مجلة الرسالة/العدد 692/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 692/الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 27 -
في ميدان السياسة:
ورضيت حكومة كرمول عن ملتن أعظم الرضاء وأصبح لديها المكين الأمين، ورفع كتابه ذكره في أنحاء أوربا، ومما ساعد على ذلك أن كثيرين كانوا يضيقون بترفع سلامسيس وصلفه ونظرته إلى الكتاب والأدباء جميعاً نظرة الزعيم الذي لا يرضي منهم بغير الإذعان له، وساعد عليه كذلك أن الناس عادة ينجذبون إلى الكاتب الجديد الذي يظهره موقف كهذا الموقف. هذا إلى أن ملتن كان يتغنى بالحرية ويدافع عن حق الشعب فتشيع في عبارته حرارة الوطنية، وهو إنجليزي يناضل عن بني جنسه، بينما يرى الناس سلامسيس يعمل لحساب غيره في قضية لا يربطه بها رباط إلا استجابة لشارل الثاني، وشتان بين موقفه وموقف خصمه. . .
وأصبح مقر ملتن في ديوان الحكومة كما أصبح بيته قبلة الزائرين من ذوي المكانة وأعلام الأدب من الإنجليز وغير الإنجليز من الأجانب الذين يهبطون إنجلترا، ولا ريب أن هذا قد أثلج فؤاده وأبهج نفسه، فما أشد ولوعه بنباهة الشأن وبعد الصيت!!
ويزعم جونسون أن ملتن قد نال جزاءاً على صنيعه ألف جنيه صرفت له بإذن من البرلمان، ولكن بايتسون ينكر هذا الزعم ويقول: إن جونسون هو المسؤول عن شيوعه في كل ما كتب عن ملتن من تراجم، فهو خالق هذا الزعم؛ والحق أني لم أجد فيما زعم جونسون برهاناً لزعمه ولا فيما أنكر بايتسون دليلا لإنكاره، ولعل جونسون تأثر بما قاله سلامسيس إذ أنه اتهم ملتن فيما اتهمه به بأنه مأجور يكتب ما يكتب لاعن عقيدة ولكن عن رغبة في الكسب، ويعتمد بايتسون في نفيه هذا عن ملتن على مجرد استبعاد حدوثه، فما يتفق هذا وما طبع عليه ملتن من كبرياء واعتزاز
على أن ملتن في الواقع قد ثمن ما كتب، ودفع ذلك الثمن غالياً لا يقوم بمال ولا بشيء من أعراض هذه الحياة، وأي شيء أغلى عليه من ناظريه؟ لقد كان ذلك المجاهد الحر يشكو العلة في عينيه منذ بضع سنين، وكانت تنتابهما غشاوة من حين إلى حين؛ وفي سنة 1650 ذهب النور من عينه اليسرى، وحذره الطبيب ملحاً، وما برح يكرر عليه أنه إذا أجهد عينه اليمنى، فهي ذاهبة كأختها لا محالة، ولكنه جاد على وطنه بما بقي من بصره، قال في ذلك بعد أن وقعت الكارثة بسنتين أي سنة 1654: (لقد كان علي أن أختار بين أن أنكص عن واجب سام أو أفقد بصري، وفي هذه الحالة ما كنت لأستطيع أن أصيخ إلى الطبيب. . . ولم يك في وسعي إلا أن أستجيب إلى ذلك المرشد القائم في داخلي، ذلك الذي لست أدري ما هو، والذي تحدث إليّ من السماء، واعتبرت في نفسي أن كثيرين قد اشتروا ما هو أقل خيراً من هذا بضر هو أعظم مما يتهددني من ضر، كهؤلاء الذين يبذلون نفوسهم مثلا ليشتروا المجد فحسب؛ وعلى ذلك فقد جمعت عزمي على أن أبذل ما بقي من بصري على قلته في أداء أعظم ما في طوقي أداؤه من خدمة للصالح العام)
ولقد أقبل المجاهد المصمم لم ينكص عن جهاده، وإنه ليعلم أن ذهاب بصره هو عقباه التي لامحيص عنها؛ وما دخلت سنة 1652 حتى حلت به الكارثة وا أسفاه، فحيل بينه وبين النور، وغشيته الظلمة، وهو لا يزال من عمره في الثالثة والأربعين وباتت عيناه اللتان كانتا أجمل ما في محياه الأبلج الحلو أقوى دواعي الحزن والألم لكل من تطلع إلى ذلك المحيا الكريم؛ وكانت الأرض يومئذ تأخذ زخرفها وتتزين للربيع، ولكن الشاعر الذي عشقت روحه الجمال لن يرى بعد اليوم جمالا لربيع!
وما نحسب أن في تاريخه على ما يزخر به من الشواهد على شجاعته شاهداً هو أجل من هذا أو أصدق منه أو أبعد أثراً في النفوس، وإنا لنحس حياله مثل ما نحسه حيال فارس ترك في الميدان شلوا من أشلاءه: أو سقى أرض وطنه بفيض من دمه!
ولأن فقد البصر يحول بين عامة الناس وبين متع الحياة، فذهاب بصر الشاعر أو الكاتب معناه الحيلولة بينه وبين طلب الحكمة، وهذا أوجع في نفسه وآلم لخاطره من حرمانه من اللهو ومن زينة الدنيا؛ ولنا أن نتصور وقع هذا في نفس كنفس ملتن، ذلك الذي ما انصرف يوماً عن القراءة والدرس على الرغم من كثرة شواغله وتعدد مشاكله!
البطل الضرير
أحاطت الظلمة بالشاعر العظيم، فهل ذهبت نفسه حسرات على ما أصابه؟ كلا، بل تماسك للخطب وقد أُنْذِرَ قبل وقوعه، وتذرع بالصبر، وإنه لذو كبرياء حتى على الدهر وأرزائه؛ وما كان لروح مثل روحه أن تهن مهما كرثته الأهوال ونزل به ما يعيا به الرجال!
وراح البطل يتلمس العزاء لنفسه، فكان عزاؤه الذي اطمأنت إليه روحه أنه أدى لوطنه صنيعاً جليل القدر بكتابه الذي رد به على سلامسيس، فليس ضاره بعد ذلك أن يذهب في سبيل صنيعه بصره. . .
وثمة عزاء آخر يدلنا على شدة اهتمام ملتن بنفسه وفرط اتجاه فكره إلى ذاته، وعظم انطواء شعوره على ما عسى أن يكون شعور الناس نحو شخصه لا في جوهره فحسب، ولكن في مظهره كذلك؛ وذلك ما أحس به من ارتياح، إذ علم أن ذهاب بصره لم يؤثر في مظهر عينيه؛ عبر عن ذلك الارتياح في قوله: (إن عيني لم يمسسهما في مظهرهما ضر، وإنهما لتلتمعان بضوء لم تحجبه غشاوة، ومثلهما في ذلك مثل عيني من يبصر بصراً تاماً، وهذه هي الناحية الوحيدة التي أجدني فيها على الرغم مني منافقاً)؛ وفي إشارته إلى ما عده نفاقاً منه سخرية عذبة وتهكم لا يخلو من مرارة. . .
ولندع ملتن نفسه يفصح عما جال في خاطره نتيجة لما أصابه، فقد عبر عن ذلك أبلغ تعبير وأصدقه في مقطوعة من مقطوعاته؛ وأشار إليه إشارة رائعة في مقطوعة أخرى، قال في الأولى: (إذا أنا تفكرت كيف انطفأ من حولي الضوء قبل أن أقضي نصف أيامي في هذه الدنيا الواسعة المظلمة، وكيف عطلت فيَّ تلك الملكة الوحيدة التي يعد تعطليها موتاً من الموت، بينما أجد نفسي أكثر نزوعاً لأن أخدم بها خالقي وأن أقدم حسابي الحق بين يديه، خشية أن يحق عليَّ لومه؛ إذا أنا تفكرت في ذلك تساءلت في حماقة: هل جعل الله النهار للعمل، بينما أحرم هكذا من الضوء؟ ولكن الصبر كي يقضي على هذه الشكوى لا يلبث أن يجيبني: إن الله غني عن عمل الإنسان وعن مواهبه فإن الذين يذعنون لسلطانه الرحيم خير إذعان هم الذين يخدمونه خير خدمة، وإن مكانته لهي مكانة الملك المهيمن، يجرى بأمره الألوف في البر والبحر دائبين، وكذلك يخدمه من هم واقفون لأمره منتظرون). . . وقال ملتن في المقطوعة الأخرى يخاطب صديقه سيريك سكنر: (أي سيريك، منذ ثلاث سنوات وهاتان العينان وهما من النور سليبتان، ولو أنهما سليمتان في مظهرهما الخارجي من العيب ومن الغشاوة قد نسيتا إبصارهما، ولا يقع في مقلتيهما المكفوفتين منظر لشمس ولا لقمر ولا لنجم خلال العام ولا لرجل ولا لامرأة، ومع ذلك فلست أشكو يد الله ولا مشيئته، لا ولا ينقضي شيء من حماسة القلب ومن الأمل، بل أحتمل وأمضي قدماً، ولعلك تسأل: ماذا يعينني؟ إلا إنه شعوري أيها الصديق بأني فقدتهما مرهقاً بالعمل في سبيل الدفاع عن الحرية، ذلك العمل النبيل، عملي الذي ترن به أوربا من جانب إلى جانب؛ وإن هذا الخاطر لخليق أن يقودني في متاهة هذه الدنيا، فأسير به رضيَّ النفس، ولو أنني أعمى ولم يتح لي غيره رائداً أسمى)
واختير له في أبريل سنة 1652 مساعد يصرف شؤون وظيفته بأمره، ويقرأ له ما يقتضيه عمله من قراءة، ويكتب ما يميله عليه مما يستدعي العمل أن يدون؛ وأقبل ملتن على عمله كأن لم يعقه عنه عائق، يشعر من يدانيه أنه رخي البال مطمئن الخاطر، لا يفتر اهتمامه بالسياسة، ولا يتخاذل عزمه أو تتطامن كبرياؤه. . .
وفي مايو استطاع ملتن ولم يمض شهر على مصيبته أن ينظم مقطوعة وجهها إلى كرمول عنوانها (إلى اللورد جنرال كرمول) ولم يك كرمول يومئذ قد سمي حامي الجمهورية بعد، وإنما كان بسبيل أن يحمل هذا اللقب، إذ كان ينظر إليه كأعظم رجل في الدولة، وألزم شخصية لسلامتها إذ ذاك، وقد نجاها بعد هزيمة الملك مما كان يتحيفها من مهالك، فأعاد النظام إلى أيرلندة سنة 1649، وهزم الملكين في إسكتلندة سنة 1650 والتي تليها وأجبر شارل الثاني على الفرار إلى فرنسا؛ وبذلك قبض على أزمة الحكم في المملكة جميعاً، ولم يبق يستدعي حكمته وهمته إلا ما يتصل بالناحية الدينية، فقد كثرت الفرق والطوائف التي يخشى من اختلافها بعضها مع بعض، فهناك قساوسة شارل الأول، وهناك البرسبتيرينز ثم المستعلون؛ وتركت بعض الكنائس بغير رعاة من هؤلاء ولا من هؤلاء؛ ودعا فريق إلى أشراف الدولة على الكنيسة بحيث يتمشى النظام السياسي الجديد مع نظام ديني يشاكله، ورغب فريق آخر إلى القضاء على الكنيسة الإنجليكانية، أي كنيسة الدولة الباقية من عهد شارل، واقترح بعض المستقلين وضع نظام جديد لكنيسة لا يقبل فيها رجل من رجال الدين إلا إذا أقر خمسة عشر مبدءاً أساسياً وضعها هؤلاء، وإذ ذاك لم يرض ملتن عن هذه القيود، واهتاجه الحنين إلى الدفاع عن الحرية، وتخالجه السخط على هؤلاء الذين يريدون شراً بالحرية الدينية في عهد الحرية السياسية، فنظم مقطوعة يناشد ملتن أن يتجه من شؤون الحرب إلى شؤون السلم ليدافع عن الحرية الدينية في مهارة وجدارة، كما دافع عن الحرية السياسية!
وكأنما كان بين ملتن وبين القدر ثأر، فلم يكد يفيق مما غشيه ويذهب عنه روعه، حتى روع بموت وحيده الطفل فأرمض جوانحه الحزن، وكان لا يذكر ولده أو يقع في سمعه إشارة إليه من قريب أو من بعيد إلا تبادر دمعه فامتلأت به عيناه الكفيفتان فما استطاع - وهو القوي الجلد - أن يحبسه! وضربه الدهر ضربة أخرى ولما يرقأ دمعه، إذ ماتت زوجته بعد ابنها بشهر وبعض شهر في يونيو سنة 1652، وقد وضعت له أنثى فتركتها في سرير الوضع ووسدت التراب وهي بعد في السادسة والعشرين وقد مضى على زواجها بملتن تسع سنوات، وعاشت معه نحو سبع سنوات بعد أن صلحت ذات بينهما
وهكذا تتوالى عليه المحن وتتنوع صروف الدهر فتمحصه وتثبت فؤاده، ويجمع في حياته بين وجهي الشجاعة، فله إلى جانب إقدامه وحميته عظم صبره وصرامة عزيمته!
وحق له أن يستريح من السياسة ومتاعبها، وأن يطلب العزاء في قيثارة وله في هوميروس من قبله أسوة، وما يكون له بعد ما حاق به عزاء إلا الشعر، لعله يقضي منه مأرب صباه ومنزع هواه بعد أن شغلته عنه الحوادث سنوات طويلة
ولكن البطل الضرير لم يكد ينزع إلى الراحة ويستثني نسائم الشعر، حتى انبعثت صيحة جديدة من نفس المكان الذي انبعثت منه الصيحة الأولى، فنشر في هيج كتاب جديد باللاتينية سماه صاحبه (استصراخ دم الملك السماء على الخائنين من الإنجليز) وأخذ مؤلفه يسخط على كرمول وجنوده في عبارات شديدة تجد مثالا لها في قوله: (إن جريمة اليهود بصلب المسيح ليست شيئاً مذكوراً إذا قيست بإعدام شارل الأول)؛ ثم راح يمتدح سلامسيس ويطنب في مدحه ويغلو في ذلك غلواً كثيراً؛ وبقدر ما أسبغ على سلامسيس من مدح كانت سهامه التي قذفت بها ملتن، فهو عنده دودة تدب من كومة قمامة، وهو أحط من القرد وأكثر ضآلة من البقعة، وهو أرنب فاتر وصعلوك جائع هزيل، وإنه لجاهل طرد من كمبردج لاستهتاره وتبذله. وفر إلى إيطاليا لما لحقه من عار إلى غير ذلك من عبارات أقل ما توصف به أنها البذاءة في أشنع صورها وأرذلها.
(يتبع)
الخفيف