مجلة الرسالة/العدد 692/علوم البلاغة بين القدامى والمحدثين
مجلة الرسالة/العدد 692/علوم البلاغة بين القدامى والمحدثين
للأستاذ كامل السيد شاهين
مدرسة الرسالة، لها طابعها الخاص، في المساجلة والنقاش على هذا أسست، وامتحنتها الأيام بضروب من المحن، فثبتت على الزعازع، وانتصرت على الأغراض والأهواء. يعلم ذلك من تابع (الرسالة) منذ مولدها الميمون إلى حاضرها الزاهر.
فالرسالة للجميع بلا تفضيل ولا إيثار. لأن البحث والدرس يلدان الحقيقة التي كانت نشدة أصحاب العقول منذ خلقت الفلسفة وبهما تقررت الحقائق وثبتت، ولم يسفها التضليل مع السافيات.
إذا تقرر هذا، فليسمح لي الزميلان: الطنطاوي والعماري، أن ألفت نظرهما في رفق إلى مزالق ما كنت أحب لهما أن يتورطا فيها، أو ينحدرا إليها فقد راع الأول أن يقول أستاذ البلاغة في الجامعة (الله يقول لنبيه: يا أخي أنت حارق نفسك ليه؟). وراح يزعم أن هذا إشراك وكفر، ويستعدى على الجامعة والجامعين، ويثير الناس ليداركوا أبناءهم أن يجرفهم تيار الشرك والإلحاد!
بالله هوِّن عليك يا علي!، فليس ثمة شرك ولا كفر، وأنت أخبرُ الناس بذلك، وأدراهم أن هذه الكلمة قد فقدت حقيقتها في أفواه الناس، ألم تسمع إلى الفلاح يهز حماره، ويقول يا أخي سِرْ! أفتراه قصد أخوة النسب أو الرضاع، أو الآدمية، أو الحمارية. لا: إنما هي كلمة تحننٍ وتعطف! وشبيه بهذا قول السائق لحصانه: يا شيخ! والنظائر في هذا أكثر من أن تحصى.
فلا تُرَعْ، ولا تستنفر وأبق على الجامعة والجامعيين، ودَعْ حديث الكفر والإلحاد فقد جنت مصر ثمراً مراً في دهر طويل، كانت حَرِيّة أن تصرفه فيما يفيد ويغنى!
ثم اللغة العربية، ليست لغة الإيمان والإسلام، فقد سبقت الإيمان والتوحيد بقرون طويلة، فإن أبيْتَ إلا أن تخرُج لغة مؤمنة مسِلمة موحدة، فدونك فامنع دراستها في كلية اللغة ودار العلوم بمصر، ودار العلوم ببغداد، وأنشئ لك اللغة المباركة التي ولدت مسلمة وشبت مسلمة، ثم أدعنا، وأنا - إن شاء الله - لمستجيبون! وأظن هذه لمحة دالّة في علاقة اللغة بالإيمان والإسلام. فإن غُمْت فسنفرد لها مقالا خاصاً يضم الشتيت ويجمع المتفرق.
وأما أنت يا عماري، فكنت بمنجاة من اللوم، إذ عرضت للأسلوب الذي تدرس به البلاغة في الجامعة فلكل امرئ فيما يحاول مذهب، وما كنت أحب أنه سيغريك نقدد الأسلوب بنقد الآراء، فأما إذا انحدرت إلى هذا فهُلمّ!:
(1) تقول: (إن الفكرة المتسلطة علي في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعاً لمعان نفسية).
إي نعم، يا علي، أأنت قرأت تعريف البلاغة؟ إن الذي لا يخلف فيه اثنان هو أن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولا أزيد بياناً ولا بسطاً، ولكن هذه المطابقة لا تكون إلا إدراك المتكلم لنفسية السامع وما تحوي من ملابسات، فهذا هو فحوى كلام الأستاذ الخولي، أفتماري في هذا؟ إذن فهات تعريفك أنت لعلم البلاغة فأنا منتظرون!.
(2) تقول: (أن الأستاذ لا يؤمن بالماديات الصرفة، ولايستحسن تشبيه الفرس بالثلج في البياض)؛ فهو ذاك يا صاح! فإنه لا يجمل إلا حيث يكون للبياض مزية كالمساعدة على الاختفاء، وعدم ظهوره في آل الصحراء، فأما إذا لم تعتبر هذه المزية فلا فضل لأبيض على أبلق أو كميت! وذلك هو ما قصد إليه الأستاذ من تنبيهه على تفاهة التفضيل المقتضى للتشبيه في بيت ابن الزَّبير الأسدي.
(3) عاب أستاذ الجامعة البيتين:
ولازوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها بين قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
وخلاصة العيب أن الشاعر شبه صورة بصورة في الوضع واللون، ولم يلتفت إلى ما وراء ذلك من إيحاءات وأفاعيل، ينتظرها السامع من شاعر!
وقد خالف عليه الأستاذ العماري بأن الفن يوجد في المعاني كما يوجد في الماديات.
وليس هذا بالكلام يصغى إليه، فالماديات بحتة لا تأثير لها وإنما التأثير لما يتعلق بها من مِعانٍ، أفإن قلت: إن تمثال الزهرة كالزهرة كنت مشبهاً تشبيهاً مصيباً مؤثراً، لا إنه لاعتبار إلا لما يوحيه ويستلزمه هذا التشبيه من دقة الصناعة والمهارة في المشاكهة بين زهرة الورق أو الصلصال وأختها الطبيعية الحية.
يا سيدي: إن مثل التشبيه في البيتين في خلوه من الروح كمثل من يرى بقعاً من دم قتيل أو طائر منثورة على الرمال، ثم يسير فيجد خرزات حمراً مستديرة فيفاجأ السامع: أتدري؟! إن بقع الدم التي رأينا كهذه الخرزات احمرارها احمرارها، واستدارتها استدارتها، وحجمها حجمها، وانتثارها على غير نظام انتثارها! أفيعجبك هذا ويكون تشبيهاً غريباً عجيباً مصيباً مستحقاً للإطراء والثناء؟!
أحسب أن لا!.
ذلك أن السامع حين يُذكر الدم تعتريه الرهبة والإشفاق والرثاء لصاحب الدم المطلول، وحب التشفي ممن سفكه، ولا يخطر له ببال أنه مستدير أحمر منثور على غير نظام.
فمثل هذا التشبيه عبث ولغو وشعبذة، وسقوط بالقيم الفنية للشعر إلى حد سخيف!.
وهمسة أهمسها، لا بل مجلجلة أعلنها لا متردداً ولا هائباً، تلك: أن الثقة بأذواق النقاد القدامى يجب ألا تطرد، وأن استشهادهم يجب أن يكون موضع نظر جديد، وأن الاستشهاد بآرائهم يجب أن يعرض على محك التمحيص. ذلك بأنهم - على جلالتهم - قد شملهم ذوق العصر ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضة طرية، عطلا من زينة وحلية، وأثر البيئة أثر جليل في الأذواق والعقول، ومن ثم كانت تفاهة الإستشهادات، والتخريجات، وكان لجوءهم إلى الفلسفة والناحية العقلية هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، واتخذوا المبالغة أساساً للتفضيل، ولم تظهر لهم الزينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصّيغ والألوان والشعبذة اللفظية. إذا ثبت هذا فأعفني - عافاك الله - من استحسان البلاغيين، وعدم استحسانهم، فنحن نسأل الذواقين من أمراء البيان. فطه حسين والزيات، والعقاد، وأحمد أمين، وخليل مطران، أولئك المحكَّمون ترضى حكومتهم. فأما السعد والخطيب فلا نعيبهما ولكن نقول غلبت عليهما شقوة العصر وفساد الذوق، وقوة الفلسفة!.
فكلام عبد القاهر في أن التباعد كلما زاد كان موجباً لارتياح النفس ليس مطرداً، وليس أدل على هذا مما سقته لك مثلا من تشبيه الدم بالخرز الحمر.
(4) وأما حسد جرير لعدي بن الرقاع العاملي عندما أنشد:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فناحيته أنه أعرابي لا يعرف التحبير، ولم يخبر من المدنية ما يطوع له أن يعرف قراطيسها، ومحابرها وأقلامها، فظن جرير أنه لن يهتدي إلى شيء يشبه به رُوق الأغن، فلما أصابه حسده جرير. ألا تراه يقول: (قلت: قد وقع! ما عساه يقول؟ وهو أعرابي جلف جاف!).
فأنت قد وقعت - يا علي - في سِرّ حسَد جرير، ولم تدره فظننت أنه إنما حسده لأنه كان تشبيهاً بارعاً مصيباً له تأثيره وجماله، وما هو بذاك.
(القاهرة)
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية