مجلة الرسالة/العدد 692/الخائبون. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 692/الخائبون. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1946



للأستاذ عبد الوهاب الأمين

إن أولئك الذين يقسمون الحياة إلى قسمين: ملهاة، ومأساة، قصيرو النظر؛ فالحياة أكبر من هذين، وهي تحويهما لأنها أوسع من أن تحِد بحالتين فقط، وإن كانت هاتان الحالتان تمثلان طرفي نقيض

وحيث تنتهي الملهاة تبدأ المأساة في حياة كل فرد أو مجموع، كما أن نهاية المأساة قد تكون بداية لملهاة جديدة. . . وهكذا

والناجحون في الحياة هم أناس رأوا منها جانباً واحداً فقط. وبينهم وبين أن يدركوا معنى الحياة بصورة شاملة عبور الجانب الآخر. .

ولا يضير هذه القاعدة أن يعيش في الدنيا أناس جربوا النجاح حتى آخر لحظة من حياتهم، أو أن يكون هناك آخرون لم يصادفوا غير الفشل. فالواقع أن هؤلاء هم الشذوذ الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها.

ويجب أن نفسر ما نرمي إليه من النجاح أو الفشل في الحياة الفردية، فقد يفهم كثير من الناس من النجاح جانباً واحداً مثلا، وقد يكون هذا الجانب هو الثروة عند الفقراء، أو الصحة عند المعلولين، أو سواء الخلقة عند المشوهين.

ولكن النجاح الذي نرمي إليه هو قدرة الفرد أو المجموع على بلوغ مثل أعلى لا يتقيد بحاجات الفرد الزمنية أو المادية، وينطوي على فكرة سامية وهدف مقصود.

والخائبون في بلوغ هذا الهدف، مع استمرار كدهم، هم الذين يستحقون العناية، لأنهم بذلوا جهدهم كله، وما زالوا يبذلون. . .

قيل إن غادة جميلة لم يأسر قلبها حب، ولم تجرب بعد زكامه، اختصم حولها رجلان كان كل واحد منهما يظهر لها أقصى غاية الحب والتضحية. . . فحارت في أمرها، ولم تجد في قلبها هوى معيناً نحو أحدهما على التخصيص فصممت على أمر!

قالت لهما: إنها لا تشعر بميل قطعي إلى أحدهما، ولكنها ستهب نفسها للفائز منهما في صراع ينشب بين الاثنين، يقرر الغلبة لواحد منهما!

واصطرع العاشقان وتمت العملية بفوز الفائز والتفت هذا مفتوح الذراعين ليحتضن أمنيته في الحياة. . . فما راعه إلا أن رآها منكبة على العاشق المصروع، تضمد له أوجاعه، وتهب له قلبها!!

فلما سئلت: لماذا غيرت رأيها؟ أجابت بأنها لا تستطيع إلا أن تحترم ذلك الذي أفنى كل جهده في سبيل الحصول عليها، ولم يبق لديه بعد ذلك شيء يغنيه!!

وهذه المرأة سليمة الشعور، قويمة العاطفة، وهي خير مثال يضرب لفكرة تقدير (البطل الخائب)، وإن كان هو في هذا المثال قد خرق القاعدة فنال ما تمناه بسهولة. . .

والنجاح السهل الذي يخيل لبعض الناس أنه ميزة يمتاز بها بعض من حبتهم الطبيعة ما يسمونه (الحظ)، وقد شوه الواقع تشويهاً، وأصبح من جملة الشرور البشرية التي يكابد منها كل فرد في كل مجموع!

النجاح السهل هو ما يريده كل الناس في كل الأزمان، لأنه خير اختصار للمجهود الشاق الذي ينبغي على الحي أن يبذله في سبيل حياته!

وأسطورة (الحظ) هي الحلم الذي يطرق أخيلة الطامحين بعد كل كابوس!

وليس معنى هذا أن ليس هناك (حظ) في الدنيا، ففيها كثير من الحظوظ والمحظوظين، ولكنهم - هنا أيضاً - القلة التي تثبت القاعدة ولا تنفيها.

ومن هذه الأسطورة نشأت شرور (الحياة الحالمة) التي تبدأ بالمراهقة، وقد تنتهي بالسجن والعذاب، أو بشفاء المسؤوليات التي لا يستطيع الفرد أن يضطلع بها.

والحالمون هم أولئك الناس الذين يريدون أن يختصروا الطريق إلى غاية معينة لكي ينصرفوا - من بعدها - إلى المثل الأعلى الذي يسعون إليه، فلا تنتهي حياتهم قبل أن يقطعوا الطريق، وتلتاث أفكارهم في الصراع على الآونة الحاضرة، ويصبح المستقبل عندهم أبعد من الماضي.

والمقامرون هم خير مثال لذوي الحياة الحالمة إذ كان مثلهم الأعلى هو الثروة! والموسوسون هم خير مثال لأولئك الذين يريدون السعادة الطهرية من أقرب طريق!

أما شر ما يمكن أن يصنعه (الحالم) في الدنيا، فهو بعد أن يتحقق حلمه الأول

فليست هناك قوة تقنع الإنسان بعد تحقيق أول حلم له بأنه غير موهوب وذي رسالة ينبغي عليه أن يؤديها ومن هنا يبدأ النزاع الأبدي بين المنطق والواقع، ويشتد الصراع بين قوة دافعة، وبين واقع واقف كالجدار

ونحل النكبة عند اختراق أول جدار، لأنه يفك أسر جميع ما في الفرد من قوات مخزونة لكي يندفع إلى الأمام

ولا تنتهي حياة كهذه إلا بكارثة، وأهون الكوارث في هذا المضمار هي الكارثة تقتصر على الشخص الفرد نفسه، ولا يشترك معه آخرون

وما هذه الحرب التي نكابد شرورها إلا نتيجة كابوس طويل لرجل حالم تحقق حلمه الأول!

الخيبة مرحلة من مراحل الحياة يجب أن يتخطاها الفرد لكي يكون ذا تجربة

ولا يضير هذه القاعدة قول (أوسكار وايلد) إن: (التجربة هي اللفظة التي اصطلح الناس على تسمية أخطائهم بها)

فالواقع أن الخطأ كالخطيئة، وكما أن الخطيئة عمل إيجابي قائم بذاته، فكذلك الفضيلة، وكل فضيلة مبنية على السلب فهي شق ينبغي تكملته

وكل نجاح سهل يحصل عليه الإنسان، فهو الشق الناقص من حياته، وينبغي تكملته

ومن لم يصطرع في حياته تهشم عند أول صراع بعد نجاحه

وليس انتحار الموسرين والأصحاء والموهوبين إلا لأنهم حازوا أكبر نجاح بأقل خذلان، ولأنهم اصطدموا بالواقع لأول مرة في حياتهم، جاءت الرجة أقوى مما يتحملون

ولهذا فلن يكون مما يضير الإنسان الكامل الإنسانية أن يكون (خائباً)!

عبد الوهاب الأمين