مجلة الرسالة/العدد 693/الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 693/الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1946



بحث للعلامة الأثري أريك بيت

للأستاذ أحمدنجيب هاشم

الرفيق:

أحدث الغزو الأجنبي تغييرات في المجتمع، فأصبح الرقيق الأجنبي طائفة خاصة، وكان أغلبهم من الشام وقليل من النوبة، ولذا أصبحت لفظة (عام) مرادفة لرقيق في عهد الأسرة الثانية عشرة - ولم يكن هؤلاء الأرقاء ملحقين بخدمة الأفراد فقط، بل كان الكثيرون منهم يلحقون بخدمة المعابد كنصيب الآلهة في غنائم الحرب. على إن نصيب المعابد لم يقتصر على الرقيق، بل كان ينالها عدد كبير من الماشية ومقدار عظيم من الغلال، وكثير من الغنائم المختلفة التي تعود بها الحملات الخارجية - وقد أدى ذلك بطبيعته إلى زيادة ثروة طائفة الكهنة وعددهم، فقويت هذه الطائفة حتى استطاعت بعد ألف سنة أن تخلع الفراعنة من عروشهم.

مركز النساء:

ولم يكن مركز النساء في هذا المجتمع حقيراً بأي حال، ولكن مجال السيدة كان في البيت، ولذا كان لقبها (بنت بر) أي ربة المنزل، ونراها في النقوش ممثلة بلون أصفر خفيف. أما الرجال، فكانوا يمثلون بلون نحاسي داكن نظراً لقضائهم أغلب وقتهم في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس - وكانت السيدة تقوم بالأعمال المنزلية المختلفة من خبز وعمل الجعة وغزل ونسيج، وقد يساعدها الرجل في كل ذلك أحياناً - وكان الزوج يحب زوجته، ونراها في النقوش الظاهرة على جدران المقابر جالساً وقد وضعت ذراعها وراءه، أو مرافقة له في نزهاته للصيد في المستنقعات، وكانت ترسم عادةً في هذه الظروف بشكل أصغر، ولعل ذلك دلالة على أنها كانت تأخذ بنصيب أقل في هذه الرياضة

ولا نعرف عن الطقوس الخاصة بحفلات الزواج شيئاً ما، وجرت العادة أن يكتفي الرجال بزوجة واحدة، ولكن هناك أمثلة كثيرة لرجال اتخذوا زوجتين أو أكثر. والظاهر أن القانون لمن يمنع تعدد الزوجات، وقديماً أيام الأسرة الخامسة أوصى الحكيم بتاح حتب وزير الملك إسيسي بمحبة الزوجة، فقال نصائحه المشهورة: (كون لنفسك منزلاً، وأحب زوجتك، وأكفها حاجتها من الطعام والملبس، وقدم لها العطر، فإنه دواء لها، وأدخل على قلبها السرور مدة حياتك، إن المرأة حقل نافع لزوجها إذا أحسن معاملتها!)

الزواج من الأخت:

كثيراً ما يقال إن الملوك المصريين كانوا يتزوجون من أخواتهم، ولا جدال في أن البطالسة فعلوا ذلك، بل هناك أمثلة أقدم منهم عن هذا النوع من الزواج، ولكن ليس لدينا ما يدل على أنه كان قاعدة عامة، فإن إشارات القصائد الغرامية إلى الصديقة بلفظ (أختي) جعلت البعض يعقدون أنها تشير إلى وجود هذه العادة، ويجب أن نشك في صحة هذا الاعتقاد، لأن التعبير في هذه الأحوال ق يكون مجرد لفظ تقدير وإعزاز

كذلك يعتقد البعض أن الوراثة كانت تؤول عن طريق الابنة الكبرى، ولكن الأمثلة التي ضربت لتأييد ذلك تدل على أن الميراث آل إلى البنت ونسلها في حالة موت أبناء الرجل دون أن يتركوا وريثاً.

النساء الكاهنات:

وقد لعب النساء دوراً هاماً في نظام الكهنة، فكان يعهد إليهن - بصفة خاصة - الحفلات الموسيقية التي كانت تقام للآلهة من ذكور وإناث؛ وفي عهد الدولة الحديثة أصبح أولئك الكاهنات الموسيقيات محظيات للإله آمون رع، وكانت تعرف رئيستهن بزوجة الإله؛ والظاهر أن هذه الحالة وجدت في عه الدولة الوسطى أيضاً.

المنازل وهندستها:

نعرف تفاصيل الحياة المنزلية من الرسوم الكثيرة الواردة على جدران المقابر، بيد أننا لا نعرف إلا الشيء القليل عن البيت العادي، إذ لم يبق من بيوت الدولة الوسطى أو القديمة سوى بيوت مدينة صغيرة بنيت خصيصاً في اللاهون للعمال الذين اشتغلوا ببناء هرم الملك سنوسرت الثاني؛ وأغلب هذه البيوت أكواخ للعمال والبيوت القليلة التي أعدت لمراقبي العمل كانت أكبر حجماً، واختلفت اختلافاً كبيراً عن منازل الدولة الحديثة التي نعرفها جيداً من آثار تل العمارة أجل، لقد كانت مادة البناء واحدة في الحالتين، فاستعمل اللبن والخشب؛ كذلك حوى كل بيت بهواً بأعمدة يقوم السقف عليها ويدخل إليه النور من نوافذ في أعلى الجدران فوق مستوى أسقف الحجرات المجاورة؛ ولكن بينما نجد في منازل تل العمارة نافذة للبهو الأوسط مفتوحاً نصفها نحو السماء إلى الجهة الشمالية والغربية، نرى البهو الأوسط في بيوت اللاهون يتقدمه حجرة فسيحة بعرض البيت، ويتقدم هذه بهو ذو أعمدة

الأزياء:

والآن، فلنحاول أن نتخيل سكان هذا البيت هناك. أولا: رب الأسرة، ويرتدي في الأحوال العادية إزاراً قصيراً من نسيج الكتان الرقيق يصل إلى ما بعد ركبتيه بقليل، وقد يلبس في مناسبات أخرى فوق هذا الإزار قميصاً أطول يصل إلى عقبيه - وقد يكون في بعض الأحوال لحمايته من البرد، ولذا كان يصنع من نسيج أكثر سمكاً - ولكن لم يكن ذلك شرطاً أساسياً، فكثيراً ما كان يصنع من كتان رقيق جداً، فيظهر القميص القصير الذي تحته

ومن الملابس النادرة التي تلبس في الحفلات، ويلبسها الملك بصفة خاصة، قميص الصيد، وهو قميص من الكتان ذو ثنيات يربط جانباه إلى الأملم، وبينهما مبدعة مثلثة الشكل مصنوعة من نسيج القميص نفسه؛ ويلبس رب الأسرة في قدميه نعالاً مصنوعة من البردى، أو من الجلد، وتلبس زوجته ملابس بسيطة من الكتان الأبيض، هي مهلهل ضيق غير مكمم، كاس للجسم من الثديين إلى القدمين ومثبت فوق الكتفين بشريطين من النسيج نفسه، وكانت تلبس فوقه في الحفلات والولائم قميصاً آخر به خيوط من الخرز. وهكذا كانت الملابس في الدولة الوسطى تمتاز ببساطتها، أما في الدولة الحديثة فقد تعددت الأزياء

واعتاد صاحب البيت أن يقص شعره قصيراً أو يحلقه بالموس وأن يضع على رأسه في الحفلات الرسمية قلانس شعرية، وهذه القلانس نوعان: أحدهما قصير الشعر أجعده، والآخر شعره طويل ناعم مفروق في الوسط، وكانت الزوجة تترك شعرها مرسلاً إلى الأمام في ضفيرتين على كتفيها، وليس لنا أن نفرض أنهما من الشعر الطبيعي، لأن هناك رسوماً كثيرة عن نساء راقيات وفتيات صغيرات لا يثقلون أنفسهم بالملابس، أما الكبار منهم فكانوا يتشبهون بوالديهم، فالأولاد يلبسون قميصاً قصيراً، والبنات يلبسن مهلهلاً طويلاً، ويضع الأولاد خصلة طويلة من الشعر، ويكتفي البنات بخصلة قصيرة.

الحياة المنزلية:

وليست الحياة في البيت حياة كسل أو خمول، فنجد في إحدى الحجرات الخدم يغزلون الكتان على مغازل أولية لا تزال تستعمل في الأمم المتأخرة، بينما يشتغل آخرون على النول الأفقي أو العمودي بنسج أنسجة تيلية تختلف خيوطها من حيث الدقة والمتانة، ولا تزال بعض هذه المصنوعات موجودة، وهي لا تقل جمالاً وجودة عن أجمل الحرائر الحالية - ولا نعرف إلا الشيء القليل عن استعمال الصوف في الدولتين القديمة والوسطى - بيد أن المعاطف الثقيلة التي نراها ممثلة أحياناً على التماثيل أو فوق النقوش، لابد أنها كانت مصنوعة منه

ونرى العمل قائماً على قدم وساق لإعداد الطعام في مطبخ البيت، ونجد النساء يطحن القمح بقطعة من الحصى على لوح كبير من الحجر، ويعجن الأرغفة في أشكال مختلفة من الشعر والشوفان ويخبزنها في فرن أسطواني من الفخار أو أفران من اللبن، ونلاحظ أن هذه الأفران كانت منخفضة ومفتوحة في عهد الدولة القديمة ومرتفعة ومقفلة بعدها

كذلك نجد صناع الجعة يأخذون الكعك المصنوع من الشعير أو حبوب البيشة ويكسرونه في الماء، ثم يضغطونه بعد أن يتخمر في مناخل رفيعة، ويعصرونه في أوان كبيرة، ويعبئ غيرهم العصير الناتج في قدرين طويلتين. أما النبيذ، فالراجح أنه لم يكن يصنع في المطابخ، بل قرب الكروم نفسها، فكان العنب يحمل في سلال، ثم يوضع في مكبس، هو لوح كبير من الحجر له سطح مجوف، ثم يدهسه خمسة رجال أو ستة ممسكين بحبال مربوطة إلى عمود أفقي مثبت فوق رؤوسهم، وبعد أن يصب النبيذ في قدر تحته يوضع العنب المدهوس في قطعة من القماش أو في زكيبة يلف طرفاها لفاً عكسياً بقطعتين من الخشب يمسك كل واحدة منهما رجل، وبهذه الطريقة يعصر العنب عصراً جيداً، ثم يوضع هذا العصير الأخير في قدر، وينقل العصير كله إلى قدر ليختم كل منها بالطين كما يفعل الفلاح اليوم بقدر عسله وجبنه، ويبصم الغطاء بخاتم أسطواني، أو في شكل جعران عليه اسم صاحب الكرم أو الموظف المسؤول عنه

وسائل التسلية: وقد اعتقد المصري أن الغرض من النبيذ هو إدخال السرور على نفسه، كما أولع بإقامة الولائم فكان الجار يدعو جيرانه ليقضوا معاً (يوماً سعيداً). ونرى في الرسوم الضيوف من رجال ونساء جالسين في هدوء يشاهدون ما أعد لهم من وسائل التسلية والسمر يشمون أزهار اللوتس ويحتسون النبيذ من الطاسة عندما تقدم لهم، وفي أثناء ذلك تعزف فرقة موسيقية على العود والقيثارة أنغامها الشجية، ويقوم المغنون بدورهم ويصفقون بأيديهم تصفيقاً منتظماً، ويعرض الراقصون والراقصات حركات بسيطة بالأذرع الأرجل والجسم. ويجب أن نذكر أن الموسيقى والرقص لم يكونا وسائل للتسلية فحسب، بل استعملا بكثرة في الحفلات الدينية والجنائزية.

ويظهر من الرسوم التي وصلتنا أن المصارعة كانت أكثر الألعاب الرياضية انتشاراً، ولم تقتصر الرياضة على الرجال، بل أخذ النساء بقسطهن فيها، ولدينا رسم واحد لسيدات يلعبن الكرة، ورسوم كثيرة عن سيدات يقمن بحركات بهلوانية، ولاسيما الشقلبة إلى الخلف. فإذا أراد القوم تسلية هادئة، لجئوا إلى ألعاب منزلية شتى يلعبونها بقطع ولوح خشبي أشبه بالشطرنج ومن أبسط الألواح التي عثر عليها وأقدمها لوحة عليها رسم في شكل ثعبان ملتف حول نفسه. ونرى ألواحاً أخرى مقسمة مربعات عددها أربعة وعشرون أو ثلاثون، تتحرك عليها القطع طبقاً لقواعد نجهلها، ولعلها اللعبة المعروفة اليوم باسم (السيجة) والتي لا يزال يلعبها كثيرون من أبناء الصعيد.

أحمد نجيب هاشم