مجلة الرسالة/العدد 693/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 693/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1946



للدكتور خليل جمعة الطوال

في العلوم الطبيعية:

ولم يعتمدوا في دراسة العلوم الطبيعية والميكانيكية والسوائل والبصريات على مجرد النظر؛ بل اعتمدوا على فرض الفروض واستخراج النتائج منها بالمراقبة والامتحان. ولقد كان الحسن ابن الهيثم الذي ظهر في القرن الخامس للهجرة؛ علماً فذاً في هذه العلوم، ولئن تجاهله المسلمون فقد عرف فضله الغربيون، وقدروه قدره وأوفوا كتبه حقها من الدراسة العميقة وأحاطوا شخصه بما هو أهل له من الاحترام والإكبار. فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: إن ابن الهيثم قد أوحى بكتابته في الضوء إلى اختراع النظارات، وأن علماء القرون الوسطى كروجر باكون العالم الإنكليزي المعروف، وبول واتيلو، وليوناردفنشي، وكوبرنيكس وكبلر، وغيرهم، قد اعتمدوا على كتاباته، واقتبسوا منها معظم بحوثهم في مختلف المواضيع. وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية أيضاً ما نصه: (كان ابن الهيثم أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات).

وجاء في كتاب تراث الإسلام: (إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم). ويقول الأستاذ سارطون: (إن ابن الهيثم أعظم مؤلف ظهر عند العرب في علم الطبيعة؛ بل هو أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن علماء البصريات المعدودين المشهورين في العالم كله. . .)، وجاء عن العالم الفرنسي (لوتيرتياردو) بأن (كبلر) قد استمد معلوماته في الضوء وانكساره في الجو من كتابات ابن الهيثم.

وإلى ابن الهيثم يرجع الفضل الأول في معرفة قانون الانعكاس وزاويتي السقوط والانعكاس، وهو الذي أثبت أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة في الهواء وفي أي وسط آخر، وأنه إذا سار من وسط إلى وسط آخر انكسرت أشعته، وقاس كلا من زاويتي السقوط والانكسار، وأظهر خطأ بطليموس في بحثه عنهما. وقد اخترع آلة لبيان العلاقة بين زاويتي السقوط والانكسار؛ فبنى علماء الغرب فيما بعد آلتهم الحديثة على أساسها. وقد علل كثيراً من الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار تعليلاً علمياً صحيحاً، واصلح خطأ رأي أقليدس القائل بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم المرئي، وقال بأن النو يأتي من الجسم المرئي إلى العين، وقد بحث كثيراً في العدسات وحاول استعمالها في إصلاح أمراض العين، وكتب في الزيغ الكري وفي تعليل الشفق وهو إلى جانب ذلك أول من رسم العين، وبين جميع أجزائها، وكيفية تشريحها، ووضع أساس آلة الاسترينسكوب.

على أننا لسنا في صدد تدوين تاريخ ابن الهيثم أو بيان مآثره فذلك أمر لا تفي المقالة، ولا المقالات حقه، ولهذا فإننا نكتفي بهذه اللمحة الموجزة عنه؛ لنتقدم بفقرة أخرى موجزة نشير بها إلى مواطن ابتكار العبقرية العربية في هذا العلم الجليل الشأن.

يقول درابر: (لقد قرر العرب في الميكانيكا نواميس سقوط الأجسام وطبيعة الجاذبية، وعللوا القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل المائع وموازنتها الجداول الأولية للجاذبية النوعية، وبحثوا في طفو الأجسام وغرقها في الماء. . . وأثبتوا أننا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب، ومما قال أيضاً: والذي يدهش كثيراً أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من ابتكارنا ثم لا نلبث أن نراهم قد سبقونا إليها. فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم وحقاً إنهم وصلوا إلى الأشياء الآلية وغير الآلية فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية)

وقال جوتيه: (لقد علمنا العرب صنع البارود، وعمل إبرة السفينة؛ وعلينا أن نقدر دائماً مدى الشوط الذي كانت تقطعه مدينتا لو لم تقم على مخلفات المدينة العربية، ولقد عرف العرب قبل غيرهم آلة الظل، والمرايا المحرقة بالدوائر، والمرايا المحرقة بالمقطوع وقطعوا شوطاً بعيداً في علم الميكانيكيات) وجاء عن سيد ليو: (أن هارون الرشيد الخليفة العباسي قد أهدى إلى شارلمان ساعة دقاقة، فلما أطلع عليها حاشيته تعجبوا كثيراً من أمرها، وحاروا في معرفة تركيب آلاتها).

وقد حاول حكيم الأندلس عباس بن فرناس الطيران، وأخترع صناعة الزجاج من الحجارة، وكتب في الموسيقى، ووضع آلة المثقال التي يعرف بها الوقت على غير حساب، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلاًيقرب من الحقيقة، وقد سبق العرب إلى معرفة الطباعة فألف أبو بكر القدسي كتاباً في الخواص، وصنعة الآمدة وآلة الطبع غريب في معناه.

الطب والكيمياء: يقول ويلز: (لقد أزدهر علم الطب والتداوي عند العرب على حين كان الأوربيون يجهلون هذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه، إذ أن الكنيسة قد حرمته عليهم، وحصرت التداوي بزيارة الكنائس، والاستشفاء بذخائر القديسين، وبالتعاويذ والرقي التي كان يبيعها رجال الدين، ولقد كان لعلم الجراحة عند العرب أهمية كبرى؛ فقد كان جراحوهم يزاولن العمليات الجراحية الكبرى بطريقة علمية فنية، وساعدهم على ذلك ابتكارهم للمخدرات والمطهرات التي تشغل المكان الأكبر في علم الطب الحديث؛ على حين كان الأوربيون ينظرون إلى الجراحة كعمل منكر، ويستنكفون من النظافة لأنها تشبه الضوء عند المسلمين).

ونذكر من السابقين في هذا الميدان من أطباء العرب: طبيب طليطلة المشهور ابن الوافد (997 - 1074) صاحب كتاب (الأدوية البسيطة) الذي ترجم إلى اللاتينية أكثر من أربعين مرة، وقد وصف فيه أنواع من العلاجات، ترتكز على النظم الغذائية، وما زالت جهود العلماء حتى الآن منصرفة في هذا السبيل. أي بناء العلاجات على الأسس الغذائية.

ونذكر من الذين سموا بعلم الجراحة إلى مكان العلوم الراقية الجراح الكبير أبو القاسم خلف عباس الزهراوي، صاحب كتاب (التعريف لمن عجز عن التأليف) وقد شهد بنبوغه وتفوقه الجراح الكبير (فورج) فقال: لا شك في أن الزهراوي أعظم طبيب في الجراحة العربية، وقد أعتمده وأستند إلى بحوثه جميع مؤلفي الجراحة في القرون الوسطى. . . ويستحق كتابه في الجراحة أن يعد اللبنة الأولى في علم الجراحة)، وقد سبق الزهراوي إلى أشياء كثيرة، ومبتكرات عظيمة في علم الطب، فهو أول من بحث في علاج الأقواس الضرسية، ومعايب الفم، وضغط الشرايين، وهو أول من وصف عملية تفتيت الحصى في المثانة، واستخراجها بعملية جراحية، وعالج الشلل، ووصف كيفية استخراج الأجسام الغريبة من الإذن، وداوى الجراحات الكبيرة، ووضع أساساً لمعالجتها بالطرق الجراحية، ووصف علاج الباسور بالكي، وتكلم في فن الولادة، وهو أول من أستعمل خيوط الحرير في العمليات الجراحية، وعالج النزف بالكي، وما تزال أوربا حتى الآن تدرس نظرياته الطبية في جميع معاهدها.

ومن عباقرة العالم في هذا الباب أيضاً (أبو بكر الرازي) المعروف بأبي الطب العربي؛ ولكتب الرازي أهميتها العظيمة في علم الطب، فد وصف الجدري والحصبة، وعرف أعراضهما، ومعالجتهما، وطرق الوقاية منهما؛ وكان أول من أستعمل (الفتائل) في العمليات الجراحية، وكذلك الأنابيب التي يمر منها الصديد والقيح والإفرازات السامة، وقد ألف في الطب ما يناهز (200) كتاب وقد ترجمت جميعها إلى اللغة اللاتينية.

وكان الطبيب مروان بن زهر الأشبيلي مستفيض الشهرة في العالم الأوربي، فهو أول عالم بالطفيليات، وفي معرفة مكروب الجرب، وأول من وصف شلل البلعوم، والتهاب الأذن الوسطى، ووصف لبن الماعز في علاج الدرن.

وقد كان أبن رشد إلى جانب تفوقه في الفلسفة طبيباً لا يجاى، وما زالت كتبه تدرس في أرقى جامعات العالم، فهو أول من أشار وعلل الدورة الدموية كتابه (الكليات) الذي استمد منه وليم هارفي معظم نظرياته وبنى عليها. ومن أطباء العرب الأعلام موسى بن ميمون وله شهرة واسعة في عالم الطبابة.

وقد سبق العرب إلىمعرفة مرض النوم، وسموه النوام، ووصفوا علاجه وصفاً علمياً دقيقاً، وسبقوا أيضاً إلى استعمال الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة وقرح العين واستخراج الجريم العدسي الشفاف منها، وهم أول من عرف الطاعون وكيفية علاجه، وانتقال العدوى عن طريق الملابس والأوعية والحلي.

ومن آثار العرب التي سبقوا إليها، تأسيس البيمارستانات لمعالجة الأمراض العقلية؛ ويعزى إليهم الفضل الأول في إقامة المستشفيات، وكان نظامها وتجهيزاتها في غاية من الكمال والإبداع، وكانت إمبراطوريتها الواسعة تغص بآلاف من المستشفيات الراقية، وقد ذكر العلامة الأمريكي فكتور روبنصن أنه كان في طليطلة وحدها ما يزيد على أربعمائة مستشفى.

وقد برع العرب أيضاً في فن الصيدلة، ويشهد كتاب (الجامع في الأدوية المنفردة) لأبن البيطار بعلو كعبهم في هذا الباب فقد جمع فيه ما يناهز الألفين وصفة من أوصاف العقاقير المشهورة، ويعتبر هذا الكتاب اليوم في العالم الأوربي مرجعاً أساسياً في الوصفات الطبية والعلوم الغذائية وقد سبق العرب الأوربيين في وضع الأواني الزجاجية الكبيرة التي تحتوي على السوائل الملونة عند مدخل الصيدليات، وقد ميزوا بين مخازن العقاقير و (الأجزخانات) وإلى العرب يرجع الفضل في إدخال التمر الهندي، والمسك، والسنامكي، وجوز الطيب، والرواندي، والتمر، وعرق السوس، والكافور، والقرنفل، والزعفران في تركيب الأدوية، والوصفات الطبية. وقد تعلم الأوربيون من العرب أيضاً طريقة طلاء الحبوب العقارية بالورق المذهب، وتقطير ماء الورد، واستعمال المقيئات.

وأما في علم الكيمياء. فللعرب مكانة لم ينازعهم عليها أحد فهم الذين اكتشفوا الحامض الكبريتيك. وقد اكتشفه الرازي وسماه (بزيت الزجاج) وقد اكتشف أيضاً هذا العالم الجليل الكحول، وذلك باستقطار المواد النشوية والسكرية المختمرة، وألف في استخراج الذهب من المعادن الأخرى.

ومن أفذاذ العرب في هذا العلم أيضاً (جابر بن حيان)، ويقول المسيو برتيلو في الجزء الثالث من كتابه (الكيمياء في القرون الوسطى): (إن كتاب جابر بن حيان في الكيمياء هي غاية ما وصل إليه العقل العربي من الابتكار، وإن كل المشتغلين بهذا العلم من بعده كانوا عالة عليه نقلاً وتعليقاً).

وقد حاولوا كيمائيو العرب العثور على إكسير الحياة، وعلى اكتشاف حجر الفلاسفة، وكتبوا كثيراً في خصائص الفلزات واللافلزات، وعملوا لها جداول علمية دقيقة، وعرفوا ماء الفضة والقلي، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر، وحجر الكي، والسليماني، وصنع الصواريخ، والنترات الفضية، والغول، وكيفية استخراج المعادن كالذهب والفضة، والنحاس والبرونز، والفولاذ، وعرفوا أيضاً طرق الصباغة الفنية، وعمل الأواني الفخارية، وتحضير الورق من القش، وعمل الأشياء الجلدية الثمينة، واستخرجوا السكر من القصب والألوان من الأعشاب.

(يتبع)

خليل جمعة الطوال