مجلة الرسالة/العدد 691/من أحاديث الإذاعة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 691/من أحاديث الإذاعة:

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1946



عيدي الذي فقدته

للأستاذ علي الطنطاوي

يا آنسين بالعيد، يا فرحين به، هل تسمعون حديث رجل أضاع عيده، وقد كانت له أعياد، أم يؤذيكم طيف الشجى إذ يمر بأحلام أفراحكم الضاحكة؟ إذا كنتم تصغون إلى حديثي فلكم شكري، وان انتم أعرضتم عني فما يضرّني إعراضكم، وان من نعم (المذياع) انه لا يدري المتكلم فيه من ينصت له، ومن يَشغب عليه، ولا يسمع مدحا ولا قدحا، وما يرى إلا (العلبة) يكلمها، وما ترد علبة متكلم جوابا. . .

ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي. هذا رجل لا يتكلم ألا عن نفسه. فكذلكم الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون ألا عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرّ به آثارهم: ما هذا؟ أن في هذا التعبير عما أحس به؛ انه وصف لي أنا وحدي. . . وما هو له وحده؛ انه وصف لكل نفس بشرية. . .

إلا ما اعظم فضل الأدباء على الناس! ولكن الناس لا يشكرون. . .

يا سادة: انه كان لي في حياتي عيد واحد، ولكن طمس القدم صورته في نفسي فلا أرى منها إلا ملامح. لقد وجدت عيدي في (صُرْماية حمراء) أصبحت يوما فلقيتها إلى جانب الفراش، وكنا نبسط الفرش، وننام على الأرض؛ لم تكن قد انتشرت هذه الأسرّة وعمت، لم تكن إلا للأكابر، ولقيت معها (قمبازا) من (الألاجة) له خطوط حمر على أديم اخضر كأنه حقل قد نبتت فيه سطور من شقائق النعمان، وعقالا (مقصباً) كأنما قد نسج بخيوط الذهب، يبرق كأنه تاج ملك جديد. وعباءة رقيقة فيها مناطق حمر، وأخر بيض، وحواش من القصب اللماع؛ لها طُرَر مختلفات الألوان. . . تخطف ببريقها النظر.

فلم اصدق أن كل ذلك لي أنا، وسالت متحققا. فقالوا: انه لك، انه لباس العيد. قلت: وما العيد؟ قالوا: العيد. ألا تعرف العيد؟ فلم اعرفه، ولكني قنعت بما وجدت من نعمائه وتخيلته ضيفا جميلا نزل البلد. . .

وذهبنا نبصر العيد، ومشينا في الطرقات، وإذا الوجوه باسمات الثغور، منبسطات القسمات فكان أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلة من اللطف والظرف، ولم نر نحن الصغار من يزجرنا ذلك اليوم عن حماقة نأتيها، أو ذنب نذنبه، بل وجدت كل من أُسلّم عليه من أقربائي وأصحاب أبي يعطيني نقودا (نحاسات) صفرا لامعات كالدنانير، و (متاليك) جددا، ولم تكن قد عرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها، فاجتمع لدي مبلغ من المال، هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة رجال (الشركة الخماسية) في دمشق، ولكني أخذته حلالا بطيب نفس، واخذوا هم ما أخذوه حراما انتزعوه من فم الأرملة واليتيم؛ فكان بردا على قلوبهم وسلاما في لهب هذه الحرب، ولكنه سيكون من بعد نارا آكله في أكبادهم، وسمَّا هاريا في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيما متسعرا يوم المآب. . . فارتقبوا - أثرياء الحرب - أنا معكم من المرتقبين!

وكانت دارنا في (العُقَيبة) فكان أول ما لقيت من العيد (جامع التوبة)؛ هذا الجامع المأنوس الذي يملا جوّه دائما خشوع وأنس، ولم اكن ادري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي، وذهبنا إلى (الأموي)، وكان صوت التكبير ينبعث منه قويا مجلجلا، كأنه هدير (بردى) عند شلال (التكية) فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم اعلم ما هي؛ شعرت بالحماسة التي تغلى منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيدا بشريا أروع منه روعة أو اشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمت بعد إن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون، وتساقط الأسوار، وتفتح لهم به أبواب المجد حتى فتحوا به الدنيا، هذا النشيد الذي كان من بشائر الرجاء أن اتخذه (الأخوان المسلمون في مصر) شعارا لهم ليصلوا به ما كان انقطع من قلادة أمجادنا التي طوقنا بها عنق الزمان، ولينشروه مرة ثانية في آفاق الأرض فتردده معهم الجبال والأودية. والمدن والقرى: الله أكبر، الله وأكبر، لا اله إلا الله - الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد!

ودخلت فوجدت في المسجد متعة لم أجد مثلها في لهو كنت أتخذه، أو ما كنت اسر به، وجدت - ولم أكن ادري - متعة الدين والدنيا إذا اجتمعنا: الكثرة والألفة والثياب البراقة والنظافة والنظام، والتقى والإخلاص، والغنى السمح الشاكر والفقر المتجمل الصابر، والمعاونة على الخير، والمواساة والإيثار، وكان في المسجد نساء قد اجتمعن في (المشهد) بالأزر البيض والملاءات الساترة، ما يظهر منها عين ولا بنان ولا ساق، قد جئن للصلاة.

كذلك كان بلدنا قبل أن تصله هذه (الحضارة) الجديدة، كذلك كان يوم كان أهله متأخرين جامدين، فيا ليته يعود كما كان، يا ليتنا بقينا متأخرين عن هوّة الفساد لم نقدم عليها، جامدين لم نعرف هذا الميع. إن الجامد يتماسك ويثبت، أما المائع فيسيل ويجري حتى ينصب في البالوعة. . . أفعرفتم الآن مصيركم يا أيها (المائعون)؟!

ثم أممنا (مقبرة الدحداح) فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه، وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة دار الوحشة والعبرة قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها (الدُّويخات) منصوبات، و (القلاّبات) قائمات، والعربات الصغار مزينات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصب وذو الطرد وذو الحواشي، راكبون على أفراس (الدويخة) تدور بهم، أو جالسون في سرر (القلابة) تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التل، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشرط الحرير يخيل للرائي من كثرته انه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسرادقات، وباعة (القضامة) و (اللب) و (عرق السوس) يجولون بين الناس ينادون اعجب النداء، وبياع (الفول النابت) قد أوقد ناره ورفع قدره، ونصب مائدته، وحف به الصبيان والبنات، وصاحب (صندوق الدنيا) قد حط صندوقه، وقعد حول الأولاد، ينظرون فإذا هم يسيحون في البلاد، ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع؛ فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمر الأحلام لم يخلف ألا ذكرى مشوبة بألم الفقدان.

كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد. أنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة 1914.

صبركم أيها المستمعون، ودعوني اطل وقوفي على هذه المقبرة، فأنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أو تصدقون إذا قلت لكم أن لهذه المقبرة صورا في نفسي أحلى من صور الرياض، وذكريات اجمل من ذكريات الحب؟ وان نهرها هذا الصغير القذر اعز عليه من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه ألوا طية أفخم في عيني من أسرة (اوريان بالأس) و (شبرد)؟

إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، أن لها تاريخا في نفسي، يعرف أكثره أخي أنور العطار. فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري، فما احسن أنا تخليدها، لا أطيق أن أفي لها هذا الوفاء؟ سلوه أنسى ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها، والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا ألا عيون النجم، وما تسمعنا ألا الشواهد الشواخص. . ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى ألا ظلاما متراكبا، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام. . . ليالي كنا نعود وقد برح بنا ألام، وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قراها الناس فرأوها ندية للدمع، فياضة بالحزن. فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ماله لا ينظم إلا الشعر الباكي، ما دروا أن هذا الشعر قد نظمت حباته على قبر الوالدين، في ليالي اليتم الكوالح. . .

مساكين الأدباء. يجبلون فلذات قلوبهم بدموع عيونهم، ليقيموا منها تماثيل الأدب فيأخذها الناس عابثين، وينظرون إليها لاهين، ويعيبونها ظالمين، ثم يملُّونها كما يمل الصبي لعبته فيرمونها فيحطمونها، ويفتشون عن لعبة جديدة. . .

مساكين الأدباء!

يا سادة:

لقد مشيت بعد في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياما قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا، ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجة التي كانت للصرماية الحمراء والعقال المقصّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع؟ أفتغيرت الدنيا أم قد أضعت عيدي؟ أتغيرت الدنيا يا ناس أم الناس قد فقدوا فرحة العيش حينما تركوا تلك الحياة السمحة القانعة الطاهرة المبرأة من أدران حضارة الغرب؟ تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان. . . تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جوابا واحدا: رحم الله تلك الأيام لقد كانت أيام انشراح. . .

كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة، لا يختلفون على مذهب اجتماعي ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلموه لله لا للشهادات، وان طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن ارادوا تسلية ولهوا، قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذروان، ينصبون سماورات الشاي، وسماط الآكل، وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخورا ولا (نادي دمشق)، المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا الآخرة لا الدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف ولا يراهن أحد في الطريق؛ إلا خارجات لضرورة لابد منها، ومعهن الزوج أو الأب، يسبقهن وهن يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور، ولا أماكن العصيان، ولا (دوحة الأدب)، ولا يخطر على بالهن إن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها (فرق مرشدات). . .

كذلك كانوا فكانت أيامهم كلها أعيادا؛ فأين أعيادنا نحن؟ أربحنا من هذه المدنية. . . وهذا العلم. . . أم خسرنا؟ سلوا هذه الحرب عما صنعته علومهم بسعادة البشر، وسلوا التاريخ عما صنعت بها علومنا وشريعتنا؟

يا سادة:

إننا صرنا اليوم نلبس (البذلة) بدل (القنباز)، وننام على السرير، ونأكل بالشوكة والسكين، ونقرأ أخبار أمريكا واوربا، ونتكلم في الجغرافية والكيمياء وفي السياسة، ونركب السيارة والطيارة، ونسمع الرادّ ونبصر أفلام السينما، هذا الذي ربحناه ولكنا خسرنا التقى والعفاف والاطمئنان، لقد كان أجدادنا ابعد عن حضارة اوربا، ولكنهم كانوا أرضى لله منا، واقرب إليه، وكانوا أقوم أخلاقا، واطهر قلوبا، وأصفى سرائر، واصدق معاملة وكانوا أسعد منا في الحياة. . .

لا يا سادة: أنى لم أعد أجد للأعياد بهجة، فردوا إلي ماضي، أرجعوني إلى عيد الصرماية، والمقبرة، والمسجد، فإني لم الق السعادة إلا فيه، أنقذوني من هذا العلم وهذه الحضارة، فأنا جامد، أنا رجعي، رجعي، رجعي!!

والعفو يا سادة: لقد نقصت عليكم بهذا الحديث القاتم المضطرب عيدكم لقد نسيت قواعد الآداب الاجتماعية فكدرتكم يوم الصفاء، وكنت عندكم فاسد الذوق سيئ الاختيار، فلا تؤاخذوني. . . واقبلوا على عيدكم وسروركم، ودعوني ابكي يوم العيد ماضيات أيامي. وكل عام وأنتم بخير!

علي الطنطاوي