مجلة الرسالة/العدد 685/صور من العصر العباسي:
مجلة الرسالة/العدد 685/صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والتجسس
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
شغف الخلفاء العباسيون بالتجسس ومالوا إليه. وقد كان لابد لهم من تسقط الأخبار والفحول بها لئلا ينسبوا إلى الضعف والغفلة أو يتجرأ عليهم الأعداء والأخصام. فإن من أخلاق الملك اليقظ السعيد على قول الجاحظ: البحث عن سرائر خاصته وعامته، وإذكاء العيون عليهم، والبحث عن كل خفي دفين.
وبغداد، وما كان فيها من أخلاط المخلوقات وأنماط الناس، وما انتشر فيها من أراء سياسية وعصبية، وما ظهر فيها من ميول شعوبية وعلوية وهاشمية كل هذا دفع الخلفاء إلى التجسس ولم الأخبار ليحفظوا ملكهم ويكونوا على بينة مما يجري.
وقد ذكروا أن الرسول عليه السلام، كان، كان ليقظته يرسل الجواسيس والعيون يتحسسون أخبار أعدائه المشركين. ولم يكن عصر النبي عليه الصلوات، كالعصر العباسي، ولا كان المجتمع إذ ذاك، كالمجتمع يومئذ. فليس من الغريب أن يشغف العباسيون بالتجسس، فهو ضرورة من ضرورات الملك.
كان التجسس يجري على طريقتين: ظاهرة وخفية. أما التجسس علانية فكان يقوم به أصحاب الأخبار والبريد. وكانوا منتشرين في كل مكان، وكان عليهم أن يعرفوا حال عمال الخراج والضياع، وأن يتتبعوا ذلك تتبعاً شافياً، ويستشفوه استشفافاً بليغاً، وأن ينهوه على حقه وصدقه. وأن يعرفوا حال عمارة البلاد، وما هي عليه من الكمال والاختلال، وما يجري في أمور الرعية فيما يعاملون به من الإنصاف والجور، والرفق والعسف، فيكتبوا به مشروحاً. وأن يعرفوا ما عليه الحكام في حكمهم وسيرهم وسائر مذاهبهم وطرائقهم، وأن يعرفوا حال دار الضرب وما يضرب فيها من العين والورق، وما يلزمه الموردون من الكلف والمؤن. وفي كل ما ينهونه. ينبغي أن يكونوا صادقين واثقين مما ينهون. فإذا ورد كل ذلك على الحضرة سلم إلى صاحب ديوان الإنشاء ليحمله إلى حيث يطلع عليه الخليفة ويأمر بما يرى، ثم يكتب للآفاق بما ينبغي.
فهؤلاء كانوا جواسيس رسميين، أما الجواسيس الذين لا يظهرون أنفسهم، ولا يعرفهم أحد، فكانوا أنواعاً منوعة، تفنن الخلفاء في استخدامهم. وكان فيهم الطفل (الطفل والمرأة والمحتاج والزمن وابن السبيل. . .)
وأول من عنى بالتجسس الخفي من الخلفاء: أبو جعفر المنصور (فقد كان يشتري رقيقاً من الرقيق، ثم يعطي الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، فيهيمون، أو يردون الماء كالمارين وكالضالين فيتجسسون. . .).
ويحدثنا الطبري أن أبا جعفر أتى مرة بأحد جنده فقال له: (أخف شخصك واستر أمرك وائتني في يوم كذا في وقت كذا. فأتاه، فقال له أن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيداً لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم. فاخرج بكسى وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكراً بكتاب عن أهل هذه القرية، ثم تسبر ناحيتهم. فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب. وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر. فاشخص حتى تلقى عبد الله بن حسين متقشفاً متخشعاً، فإن جهلك وهو فاعل، فاصبر وعاوده. فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك، وتلين له ناحيته، فإن ظهر لك ما في قلبه فاعجل علي. . .) فشخص الرجل حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب فأنكره، ونهره. وقال ما أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل ينصرف ويعود حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به. فسأله الجواب. فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب لأحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا فعاد الجاسوس إلى أبي جعفر وأخبره.
وحدث صاحب عذاب أبي جعفر قال: دعاني أبو جعفر ذات يوم، وإذا بين يديه جارية صفراء، وقد دعا لها بأنواع العذاب، وهو يقول لها: ويلك أصدقيني، فوالله ما أريد إلا الألفة، ولئن صدقتني لأصلن الرحم، ولأتابعن البر إليه. وإذا هو يسألها عن محمد بن عبد الله، وهي تقول: ما أعرف مكانه. ودعا بالدهق وأمر به فوضع عليها. فلما كادت نفسها أن تتلف قال: أمسكوا عنها، وكره ما رأى. وقال لأصحاب العذاب: ما دواء مثلها إذا صار إلى مثل حالها؟ قالوا: الطيب تشمه، والماء البارد يصب على وجهها، وتسقى السويق. فأمر لها بذلك، وعالج بعضه بيده، حتى أفاقت، وأعاد عليها المسألة، فأبت إلا الجحود. فقال لها: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسود وجهها وتغيرت. فقالت نعم يا أمير المؤمنين، تلك في بني سليم. قال: صدقت، هي والله أمتي، ابتعتها بمالي، ورزقي يجري عليها في كل شهر أمرتها أن تدخل منازلكم، وتحجمكم، وتعرف أخباركم. أو تعرفين فلانا البقال؟ قالت نعم، هو في بني فلان. قال هو والله مضاربي بخمسة دنانير أمرته أن يبتاع بها كل ما يحتاج إليه من البيوع. فأخبرني أن أمة لكم في يوم كذا من شهر كذا، صلاة المغرب؛ جاءت تسأله حناء وورقاً، فقال لها: ما تصنعين بها؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضياعه بناحية البقيع، وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المغيب.
(قال: فأسقط في يدها، وأذعنت بكل ما أراد.
وهذه القصة والتي قبلها تبينان لنا كيف سخر أبو جعفر أحد جنده، وأمته، وبقالا مضارباً له، للتجسس وجمع الأخبار
ولعلك تعلم حبه تتبع الأسرار مما سأقصه عليك. قالوا: إن أبا جعفر قال ذات يوم لأصحابه: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعف منهم، وهم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية. ثم عرض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة: آه، آه! قيل وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
وكان الرشيد من أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمراً. وكان يتسقط أخبار الهادي قبل أن يصبح هو خليفة؛ فقد كان مسرور الكبير في خدمة المهدي، وكان الرشيد حفياً به محسناً إليه. فلما انتقل أمر الخلافة إلى الهادي قال له الرشيد: أخي قوي الشراسة، وأنا أخاف إيقاعه بي، وجمع الناس على بيعة ابنه بعده. وأنا على غاية الثقة بك فاعدل إليه، وكن له عيناً عليه) فتقدم مسرور عند الهادي حتى تولى ستر بيت خلوته فكان ينهي إلى الرشيد كل كلمة من كلماته، وفعلٍ. . .
وكتب الأدب والتاريخ مترعة بأخبار تتبعه أسرار رعيته حتى كان ذلك يدفعه إلى إخفاء شخصه، والطواف مع جعفر ابن يحيى في الأسواق وبين الأحياء، ليتسقط الأخبار، ويعرف ما يدور بين الناس من الأحاديث ويستطلع ما لا يصل إليه خبره.
ولم يقنع بأسرار رعيته، بل وكل عيوناً على ولديه. فكان مسرور الخادم رقيب المأمون، وكان جبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين.
وعلى نحو هذا كان المأمون في أيامه. ذكر أبو الفرج أنه لما تولى الخلافة وأتى بغداد، كان يتجسس على إبراهيم بن المهدي فألزمه رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظه جداً أو هزلا.
ويسوق الجاحظ دليلا على تتبع المأمون أسرار رعيته رسالته إلى إسحق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث وهو بالشام، التي خبر فيها عن عيب واحد واحد، وعن حالته وأموره التي خفيت، أو أكثرها، عن القريب والبعيد.
وقد ذكر صاحب محاضرات الأوائل أنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعماية، يتفقد بهن أحوال الناس من الأشقياء ومن يحبه ويبغيه، ومن يفسد حرم المسلمين. وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن وأنه كان يدور ليلا ونهاراً مستتراً.
وقد يكون هذا الخبر صحيحاً فيما يتعلق بإرسال العجائز، أما عددهن وأنه كان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن ففيه مبالغة.
وكان المأمون يعنى بمعرفة أحوال عماله. فكان يفحص عنهم، وعن دفين أسرار حكامه فحصاً شافياً؛ فلا يخفى عليه ما يفيد كل امرئ وما ينفق، وكان من نأى عنه كمن دنا منه، في بحثه وتنقيره، وكان يتتبع أحوال القضاة والولاة والجند. فذكروا أنه سأل يوماً جماعة: من أنبل من تعلمون نبلا وأعفهم عفة؟ فذكر كل من يراه. فقال: لا، ذاك عبد الله بن طاهر دخل مصر كالعروس الكاملة: فيها خراجها، وبها أموالها جمة ثم خرج عنها، فلو شاء أن يخرج عنها بعشرة آلاف دينار لفعل؛ وقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إلي أنه عرضت عليه أموال لو عرضت علي لشرهت إليها نفسي، ولقد خرج عن ذلك البلد وهو بالصفة التي قدمه فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس.
وحدث بشر بن الوليد قال: كنت عند المأمون، فقال: ولينا رجلا قضاء الأبلة، وأجرينا عليه في الشهر ألف درهم، وما له صناعة ولا تجارة ولا مال قبل ولا بيتاً ابتناه، وولينا رجلا آخر قضاء دمشق وأجرينا عليه ألف درهم أشار به علي محمد بن سماعة، فأقام بها أربعة عشر شهراً فوجهنا من يتتبع أمواله في السر والعلانية، ويتعرف حاله، فأخبر أنه وجد ما ظهر من ماله في هذا المقدار من دابة وغلام وجارية وفرش وأثاث قيمته ثلاثة آلاف دينار. وولينا رجلا أشار به فلان نهاوند فأقام بها أربعة وعشرين شهراً، فوجهنا من يتتبع أمواله، فأخبرنا أن في منزله خدماً وخصياناً بقيمة ألف وخمسمائة دينار سوى نتاج قد اتخذه.
وحدث إبراهيم بن السندي أنه جالس المأمون ومعه إبراهيم ابن المهدي فطفق المأمون يحدث عن أهل عسكره، حتى والله لو أن رجلا أقام في رحل كل رجل من الجند حولا، لما زاد على معرفته لشدة تنقيره وتتبعه أخبار الناس.
فهذه الحوادث التي سردناها، تدل على حبه التجسس، ودس الناس ليتسقطوا له الأخبار، ويطلعوه على ما يشاء.
(له بقية)
صلاح الدين المنجد