مجلة الرسالة/العدد 692/الحلم والتحلم. . .
مجلة الرسالة/العدد 692/الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 2 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه)
حديث شريف
معاوية بن أبي سفيان:
استبد معاوية بأمر الشام بعد إذ جنح إليه سواده، وقامت بنصرته أجناده؛ فناوأ بهم (علياً) على عرش الخلافة، وأضرم على أهل البيت وأبناء العراق من شيعة أمير المؤمنين نار حرب عوان أعادت أيام الجاهلية جذَعة بعد أن عفَّت على تراثها أخوة الإسلام، ومسحت جراحها يد الشريعة السمحة. ومهما يكن من شأن معاوية فلقد كان صحابياً جليلا عامر القلب بالإيمان، زاخر النفس بالورع والتقوى، أشدَّ ما يكون خليفة حدباً على الإسلام والمسلمين، وأعظم ما يكون خشية على هذه البنَّيِة الناهضة أن تتصدع وتنهار، وهو يرى جوائح الحرب تعصف بقوائمها وتتحيف من دعائمها.
ولعله كان بسبيل أن يراجع أمر نفسه، ويتدبر السبيل للخروج بالمسلمين من هذا المأزق الذي التاثوا فيه عندما قُتل (علي) بيد ابن ملجم، فاستقر زمام الأمور بيد معاوية، وتدلت إليه قطوف النصر ثمراً جنياً.
ولم يصعب عليه بعد ذلك أن يعالج أمر الحسن بن عليّ بما يكفيه مؤنة قتاله ويدفع عنه شرَّ خلافه؛ فالتأمت صفوف المسمين وأغمدت سيوفهم، وسمى معاوية هذا العام عام الجماعة وكانت مسرته بالغة بما آل إليه أمر هذا الخُلْف، وثقته في مستقبله عظيمة عظَم قوته في حاضره، ثابتة ثبات كفاحه في ماضيه؛ حتى لأقبل غداة النصر على أعدائه من بني هاشم باسط اليدين بالمنحة وبالعفو وهو يقول:
يا بني هاشم: والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنك علة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة.
سلك معاوية نهجاً من التسامح امتلك به القلوب، وبقدر اطمئنانه على ملكه كان تسامحه وإغضاؤه، وعلى حسب مقدرته على الأخذ كان جنوحه إلى الإهمال والترك. يقول في خطبة له مشهورة ألقاها بالمدينة عام الجماعة: (والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دَبْر أذني وتحت قدمي).
وكأنما كان يخجل معاوية أن يحول بين أعدائه وما يتشهَّون من تناوله بألسنتهم؛ بعد إذ تناولهم هو وجنوده غير راحمين طعناً وضرباً بأطراف الرماح وأسنة السيوف. ولقد دخل وهو خليفة على صعصعة بن صوحان العبدي - وكان سجيناً عنده - فقال له صعصعة في حوار بينهما غير راهبٍ منه ولا خاش: أما والله مالك في يوم بدرٍ مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: (لا حلّي ولا سيري) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله ﷺ؛ وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله ﷺ، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟
فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلتُ جهلهُمو حلماً ومغفرة ... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
. . . لقتلتكم!
ولقد أسبغ معاوية عطفه على أهل الشام لسابق مأثرتهم عنده، وزادهم على العفو واسع العطية وجميل الإقبال، حتى لأفضل مرة بمائة ألف على أبي جهم بن حذيفة حين قال له: نحن عندك يا أمير المؤمنين كما قال عبد المسيح لابن عبد كلال:
نميل على جوانبه كأنَّا ... نميل - إذا نميل - على أبينا
نقلَّبه لنخبرَ حالتْيِهِ ... فنخبر منهما كرماً ولينا
وقسم مرة قُطُفاً (جمع قطيفة) فأعطى شيخاً من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه، فحلف أن يضرب بها رأس معاوية فأتاه فأخبره، فقال له معاوية: أوفِ بنذرك، وليرفق الشيخ بالشيخ!
كان تحلّم معاوية إذن تكفيراً لما سبق من ضروب الأذى أو وفاء لما مضى من سوالف الجميل. . . ولقد أراب ذلك كثيراً من المؤرخين - ممن سجلوا حوادث عصره - حتى لاتَّهموه في هذا الحلم المتصنع، ولم يثبتوه له كفضيلة يحمد عليها؛ وكان ذلك إما حقداً عليه وغمطاً لحقه، وإما توسعاً في استنباط سريرة نفسه، واستكناه بواعث تصرفه؛ جرياً على سنة المتفلسفين والنقدة من أمثال الجاحظ؛ فقد ورد في كتابه البيان والتبيين إنه قيل لشريك بن عبد الله: كان معاوية حليما! فقال: لو كان حليما ما سفه الحق ولا قاتل علياً، ولو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه، ولما أنكح إلا الأكفاء. ثم يقول الجاحظ: وأصوب من هذا قول الآخر: كان معاوية يتعرض ويحلم إذا أسمع، ومن تعرض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يظهر حلمه؛ وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك.
وكيفما كان الرأي في حلم معاوية فقد وطد بهذا الخلق الكريم ملكه، ومسح ببلسمه الجراح التي أسال دماءها؛ ولم يكن ليلومه على هذا التصرف إلا غِرٌّ مأفون، أو نزق أرعن سفيه، وكذلك كان ابنه يزيد الذي عتب على أبيه يوماً فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفتُ أن يعد ذلك جبناً (!!) فأجاب الوالد الحصيف: ليس مع الحلم ندامة ولا مذمة. . .
أبو جعفر المنصور:
يعد الناس أبا جعفر مؤسساً لملك بني العباس، بما بذل في ذلك من همة وأنفق من جهد. . . لكن سبقه إلى تبوَّئ عرش الخلافة أخوه أبو العباس السفاح، ومن ثم يصطلح المؤرخون على تلقب أبي جعفر بالمؤسس الثاني للدولة العباسية، ولقد أفضي اللواء إلى يده بعد أخيه فنهض بأعباء الكفاح وحده، وعنف على مناوئيه عنفاً مزق به أديمهم وفلَّ حدهم، إذا كانوا من القوة ومن الكثرة - وهو الضعيف بجدة ملكه القليل بعدة أنصاره - بحيث لا تجدي مع مثلهم المهادنة، أو تدفع من بأسهم المطاولة والمصانعة. كان ملك بني العباس كنبتة غضة لا تكاد تنهض على ساقها لتأخذ حظها من الغذاء والنماء؛ إلا أن يحيطها بسياج متين من القوة والبطش يرد عنها كيد الموتورين من بقايا آل مروان، وثورة الحاقدين من شيعة آل هاشم، وسائر من يتربصون به الدوائر من العرب. ولم تكن قد تهيأت بعدُ لخلفاء بني العباس تلك القداسة التي حظوا بها على تطاول السنين، وإنما كانت أكثر العيون تنظر إليهم كدهماء ارتفعوا على ظبات السيوف إلى تلك المكانة العلية التي بلغوها، فلا غرو إذن أن تكون ظبات السيوف وحدها هي التي تحفظ عليهم هذه المكانة، وتقرها فيهم وفي أحفادهم من بعدهم. قال عبد الصمد بن علي العباسي للمنصور يوماً: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو. فقال المنصور: لأن بني مروان لم تَبْلَ رمحهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء. فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة!
تلك كانت سياسة المنصور التي أخذ نفسه باتباعها مواجهة منه للمخاطر التي تتهدد ملكه؛ ولقد بعثته الريبة على أن يبسط يده بالعدوان إلى أقرب الناس إليه، من وزرائه وخاصته وأعوانه فضلا عن أعدائه والخارجين عليه. فاستقام للمنصور الأمر، وعنتْ له لوجوه رغبة منها أو كرهاً، حتى لعادت إلى نفسه بعد حين تلك الطمأنينة التي تفئُ معها النفوس إلى جانب من الحلم والإسجاح. . .
وكأنما كانت نفس المنصور قد غثيت لمنظر هذه الدماء التي أفاضها أنهاراً؛ أو عادت إليه ثقته ووقاره بعد أن طاحت بهما رهبة الحوادث، أو هو قد بلغ من نفسه هذا الزجر والتقريع الذي كان يلقاه به أمثال عبد الصمد بن علي من فضلاء أصحابه، وذوي الرأي والنصيحة فيهم؛ أو كأنما استشعر المنصور قلق الرعية من هذا الكابوس الجاثم فوق صدورها، ورأى مرجل الحفيظة والسخط يغلى في قلوب الناس فمال إلى شيء من التحلّم بقدر ما استراحت إلى ذلك نفسه، وكان عجيباً - عند النظرة غير الدقيقة - أن يصدر مثله عن مثله!
ولعله كان لا يزال يعالج هذا الأمر من نفسه، ويتكلف الدربة عليه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه. . . عندما اعترضه المعترض في خطبة له وهو يذكّر بالله تعالى فقال: أذكرك من ذكَّرتنا به يا أمير المؤمنين!
فكان من جوابه أن هشَّ للاعتراض وبش، وذكر الله واستعاذ به ثم قال: وما أنت يا قائلها فوالله ماالله أردتَ بهذا، ولكن ليقال قام فلان فقال، فعوقب فصبر، وأهونْ بها من قائل لو كانت. وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفيما ثبتت. . . ثم أخذ بقائم سيفه وقال: إن بكم داء هذا شفاءه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فما بعد الوعيد إلا الإيقاع؛ وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
كان المنصور - وقد ظفر برؤوس أعدائه - لا يضيره أن يعفو عن أذنابهم، وأن يضفي ثوب حلمه على من نهض مع الرؤساء من أوشاب الناس وعامتهم، لأن إشمال العقوبة لا يخلو من الظلم، والعفو عن العامة - وهم سريعو النفرة سريعو الفيئة - أقوم بأسباب الملك وأجمع لشمل الرعية، وأكفل بتقدم الحياة وانتظام العمران.
قال المنصور يوماً لجعفر الصادق: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي - يعني عند ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي فيهم - وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور عيونهم ويجمر نخلهم. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، فاقتد بأنهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون. فقال أبو جعفر: إن أحداً لا يعلمنا الحلم، ولا يعرفنا العلم! وإنما قلتُ هممت ولم ترني فعلت. وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم. . .
وتحقيقاً لهذه الأغراض البعيدة نفسها كان عفو المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، فإنه كان ممن شق عصا الطاعة، وداهن في شأن إبراهيم بن عبد الله العلوي. فلما صار إلى المنصور أمر الربيعَ فخلع سواده، ووقف به على رؤوس اليمانية في المقصورة في يوم الجمعة، ثم قال: يقول لكم أمير المؤمنين، قد عرفتم ما كان من إحساني إليه وحسن بلائي عنده، والذي حاول من الفتنة والغدر والبغي وشق العصا ومعاونة الأعداء. . . وقد رأى أمير المؤمنين أن يهب مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم!
وحمل إلى المنصور عبد الحميد بن ربعي بن خالد بن مِغْداق فقال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحداً من آل قحطبة بل أهب مسيئهم لمحسنهم وغادرهم لوفيهم.
وعفا المنصور عن عمه عبد الله بن علي بعد أن تمت هزيمته على يد أبي مسلم الخراساني، واكتفى باعتقاله حتى مات في محبسه.
وهكذا بدا المنصور قاسياً شديد القسوة، ثم تكلف من التحلّم ما أفضى به إلى قريب من الحلم، عندما استتب له الأمر وبلغت الطمأنينة من نفسه مبلغها.
(يتبع)
محمود عزت عرفة