مجلة الرسالة/العدد 685/من وحي المأساة الفلسطينية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 685/من وحي المأساة الفلسطينية:

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1946



نكبة العرب في الأندلس

للأستاذ محمود عزت عرفة

انقضى أربعمائة وأربع وخمسين سنة على حادث سقوط حصن غرناطة آخر معاقل العرب بالأندلس في أيدي الأسبانيين، وقد تم ذلك سنة 1492م؛ فكان خليقاً بنا ومأساة فلسطين تمثل أن نعالج بإيجاز أسباب تلك المأساة الفاجعة، ونتلمس عللها بين حوادث التاريخ، ونقف عندها وقفة نخرج منها بعبر وعظات نافعات، هي الغاية العليا من كل دراسة والمقصد الأسمى من كل تحقيق وتحميص.

ولسنا نبالغ إذا قلنا إن جحافل العرب حملت معها من أول يوم وطئت فيه أرض الأندلس جرثومة هذا الداء الذي أهلكنها واستصفى قوادها، وأدال دولتها بعد ثمانية قرون من الزمان. فقد اجتاح موسى بن نصير أرض الأندلس عام 711م حتى بلغ أطرافها الشمالية؛ وعهد إلى قائده طارق بفتح مدائن (جيليقية) في الشمال الغربي، بينما اجتاز هو جبال البرانس الشامخ وانحدر إلى سهول فرنسا، معتزماً أن يدلف إلى القسطنطينية من طريق الغرب!!

حلم كان حرياً أن يتحقق لو لم يستيقظ موسى من نشوته على دعوة الوليد بن عبد الملك الذي أهاب به أن يكف عن إيغاله في الغزو وينكفئ بعسكره معافى إلى أسبانيا. . . وما كان له إلا أن بسمع فيطيع. على أنه انصرف وقتذاك إلى المسيحيين المعتصمين بأقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة تحت إمرة زعيمهم (بلايو)؛ وكان بسبيل أن يقلم أظافرهم وبقى البلاد شر مكايدهم وفتنهم التي ذر قرنها بعد حين؛ لولا أن هتف به داعي الخليفة مرة أخرى أن يؤوب إليه وطارقا؛ فتركا زمام الأمور في يد عبد العزيز بن موسى وسارا إلى المشرق.

وقد نكب موسى بعد قليل على يد سليمان بن عبد الملك، واغتيل ابنه عبد العزيز في شوارع إشبيلية بتدبير منه، ولم يكن مصير طارق بأفضل من هذا. فقدت الأندلس بموت أولئك كل من كان يفكر في إتمام الفتح على خير وجوهه، وأتيحت لفلول المنهزمين فرصة الحياة بعد أن أشفوا على الدمار، وتهيأ لهم أن يجمعوا كيدهم وينتظمواً صفوفاً حتى أب موطنهم جيليقية مصدر القلاقل ومهب الرياح العاتية التي اجتاحت ملك العرب فيما بعد، ودكت بنيانهم من القواعد. . .

ولم يكن ولاة بني أمية في ضعفهم ليزيدوا الحالة إلا سوءا، فقد احتدمت الخصومة على عهدهم بين العرب والبربر، وبين العرب وأنفسهم من يمانيين ومضربين؛ وكان في تسلم عبد الرحمن الداخل زمام الحكم انتصار لفريق من هؤلاء دون فريق. وإذا كانت سطوة الحكم الأموي في الأندلس قد قضت على عوامل هذا الخذلان والتفرق، فإن ما وقر بسببه في النفوس من حزازات كان كفيلا بتهديد وحدة العرب وتآلفهم، مهيباً بكثير منهم إلى الثورات الجامحة والفتن المبيرة، مما ظهرت عواقبه الوخيمة في أخريات أيامهم.

بسط العرب ظلال السلام على الجزيرة، ورفعوا لواء العدل والمساواة في أرجائها؛ فارتضى سيرتهم كل من عاشرهم من الأسبانيين واتصلت أسبابه بأسبابهم. ولكن بقيت هذه الأطراف المستعصية تجيش قلوب أهلها بكراهيتهم والحقد عليهم وإعمال المكيدة لهم، حتى بين جدران قصورهم، وتحت قباب معابدهم!

فقد ذكر أنه وجد على جانب أحد أعمدة المسجد الجامع بقرطبة صورة تمثل المسيح مصلوباً، كان قد رسمها أحد المسيحيين ممن نافقوا بإظهار الإسلام وعاشوا بين ظهراني العرب يكيدون لهم ويمالئون عليهم. ولما دخل الأسبانيون قرطبة وكشفوا عن موضع هذه الصورة رسموا أمامها على الجدار المقابل لها وجهاً يمثل هذا المسيحي الذي خطها - فيما زعموا - بأظافر يده.

فكم يا ترى عدد من كانوا يعيشون بين المسلمين من أمثال هؤلاء؟ وما مبلغ بلائهم في تقريب هذه النهاية الفاجعة التي آل إليها أمر العرب بالأندلس؟. . .

لسنا نستطيع أن ننكر العلاقة بين هذه الحالة وبين سياسة التسامح الديني التي جرى عليها المسلمون في هذه البلاد بين قوم عيشت عيونهم عن أضواء حضارتهم، واسودت قلوبهم بظلام الحفيظة والاضطغان عليهم. . .

ونعني بهؤلاء القوم أولئك الذين اعتصبوا ضد العرب لغير ما سبب ظاهر؛ دون من تبطنوهم من المسيحيين وقاسموهم العيش في دعة وسلام، فارتشفوا رحيق آدابهم وجنوا ثمار علمهم وحضارتهم؛ وتبوءوا - إلى جانبهم - سني المناصب ورفيع الدرجات مما هيأتهم له مواهبهم وعبقريتهم.

أساء قوم من المسلمين فهم هذا التسامح الديني الذي أمروا به وانتدبوا إليه، وأعمتهم بوارق الحياة ورغائب العيش عن تعرف حدوده، وتبين أغراضه ومراميه؛ وشوهت شهوات الدنيا لديهم من صورته الجميلة المشرقة؛ ونكبت به ضلالات النفوس عن طريق الحق ومناهجه المستقيم.

فلم يكن عجيباً بعد ذلك أن نرى عما للحكم بن هشام ينهض إلى عاصمة إكس لاشابل عاصمة شارلمان فيستجدي محالفته في خنوع، ويتلمس منه المعونة على إسقاط ابن أخيه القائم بالأمر، وكان ذلك علم 797م أي قبل مرور قرن واحد على دخول العرب الأندلس. ولم يكن عجيباً أيضاً أن نرى المستعين حفيد الناصر (1009م) يرسل إلى بلاط سانكو أمير قشتالة ليعينه ضد منافسه المهدي وهو من أحفاد الناصر أيضاً؛ فيجد رسل المهدي قد سبقوه إلى طلب هذه المعونة من الأمير. . . والأمير يمايل بين الرجلين ويعرضها على مرآة مطامعه؛ ثم ينتهي إلى رفض معونة المهدي والإقبال على نصرة المستعين. . . إلى أمثلة من مثل ذلك كثيرة نحيل فيها إلى مظانها من مصادر التاريخ.

ولقد أحسن ملوك أسبانيا هذه الفرص السوانح، فزادوا نار الفتن بين المسلمين استعاراً، وأذاقوا بعضهم بأس بعض؛ وراحوا يقتصون من أطراف بلادهم ويفرضون الجزية على المستضعفين منهم، استغراقاً لثروتهم، وغلا لأيديهم عن كل ما يمهد لهم سبيل القوة. وأخيراً أعلنوا ضد الجميع حرباً صليبية لا هوادة فيها. . . في وقت كان المسلمون فيه قد فقدوا صفاتهم الأولى من التخشن وسمو المبدأ، والتحمس للدفاع، وشدة الرغبة في الجهاد. فكان تخاذلهم عن صيانة ملكهم عظيما، وتهافت ملوكهم المتنابذين على استرضاء ملوك النصارى المتربصين بهم بالغاً غايته. حتى لقد كان من مخزيات ما حدث في أواخر القرن الحادي عشر أن اكتسح الملك الفونس السادس أقاليم الأندلس إلى أن بلغ جبل طارق ثم احتل طليطلة عام 1085م، فبادر ملوك الطوائف بتقديم فروض التهنئة إليه! وأسبغوا عليه أو قبلوا أن يسبغ على نفسه لقب (ملك المسيحيين والمسلمين)!!

وما نشك في أن هذا الفتور الذي أصاب نفسية العرب يرجع - فيها يرجع إليه من أسباب - إلى كثرة عناصر المولدين والهجناء في أوساطهم، منذ درجوا على خطة التزوج من الأسبانيات أو التسري بهن. ولقد كانت هذه الخطة ظاهرة النفع في عصور الدولة الأولى، بما أجرت في عروق العرب من دماء جديدة، وبما نشأت من جيل متميز في مواهبه جامع لمحاسن العنصرين في أخلاقه وتفكيره وجميع مقوماته. ولكن استحال كل هذا إلى مضرات بالغة في العصور المتأخرة، إذ تقلصت روح العصبية التي اشتدت حاجة العرب إليها حين كانت جحافل الأسبانيين تزحزحهم عن بلادهم حصناً بعد حصن، وفشت روح الاستهانة بوازع الدين، ولم يعد ثمة أثر لطموح المسلمين الأوائل، وشدة تحمسهم لرفع لواء عقيدتهم، بل حلت الأثرة والأطماع الشخصية محل كل هذا، واتخذت أقبال العرب وشعوبها لسيطرة ملوك الأسبان الذين هيمنوا بقوة نفوذهم على شئون شبه الجزيرة من أطرافها.

ويكفي أن نذكر أن أبا عبد الله محمداً آخر ملوك بني الأحمر والذي تم على يده تسليم غرناطة وإسدال الستار الأخير على مأساة الإسلام في الأندلس، كان أبناً لأمير غرناطة السابق أبي الحسن علي بن سعد الأحمر من محظيته الأسبانية إيزابلا التي عرفت بين العرب باسم (ثريا) أو (الزهرة). وكان أبو عبد الله هذا أثيراً لدى أبيه بفضل حظوة أمه المسيحية؛ وبسبب ذلك انشق أخواه محمد ويوسف على أبيهما، وكان كلاهما ابناً له من (عائشة) زوجته الثانية العربية المسلمة.

ولقد كان اختصام أبي عبد الله فيما بعد مع عمه أبي عبد الله الزغل، السبب المباشر في سقوط غرناطة وانثلال عرش آخر حكومة إسلامية في البلاد. . .

لقد كانت النية التي عقدها ملوك الأسبان على طرد العرب صريحة، وكان مصير المسلمين أمام هذا الزحف الجارف واضحاً ومحتوماً؛ ولم تكن نجدات المرابطين والموحدين التي تحركت من أفريقية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر لتؤثر إلا في تعويق حلول المأساة التي كان الجميع يشهدونها بعين الخيال، ويرون أنفسهم مسوقين إليها دون أن يستطيعوا لها دفعا. حتى لقد كان لسان الدين بن الخطيب وزير الغني بالله محمد بن يوسف ابن الأحمر يوصي أولاده بعدم التوسع في شراء العقار بالأندلس؛ ويصرح لهم بأن هذه البلاد أصبحت للمسلمين دار غربة!

وأعجب من هذا في الدلالة على توقع المسلمين لمصيرهم المحتوم، ما قاله بعض شعرائهم إذ ذاك. . . وكأنما كان يوحي إليه: حثوا رواحلكم يا أهل الأندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط

السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط

من جأور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط؟

غفر الله لهؤلاء الأجداد الكرام زلاتهم، وجعلنا ممن يتعظون بمحنتهم، وألهمنا حسن التذكر لتاريخهم وسيرتهم. (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

محمود عزت عرفة