبى السودان أن يفضل على مصر بالقدر الكافي من ماء النيل، فقد حدثت المجاعات، وهلكت الزراعة وبارت التجارة وذهب المال واندثرت الحضارات وانطمس التاريخ، ولم يبق في الدنيا دولة تسمي نفسها الدولة المصرية، بل مكان في الصحراء يقال له مصر ليس إلا، مجرداً من كل ما تكون به دولة أو أمة. فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارى فيها بالعصبية أو الكبرياء هو أن السودان هو سيد هذا الوادي الذي يمده النيل بمائه، وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي النيل كل باسم الدولة المصرية برضى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر. فهذا هو الوضع الصحيح للمسألة المصرية السودانية.
ومن البيّن الذي لا خفاء فيه أن السودان كنز كله، بمائه ومعادنه وغاباته وحيوانه وكل شيء فيه، والذي في مصر من ذلك لا يعدل واحداً من ألف من هذه القوى الطبيعية المكنوزة في أرضه وجباله وسمائه. وهذه القوى هي التي تجعل لصاحبها السيادة العليا على الذي يستمد من فضلها. فمصر تستمد من قوى السودان جزءاً يسيراً وهو الماء، وتستمده برضى أهل السودان ومسالمتهم وأخوتهم، فمن العبث إذن أن تدعي مصر (سيادة) على السودان، بل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن سيادة السودان هي العليا، وأن مصر جزء من السودان، وهو جزء عظيم خصب صالح للاستثمار في الزراعة وغيرها استثماراً عظيما، فمن مصلحة السودان أن يفضل الماء على هذا الجزء لتزدهر زراعته وحضارته ويكون للسودان ذخراً من القوة يضارع القوة التي فيه. والسودان محتاج إلى هذا الأفضل لأن المنطقة الصالحة للزراعة في مصر أعظم وأجدى من المنطقة الواقعة في الجزء المعروف اليوم باسم السودان. ومن هذا تعرف كيف دبر الله لهذين الشطرين العظيمين أن لا يجد أحدهما مندوحة تغنيه عن صاحبه، وتفرض على كل واحد منهما أن يتشبث بصاحبه، فإذا تنابذا وتنافرا وتدبرا وتقاطعا، حاق بهما جميعاً ما يحيق بكل أخوَين متنابذين متدبرين، وهو الهلاك والضياع الذي تخاف مغبته.
وأنا لا أظن أن في الدنيا شيئاً هو أوضح للعقل السليم من هذا الذي ينبغي أن يكون بين مصر السودان، أي الحقوق الطبيعية التي يفرضها وجود هذين الشطرين المتجاورين: شطر لا بقاء له وحده وهو مصر؛ وشطر هو القوى الكامنة التي تعطي البقاء للشطر الأول، وذلك هو السودان. والشطر الأول منهما (مصر) هو الذي مهد الله له سبيل القوة والتاريخ والعلم فكان في الوجود أسبق الشطرين إلى قيام الدولة فيه، والشطر الآخر باقٍ ساكن قار. . . شيخ وقور رزين لا يفارق خلوته إلا بسبب من العطايا والمنح التي يرسلها إرسالا إلى الشطر الأول ليحيى ويقوى ويكون سلطاناً في أرضه، وتاريخاً في الزمن، وحضارة في العالم، ولكن الشيخ هو سر السلطان والتاريخ والحضارة - هو السودان. وذلك حسبه.
وقد كتب الله لمصر أن تكون كما هي الآن، وأن تكون دولة في الدول لها سلطان ظاهر ولها عمل في بعض السياسة، ولها آمال في تحرير نفسها وتحرير العرب وتحرير الشرق من بغاة الاستعمار في أوربا وأمريكا وروسيا، فكيف يجوز في عقل عاقل أن تدع أباها الذي يمدها بكل هذه القوة ينخزل عنها وينفصل ليقع في يد الدولة المستعمرة المعروفة الناس باسم بريطانيا؟ إن مصر هي السودان، ولا مصر بلا السودان، وإذا كانت إنجلترا نفسها تدعي أن الهند لازمة لها، وقناة السويس لازمة لها، وكذلك روسيا فيما تدعيه، وكذلك أمريكا في دعوى مصالحها في الأرض والبحر والجو، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يراد لدولة ترجو أن تكون دولة في هذه الدنيا العريضة المتراحبة، وهي ليست إلا خطاً محروماً حظَّ الحياة وأسباب البقاء بانفصال السودان المفضل المتكرم عليها بأسباب القوة التي تمكنها من أن تكون دولة؟
إن واجبنا اليوم هو أن نموت في سبيل السودان، لأن السودان هو حياتنا، ونحن بضعة منه، فدفاعنا عنه وموتنا في سبيله هو دفاع الولد البار عن أبيه، والذي لا حياة له ولا عز ولا مجد إلا بحياته وعزه ومجده. نحن لا نريد سيادة على السودان بهاذ المعنى العامي الجلف، فإن السودان هو سيد هذا الوادي، ولكننا نريد أن تبقى مصر حية قوية في كنف السودان أبينا ومادة حياتنا. إننا لن نفرط ساعة في السودان لأن الدولة المصرية ليست شيئاً، ولن تكون شيئاً في هذا الوجود إلا بالسودان. ولو أنصف القدر وأنصف الناس، لكان ينبغي أن تسمى (الدولة المصرية) الدولة السودانية. أما بريطانيا فهي تريد السودان، لأنها تدرك هذا كله حق الإدراك وتعلم أنها إذا بقيت في السودان، تحكمت في حياة مصر كلها، وزادت عليه ما في السودان من كنوز لا تزال مطمورة تحت تاريخ الحياة الإنسانية المتقادمة منذ أبعد الآباد. فليحذر السودان، والسودان هو الحياة الحقيقية لمصر. فإذا انفصل أحدهما عن الآخر ماتا كلاهما بين أنياب الوحش الذي لا تشبع نهمته ولا تسكن ضراوته.
محمود محمد شاكر